أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كمال التاغوتي - رسالة الغفران (منقّحة)















المزيد.....



رسالة الغفران (منقّحة)


كمال التاغوتي

الحوار المتمدن-العدد: 7732 - 2023 / 9 / 12 - 00:03
المحور: الادب والفن
    


[هذا نص رسالة الغفران حذفت منه ما يتصل بأبيات الشعر والشروح والتعليقات إلا ما كان منها في خدمة السرد القصصي. وليس حذفه من باب الاستخفاف بأهميته، وإنما التخفيف على القارئ وتقديم قصة الرحلة في عالم الغفران مفرّغة من الوقفات السردية العديدة والطويلة. ليس جديدا أن إن للمؤلف قصدا من حشدها بألوان التعليقات وغيرها من النصوص المصاحبة للنص السردي، ولكني ارتأيت أن تكون القصة واضحة معالمها عسى ذلك يساعد على فهمها ويرغب في مطالعتها، وهذا هو الأهم عندي.]

وهذه الكلمة الطيبة كأنّها المعنيّة بقوله:" ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمّة طيّبةً كشجرةً طيّبةٍ، أصلها ثابت وفرعها في السّمّاء، تؤتي أكلها كلّ حينٍ بإذن ربها. وفي تلك السطور كلِم كثير، كلّه عند الباري، تقدّس، أثير. فقد غُرس لمولاي الشيخ الجليل، إن شاء الله، بذلك الثناء، شجر في الجنة لذيذ اجتناء، كلُّ شجرةٍ منه تأخذ ما بين المشرق إلى المغرب بظلٍّ غاطٍّ ليست في الأعين كذات أنواطٍ. والولدان المخلّدون في ظلال تلك الشجر قيام وقعود، وبالمغفرة نيلت السُّعود؛ يقولون، والله القادر على كلِّ شيء عزيز: " نحن وهذه الشجر صلّة من الله لعليّ بن منصور، نخبأ له إلى نفخ الصُّور". وتجري في أصول ذلك الشجر أنهار تختلج من ماء الحيوان، والكوثر يمدُّها في كلّ أوانٍ؛ من شرب منها النُّغبة فلا موتَ، قد أمن هنالك الفوت. وسُعُد من اللبن متخرِّقات، لا تغيَّر بأن تطول الأوقات. وجعافر من الرحيق المختوم، عزَّ المقتدر على كلّ محتوم. تلك الراح الدائمة، لا الذميمة ولا الذائمة، ويعمد إليها المغترف بكؤوس من العسجد، وأباريق خلقت من الزبرجد، ينظر منها الناظر إلى بديّ، ما حلم به أبو الهنديّ، رحمه الله، فلقد آثر شراب الفانية، ورغب في الدّنية الدّانية.
وكم على تلك الأنهار من آنية زبرجدٍ محفور، وياقوتٍ خُلق على خَلْق الفور، من أصفر وأحمر وأزرق، يخال إن لمس أحرق. وفي تلك الأنهار أوانٍ على هيئة الطير السابحة، والغانية عن الماء السائحة، فمنها ما هو على صور الكراكي، وأُخَر تشاكل المكاكيّ، وعلى خلق طواويس وبطّ، فبعضٌ في الجارية وبعضٌ في الشَّطّ، ينبع من أفواهها شرابٌ، كأنه من الرَّقَّة سرابٌ، لو جرع جرعةً منه الحكميُّ لحكم أنّه الفوز القِدَميُّ. وشهد له كلُّ وصَّاف الخمر، من محدثٍ في الزمن وعتيق الأمر، أنّ أصناف الأشربة المنسوبة إلى الدار الفانية لمْ تبلُلْ لهاتِي بناطِلٍ. ويعارض تلك المدامةَ أنهارٌ من عسلٍ مصفَّى ما كسبته النحل الغادية إلى الأنوار، ولا هو في مومٍ متوارٍ، ولكن قال له العزيز القادر: كن فكان، وبكرمه أعطي الإمكان. واهاً لذلك عسلاً! لم يكن بالنار مبسَلا؛ لو جعله الشارب المحرور غذاءه طول الأبد ما قدر له عارض موم، ولا لبس ثوب المحموم؛ وذلك كلُّه بدليل قوله:" مثل الجنة التي وعد المتُّقون، فيها أنهار من ماءٍ غير آسنٍ، وأنهارٌ من لبنٍ لم يتغير طعمه، وأنهارٌ من خمرٍ لذّةٍ للشّاربين، وأنهارٌ من عسلٍ مصفًّى، ولهم فيها من كلّ الثّمرات".
وإذا مَنَّ الله تبارك اسمه بورود تلك الأنهار، صاد فيها الوارد سمك حلاوة، لمْ يُر مثلُه في ملاوة. فأمَّا الأنهار الخمريّة، فتلعب فيها أسماكٌ هي على صور السَّمك بحريَّةٌ ونهريّة، وما يسكن منه في العيون النَّبعية، ويظفر بضروب النَّبت المرّعية، إلاّ أنّه من الذَّهب والفضّة وصنوف الجواهر، المقابلة بالنُّور الباهر. فإذا مدّ المؤمن يده إلى واحدةٍ من ذلك السَّمك، شرب من فيها عذباً لو وقعت الجرعة منه في البحر الذي لا يستطيع ماءه الشارب، لحلت منه أسافل وغوارب؛ ولصار الصمَّر كأنَّه رائحة خزامى سهلٍ، طلتَّه الدَّاجنة بدهل، أو نشر مدامٍ خوَّارةٍ، سيَّارةٍ في القلل سوَّارة.
