|
وجوه العار: تفكك الحماية الأسرية تحت وطأة التشهير
إياد هديش
الحوار المتمدن-العدد: 8381 - 2025 / 6 / 22 - 04:48
المحور:
الصحافة والاعلام
■ عندما تتحول العائلة إلى دائرة مغلقة من العنف المقنّع
في زمنٍ تتضاعف فيه قابلية الأخبار للانتشار بسرعة تفوق الاستيعاب، لم يعد التشهير الرقمي مجرّد أذى مؤقت، بل صار سلاحًا وجوديًّا يُسقط الضحية في حفرة لا قاع لها. هذا النوع من العنف الرمزي، الذي يتم عبر الشاشات والهاشتاغات والصور المسرّبة، لا يستنزف فقط ثقة الفرد بنفسه، بل يقتلع معه جذوره الاجتماعية والإنسانية، وفي مقدّمتها الرابط الأقدس: الأسرة. إذ ما تلبث عاصفة التشهير أن تضرب حتى تنكفئ العائلة، التي من المفترض أن تكون خط الدفاع الأول، إلى ساحة تمارس فيها أقسى أنواع القمع، بحجّة "الستر"، "الحماية"، أو "منع مزيد من العار".
وفي حالات كثيرة، لا تكتفي بعض الأسر بردود فعل لفظية أو إهمال معنوي، بل تلجأ إلى أفعال مادية عنيفة تشكّل جريمة متكاملة الأركان: ضربٌ مبرّح، تقييدٌ بالسلاسل، فرض إقامة جبرية داخل غرف مظلمة، تدمير متعمد لأجهزة الضحية الإلكترونية - من الهواتف إلى الكاميرات وأقراص التخزين - بل وسرقة حساباته الرقمية وإغلاقها أو العبث بها، في محاولة لمحو صوته ووجوده. ولتأمين صمت تام، قد تتورّط بعض العائلات في إعطاء الضحية مهدئات نفسية أو أدوية منوّمة دون استشارة طبية، لتخديره ومنعه من المقاومة أو التواصل أو حتى التفكير.
هذه الممارسات، وإن تذرّعت العائلة فيها بنيّة "التهدئة" أو "الستر"، تمثل في حقيقتها أنماطًا شديدة التطرف من القمع الأسري، تتقاطع مع مفاهيم العنف المؤسسي والإخفاء القسري داخل النطاق العائلي. وتُصنَّف نفسيًا ضمن ما يُعرف بـ"الإساءة الأسرية المنهجية" (Systemic Family Abuse)، وهي أشد أنواع العنف ضررًا لأنها لا تأتي من عدو خارجي، بل من أقرب الناس، ممن كان يُفترض أن يكونوا السند.
تفسير هذا السلوك لا يمكن فصله عن البيئة الثقافية والاجتماعية التي تقدّس "السمعة" على حساب الأفراد. ففي المجتمعات التي تعلي من شأن "الشرف العائلي" كقيمة عليا، تُمارس الأسر آليّات قمع ضاغطة لإسكات أي فرد قد "يشوّه الصورة"، حتى لو تطلّب ذلك تجريده من حقوقه الإنسانية. هذا الفعل مرتبط بما يسميه علم النفس الاجتماعي بـ"الضغط الجمعي الداخلي"، حيث تنشأ في داخل الأسرة نفسها آلية دفاع هستيرية تقوم على الاعتقاد بأن بقاء سمعة العائلة أهم من بقاء الفرد ذاته. وهكذا، يتحول الخوف من العار إلى دافع لتدمير الضحية، لا لدعمها.
بلغة أبسط: بدل أن تحمي الأسرة طفلها من نار التشهير، تُلقي به فيها، ثم تغلق عليه الأبواب، وتكتم أنفاسه بوسائل متوحشة، ثم تتساءل لماذا صرخ، أو لماذا مات صامتًا.
في ضوء هذا الانهيار الأخلاقي والعاطفي، تصبح العائلة مصدر التهديد الأول للضحية، ويصبح المنزل - الذي كان يفترض أن يكون حضنًا - سجنًا، وأحيانًا مقبرة نفسية تُدفن فيها آخر ملامح الكرامة. هذه المقدمة ليست تمهيدًا للمبالغة، بل دعوة لفهم أن التشهير لا يقتل الضحية مرّة واحدة، بل يقتلها ألف مرّة، بأيدٍ لا ينبغي أن تَقتل.
■ الأسرة في مرمى التشهير.. اضطراب الهوية الثانوية
في عالم تتراكم فيه الأحكام الاجتماعية كطبقات خانقة، تصبح الأسرة نفسها هدفًا غير مباشر للتشهير، فتتكوّن لديها ما يُعرف نفسيًا بـ"الهوية الثانوية للعار" (Secondary Stigmatization). أي أنها لا تُرى بوصفها وحدة مستقلة، بل كامتداد للمشهر به. هذا الإدراك الجماعي يولّد اضطرابًا في تصور الذات الأسري، ويُفقد الأسرة توازنها الداخلي، لأنها تدخل بدورها في حالة من الدفاع المستميت عن بقائها الرمزي في المجتمع.
