إياد هديش
الحوار المتمدن-العدد: 8380 - 2025 / 6 / 21 - 06:20
المحور:
الصحافة والاعلام
في عصرٍ تتحوّل فيه الشاشة إلى محكمة، والكلمة إلى سلاح، لم يعد الأذى مقتصرًا على الطعن الجسدي، ولم يعد العنف حكرًا على ما يُرى ويُقاس. لقد دخلنا زمنًا جديدًا، تذوب فيه الحدود بين الواقع والافتراض، وتُصاغ فيه الأحكام لا في ساحات العدالة، بل في تعليقات المجهولين، وإعجابات العابرين.
في هذا الزمن، لم يعد التشهير فعلًا معزولًا، بل أصبح طقسًا يوميًا تمارسه الجموع بشغفٍ مقلق، تحت غطاء "الفضيحة"، "الرأي"، أو حتى "الترفيه". وبضغطة زر، تُشنق سُمعة شخص، يُنسف تاريخه، ويُحاكم دون دفاع. تتحول حياته إلى مادة قابلة للاستهلاك، تتداولها الشاشات بلا سياق، وتلتهمها الألسن بلا رحمة.
لكن الجريمة الحقيقية لا تُرى.
فلا أثر على الجلد، ولا جرح على الجسد، بل تصدعات صامتة في الروح، وشروخ نفسية قد لا تندمل أبدًا. الكارثة ليست في المنشور ذاته، بل في ما يخلّفه من فوضى داخلية، وانهيارات متتالية في هوية الإنسان وثقته بنفسه وارتباطه بالعالم.
"الفضيحة الرقمية" هي واحدة من أخطر أشكال العنف النفسي المعاصر، لأنها تستهدف أعماق الإنسان، وتُحيله إلى كائن شفاف، يعيش تحت مجهر عام، يُحاكم بلا صوت، ويُعاقب بلا قانون.
ففي عالمٍ تبدو فيه كل الأشياء متصلة رقميًا، يعاني كثيرون من الانفصال النفسي الصامت، ليسوا بعيدين عنّا في الجغرافيا، لكنهم معزولون داخل عوالمهم المكسورة، بسبب كلمة، أو منشور، أو سخرية إلكترونية ربما بدت "عادية" لمن أطلقها.
التشهير الرقمي لا يترك أثرًا على الجلد، لكنه يُحدث تصدعات عميقة في بنية الإنسان الداخلية.
■ التشريح النفسي لآثار التشهير: عندما ينقلب الداخل ضد صاحبه
علم النفس السريري يُظهر أن التشهير الرقمي ليس مجرد حدث عابر، بل عملية تفكيك داخلي بطيئة تتوالى عبر مراحل دقيقة، تخلق انهيارات متتابعة في ذات الإنسان، وتنزع منه الأمان والاتساق.
● 1. العار المرضي (Pathological Shame):
يبدأ الضحية بإدراك نفسه كمصدر للعيب، لا كفاعل لخطأ. يصبح وجوده نفسه ملوثًا في نظره، حتى لو كان بريئًا تمامًا. هذا الشعور الجذري بالاحتقار الذاتي يلتهم احترام الذات من جذوره.
● 2. تحطم الصورة الاجتماعية (Social Image Collapse):
التشهير يهدد الوجود الرمزي للإنسان بين الآخرين. يشعر الضحية أن مكانته، سمعته، وحتى "اسمه"، قد فقد قيمته. يراه الناس من خلال ما قيل عنه، لا من هو فعليًا. وهذا التشويه المتواصل للصورة يزرع شعورًا عميقًا بالعزلة والوصمة.
● 3. القلق المزمن والهلع التوقعي:
يعيش الضحية في حالة تأهّب دائم، ينتظر إعادة النشر، التعليق، أو السخرية التالية. هذا الضغط العصبي يخلق أرقًا ليليًا، نوبات فزع، وتراجعًا في القدرة على الأداء اليومي، وهو ما يشبه أعراض اضطراب ما بعد الصدمة.