وكأنّي به، أدام الله الجمال ببقائه، إذا استحقَّ تلك الرُّتبة، ببقين التوبة، وقد اصطفى له ندامى من أدباء الفردوس: كأخي ثمالة، وأخي دوسٍ، ويونس بن حبيب الضّبيّ، وابن مسعدة المجاشعيّ، فهم كما جاء في الكتاب العزيز: " ونزعنا ما في صدورهم من غلٍّ إخواناً على سررٍ متقابلين، لا يمسُّهم بها نصَبٌ وما هم منها بمخرجين "فصدر أحمد بن يحيى هنالك قد غسل من الحقد على محمد بن يزيد، فصارا يتصافيان ويتوافيان، كأنهّا ندمانا جذيمة: مالكٌ وعقيل، جمعها مبيتٌ ومقيل وأبو بشر، عمرو بن عثمان سيبويه، قد رحضت سويداء قلبه من الضغن على علي بن حمزة الكسائي وأصحابه، لما فعلوا به في مجلس البرامكة. وأبو عبيدة صافي الطويّة لعبد الملك بن قريب، قد ارتفعت خلتَّهما عن الرَّيب، فهما كأربد ولبيد أخوان، أو ابني نويرة فيما سبق من الأوان، أو صخرٍ ومعاوية، ولدي عمرو، وقد أخمدا من الإحن كلّ جمر. والملائكة يدخلون عليهم من كل بابٍ، سلامٌ عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدّار. وهو، أيَّد الله العلم بحياته، معهم وأبو عبيدة يذاكرهم بوقائع العرب ومقاتل الفرسان، والأصمعيُّ ينشدهم من الشعر ما أحسن قائله كلَّ الإحسان.
وتهشّ نفوسهم للَّعب فيقذفون تلك الآنية في أنهار الرّحيق، ويصفقّها الماذي المعترض أي تصفيق، وتقترع تلك الآنية، فيسمع لها أصواتٌ، تبعث بمثلها الأموات. فيقول الشيخ، حسّن الله الأيّام بطول عمره: آه لمصرع الأعشى ميمون وكم أعمل من مطيَّةٍ أمون!! ولقد وددت أنَّه ما صدّته قريشٌ لمَّا توجَّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنَّما ذكرته الساعة لمّا تقارعت هذه الآنية. ولو أنَّه أسلم، لجاز أن يكون بيننا في هذا المجلس، فينشدنا غريب الأوزان، ممّا نظم في دار الأحزان، ويحدّثنا حديثه مع هوذة بني عليّ، وعامر بن الطُّفيل، ويزيد بن مسهر وعلقمة بن علائة، وسلامة بن ذي فائش، وغيرهم ممّن مدحه أو هجاه، وخافه في الزمن أو رجاه.
ثمّ إنّه، أدام الله تمكينه، يخطر له حديث شيءٍ كان يسمَّى النُّزهة في الدار الفانية، فيركب نجيباً من نجب الجنّة خلق من ياقوتٍ ودرٍّ، في سجسجٍ بعُد عن الحرّ والقرّ، ومعه إناء فيهج، فيسير في الجنَّة على غير منهج، ومعه شيءٌ من طعام الخلود، ذخر لوالد سعِد أو مولودٍ. فإذا رأى نجيبه يملع بين كثبان العنبر، وضيمرانٍ وصل بصعبرٍ، رفع صوته متمثَّلاً بقول البكريّ، فيهتف هاتفٌ: أتشعر أيّها العبد المغفور له لمن هذا الشَّعر؟ فيقول الشيخ: نعم، حدّثنا أهل ثقتنا، عن أهل ثقتهم، يتوارثون ذلك كابراً عن كابر، حتى يصلوه بأبي عمرو بن العلاء، فيرويه لهم عن أشياخ العرب، حرشة الضِّباب في البلاد الكلدات وجناة الكمأة في مغاني البداة، الذين لم يأكلوا شيراز الألبان ولم يجعلوا الثمر في الثَّبان، أنَّ هذا الشّعر لميمون بن قيس ابن جندلٍ أخي بني ربيعة بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة ابن صعب بن عليّ بن بكر بن وائلٍ. فيقول الهاتف: أنا ذلك الرَّجل، منّ الله عليَّ بعدما صرت من جهنّم على شفير، ويئست من المغفرة والتّكفير. فيلتفت إليه الشيخ هشّاً بشّاً مرتاحاً، فإذا هو بشابّ غرانق غبر في النّعيم المفانق، وقد صار عشاه حورا معروفاً، وانحناء ظهره قواماً موصوفاً، فيقول: أخبرني كيف كان خلاصك من النار، وسلامتك من قبيح الشنار؟ فيقول: سحبتني الزبانية إلى سقر، فرأيت رجلاً في عرصات القيامة يتلألأ وجهه تلألؤ القمر، والنّاس يهتفون به من كلّ أوبٍ: يا محمَّد يا محمّد، الشفاعة الشّفاعة! نمتُّ بكذا ونمتُّ بكذا. فصرخت في أيدي الزبانية: يا محمّد أغثني فإنّ لي بك حرمةً! فقال: يا عليُّ بادره فانظر ما حرمته؟ فجاءني عليُّ بن أبي طالبٍ، صلوات الله عليه، وأنا أُعتَـل كي ألقى في الدّرك الأسفل من النّار، فزجرهم عني، وقال: ما حرمتك؟ قلت لعلّيٍ: قد كنت أومن بالله وبالحساب وأصدّق بالبعث وأنا في الجاهليّة الجهلاء. فذهب عليَّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هذا أعشى قيس قد روي مدحه فيك، وشهد أنّك نبيٌّ مرسلٌ. فقال: هلاَّ جاءني في الدّار السَّابقة؟ قال عليُّ: قد جاء، ولكن صدَّته قريشٌ وحبُّه للخمر. فشفع لي، فأدخلت الجنّة على ألا أشرب فيها خمراً؛ فقرَّت عيناي بذلك، وإنَّ لي منادح في العسل وماء الحيوان. وكذلك من لم يتب من الخمر في الدار الساخرة، لم يسقها في الآخرة.