حين يتعرض أحد أفراد العائلة للتشهير، لا تصيب الضربة سمعة الفرد وحده، بل تزلزل البناء الرمزي للأسرة كلها. فجأة، تُجرّ العائلة إلى دائرة الضوء، ليس كجهة داعمة، بل كـ"خلفية محتملة للفضيحة". تبدأ الاتصالات والهمسات، وتتكاثر اللقاءات "الودّية" التي تتحوّل فيها المجالس العائلية إلى محاكم غير رسمية. أقارب، جيران، معارف، وربما شيوخ أو رموز اجتماعية، يتناوبون على طرح السؤال ذاته بطرق ملتوية: "ماذا ستفعلون؟"
هنا يبدأ الضغط الخارجي بالدوران كدوامة، لا تترك للأسرة وقتًا للتفكير العقلاني أو العاطفي، بل تدفعها باتجاه ردود أفعال دفاعية، وأحيانًا انتقامية من الضحية نفسها. تتكوّن لدى الأسرة قناعة مفخخة بأن "الخطر ليس في الجريمة بل في افتضاحها"، وأن الاستجابة يجب أن تكون سريعة وعنيفة لحماية "الصورة العائلية".
تُراكم هذه الضغوط معاناة داخلية عند الأسرة، لا تعبّر عنها إلا بتصرفات مشوّهة، منها:
الانعزال الاجتماعي، خشية المواجهة مع الأسئلة المتكررة والهمزات الجارحة.
انهيار الحوارات الداخلية بين أفراد الأسرة وتحولها إلى اتهامات متبادلة بالتقصير في التربية أو "ضبط" الضحية.
فقدان السيطرة على المشاعر، ما يُنتج حالات من الغضب الهستيري أو الاكتئاب الجماعي الصامت.
شعور الوالدين تحديدًا بالذنب العلني، فيعمدان إلى إثبات "براءتهما" من فعل الضحية بمهاجمته هو.
كل هذا يُنتج حالة فوضى أسرية، تُشبه الاحتراق الداخلي، حيث تُدفع العائلة إلى التنكّر للضحية، لا لأنها شريرة، بل لأنها غارقة في شعور بالتهديد الوجودي الناجم عن الوصمة الاجتماعية. وهكذا، تتحوّل الأسرة إلى ضحية ثانوية، لكنها تختار الدفاع عن نفسها عبر التضحية بعضو منها.
هذا النمط السلوكي نابع من منظومة ضغط خارجي تمارسها "الشبكة الاجتماعية المصغّرة"، بدءًا من المكالمات الهاتفية التي "تعاتب بلطف"، مرورًا بالمناسبات الاجتماعية التي يتم فيها تجنّب العائلة أو تعييرها ضمنيًا، وصولًا إلى ما يُشبه الحصار النفسي الذي يُفرض عليهم باسم "الغيرة على الشرف".
وتقع الكارثة عندما تستبطن الأسرة هذا الضغط وتبدأ بتطبيقه داخليًا على نفسها، من خلال آليات إسكات وتقييد تزداد حدتها مع مرور الوقت، حتى تصل إلى لحظة الانفجار الكامل: حين ترى العائلة أن تدمير الفرد هو السبيل الوحيد لحماية الكل.
● التحليل النفسي والاجتماعي:
حين تتعرّض الأسرة لتشويه السمعة بسبب أحد أفرادها، تنشأ حالة تُعرف في علم النفس الاجتماعي بـ"الهوية الثانوية للعار" (Secondary Stigmatization)، أي شعور العائلة بالخزي الناتج عن أفعال غيرها. لا يعود الفرد المُشهَّر به مجرد شخص معزول، بل يصير امتدادًا رمزيًا للأسرة كلها، فتنهار الحدود النفسية بين "الذات" و"الآخر"، وتتحوّل الأسرة إلى كيان هشّ يتخبّط تحت ضغط نظرات المجتمع وأحكامه.
هذا يؤدي إلى تشكُّل حالة دفاع جماعي هستيري، تتخذ فيها العائلة قرارات تتعارض مع مبدأ الرعاية، لصالح "النجاة الرمزية". يخلق هذا ضغطًا داخليًا يُقوّض التماسك الأسري، فتتحول الحوارات إلى اتهامات، والآباء إلى قضاه، والإخوة إلى جلادين، والضحية إلى كبش فداء، في نمط يُعرف بـ"دينامية التضحية بالفرد لحماية الجماعة".
■ الدعم يتحوّل إلى القمع.. العزل كآلية عنف رمزي ومادي
ما يبدأ داخل الأسرة كنقاش قَلِق حول "ما العمل؟" تجاه التشهير، سرعان ما ينزلق إلى شكل من أشكال العنف المنظّم ضد الضحية نفسها. فالضغط المجتمعي الخارجي لا يكتفي بتشويه صورة الضحية، بل ينقل عدواه إلى أفراد أسرته الذين يشعرون بأنهم محاصرون في عين العاصفة، ومطالبون بإثبات "براءتهم" من الفضيحة بأي وسيلة، حتى لو كانت عبر التضحية بالضحية نفسها.
تحت هذا الضغط المتصاعد، يتحوّل ما يُفترض أنه دعم إلى شكلٍ من أشكال "الإبادة الاجتماعية" للفرد داخل محيطه الأسري. تبدأ الحكاية بالتوبيخ واللوم: "لماذا لم تحمِ سمعتك؟" ثم تتحوّل تدريجيًا إلى آليات تقييدية شاملة، تحمل طابع العقاب الجماعي والانتقام المعنوي من فرد واحد.
الهدف الخفي من هذا العنف ليس فقط إسكات الضحية، بل عزلها بالكامل عن أي قدرة على التواصل الاجتماعي أو السياسي. ولهذا، يُمارس العنف المادي كأداة للسيطرة الكاملة على حياته الرقمية والواقعية:
- تقييد الضحية بالسلاسل داخل المنزل أو في غرفة معزولة، بهدف منعه من أي تواصل أو هروب.
- إتلاف متعمّد لكل أدواته الإلكترونية: الهاتف، اللابتوب، الكاميرا، الأقراص الصلبة، الفلاشات، وكل وسائط التخزين، لمنعه من التوثيق، الدفاع، أو حتى التواصل مع العالم الخارجي.
