|
شهريار الجسد المقهور (مقاربة لمسرحية شهرزاد لتوفيق الحكيم)
كمال التاغوتي
الحوار المتمدن-العدد: 8365 - 2025 / 6 / 6 - 23:40
المحور:
الادب والفن
الجسد هو الجسد / إنه وحيد / ولا يفتقر إلى أعضاء / ليس الجسد بجهاز عضوي / فالأجهزة العضوية عدوّة الجسد (أنطوان آرتو)
تصور مسرحية شهرزاد صراعا يخوضه الملك شهريار من أجل امتلاك العالم معرفيا، وفي سبيل تحقيق هذا الهدف يجترح تجارب تختلف وسائلها وفضاءاتها ونتائجها، كما يجابه قوى كابحة تعرقل مساره؛ منها الخارجي الموضوعي شأن شهرزاد وقمر، ومنها الداخلي الذاتي المرتبط بشرطه
البشري كونَه كائنا محدودا تحكمه الضرورات والتصورات المتجذرة في جسده. وما كان يتأتى له اكتشاف هذه الأبعاد المختلفة في ذاته لولا قراره الأوّلي بتغيير الوضعية الأساسية، تلك المتمثلة في تحوّله من حال "الهمجية" والتوحش، أنْ كان سَفاحا يتلذذ بدماء العذارى اللائي يُنحرن "قرابينَ"
على مذبح ساديته وأهوائه، إلى حال "إنسانية" أنْ صار زوجا محبا متعايشا مع "واقعه" الجديد؛ ذاك ما تشير إليه المسرحية تارة وتلمِّح إليه تارة أخرى، فها هو قمر يقول في حضرة شهرزاد:
"أليست قصص شهرزاد قد فعلت بهذا الهمجي ما فعلته كتب الأنبياء بالبشرية الأولى" (ص.35)
ترِد هذه الإشارة ضمن خطاب تمجيدي، لأن الوزير قمر لا يذكرها لذاتها، وإنما كي يقيم البرهان على ما تكنّه شهرزاد من حب لزوجها شهريار. والحدث الجلل المشار إليه يقع خارج سياق المسرحية، وذكره في هذا المنظر يخدم الفعل المسرحي، إذ به يدرك القارئ/ المشاهد خطأ شهريار
التراجيدي، أعني قراره تحويل الوضعية الأساسية؛ لنصغ إلى قمر من جديد وهو يصور التحوّل الثاني في شخصية الملك:
الوزير: لقد قلت لك قبل اليوم إن الملك بفضلك قد أمسى أيضا لغزا أمامي. وكأنما كشف لبصيرته عن أفق آخر لا نهاية له. فهو دائما يشير مفكّرا باحثا عن شيء، مُنقّبا عن مجهول، هازئا بي كلما أردت اعتراض سبيله إشفاقا على رأسه المكدود (ص.37)
هكذا ينصرف شهريار عن المألوف والجاهز والمتاح، ليزُجّ بنفسه في غمار مغامرة فكرية ينشد من خلالها إدراك جواهر الأشياء الثاوية خلف أعراضها البراقة. إن "معجزة" شهرزاد المتمثلة في كفّ يده عن سفك الدماء ليست سوى ترويض، وتدجين لما كان منفلتا من عقاله؛ فهي – بمهارتها
في القص وبراعتها في أسر سامعها – نجحت في إخضاع الملك، غرائزِه وأهوائه، لسلطان النظام بقيمه ومقولاته ومفاهيمه؛ بعبارة أخرى تمكّنت شهرزاد من إرغام جسده على الإذعان والانتماء إلى شبكة الرموز المهيمنة. بيد أن شهريار، جرّاء يقظة العقل فيه، يتمرّد على ذاك النظام محاولا
استرجاع جسده المصادر، ولتمرده ذاك طوران أساسيان يختبر فيهما وبهما الجسد البشري: أوّلهما عقلاني تجريبي من خلال جسدي زاهدة العذراء وآدمي دون هوية تذكر. ثانيهما حيوي حركي من خلال اختبار جسده الخاص بترحاله الطويل يجوب أقطار الأرض. تبوء التجربتان بالفشل، فلا