وينظر الشيخ في رياض الجنَّة فيرى قصرين منيفين، فيقول في نفسه: لأبلغنَّ هذين القصرين فأسأل لمن هما؟ فإذا قرب إليهما رأى على أحدهما مكتوباً: هذا القصر لزهير بن أبي سلمى المزني وعلى الآخر: هذا القصر لعبيد بن الأبرص الأسديّ فيعجب من ذلك ويقول: هذان ماتا في الجاهليّة، ولكّن رحمة ربنّا وسعت كلَّ شيء؛ وسوف ألتمس لقاء هذين الرّجلين فأسألهما بم غفر لهما. فيبتدئ بزهير فيجده شابّاً كالزَّهرة الجنيَّة، قد وهب له قصرٌ من ونيَّة، كأنّه ما لبس جلباب هرمٍ، ولا تأفَّف من البرم. فيقول: جير جير! أنت أبو كعب وبجير؟ فيقول: نعم. فيقول، أدام الله عزّه: بم غفر لك وقد كنت في زمان الفترة والنَّاس هملٌ، لا يحسن منهم العمل؟ فيقول: كانت نفسي من الباطل نفوراً، فصادفت ملكاً غفوراً، وكنت مؤمناً بالله العظيم، ورأيت فيما يرى النَّائم حبلاً نزل من السَّماء، فمن تعلق به من سكَّان الأرض سلم، فعلمت أنَّه أمرٌ من أمر الله، فأوصيت بنيَّ وقلت لهم عند الموت: إن قام قائمٌ يدعوكم إلى عبادة الله فأطيعوه. ولو أدركت محمّداً لكنت أوَّل المؤمنين. فيقول: أفأطلقت لك الخمر كغيرك من أصحاب الخلود أم حرَّمت عليك مثلما حرّمت على أعشى قيس؟ فيقول زهيرٌ: إن أخا بكرٍ أدرك محمّداً فوجبت عليه الحجَّة، لأنّه بعث بتحريم الخمر، وحظر ما قبح من أمر؛ وهلكت أنا والخمر كغيرها من الأشياء، يشربها أتباع الأنبياء، فلا حجّة عليَّ.
فيدعوه الشَّيخ إلى المنادمة؛ فيجد من ظراف النَّدماء، فيسأله عن أخبار القدماء. ومع المنصف باطيةٌ من الزُّمرُّد، فيها من الرَّحيق المختوم شيءٌ يمزج بزنجبيل، والماء أخذ من سلسبيل.
ثم ينصرف إلى عبيد فإذا هو قد أعطي بقاء التأبيد، فيقول: السلام عليك يا أخا بني أسدٍ. فيقول: وعليك السلام، وأهل الجنّة أذكياء، لا يخالطهم الأغبياء، لعلَّك تريد أن تسألني بم غفر لي؟ فيقول: أجل، وإنّ في ذلك لعجباً! أألفيت حكماً للمغفرة موجباً، ولم يكن عن الرَّحمة محجَّباً؟ فيقول عبيدٌ: أخبرك أنّي دخلت الهاوية، وكنت قلت في أيّام الحياة:
من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب
وسار هذا البيت في آفاق البلاد، فلم يزل ينشد ويخفُّ عني العذاب حتى أطلقت من القيود والأصفاد، ثم كرِّر إلى أن شملتني الرحمة ببركة ذلك البيت، وإنَّ ربّنا لغفور رحيم.
فإذا سمع الشَّيخ، ثبّت الله وطأته، ما قال ذانك الرّجلان، طمع في سلامة كثير من أصناف الشعراء.