- محاولة مصادرة حساباته الرقمية على وسائل التواصل الاجتماعي، أو سرقة رموزه وأرقامه السرية، أحيانًا بهدف التواصل مع الآخرين نيابةً عنه أو محو آثاره، وكأن صوته لم يوجد.
- تخديره بالأدوية أو المهدئات دون وصفة طبية، أو إجباره على تناولها قسرًا، لإبقائه في حالة من الخمول الذهني والنفسي، تمنعه من المقاومة أو حتى التفكير.
- تحريض الأشقاء ضده بشكل ممنهج، بحيث يتحوّل من فرد في العائلة إلى "كائن دخيل"، يُمارس عليه العنف اللفظي والجسدي باسم الولاء الجماعي.
- فرض سلوك مهين يومي، مثل الإذلال اللفظي، منع الطعام، حبس مستمر، أو التشهير الداخلي به، لتفريغ شحنة الغضب الجماعي عليه.
كل ذلك لا يجري كحالة انفعالية، بل كـمنظومة إساءة متكررة ومنظمة، تمارسها الأسرة تحت تأثير تحريض اجتماعي خارجي يُملي عليها بأن "الحل" هو في محو أثر الضحية، لا في مداواة الجرح.
● التحليل النفسي والاجتماعي:
العزل المادي والنفسي داخل الأسرة ليس مجرد فعل عقابي، بل هو أداة تحكّم عاطفي شديد يُعرف بـ"العزل كوسيلة قمع نفسي" (Isolation as Psychological Control)، وغالبًا ما يُمارس في البيئات الأسرية ذات البنية السلطوية الأبوية، حيث تكون السلطة فوق العاطفة.
حين يُسحب من الضحية حقه في التواصل، الدفاع عن نفسه، أو حتى التعبير، يُصاب بما يُعرف بـ"العجز المكتسب" (Learned Helplessness)، أي الشعور بأن أي محاولة للنجاة أو المقاومة لا فائدة منها. هذا العجز قد يتحول لاحقًا إلى أعراض اكتئاب حاد، وانسحاب اجتماعي، ونوبات هلع.
في كثير من الحالات، يُرافق العزل تدمير أدوات الضحية الرقمية (الهواتف، الأقراص، الكاميرات...)، وهي ليست مجرد أجهزة، بل امتدادات لوعيه، ذاكرته، ووجوده الاجتماعي. بالتالي، ما يُمارَس عليه هو "قتل رقمي رمزي"، يُراد به محو صوته وتاريخه، وتحويله إلى شبح.
■ العزل والإساءة النفسية.. من تدمير السمعة إلى تدمير الذات
يتخذ القمع الأسري منحًى أشد عنفًا حين لا يكتفي بالعزلة الجسدية بل يتوسّع ليشمل العزل النفسي والاجتماعي والسياسي، وهو ما يُحوِّل الضحية إلى "كائن غير مرغوب فيه" داخل محيطه، حتى من قبل أقرب الناس إليه. لا يعود الأمر مجرد توبيخ أو رقابة، بل يصبح مشروعًا متكاملًا لتدمير الذات.
تبدأ الحملة بسرقة حسابات التواصل الاجتماعي للضحية، أو العبث بها، بهدف محو صوته الرقمي أو تشويهه. يترافق ذلك مع إتلاف متعمّد لهواتفه، أجهزته المحمولة، كاميراته، وأدوات تخزينه الإلكترونية التي تحتوي على أرشيف حياته الشخصية والسياسية. كل هذا لا يُنفَّذ عبثًا، بل ضمن مخطط محو الذاكرة والهُوية.
تُفرض عليه الإقامة الجبرية في المنزل، ويُمنع من المشاركة العامة، بل يُهدد في حال حضوره أي فعالية سياسية أو حزبية. يتم تجريده من حقه في التعبير، ويُحرَم من الخروج، والاتصال، والتفاعل مع العالم، كأن وجوده بات تهديدًا بحد ذاته.
يتعرّض لتشويه مُمنهج أمام إخوته، فيُنتزع من دوره كقدوة أو فرد محترم، ليُحوَّل إلى مادة للسخرية والاحتقار، وتُمارَس عليه الإهانات اليومية المتكررة. لا يتوقف الأمر عند الإذلال، بل يمتد إلى محاولات لإثناءه عن انتمائه الحزبي أو السخرية من معتقداته السياسية والدينية، خصوصًا في حال كان الطرف المُشهِّر يسعى لجرّه إلى حزب ديني معيّن، أو يُمارس عليه ضغطًا للرضوخ للاستقطاب أو الانسحاب الجبري من موقعه التنظيمي.
في أحيان كثيرة، لا تكون الأسرة وحدها في هذه الحملة، بل يشترك فيها الشريك العاطفي للضحية، الذي قد يتحوّل إلى أداة إضافية للقمع، مستغِلًا العلاقة الحميمة لتفكيك مقاومته الداخلية وتثبيط عزيمته.
ويُستخدم التخدير - مرة أخرى - كوسيلة لمنعه من الظهور أو التواصل، بل ويُسرق هاتفه أثناء غيابه عن الوعي، وتُستغل أرقامه واتصالاته بشكل مسيء، وقد تُسلَّم لجهات أمنية فاسدة، كجزء من حملة أكبر لإنهاء وجوده السياسي.
بل يصل العنف أحيانًا إلى سرقة أموال الضحية أو اختلاسها، سواء عبر الوصول إلى حساباته المصرفية أو ممتلكاته الشخصية، مما يجعله عاجزًا اقتصاديًا وفاقدًا للسيطرة على حياته المادية.