● 4. الانسحاب السلوكي والاجتماعي:
يبدأ الضحية بتقليص وجوده، داخل البيت وخارجه. يُغلق حساباته، يتجنّب الظهور، ينعزل عن أصدقائه. هذا الانسحاب ليس رغبة في الوحدة، بل محاولة لتقليل الألم النفسي الناتج عن المواجهة مع عالم يشعر بأنه أدانه بالكامل.
● 5. الإرهاق العاطفي والاحتراق النفسي (Emotional Burnout):
التعرض اليومي للتشهير أو ذكراه المستمرة يُفرغ الطاقة النفسية تمامًا. يفقد الضحية قدرته على الفرح، التركيز، أو حتى الشعور العادي. العقل يصبح متعبًا لدرجة لا يستطيع فيها حتى التفكير في الحلول.
● 6. الأفكار الانتحارية: النهاية النفسية غير المُعلنة
حين يشعر الإنسان أن الألم لن يتوقف، وأن حياته أصبحت وصمة، يبدأ التفكير في الانتحار، لا كموت، بل كخلاص. الموت هنا يُصبح "الهدوء" الوحيد المتاح، بعد أن استُنفدت كل المحاولات للبقاء.
الانتحار، في هذه المرحلة، لا يُعبّر عن ضعف، بل عن انهيار كيميائي ونفسي تراكمي، يقطع الصلة بين الشخص والحياة، ويجعله يرى الفقد كتحرّر.
■ تحليل نفسي لقصة "بن بويد" في فيلم Disconnect: كنموذج
في فيلم Disconnect (2012)، تتجلى كل مراحل الانهيار النفسي في شخصية المراهق "بن بويد". شاب خجول، يجد في الإنترنت متنفسًا لهويته، فيتعرف على فتاة تُدعى "جيسيكا"، لا يعرف أنها وهم، صنعه زميلان له بدافع التسلية.
حين يثق بها ويرسل صورة خاصة، تُنشر علنًا. وتبدأ المأساة.
◉ التحليل النفسي لما حدث:
- العار الاجتماعي قضى على ثقته بنفسه في المدرسة والمنزل.
- العزلة التامة حجبت عنه أي دعم أسري فعّال.
- الشعور بعدم السيطرة على الصورة المنتشرة غذّى شعوره بالعجز الكلي.
- محاولة الانتحار جاءت بعد انهيار تدريجي في البناء النفسي، لا كقرار لحظي.
هذه القصة ليست مجرد دراما سينمائية، بل مرآة لما يعيشه كثير من الشباب اليوم في صمتٍ لا يُلتقط بالكاميرا.
■ لماذا يشهّر البعض بالآخرين؟ تحليل نفسي للدوافع الخفيّة
إن فهم دوافع المشهِّر ضروري لفهم المشهد كاملًا. فالمشهِّر ليس دائمًا قويًا، بل أحيانًا يكون أكثر هشاشة من ضحيته. دوافعه النفسية متعددة، وغالبًا ما تعبّر عن اضطرابات داخلية أو احتياجات غير مشبعة:
● 1. الإسقاط الدفاعي:
يشعر بالنقص أو العار داخليًا، فيُسقطه على الآخر كمحاولة لتخفيف الضغط النفسي. كأنما يُخفي جُرحه بفضح جُرح غيره.
● 2. السلطة الوهمية:
في نشر التشهير، يشعر بلحظة تفوّق وسُلطة، خصوصًا إذا كان في الواقع يشعر بالهامشية أو العجز. النشر هنا يُعوّض الإقصاء الذاتي.
● 3. اللذة العدوانية المقنّعة:
سلوك سادي مُقنع. يجد المشهِّر متعة غير معلنة في إذلال الآخر، خاصة إذا كان ناجحًا أو محبوبًا. إنه يفرّغ عداءه المكبوت تجاه "من يذكّره بنقصه".