فيقول لعبيدٍ: ألك علم بعديِّ بن زيدٍ العباديّ؟ فيقول: هذا منزله قريباً منك. فيقف عليه فيقول: كيف كانت سلامتك على الصَّراط ومَخْلصك من بعد الإفراط؟ فيقول: إنِّي كنت على دين المسيح ومن كان من أتباع الأنبياء قبل أن يبعث محمد فلا بأس عليه، وإنّما التّبعة على من سجد للأصنام، وعدّ في الجهلة من الأنام. فيقول الشيخ: يا أبا سوادة، ألا تنشدني الصاديَّة، فإنها بديعة من أشعار العرب؟ فينبعث منشداً. فيقول الشيخ: أحسنت والله أحسنت، لو كنت الماء الراكد لما أسنت. وقد عمل أديب من أدباء الإسلام قصيدة على هذا الوزن، وهو المعروف بأبي بكر بن دريدٍ. فيقول عديُّ ابن زيد: إنّما قلت كما سمعت أهل زمني يقولون، وحدثت لكم في الإسلام أشياء ليس لنا بها علم، فيقول الشيخ: لا أراك تفهم ما أريده من الأغراض، ولقد هممت أن أسألك عن بيتك الذي استشهد به سيبويه. فيقول عديّ بن زيدٍ: دعني من هذه الأباطيل، ولكني كنت في الدار الفانية صاحب قنص، فهل لك أن نركب فرسين من خيل الجنَّة فنبعثهما على صيرانها، وخيطان نعامها، وأسراب ظبائها، وعانات حمرها، فإن للقنيص لذّة قد تنغضت لك بها؟ فيقول الشيخ: إنّما أنا صاحب قلم وسلمٍ، ولم أكن صاحب خيل، ولا ممَّن يسحب طويل الذّيل، وزرتك إلى منزلك مهنئاً بسلامتك من الجحيم، وتنعّمك بعفو الرحيم. وما يؤمنني إذا ركبت طِرفاً زعلاً رتع في رياض الجنَّة فآض من الأشر مستسعلاً، أن يلحقني ما لحق جلماً صاحب المتجرِّدة لمّا حمل على اليحموم، والتَّعرض لما لم تسبق به العادة من الموم. وقد بلغك ما لقي ولد زهيرٍ لمَّا وُقص عن العتد ذي الميْر، فسلك في طريقٍ وعْبٍ، وما انتفع ببكاء كعب؛ وكذلك ولدك علقمة، حلَّت في العاجلة به النقمة، لمَّا ركب للصَّيد فأصبح كجدَّه زيد، ويجوز أن يقذفني السابح على صخور زمردٍ فيكسر لي عضداً أو ساقاً، فأصير ضُحكةً في أهل الجنان. فيبتَّسم عديّ ويقول: ويحك! أما علمت أنَّ الجنة لا يرهب لديها السَّقم، ولا تنزل بسكنها النَّقم؟ فيركبان سابحين من خيل الجنة، مركب كلِّ واحدٍ منهما لو عدل بممالك العاجلة الكائنة من أوَّلها إلى آخرها لرجح بها، وزاد في القيمة عليها. فإذا نظر إلى صوار ترتع في دقاري الفردوس، صوب مولاي الشيخ المِطرد، لأخنس ذيَّال قد رتع هناك طويل أيام وليال؛ فإذا لم يبق بين السنان وبينه إلا قيد ظفرٍ، قال: أمسك، رحمك الله، فإني لست من وحش الجنَّة التي أنشأها الله سبحانه ولم تكن في الدار الزائلة، ولكنيَّ كنت في محلة الغرور أرود في بعض القفار، فمرَّ بي ركب مؤمنون قد كرى زادهم، فصرعوني واستعانوا بي على السَّفر، فعوضني الله، جلَّت كلمته، بأن أسكنني في الخلود. فيكفُّ عنه مولاي الشيخ الجليل.
ويعمد لعلجٍ وحشيٍّ، ما التلف عنده بمخشيّ، فإذا صار الخِرص منه بقدر أنملة قال: أمسك يا عبد الله، فإن الله أنعم عليَّ ورفع عني البؤس، وذلك أنّي صادني صائد بمخلب، وكان إهابي له كالسلب، فباعه في بعض الأمصار، وصراه للسَّانية صارٍ، فاتُّخذ منه غربٌ، شفي بمائه الكرب، وتطَّهر بنزيعه الصَّالحون، فشملتني بركةٌ من أولئك، فدخلت الجنَّة أرزق فيها بغير حساب. فيقول الشيخ: فينبغي أن تتميزَّن، فما كان منكنَّ دخل الفانية فما يجب أن يختلط بوحوش الجنَّة. فيقول ذلك الوحشيُّ: لقد نصحتنا نصح الشفيق، وسوف نمتثل ما أمرت.
وينصرف مولاي الشيخ الجليل وصاحبه عديّ فإذا هما برجلٍ يحتلب ناقةً في إناءٌ من ذهب، فيقولان: من الرَّجل؟ فيقول: أبو ذؤيب الهذليُّ. فيقولان: حييَّت وسعدت، لا شقيت في عيشك ولا بعدت، أتحتلب مع أنهار لبن؟ كأنَّ ذلك من الغَبَن. فيقول: لا بأس! إنما خطر لي ذلك مثلما خطر لكما القنيص، فقيَّض الله بقدرته لي هذه النّاقة عائذاً مطفلاً، وكان بالنَّعم متكفّلاً، فقمت أحتلب على العادة، وأريد أن أشوب ذلك بضرب نحلٍ، تبعن في الجنّة طريقة الفحل. فإذا امتلأ إناؤه من الرَّسل، كوّن الباري، جلَّت عظمته، خليّةً من الجوهر، رتع ثولها في الزَّهر، فاجتنى ذلك أبو ذؤيب، ومزج حليبه بلا ريب، فيقول: ألا تشربان؟ فيجرعان من ذلك المحلب جرعاً لو فرَّقت على أهل سقر لفازوا بالخلد شرَعاً. فيقول عديُّ:" الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. لقد جاءت رسل ربنا بالحقَّ. ونودوا أن تلكم الجنّة، أورثتموها بما كنتم تعملون". ويقول، أدام تمكينه، لعديّ: جئت بشيئين في شعرك، وددت أنَّك لم تأت بهما. فيقول عديُّ بعباديته: يا مكبور، لقد رزقت ما يكِب أن يشغلك عن القريض، إنما ينبغي أن تكون كما قيل لك: " كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون " فيقول، زاد الله في أنفاسه: إنَّي سألت ربَّي عزَّ سلطانه، ألاّ يحرمني في الجنّة تلذُّذاً بأدبي الذي كنت أتلذّذ به في عاجلتي، فأجابني إلى ذلك، "وله الحمد في السّموات والأرض وعشيًّا وحين تظهرون".