وفي الحالات القصوى، لا يتورع بعض الأقارب عن محاولة إنهاء حياة الضحية صراحة، تحت مبررات "إنهاء العار"، أو "التخلّص من العبء". هنا، تتحوّل الإساءة النفسية إلى خطر وجودي مباشر، يفقد فيه الضحية ليس فقط كرامته بل حياته ذاتها.
هذا النوع من العزل المنهجي يُصنَّف نفسيًا ضمن أكثر أنماط الإساءة خطرًا، لأنه يُمارس ببطء واستمرارية، عبر دوائر متعددة من المحيط القريب، ويجعل من النجاة فعلًا شبه مستحيل بدون تدخل خارجي حاسم.
● التحليل النفسي والاجتماعي:
في هذا المستوى، يصل العنف إلى ما يُعرف بـ"التدمير الممنهج للذات" (Systematic Self-Destruction Induction). الضحية لا تعاني فقط من العزل، بل من تحوّل بيئته القريبة إلى ساحة صراع ضد كيانه، حيث يُجرَّد من أي احترام، وتُستباح ذاكرته، وتُنتزع منه شرعية وجوده داخل أسرته.
هذا النمط من العنف يُنتج ما يُعرف في التحليل النفسي بـ"تشقّق الهوية" (Identity Fragmentation)، إذ يبدأ الفرد بفقدان ثقته بذاته، ويشكك في قيمه، ومكانته، وأحيانًا حتى في أحقيته بالحياة. تبدأ الآثار النفسية بالظهور في صورة نوبات ذعر، فقدان الشهية، اكتئاب مزمن، ميول انتحارية، وتبلّد عاطفي.
أيضًا، عندما يُجبر الضحية على قطع علاقاته السياسية أو الدينية أو الحزبية، فإن الأسرة هنا تمارس "قمعًا أيديولوجيًا" يُشبه تقنيات "غسيل الدماغ"، هدفه انتزاع الفرد من ذاته واستبدالها بهوية مصنّعة تناسب "الصورة العائلية المقبولة".
هذا هو أخطر المحاور، إذ نصل فيه إلى ما يُسمّى في علم النفس الاجتماعي بـ"الموت الرمزي للفرد داخل الجماعة" (Symbolic Death). حين تتحول الأسرة - والشريك أحيانًا - إلى أدوات طمس، وتُستخدم وسائل مثل التخدير، الاختلاس، سرقة الحسابات، والتشهير الداخلي والخارجي، فإن الضحية تُزاح قسرًا من أي معنى لوجودها، وتُعامَل كتهديد لا كشخص.
هنا تتشكّل لدى الضحية حالة من "اللا-انتماء الكامل" (Total Alienation)، حيث يفقد ارتباطه بالزمن، بالناس، وبمعنى حياته. حين تبدأ تهديدات القتل المباشر تحت مبررات "إنهاء العار"، ندخل دائرة "القتل باسم القيم" (Value-Based Murder)، وهو سلوك يُقارن بجرائم الشرف، لكنه مغلف بخطاب أخلاقي/ديني زائف.
في هذه المرحلة، لا يمكن إنقاذ الضحية إلا بتدخل خارجي، لأن البيئة أصبحت معادية بالكامل، وتحوّلت الأسرة إلى منظومة "إبادة معنوية وجسدية" للفرد.
■ حرمان من المستقبل.. تدمير الإمكانيات بوصفها جريمة مؤجلة
في بعض البيئات الأسرية، لا يقتصر القمع على التوبيخ أو العزل أو حتى التخدير، بل يمتدّ إلى منطقة أشدّ خطورة: المستقبل نفسه. حين يُحرَم الفرد من التعليم الجامعي، لا يكون ذلك مجرد "تأجيل مؤقت"، بل هو قرار استراتيجي مقصود لإغلاق أبواب الهروب أمام الضحية. تتخذ العائلة موقفًا عدائيًا من كل ما يُمكّنه من بناء وعي مستقل أو تحقيق ذاتٍ متحرّرة، خاصة إن كان تخصصه الجامعي مرتبطًا بالسياسة أو العلوم الإنسانية - أي التخصصات التي تُنتج الوعي، وتُسائل السائد.
يُجبر الضحية على التخلي عن أحلامه الأكاديمية أو تغيير تخصصه، لا لسبب سوى أن معرفته قد تشكّل خطرًا على "السقف العائلي". تُنتزع منه كتبه، وتُمزَّق مكتبته الشخصية - خصوصًا الكتب التي تُناقش الفكر والسياسة والحقوق والذات. ويُمنَع من شراء كتب جديدة، أو متابعة المجلات البحثية والفكرية التي تصدر عن مراكز أبحاث ومؤسسات فكرية، في محاولة واضحة لفصله عن كل ما قد يُنير وعيه أو يوسّع أفقه.
حتى في حال تمسّكه بتعليمه، لا تسهّل الأسرة مهمّته: لا تُدفَع رسومه الدراسية، ويُمنَع من أداء الامتحانات بذريعة "التأخير" أو "العقوبات"، ما يؤثّر مباشرة على معدّلاته الأكاديمية. تفوقه الدراسي الجماعي يصبح سببًا للاحتقار وليس للفخر، ويُعامَل كجريمة يجب كبحها.
وفي حال بدأ بمحاولة تطوير ذاته عبر الدورات المهنية أو المهارات الجديدة، يُقابل بالسخرية، ويُجبر على العمل في وظائف بعيدة تمامًا عن تخصّصه، تحت ذريعة "الواقعية" أو "المردود المالي"، بينما الهدف الخفي هو إجهاض مساره، وتحويله إلى شخص مكسور الأفق، ضعيف التأثير.