الجسد الخام الأنثوي والذكوري أنبأه بما يريد ولا الجسد الحميمي في حركته وسيولته يحرره من جاذبية مركز النظام، أعني شهرزاد كونها أيقونةً تتكثف فيها الطبيعة. فها هي شهرزاد تعلن عن نتيجة الطور الأول في نبرة ساخرة تعجيزية:
شهرزاد: سيان. ومع ذلك ماذا علمت؟ ماذا أخبرك رأس زاهدة المقطوع؟ وبم أفضى إليك ساكن دنّ الدهن؟ هل كشف لك السحر والعلم عن سر واحد مما تتحرق لمعرفته من أسرار؟ (ص.42)
أما الطور فيفصح عنه شهريار ذاته في ما يشبه الاعتراف المشوب بحسرة تكشفها الإشارة الركحية ذات الوظيفة التصويرية:
شهريار (في قنوط): أوَ لست كالماء يا شهرزاد؟ سجينا دائما كالماء؟ نعم، ما أنا إلا ماء. هل لي وجود حقيقي خارج ما يحتوي جسدي من زمان ومكان. حتى السفر والانتقال إن هو تغيير إناء بعد إناء. ومتى كان في تغيير الإناء تحرير للماء.
شهرزاد: ليس السفر يا شهريار ما يحرر جسدك.
شهريار: صدقت. (ص.ص.103-104)
إن ما يطلبه شهريار – ذاك ما تصرّح به شهرزاد – ليس التحرر من الجسد بل التحرر بالجسد؛ فمدار الأمر والغاية التي إليها يجري إنما فك الارتباط بنظام يعمل على تفكيك الجسد وتفتيته، عبر تحويله إلى مجموعة من الأعضاء ذات وظائف محددة. تتعلق همة شهريار إذن بتحرير جسده من
هذا التقسيم التشريحي، وهو تقسيم من شأنه أن يجعل منه جهازا عضويا يحجب وحدته ويعطّل قواه الحيوية. إن تجربتَيْ شهريار في الطوريْن الأول والثاني، أي إخضاع الجسد للعقل في مرحلة أولى وإخضاع العقل للجسد في مرحلة ثانية، تَؤُولان إلى إدراك سطوة النظام الفكري – القيمي القائم،
فشهريار على الرغم من كفاحه الطويل لا يزال محكوما بثنائيات تشطر الجسد وتقضي عليه بمفارقة جذرية يستثمرها اللاهوت والسياسة والعلم. إنه يدرك الآن أن تحرير الجسد ليس في تغيير المكان بل في تغيير الجسد نفسه وإخراجه من سجن الجهاز العضوي الوظيفي. ذاك ما اكتشفه شهريار
في خان أبي ميسور، ففي هذا المكان المغلق البعيد عن مركز المدينة - كوْنَها فضاءً يكرّس الانقسام ويعمّق الاغتراب - يلتقي الملك بجلاّده القديم وهو منغمس في غيبوبته وانقطاعه عن الواقعي. وفي غمرة المخدّر يشهد الخطاب تحوّلا فيلج بوابة الهلوسة وتشهد اللغة اهتزازا في عباراتها
وصُورها ضمن تعبيرها عن اللامعقول. جاء في المسرحية ما لفظه:
أبو ميسور: (يفحص ساق الجلاد) صدقت، إذن ما هذه؟
الجلاد: (بغير حراك ) لا تلمسها وصاحبها غائب.
قمر: (يهمس) مولاي، هذا جلادك القديم..
شهريار: غائب؟ أين؟ وكيف ترك ساقه ها هنا؟
الجلاد: تركها مزروعة في الأرض. وهل خُلقت الساق لتسير؟
شهريار: عجبا، ولِم خلقت الساق إذن؟
الجلاد: لتبقى مزروعة في الأرض تحمل الجذع والأغصان والأفنان.