ويمضي في نزهته تلك بشابيَّن يتحادثان، كلُّ واحدٍ منهما على باب قصرٍ من درٍّ؛ قد أعفي من البؤّس والضُّرّ. فيسلّم عليهما ويقول: من أنتما رحمكما الله، وقد فعل؟ فيقولان: نحن النابغتان، نابغة بني جعدة ونابغة بني ذبيان. فيقول، ثبَّت الله وطأته: أمّا نابغة جعدة فقد استوجب ما هو فيه بالحنيفيَّة، وأمّا أنت يا أبا أمامة فما أدري ما هيّانك؟ فيقول الذُّبيانيُّ: إني كنت مقرّاً بالله، وحججت البيت في الجاهليَّة، ولم أدرك النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فتقوم الحجّة عليَّ بخلافه. وإنَّ الله تقدَّست أسماؤه، عزَّ ملكاً وجلَّ، يغفر ما عظم بما قلَّ. فيقول، لا زال قوله عالياً: يا أبا سوادة، ويا أبا أمامة، ويا أبا ليلى، اجعلوها ساعة منادمةٍ، فكيف لنا بأبي بصير؟ فلا تتُّم الكلمة إلا وأبو بصيرٍ قد خمَسهم، فيسبَّحون الله ويقدّسونه ويحمدونه على أن جمع بينهم، ويتلو، جمّل الله ببقائه، هذه الآية: " وهو على جمعهم إذا يشاء قدير ".فإذا أكلوا من طيّبات الجنَّة، وشربوا من شرابها الذي خزنه الله لعباده المتّقين قال، كتَّ الله أنف مبغضه: يا أبا أمامة إنَّك لحصيف الرأي لبيبٌ، فكيف حسَّن لك لبُّك أن تقول للنُّعمان بن المنذر، ثمَّ استمرَّ بك القول، حتى أنكره عليك خاصَّةٌ وعامَّةٌ؟ فيقول النابغة بذكاءٍ وفهم: لقد ظلمني من عاب عليَّ، ولو أنصف لعلم أنَّني احترزت أشد احترازٍ. وذلك أنَّ النعمان كان مستهتراً بتلك المرأة، فأمرني أن أذكرها في شعري، فأردت ذلك في خلدي فقلت: إن وصفتها وصفاً مطلقاً، جاز أن يكون بغيرها معلَّقاً. وخشيت أن أذكر اسمها في النَّظم، فلا يكون ذلك موافقاً للملك، لأنَّ الملوك يأنفون من تسمية نسائهم، فرأيت أن أسند الصَّفة إليه فأقول: زعم الهمام، إذ كنت لو تركت ذكره لظنَّ السَّامع أن صفتي على المشاهدة، والأبيات التي جاءت بعد، داخلةٌ في وصف الهمام، فمن تأمَّل المعنى وجده غير مختلٍّ. وكيف ينشدون: وإذا نظرت فرأيت أقمر مشرقاً وما بعده؟ فيقول، أرغم الله أنف شانئه: ننشد: وإذا نظرت، وإذا لمست، وإذا طعنت، وإذا نزعت، على الخطاب. فيقول النابغة: قد يسوغ هذا، ولكنَّ الأجود أن تجعلوه إخباراً عن المتكلّم، لأنّ قولي: زعم الهمام يؤدّي معنى قولنا: قال الهمام، فهذا أسلم، إذ كان الملك إنما يحكي عن نفسه. وإذا جعلتموه على الخطاب قبح: إن نسبتموه إليَّ فهو منديةٌ، وإن نسبتموه إلى النّعمان فهو إزراءٌ وتنقُّض. فيقول: أيدَّ الله الفضل بزيادة مدتّه: لله درُّك يا كوكب بني مرّة. ولقد صحّف عليك أهل العلم من الرواة، وكيف لي بأبوي عمرو: المازنيّ والشّيبانيّ، وأبي عبيدة، وعبد الملك، وغيرهم من النّقلة لأسألهم: كيف يروون، وأنت شاهدٌ، لتعلم أني غير المتخرّص ولا الولاَّغ؟ فلا يقرُّ هذا القول في حُذنَّة أبي أمامة إلاّ والرواة أجمعون قد أحضرهم الله القادر، من غير مشقّةٍ نالتهم، ولا كلفةٍ في ذلك أصابتهم، فيسلّمون بلطفٍ ورفقٍ. فيقول، أعلى الله قوله: من هذه الشّخوص الفردوسيَّة؟ فيقولون: نحن الرُّواة الذين شئت إحضارهم آنفاً. فيقول: لا إله إلاّ الله مكونَّاً مدوّناً، وسبحان الله باعثاً وارثاً، وتبارك الله قادراً لا غادراً! كيف تروون أيُّها المرحومون قول النابغة في الداليَّة؟ فيقولون: بفتحها. فيقول: هذا شيخنا أبو أمامة يختار الضَّمّ، ويخبر أنّه حكاه عن النَّعمان. فيقولون: هو كما جاء في الكتاب الكريم: " والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين " فيقول، ثبّت الله كلمته على التوفيق: مضى الكلام في هذا يا أبا أمامة، فأنشدنا كلمتك التي أولها "ألمّا على الممطورة المتأبّدة..." فيقول أبو أمامة: ما أذكر أنّي سلكت هذا القريَّ قطُّ. فيقول مولاي الشيخ، زيَّن الله أيّامه ببقائه: إن ذلك لعجبٌ، فمن الذي تطوَّع فنسبها إليك؟ فيقول: إنَّها لم تنسب إليَّ على سبيل التَّطوع، ولكن على معنى الغلط والتَّوهمُّ، ولعلَّها لرجل من بني ثعلبة بن سعد. فيقول نابغة بني جعدة: صحبني شابٌّ في الجاهليّة ونحن نريد الحيرة، فأنشدني هذه القصيدة لنفسه، وذكر أنَّه من ثعلبة بن عكابة، وصادف قدومه شكاةً من النُّعمان فلم يصل إليه. فيول نابغة بني ذبيان: ما أجدر ذلك أن يكون!