● التحليل النفسي والاجتماعي:
يُعتبر هذا الشكل من القمع نمطًا بالغ الدقّة من العنف النفسي المنظّم، حيث تُستخدم أدوات الحياة اليومية - مثل التعليم والعمل والكتب - كوسائل تدمير طويلة الأمد. يُعرَف ذلك في علم النفس التنموي والاجتماعي بـ"العنف من خلال تقويض الإمكانيات" (Violence by Potential Suppression)، وهو يُمارس غالبًا في البيئات السلطوية التي ترى في الوعي خطرًا.
حرمان الفرد من التعليم العالي، خصوصًا إذا كان متفوقًا أو صاحب طموح فكري، يُشكّل هجومًا مباشرًا على مفهوم الذات الذاتية (Self-Actualization)، أي على النقطة التي يسعى فيها الإنسان لأن يكون "هو". وتُصنَّف هذه الأفعال ضمن ما يسمى بـ"الإجهاض النفسي للمستقبل" (Psychological Abortion of the Future).
التأثير النفسي لهذه الممارسات لا يكون لحظيًا، بل تراكميًا. تبدأ بالقلق، ثم الإحباط، ثم تتطوّر إلى اكتئاب مزمن وظيفي (-function-al Depression)، حيث يفقد الفرد الحافز للاستمرار، حتى وإن بدا طبيعيًا ظاهريًا. كما تُولّد مشاعر الحقد الداخلي، وفقدان الأمل، والتشكيك في الذات، وأحيانًا الميل للعزلة أو الانتحار النفسي الصامت (الانسحاب من الحياة دون موت جسدي).
علاوة على ذلك، عندما يُجبر الضحية على العمل في وظائف لا تمت بصلة لتخصصه، يُصاب بما يُعرف بـ"الاغتراب المهني" (Occupational Alienation)، وهو حالة من الانفصال الكامل بين الشخص وما يقوم به، مما يؤدي إلى انهيار الشعور بالهوية المهنية، ورفض الذات.
في جوهره، هذا القمع الأكاديمي والمهني هو وسيلة لإغلاق "كل منافذ الخلاص"، وجعل الضحية يرى العالم من خلف قضبان غير مرئية: البيت، العائلة، والوظائف المفروضة.
■ انهيار العلاقات العاطفية والسياسية.. عندما تتحول الأسرة من سند إلى أداة ابتزاز
في ذروة محنة التشهير، لا تكتفي بعض الأسر بالانسحاب من موقع الحماية، بل تنزلق إلى موقع الابتزاز العاطفي والسياسي المباشر. تبدأ العائلة بتبنّي خطاب سياسي خارجي، غالبًا ناتج عن تعبئة أيديولوجية تمارسها جهات حزبية أو سلطات نافذة، فتُحمّل الحزب الذي ينتمي إليه الضحية مسؤولية "العار"، وتعمل على دفعه للاستقالة أو تغيير ولائه الحزبي. العائلة لا ترى الخلل في السلوك التشهيري أو في العنف، بل في "الخطاب الذي يتبناه الضحية"، فيصبح الانتماء السياسي ذاته تهمة.
يتكرّر هذا النمط أيضًا على مستوى العلاقات العاطفية، خصوصًا إذا كان الشريك متضامنًا أو ينتمي إلى نفس الفضاء السياسي أو الفكري. تسعى الأسرة حينها إلى تفكيك هذا التحالف العاطفي والفكري، باعتباره خطرًا مضاعفًا. تبدأ بحملات إفساد الثقة: تراسل الشريك العاطفي من هاتف الضحية للإساءة إليه، تفتعل نزاعات، تطلق إشاعات، تُمارس ضغوطًا مباشرة أو غير مباشرة لإجباره على الانسحاب، بل وقد تبتزه أو تشهّر به أيضًا، فقط لإضعاف الضحية.
ولا يتوقف الأمر عند الشريك أو الحزب، بل يمتد إلى محيط الداعمين الاجتماعيين والسياسيين. تبدأ الأسرة بمراسلة بعض هؤلاء الداعمين علنًا أو سرًا، في محاولة لبث الفتنة بينهم وبين الضحية، أو الإيقاع بينهم بالشائعات والمغالطات، بما يؤدي إلى انهيار العلاقة وفقدان الدعم المعنوي والسياسي. بل وقد تتحدّث الأسرة داخل المنزل على لسان هؤلاء الداعمين، وتنسب إليهم مواقف أو عبارات لا تمت لهم بصلة، بهدف زعزعة ثقة الضحية في مؤيديه، ودفعه للانسحاب من المشهد كليًا.
بهذه الآلية، تتحول الأسرة إلى ما يشبه "غرفة عمليات" لاختراق كل تحالف يمكن أن يشكل دعمًا للضحية، سواء أكان سياسيًا، فكريًا، أو عاطفيًا، وذلك بهدف تجريده من أي شبكة أمان قد تمنحه مقاومة.
● التحليل النفسي والاجتماعي:
يُصنَّف هذا النمط من القمع ضمن ما يُعرف في علم النفس الاجتماعي بـ"استراتيجية الإفقار العاطفي والإيديولوجي المتعمد" (Deliberate Emotional and Ideological Deprivation). وهو يتّسم بمحاولة تجفيف موارد الدعم الخارجية للضحية، من خلال اختراقها أو تفكيكها أو تسميمها من الداخل.