أبو ميسور: وأين صاحب هذه الشجرة التي لا ثمر فيها؟
الجلاد: قد عاد منذ لحظة هناك في القاعة الأخرى. وها أنا أنهض للقائه. (ينهض الجلاد على قدميه وينصرف) (ص.ص.84-85)
تتجلى في هذا المشهد مفارقات ناشئة عن التنافر بين الدال ومدلوله، والكلمة ومعناها؛ وذلك بموجب هيمنة المجاز على الحوار، فتشهد اللغة انزياحا عن مراجعها ودلالاتها المعجمية. ومن تلك المفارقات اثنتان، أما الأولى فتظهر في التورية في كلمة "ساق"؛ فهي تدل على معنيين، الأول – وهو
ما يتبادر إلى الذهن – الساق البشرية، والثاني – وهو المراد – الساق النباتية؛ فالجلاد بتوريته هذه يجرِّد الساق البشرية من وظيفتها المتمثلة في الحركة والسير، وينزح بها إلى ضدها لتدل على الثبات والاستقرار؛ وبذلك يلحق العضو وصاحب العضو بما ليس منه، أعني عالم النبات. وفي هذا
السياق – أعني استخدام الساق استخداما مجازيا – يتواطأ أبو ميسور مع الجلاد ليستعير لفظ "الشجرة" للجسد البشري كله؛ فتكتمل الصورة القائمة على تحويل الإنسان تحويلا "مسخيا" إيحاء بعجزه عن الحركة الذاتية. أما المفارقة الثانية فتظهر في التنافر بين الإشارة الركحية والحوار، ذلك أن
الراوي يتعمد التفصيل في تصوير حركة الجلاد، إذ لا داعي – في استخدامنا اللغة – إلى التصريح بالعضو المساعد على النهوض والوقوف، فحسبه أن يقول "ينهض" حتى ندرك أنه ينهض على قدميه، فالدلالة ها هنا دلالة التزام. يأبى الراوي إذن إلاّ أن يُظهر الضمني في اللفظ المنطوق، لكنه
لا يستخدم اللفظ ذاته المستخدم في الحوار، فيعْدِل عنه ليذكر عضوا آخر، أعني القدميْن، فتتحقق المطابقة بين الدال ومرجعه. وعلى هذا النحو تُعدّؤل الإشارة الركحية الموقف، فلا تنخرط في "الهذيان" الجاري على ألسنة الشخصيات وإنما تعيد اللغة إلى ما تواضع عليه الناس. وبتعديلها ذاك
تعمق الانزياح في الحوار لتصير المفارقة كالنقش الغائر يستوي بموجبها الجلاد واحدا من الهاربين "من أجسادهم" على حد تعبير شهريار. يكشف موقف السيّاف القديم – وقد تخلى عن سيفه واستبدل به مخدّرا – عن تمكنه من خلق خط هروب يفتح له أفقا يخلصه من جسده. لكن عن أي جسد
يتحدث البطل المأسوي؟ لا ريب في أن الانعتاق لا يكون في هذا الموقف إلا من الجسد – الجهاز، فالجلاد بهذيانه يخلّص جسده من أعضائه، ينتشله من حضيض البنية التشريحية المميتة ليسترجع جسدُه كليته دون انقسام. إنه يتحرك بعيدا عن الجهاز العضوي الوظائفي، ليهتك الحدود الفاصلة
بين الجسد وأجزائه، فيتحرر من الجسد – الآلة، ليعانق الجسد – الحدث، منبع الإدراك والإحساس. ومن ثمّة يكفّ الجسد عن أن يكون عرَضا ليستوي جوهرا. لعل ذلك ما يجعل شهريار ينبّه وزيره قمر إلى ما يتمتع به رواد خان أبي ميسور من خصال غير متوفرة في الآخرين. لنُصغ إليه في
هذا المشهد:
أبو ميسور: الزما الشاطئ في حذر وإلا ابتلا نعلاكما..
قمر: (همسا): عجبا، يحسب البساط بحرا.
شهريار: صه يا قمر وامتثل، فهو يرى أكثر مما نرى.