ويقول الشيخ، كتب الله له مثوبة المتقيّن، لنابغة بني جعدة: يا أبا ليلى، أنشدنا كلمتك التي على الشين. فيقول نابغة بني جعدة: ما جعلت الشّين قطُّ رويّاً. فيقول مولاي الشيخ الأديب المغرم بالعلم: يا أبا ليلى، لقد طال عهدك بألفاظ الفصحاء، وشغلك شرابٌ ما جاءتك بمثله بابل ولا أذرعات، وثنتك لحوم الطَّير الرّاتعة في رياض الجنَّة، فنسيت ما كنت عرفت. ولا ملامة إذا نسيت ذلك، " إنّ أصحاب الجنَّة اليوم في شغلٍ فاكهون، هم وأزواجهم في ظلالٍ على الأرائك متَّكئون، لهم فيها فاكهةٌ ولهم ما يدَّعون ".
وينثني إلى أعشى قيس فيقول: يا أبا بصيرٍ أنشدنا. فيقول أعشى قيس: إنَّك منذ اليوم لمولعٌ بالمنحولات.
ويمرُّ رفٌ من إوزّ الجنَّة، فلا يلبث أن ينزل على تلك الرَّوضة ويقف وقوف منتظر لأمرٍ، ومن شأن طير الجنَّة أن يتكلَّم، فيقول: ما شأنكنَّ؟ فيقلن: ألهمنا أن نسقط في هذه الرَّوضة فنغنّي لمن فيها من شربٍ. فيقول: على بركة الله القدير. فينتفضن، فيصرن جواري كواعب يرفلن في وشي الجنَّة، وبأيديهنّ المزاهر وأنواع ما يلتمس به الملاهي. فيعجب، وحقَّ له العجب، وليس ذلك ببديعٍ من قدرة الله جلَّت عظمته، وعزَّت كلمته، وسبغت على العالم نعمته، ووسعت كلَّ شيءٍ رحمته، ووقعت بالكافر نقمته. فيقول لإحداهنَّ على سبيل الامتحان: اعملي قول أبي أمامة، وهو هذا القاعد: ثقيلاً أوَّل. فتصنعه، فتجيء به مطرباً، وفي أعضاء السامع متسربّاً. ولو نحت صنمٌ من أحجار، أو دفٌّ أشر عند النَّجَّار، ثمّ سمع ذلك الصوت لرقص، وإن كان متعالياً هبط ولم يراع أن يوقص. فيرد عليه، أورد الله قلبه المحابّ، زولٌ، تعجز عنه الحيل والحول، فيقول: هلمَّ خفيف الثَّقيل الأوَّل! فتنبعث فيه بنغمٍ لو سمعه الغريض، لأقرَّ أنَّ ما ترنَّم به مريضٌ. فإذا أجادته، وأعطته المِهَرة وزادته، قال: عليك بالثقيل الثاني، ما بين مثالثك والمثاني؛ فتأتي به على قريٍّ لو سمعه عبد الله بن جعفر لقرن أغانيَّ بُدَيْحٍ إلى هدير ذي المشفر. فإذا رأى ذلك قال: سبحان الله! كل ما كشفت القدرة بدت لها عجائب، لا تثبت لها النجائب؛ فصيري إلى خفيف الثقيل الثاني، فإنّك لمجيدةٌ محسنة، تطرد بغنائك السِّنة. فإذا فعلت ما أمر به، أتت بالبُرَحِين، وقالت للأنفس: ألا تمرحين؟ ثمَّ يقترح عليها: الرَّمل وخفيفه، وأخاه الهزج وذفيفة؛ وهذه الألحان الثمانية، للأذن تمْنيها المانية. فإذا تيقّن لها حذاقةً، وعرف منها بالعود لباقةً، هلَّل وكبَّر، وأطال حمد ربَّه واعتبر. وقال: ويحك! ألم تكوني السّاعة إوزَّةً طائرة، والله خلقك مهديَّة لا حائرة؟ فمن أين لك هذا العلم، كأنّك لجذل النفس خلم؟ لو نشأت بين معبدٍ وابن سريج، لما هجت السامع بهذا الهيج، فكيف نفضت بلَهَ إوزّ، وهززت إلى الطَّرب أشدَّ الهزَّ؟ فتقول: وما الذي رأيت من قدرة بارئك؟ إنّك على سيف بحرٍ، لا يُدرك له عِبْرٌ، سبحان من يحيي العظام وهي رميم.
فبينا هم كذلك، إذ مرَّ شابٌ في يده محجن ياقوت، ملكه بالحكم الموقوت، فيسلّم عليهم فيقولون: من أنت؟ فيقول: أنا لبيد بن ربيعة بن كلاّب. فيقولون: أكرمت أكرمت! لو قلت: لبيدٌ وسكتّ، لشهرت باسمك وإن صمت. فما بالك في مغفرة ربَّك؟ فيقول: أنا بحمد الله في عيشٍ قصّر أن يصفه الواصفون، ولديَّ نواصف وناصفون، لا هرم ولا برم. فيقول الشيخ: تبارك الملك القدُّوس، ومن لا تدرك يقينَه الحدوس، فأنشدنا ميميتَّك المعلَّقة. ... فيقول: هيهات! إنَّي تركت الشعر في الدار الخادعة، ولن أعود إليه في الدار الآخرة، وقد عوضّت ما هو خيرٌ وأبرّ. ويقول لبيدٌ: سبحان الله يا أبا بصير، بعد إقرارك بما تعلم، غفر لك وحصلت في جنّة عدن؟ فيقول مولاي الشيخ متكلّماً عن الأعشى: كأنّك يا أبا عقيلٍ تعني ما روي عنه؛ فلا يخلو من أحد أمرين: إمَّا أن يكون قاله تحسيناً للكلام على مذهب الشُّعراء، وإمّا أن يكون فعله فغفر له. قل يا عبادي الذَّين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله، إنَّ الله يغفر الذُّنوب جميعاً، إنَّه هو الغفور الرَّحيم.. إنَّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا".