عندما تُحوِّل الأسرة كل داعم - سواء كان شريكًا أو صديقًا أو مؤيدًا سياسيًا - إلى هدف، فإن الضحية يُصاب بحالة من "الارتباك العلائقي" (Relational Disorientation)، حيث يفقد القدرة على الوثوق بأي شخص، حتى أولئك الذين ثبتت مساندتهم له. يبدأ الشك يتسرّب إلى كل علاقة، ويُصبح العزل النفسي شبه تام.
أما التحدث باسم الداعمين أو تشويه خطابهم داخل البيت، فيمثّل ما يُعرف بـ"التلاعب الرمزي بالصورة الذهنية" (Symbolic Image Manipulation)، حيث يُستبدَل صوت الحقيقة بأصوات مزيفة، في محاولة لإنتاج واقع عاطفي كاذب، يُدخِل الضحية في حالة من الانفصال عن الإدراك الواقعي (Reality Detachment).
كما يؤدي تفكيك العلاقات الحزبية والعاطفية إلى ما يُعرف بـ"تمزيق الهوية الاجتماعية" (Social Identity Fracturing)، حيث يجد الفرد نفسه فجأة بلا انتماء، بلا حليف، وبلا لغة مشتركة. هذه الحالة غالبًا ما تسبق الانهيار النفسي الكامل، خاصة إذا رافقتها عزلة مادية وضغط يومي.
■ الإقصاء السياسي أو الاستقالة.. حين يصبح اللجوء هو الملاذ الأخير
حين يتعرض الفرد لحملة تشهير علنية، لا تكتفي بتشويه سمعته أمام المجتمع، بل تتحول تدريجيًا إلى أداة إقصاء سياسي ممنهجة. تبدأ هذه الحملات بتضخيم الفضيحة وربطها بانتماءاته الفكرية أو الحزبية، وتُستغل لتصويره على أنه "عبء أخلاقي" أو "خطر على صورة الجماعة"، ما يسهّل دفعه خارج التنظيم، إما بالضغط غير المباشر أو بالمطالب العلنية بالاستقالة.
تتواطأ الأسرة في هذا الإقصاء السياسي، لا كطرف محايد، بل كجزء من ماكينة الضغط. تُمارَس عليه ضغوط حثيثة للتخلي عن موقعه التنظيمي، وتُصوَّر الأيديولوجيا التي يحملها بأنها السبب الجوهري لكل "العار" الذي حل بالعائلة. وفي كثير من الأحيان، تُستخدم حجج دينية أو اجتماعية لتبرير هذا الإقصاء، بل يُعاد إنتاج خطاب الخصوم السياسيين داخل البيت، حتى ليبدو وكأن العائلة قد تبنّت خطاب أعدائه دون أن تعلن ذلك صراحة.
أما المجتمع، فينخرط بدوره في عملية عزل رمزي ووظيفي. تُغلَق الأبواب في وجه الضحية، ويُحاصر في سمعة لا تُغتفر، وتُصنَع حوله هالة من النفور الممنهج. تدخل بعض الأحزاب المنافسة على الخط، فتستثمر سقوطه الرمزي لسحب الشرعية عنه، أو لاستقطابه مُذلًا، على قاعدة: "إما أن تنضم إلينا، أو تبقى منبوذًا".
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل يمتد ليشمل محيط الضحية الداعم. تبدأ الأسرة بمراسلة بعض المؤيدين والناشطين الذين يساندونه، في محاولة لبث الفتنة بينهم وبينه، وتشويه صورته أمامهم، وافتعال خلافات تؤدي إلى قطيعة أو على الأقل فتور في الدعم. وقد تنسب إلى هؤلاء المؤيدين كلامًا كاذبًا، وتنقل عنه مواقف مزورة، مما يؤدي إلى زعزعة الثقة بين الطرفين، وانهيار روابط المساندة. وهكذا يُسحب من الضحية آخر حلفائه.
في هذه الظروف، لا يبقى أمام الضحية سوى خيارين: الاستقالة القسرية من موقعه السياسي، أو الهروب الجغرافي بحثًا عن مأوى يحترم كينونته. يتحول المنفى إلى شكل من أشكال النجاة، ليس فقط من عنف الدولة، بل من خيانة البيت، وخذلان الحزب، وتواطؤ البيئة.
● التحليل النفسي والاجتماعي:
يندرج هذا النوع من الإقصاء ضمن ما يُعرف في علم النفس السياسي والاجتماعي بـ"العزل المؤسسي المُركَّب" (Compound Institutional Ostracism)، حيث تتضافر القوى الاجتماعية (الأسرة)، والتنظيمية (الحزب)، والرمزية (السمعة الجماعية) لإحداث شلل وجودي تام لدى الضحية.
1. الإخراج القسري من المجال الرمزي
تُمارَس على الضحية عملية "طرد رمزي تدريجي" (Gradual Symbolic Expulsion)، حيث لا يُقال له صراحةً "أنت منبوذ"، لكن كل الإشارات والعلاقات تتصرف وكأن ذلك حدث. في علم النفس الاجتماعي، يُعد هذا الشكل من النبذ أحد أخطر أنواع القمع، لأنه لا يُمنَح للضحية حتى فرصة الدفاع عن نفسه أو فهم التهمة الموجّهة إليه. يدخل الضحية بذلك في حالة "التلاشي التمثيلي" (Representational Fading)، إذ يُسحب منه الدور، والموقع، والصوت.