● 4. الانتقام المؤجل:
في بعض الحالات، يكون التشهير فعلًا انتقاميًا لتجربة ماضية لم تُحلّ، فيُستخدم الفضاء الرقمي كمنصة عقاب علنية.
● 5. التفلّت الأخلاقي الرقمي:
في الفضاء الإلكتروني، تتقلّص الحواجز الأخلاقية، ويشعر الفرد أنه محصّن. هذا ما يُعرف بـ"التحرر من القيود في الفضاء الرقمي"، حيث يفعل ما لا يمكن أن يفعله في الواقع.
● 6. ضغط المجموعة الرقمية:
عندما يتحوّل التشهير إلى "موضة" أو "تحدٍ جماعي"، يصبح سلوكًا قطيعيًا. ينسى الفرد ذاته، ويذوب في قرار المجموعة، حتى ولو كان قاتلًا.
■ نصائح نفسية للضحية: البقاء رغم الطوفان
1. افصل ذاتك عن رواية الآخرين: ما يُقال لا يُعرّفك.
2. تحدث، حتى لو كنت ترتجف: الصمت يُضخّم العار.
3. اطلب دعمًا نفسيًا متخصصًا: المعالجة ليست ضعفًا، بل صمود.
4. دوّن كل ما تشعر به: الكتابة علاج عميق للارتباك الداخلي.
5. ابتعد عن المواد المؤذية رقميًا: إعادة المشاهدة إعادة للإيذاء.
6. تذكّر: الألم يُكسر، لكنك لا يجب أن تنكسر معه.
■ لا تقطع الاتصال: نصيحة مقدّمة للجميع
في عالمٍ تبدو فيه كل الأشياء متصلة رقميًا، يعاني كثيرون من الانفصال النفسي الصامت. ليسوا بعيدين عنّا في الجغرافيا، لكنهم معزولون داخل عوالمهم المكسورة، بسبب كلمة، أو منشور، أو سخرية إلكترونية ربما بدت "عادية" لمن أطلقها.
التشهير الرقمي لا يترك أثرًا على الجلد، لكنه يُحدث تصدعات عميقة في بنية الإنسان الداخلية.
وإذا كنا نبحث عن عدالة، أو وعي، أو حتى إنقاذٍ مبكر، فالخطوة الأولى تبدأ من الاتصال.
الاتصال بالضحية، قبل أن يقرر الصمت الأبدي.
الاتصال بالمراهق قبل أن يغرق في غرفته ويقطع علاقاته كلها.
الاتصال بالصديق الذي تغيّر فجأة، ولم يعد كما نعرفه.
الاتصال بأبنائنا، بأخواتنا، بزملائنا، دون أحكام مسبقة، ودون توبيخ فقط بالسؤال، بالإنصات، وبأن نكون موجودين فعلًا.
إن كثيرًا من الضحايا لا يبحثون عن حلول، بل عن أحدٍ يرى الألم، ويعترف به. فالشعور المرير بأن لا أحد يهتم، ولا أحد يفهم، هو أول جسر بين التشهير والانتحار.
لا تقطع الاتصال، حتى لو لم تعرف ماذا تقول.
لا تقل "هو بالغ، يعرف كيف يتصرف"، فالألم لا يحترم الأعمار.
لا تؤجل السؤال، فربما تكون لحظة الوصول هي آخر فرصة للإنقاذ.
وفي المقابل، إذا شعرت يومًا بأنك أنت الضحية، لا تخجل من طلب المساعدة.
لا تدع القصة تنتهي على يد من لا يعرفك، أو من قرر أن يشوّهك.
أنت لست ما يقولونه عنك، بل ما تبنيه من جديد، من الداخل.
ففي مواجهة الجريمة النفسية، نحن لا نحتاج دائمًا إلى قاضٍ، بل إلى إنسان.
⚓
#إياد_هديش (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