ويخطر له، جعل الله الإحسان إليه مربوباً، وودَّه في الأفئدة مشبوباً، غناء القيان بالفسطاط ومدينة السّلام. ويذكر ترجيعهنَّ بميميّة المخبَّل السّعدي فتندفع تلك الجواري التي نقلتهنّ القدرة من خلق الطَّير اللاقطة، إلى خلق حورٍ غير متساقطة، تلحِّن قول المخبَّل السَّعديّ، فلا يمرُّ حرف ولا حركة، إلاَّ ويوقع مسرّةً لو عدلت بمسرّات أهل العاجلة، منذ خلق الله آدم إلى أن طوى ذرِّيته من الأرض، لكانت الزائدة على ذلك، زيادة اللّج المتموج على دمعة الطّفل، والهضب الشامخ على الهباءة المنتفضة من الكفل.
ويقول لندمائه: إنّه المسكين، قال هذه الأبيات، وبنو آدم في دار المحن والبلاء، يقبضون من الشّدائد على السُّلاّء؛ والوالدة تخاف المنيَّة على الولد، ولا يزال رعبها في الخلد؛ والفقر يرهب ويتَّقى، والمال يطلب ويستبقى؛ والسَّغب موجود والظَّماء، والكمه معروف والكماء؛ ولم يكفف للغير عنان، ولا سكنت بالعفو الجنان. "فالحمد لله الذي أذهب عنَّا الحزن إنَّ ربَّنا لغفور شكور. الذي أحلَّنا دار المقامة من فضله، لا يمسُّنا فيها نصب ولا يمسُّنا فيها لغوب." فتبارك الله القدُّوس! نقل هؤلاء المسمعات من زيِّ ربَّات الأجنحة، إلى زيِّ ربات الأكفال المترجِّحة؛ ثمّ ألهمهنَّ بالحكمة حفظ أشعارٍ لم تمرر قبل بمسامعهنَّ، فجئن بها متقنةً، محمولة على الطَّرائق ملحَّنة، مصيبةً في لحن الغناء، منزّهةً عن لحن الهجناء. ولقد كانت الجارية في الدار العاجلة، إذا تفرِّست فيها النَّجابة، وأحضرت لها الملحِّنة لتلقي إليها ما تعرف من ثقيلٍ وخفيف، وتأخذها بمأخذٍ غير ذفيف؛ تقيم معها الشّهر كريتاً، قبل أن تلقَّن كذباً حنبريتاً: بيتاً من الغزل أو بيتين، ثم تعطى المائة أو المائتين. فسبحان القادر على كل عزيز، والمميِّز لفضله كلَّ مزيز. ويقول نابغة بني جعدة، وهو جالس يستمع: يا أبا بصير أهذه الربَّاب التي ذكرها السّعديُّ، هي ربابك التي ذكرتها؟ فيقول أبو بصيرٍ: قد طال عمرك يا أبا ليلى، وأحسبك أصابك الفند، فبقيت على فندك إلى اليوم! أما علمت أنَّ اللواتي يسمَّين بالرَّباب أكثر من أن يحصين؟ فيقول نابغة بني جعدة: أتكلمني بمثل هذا الكلام يا خليع بني ضبيعة، وقد مُتَّ كافراً، وأقررت على نفسك بالفاحشة، وأنا لقيت النبيَّ، صلى الله عليه وسلّم، فقال: إلى أين يا أبا ليلى؟ فقلت: إلى الجنّة بك يا رسول الله! فقال: لا يفضض الله فاك. أغرّك أن عدَّك بعض الجهَّال رابع الشُّعراء الأربعة؟ وكذب مفضِّلك، وإنِّي لأطول منك نفساً، وأكثر تصرُّفاً. ولقد بلغت بعدد البيوت ما لم يبلغه أحد من العرب قبلي، وأنت لاهٍ بعفارتك، تفتري على كرائم قومك. وإن صدقت فخزياً لك ولمقارّك! ولقد وفِّقت الهزّانيّة في تخليتك: عاشرت منك النّابح، عشي فطاف الأحوية على العظام المنتبذة، وحرص على انتباث الأجداث المنفردة. فيغضب أبو بصير فيقول: أتقول هذا وإنَّ بيتاً ممّا بنيت ليعدل بمائةٍ من بنائك؟ وإن أسهبت منطقك، فإنَّ المسهب كحاطب الليل. وإنّي لفي الجرثومة من ربعية الفرس، وإنّك لمن بني جعدة، وهل جعدة إلاّ رائدة ظليم نفور؟ أتعيِّرني في مدح الملوك؟ ولو قررت يا جاهل على ذلك لهجرت إليه أهلك وولدك، ولكنّك خلقت جباناً هداناً، لا تدلج في الظّلماء الدّاجية، ولا تهجَّر في الوديقة الصاخدة. وذكرت لي طلاق الهزّانية ولعلّها بانت عني مسرّة الكمد، والطّلاق ليس بمنكرٍ للسُّوق ولا للملوك.
فيقول الجعديُّ: اسكت يا ضلَّ بني ضلّ، فأقسم أنّ دخولك الجنَّة من المنكرات، ولكنَّ الأقضية جرت كما شاء الله! لحقُّك أن تكون في الدّرك الأسفل من النّار، ولقد صلي بها من هو خير منك، ولو جاز الغلط على ربِّ العزّة، لقلت: إنَّك غلط بك! استقللت ببني جعدة، وليوم من أيَّامهم يرجح بمساعي قومك. وزعمتني جباناً وكذبت! لأنا أشجع منك ومن أبيك، وأصبر على إدلاج المظلمة ذات الأريز، وأشدُّ إيغالاً في الهاجرة أمِّ الصَّخدان.