2. الضغط الأخلاقي داخل العائلة وتحوّله إلى عنف معنوي
عندما تتبنّى العائلة خطاب الجماعة السياسية المعادية - ولو دون إعلان - تُصبح طرفًا فاعلًا في ما يُسمى بـ"إعادة تدوير القمع داخل الحميمية" (Recycling Oppression in Intimacy). هذا النوع من العنف يكون أكثر قسوة من عنف الدولة، لأنه يصدر من أقرب الناس، تحت غطاء "الخوف على المصلحة" أو "الستر". ويُولّد ذلك لدى الضحية ما يُعرف بـ"انقسام الثقة الداخلية" (Internal Trust Rupture)، حيث يفقد القدرة على التمييز بين النصيحة والخيانة، وبين المحبة والسيطرة.
3. تشويه الداعمين وتفكيك شبكات الأمان
حين تبدأ الأسرة أو الجماعة المحيطة بتشويه صورة الضحية لدى داعميه، أو العكس، تُفعَّل آلية يُطلق عليها علم النفس الجماعي اسم "هندسة الفُقدان المنهجي" (Systematic Loss Engineering). لا يُمنع الدعم فقط، بل يُحرَّف، ويُسحب تدريجيًا حتى يتحول التضامن إلى تهمة، والصداقة إلى خطر. هذه العملية تُسبب حالة من "الانفصال الاجتماعي القسري" (Forced Social Severance)، تجعل من إعادة بناء العلاقات لاحقًا أمرًا بالغ الصعوبة.
4. الاستقالة والمنفى كأعراض لا كخيارات
حين يُدفع الضحية للاستقالة أو مغادرة بلده، فإن ذلك لا يُعد "خيارًا حرًا"، بل هو نتيجة لعملية "خنق وجودي متعدد الجبهات" (Multidimensional Existential Suffocation). يصبح اللجوء هنا - كما تشير الأدبيات النفسية - نوعًا من "الهروب الترميمي" (Restorative Escape)، أي محاولة للهروب من انهيار نفسي وشيك، وليس مجرد انتقال جغرافي.
■ نحو مواجهة فعّالة للتشهير.. نُصح للضحايا، والداعمين، والمجتمع
إن مواجهة حملات التشهير، خاصة تلك التي تمس الحياة الشخصية والسياسية والرقمية للفرد، تتطلب أكثر من مجرد صبر فردي أو عزلة وقائية. فالتشهير ليس مجرد حدث عابر، بل منظومة تدميرية متكاملة تطال الكرامة، والعلاقات، والهوية. لذلك، ينبغي النظر إلى المواجهة باعتبارها جهدًا جماعيًا يتوزع على الضحية، والمحيط القريب، والفاعلين المجتمعيين والحقوقيين.
أولًا: الضحية.. من رد الفعل إلى إعادة التمركز
أول ما تحتاجه الضحية في مواجهة التشهير هو استعادة السيطرة النفسية على السردية. فالصدمة تفقد الإنسان قدرته على التفسير، فيتحول إلى رد فعل دائم. هنا يأتي دور العلاج النفسي، خصوصًا المقاربات المعرفية السلوكية أو علاج الصدمات المركبة (TF-CBT)، كمساحة لتفكيك المشاعر، والتعامل مع الذنب الزائف، وتعلّم أدوات تنظيم الانفعالات.
التوثيق المتأنّي لكافة أشكال الضرر - من رسائل التهديد، إلى المنشورات التشهيرية، إلى محاولات الاختراق - ليس فقط خطوة قانونية، بل فعل رمزي يُعيد للضحية إحساسها بالسيطرة. كما أن بناء دائرة دعم موثوقة - حتى لو اقتصرت على شخصين - يخلق مساحات "ضد - سمّية"، تحمي من العزل الكامل، وتُذكّر الضحية بأنها ليست وحدها.
تُعد الرعاية الذاتية المنتظمة (تنفّس عميق، كتابة، رياضة، نوم منظم) بمثابة إعادة ترميم داخلية بطيئة ومستمرة. وليس هذا رفاهًا، بل ضرورة عصبية ونفسية. أما ضبط ردود الفعل، خاصة في المجال الرقمي، فيُعد سلاحًا مضادًا بالغ الأهمية: فكل رد فعل هستيري يُستخدم لتأكيد رواية "الاختلال"، بينما الصمت الذكي أو الرد الهادئ يُفقد المهاجمين غايتهم النفسية.
ثانيًا: الأسرة، الشريك، والأصدقاء.. من التواطؤ إلى الحماية الواعية
لا تملك الأسرة في مواجهة التشهير أن تقف على الحياد. الصمت هنا ليس "نأيًا عن الصراع"، بل يتحول فعليًا إلى امتداد للضرر. تبدأ الحماية من جملة واحدة بسيطة وصادقة: "نحن نصدقك، ولسنا ضدك". هذه العبارة، رغم بساطتها، تُعد فعلًا نفسيًا ترميميًا بالغ القوة.
لكن الدعم لا يُبنى على النوايا وحدها، بل يحتاج إلى وعي نفسي أساسي: مثل فهم الصدمة الثانوية التي تصيب الضحية، وتجنّب السلوكيات المؤذية كالمراقبة، الرقابة، أو محاولة إسكات الألم بدافع "الستر". البيئة الآمنة لا تعني المواساة فقط، بل أيضًا السماح بحرية التعبير، أو حتى التنسيق مع جهة قانونية إن لزم الأمر.
يجب ألا تخجل الأسرة أو الشريك من طلب المساعدة أيضًا فحين تكون العائلة طرفًا داعمًا وواعيًا، لا تصبح فقط شبكة حماية، بل شريكًا في نزع فتيل العنف الرمزي.