قمر: أتمزح؟
شهريار: أجلسنا يا صاحب الخان.
أبو ميسور: (يشير إلى الفراش الوثير) تفضلا.. (ص.83)
وعلى الرغم من هذا الإجلال يُعرِض شهريار عن السير في هذا الدرب، فلا يشارك في تناول المخدّر لوعيه بحدود التجربة وفراغها. فبلوغ الجسد – الحدث بهذه الوسائل لا يؤدي إلا إلى تدميره وهلاكه. غير أنه يجني من مراقبة الهاربين من أجسادهم – إلى أجسادهم – حقيقة فظيعة، تتمثل في
تعذّر فك ارتباطه بالنظام القائم، فحين يعبر قمر عن حسرته على إفلاس الرحلة يرد عليه شهريار قائلا:
"رحلتنا؟ صه أيها الأبله. إنا ما تحركنا بعد" ليعلل حكمه هذا فيقول وهو يشير إلى ساقيه:
"كيف تقول إنا سافرنا وهذه الأوتاد تربطنا إلى الأرض؟ 86-87
لينخرط بذلك في مقام الهاربين من أجسادهم، فتنزاح على لسانه اللغة عن معناها المعجمي من خلال الاستعارة ذات التوجه التحقيري أن يجعل من الساقين البشريين أوتادا تعطّل الجسد وتحول بينه وبين الحركة. هكذا يشقى شهريار بانشداده إلى الجسد – الجهاز شقاءَه بخضوعه للمركز، لتستوي
رحلته رقصة صوفية دائرية تنشد الانعتاق والحلول ولا تبلغه أبدا.
تلك مسألة أخرى لها تعلق بكفاح شهريار من أجل التحرر من المكان ذي النتوءات والتنظيمات والحدود. إنها البعد الآخر من مأساته، أعني عجزه عن الإفلات من قبضة شهرزاد، تلك الشجرة الكونية، فيظل مجرد غصن إذا جف نسغه قُطع، بل ورقة إذا ذوت سقطت.
*الشواهد من مسرحية شهرزاد لتوفيق الحكيم، الطبعة الثالثة، دار مصر للطباعة
#كمال_التاغوتي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فخْرُ البِيضانِ على الحُمْرانِ
-
وَرْدٌ يَقِظ
-
بِنْتٌ فِي المَيْدَانِ
-
أُفُول
-
أرَاكِ
-
نَزِيفٌ
-
البِشارَة: وصايا حسن الصّبّاح إلى أبنائه المؤمنين
-
ضَابِطُ تَلْمُود
-
مدينة البرتقال
-
شِراع
-
ثَرْوَةُ صَاحِبِ القِطَارِ
-
لوْحةٌ
-
وطن
-
مجد الشهيد
-
ابْتِهَــال
-
جنازَة
-
رُؤْيَــا
-
رسالة الغفران (منقّحة)
-
بوَّابَةُ الغِيَابِ
-
مَنْجَمِيٌّ
المزيد.....
-
صيف 2025 السينمائي.. منافسة محتدمة وأفلام تسرق الأضواء
-
آدم نجل الفنان تامر حسني يدخل العناية المركزة إثر أزمة صحية
...
-
فضيحة جديدة تهز الوسط الفني في مصر (فيديو)
-
مخرج أفلام إباحية كان من بين أكثر المطلوبين لـ FBI يقر بالذن
...
-
فنانة لبنانية شهيرة ترد على منتقديها بعد رسالتها إلى أفيخاي
...
-
شاما والجو فنانان يعيدان إحياء الثرات المغاربي بلمستهما الخا
...
-
فنانة شهيرة توجه رسالة إلى المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي حول
...
-
فنانة شهيرة توجه رسالة إلى المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي حول
...
-
مكتبة الحجر: كيف تروي محمية الدبابية المصرية قصة مناخ الأرض
...
-
ظهور سينمائي مفاجئ.. تركي آل الشيخ ينشر فيديو -مسرب- لزيزو ب
...
المزيد.....
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
المزيد.....
|