ثالثًا: المنظمات الحقوقية والأحزاب السياسية.. من التدخل الطارئ إلى إعادة بناء الشرعية
لا تقتصر مسؤولية المواجهة على المنظمات الحقوقية، بل تمتد إلى الأحزاب السياسية، خاصة حين تكون الحاضنة الفكرية أو التنظيمية السابقة للضحية. فغالبًا ما يتم استغلال التشهير لتصفية الخلافات الداخلية، أو لحماية "سمعة الحزب" على حساب كرامة أفراده. وهنا يصبح الموقف الأخلاقي للحزب اختبارًا حاسمًا لمفهومه الفعلي عن العدالة والانتماء.
على الأحزاب أن تتبنى مدونة سلوك واضحة تحظر استغلال الحياة الشخصية أو الحملات الإعلامية كأداة صراع داخلي. كما يجب أن تتوفر آليات داخلية للتحقيق تضمن الحياد والاستماع للضحية، بدلًا من الرضوخ للضغط الإعلامي أو المزايدات الأخلاقية.
من الضروري أيضًا أن تنشئ الأحزاب وحدات دعم نفسي وتنظيمي داخلية، تُرافق الأعضاء عند الأزمات، وتحميهم من الانهيار المعنوي والتنظيمي. فالفرد المنكسر لا يشكل خطرًا على الحزب، بل هو شهادة على هشاشته البنيوية إذا ما أدار ظهره له.
أما المنظمات الحقوقية، فعليها أن تتجاوز الدعم القانوني البحت، نحو توفير وحدات مزدوجة للدعم النفسي - القانوني ترافق الضحية وأسرته، وتؤمّن بيئة آمنة للتعافي. فالتفكك الأسري والاجتماعي غالبًا ما يكون أحد الآثار غير المرئية للتشهير، ويحتاج إلى علاج منهجي، لا مجرد تضامن رمزي.
على المستوى المجتمعي، لا بد من إطلاق حملات توعية تُعرّف بمفاهيم مثل "الضحية غير المثالية" و"اللوم الثاني"، وتُقاوم ثقافة التشهير لا عبر الخطاب العاطفي فقط، بل أيضًا بالمفاهيم والمناهج.
أما الضغط على المنصات الرقمية، فيبقى واجبًا مشتركًا. يجب أن تتحمل المنصات مسؤولية المحتوى الضار، وأن تُجبر على حذف المواد التشهيرية، وتمكين الضحايا من أدوات الحماية والمساءلة.
وأخيرًا، يجب دعم مبادرات التعافي الجماعي وبناء شبكات من الناجين/الناجيات، تُقدم نماذج علنية للخروج من العار، وإعادة تشكيل الكرامة. هذه المساحات تُعيد توزيع القوة من المسيء إلى الضحية، ومن الصمت إلى القدرة على التعبير.
■ كسر دائرة الصمت
التشهير ليس حادثة بل منظومة. يبدأ كـ"رأي عام"، ثم يتحول إلى عنف نفسي، ثم إلى عزل مؤسسي، وأخيرًا إلى صمت داخلي في الضحية نفسها. لكن هذا المسار يمكن كسره حين يُعاد توزيع المسؤولية: حين لا تُترك الضحية وحدها، وحين يُسمح لها بإعادة تشكيل سرديتها لا كمصدر للعار، بل كمنطلق للكرامة والحق.
كل كلمة دعم، كل فعل وعي، كل علاج أو توثيق أو تضامن، هو حجر في بناء حماية جماعية من العنف الرمزي. فالنجاة لا تأتي من نفي الألم، بل من تسميته، وفهمه، وتحويله إلى قوة تدافع عن الجميع. ⚓
#إياد_هديش (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجريمة النفسية التي لا تترك أثرًا على الجلد: تشريح نفسي لضح
...
-
التشهير الرقمي: حين تُصبح الكلمة أداة قتل باردة
-
بين شاشة وهشاشة: قمع النساء عبر التكنولوجيا في مجتمع يجرّم ا
...
-
العودة إلى هوية العشاق: رسالة امرأة غادرت عالم الحرية باسم ا
...
-
باسم الهوية.. ذهبت
-
حين تُختطف الحرية: المرأة ما بين التمكين والتحريض
-
المرأة ما بين الحرية وهشاشة الهوية الذاتية
-
ادعاء التحرر والعودة إلى السجون القديمة: بين الصخب الظاهري و
...
-
حين تُقمع المشاعر تتهاوى المواقف
-
المرأة واختيار شريك عمرها: بين قسوة التحريم وفطرة الحب
-
الحجاب والتمييز الطبقي: كشف العلاقة بين الستر والعبودية في ا
...
-
قراءة في كتاب النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي لهش
...
-
هل يعود اليمن سعيداً؟
-
الأيام السبعة ورمزية الرقم (7)
المزيد.....
-
إسرائيل تعلن استعادة جثامين رهينتين وجندي من غزة
-
بعد الهجمات الأميركية على منشآتها النووية.. طهران تهدد بـ-رد
...
-
خبير عسكري: هكذا ألحقت -مطرقة منتصف الليل- ضررا بمنشأة فوردو
...
-
كيف علق مغردون على مشاهد الدمار في إسرائيل؟
-
تقرير أممي يرصد زيادة غير مسبوقة في الانتهاكات ضد الأطفال
-
نيويورك تايمز: 12 قنبلة ضخمة لم تدمر موقع فوردو وإيران نقلت
...
-
خريطة دراما رمضان 2026.. عودة قوية لنجوم الصف الأول
-
كاتب أميركي: إنها حرب ترامب ومقامرته وحده هذه المرة
-
أمير قطر والرئيس الفرنسي يبحثان الهجمات على إيران
-
واشنطن مستعدة للتفاوض وأوروبا تحث طهران على عدم التصعيد
المزيد.....
-
مكونات الاتصال والتحول الرقمي
/ الدكتور سلطان عدوان
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
المزيد.....
|