ويثب نابغة بني جعدة على أبي نصير فيضربه بكوز من ذهب. فيقول: أصلح الله به وعلى يديه: لا عربدة في الجنان، إنّما يعرف ذلك في الدار الفانية بين السَّفلة والهجاج، وإنّك يا أبا ليلى لمتنزِّع. وقد روى في الحديث، أنَّ رجلاً صاح بالبصرة: يا آل قيسٍ! فجاء النابغة الجعديُّ بعصيّةٍ له، فأخذه شرط ابي موسى الأشعريّ فجلده لأنَّ النبيَّ، صلّى الله عليه وسلّم، قال: من تعزىّ بعزاء الجاهليّة فليس منّا. ولولا أنَّ في الكتاب الكريم: " لا يصدَّعون عنها ولا ينزفون " لظننَّاك أصابك نزف في عقلك. فأمّا أبو بصيرٍ فما شرب إلاّ اللَّبن والعسل، وإنَّه لوقور في المجلس، لا يخفُّ عند حلِّ الحبوة. فيقول نابغة بني جعدة قد كان النّاس في أيّام الخادعة يظهر عنهم السَّفه بشرب الّلبن، لا سيَّما إذا كانوا أرقَّاء لئاماً، وقيل لبعضهم: متى يخاف شرُّ بني فلانٍ؟ قال: إذا ألبنوا. فيريد، بلَّغه الله إرادته، أن يصلح بين النُّدماء، فيقول: يحب أن يحذر من ملكٍ يعبر فيرى هذا المجلس، فيرفع حديثه إلى الجبار الأعظم، فلا يجرُّ ذلك إلاَّ ما تكرهان، واستغنى ربُّنا أن ترفع الأخبار إليه، ولكن جرى مجرى الحفظة في الدار العاجلة، أما علمتما أنّ آدم خرج من الجنَّة بذنبٍ حقير، فغير آمنٍ من ولد أن يقدر له مثل ذلك.
فسألتك يا أبا بصير بالله هل يهجس لك تمنَّي المدام؟ فيقول: كلا والله! إنها عندي لمثل المقر لا يخطر ذكرها بالخلد. فالحمد لله الذي سقاني عنها السُّلوانة، فما أحفل بأمِّ زنبقٍ أخرى الدهر.
وينهض نابغة بني جعدة مغضباً، فيكره، جنَّبه الله المكاره، انصرافه على تلك الحال، فيقول: يا أبا ليلى، إنَّ الله، جلَّت قدرته، منَّ علينا بهؤلاء الحور العين اللواتي حوَّلهنَّ عن خلق الإوز، فاختر لك واحدة منهنَّ فلتذهب معك إلى منزلك، تلاحنك أرقَّ اللَّحان. وتسمعك ضروب الألحان. فيقول لبيد بن ربيعة: إن أخذ أبو ليلى قينةً، وأخذ غيره مثلها، أليس ينتشر خبرها في الجنَّة، فلا يؤمن أن يسمَّى فاعلو ذلك أزواج الإوزّ. فتضرب الجماعة عن اقتسام أولئك القيان.
ويمرُّ حسَّان بن ثابت فقولون: أهلاً أبا عبد الرحمن، ألا تحدَّث معنا ساعة؟ فإذا جلس إليهم قالوا: أين هذه المشروبة من سبيئتك التي ذكرتها؟ ويحك! ما استحييت أن تذكر مثل هذا في مدحتك رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ فيقول: إنَّه كان أسحج خلقاً ممَّا تظنُّون، ولم أقل إلا خيراً، لم أذكر أنِّي شربت خمراً، ولا ركبت ممّا حظر أمراً، وإنّما وصفت ريق امرأةٍ، يجوز أن يكون حلاً لي، ويمكن أن أقوله على للظَّنِّ. وقد شفع صلى الله عليه وسلم في أبي بصيرٍ بعد ما تهكَّم في مواطن كثيرة، وزعم أنَّه مسترٍ، مفترياً أو ليس بمفترٍ. وما سمع بأكرم منه صلى الله عليه وسلم: لقد أفكت فجلدني مع مسطحٍ ثم وهب لي أخت مارية فولدت لي عبد الرحمن، وهي خالة ولده إبراهيم. وهو، زين الله الآداب ببقائه، يخطر في ضميره أشياء، يريد أن يذكرها لحسّان وغيره، ثم يخاف أن يكونوا لما طلب غير محسنين، فيضرب عنها إكراماً للجليس، ويقول قائل من القوم: كيف جبنك يا أبا عبد الرَّحمن؟ فيقول: ألي يقال هذا وقومي أشجع العرب؟ ماذا اراد ستَّة منهم أن يميلوا على أهل الموسم بأسيافهم، وأجاروا النبيَّ، صلى الله عليه وسلّم، على أن يحاربوا معه كلَّ عنودٍ؛ فرمتهم ربيعة ومضر وجميع العرب عن قوس العداوة، وأضمروا لهم ضغن الشَّنآن. وإن ظهر منّي تحرُّز في بعض المواطن، فإنّما ذلك على طريقة الحزم، كما جاء في الكتاب الكريم: ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرِّفاً لقتالٍ أو متحيّزاً إلى فئةٍ، فقد باء بغضبٍ من الله، ومأواه جهنَّم وبئس المصير. ويفترق أهل ذلك المجلس، بعد أن أقاموا فيه كعمر الدُّنيا أضعافاً كثيرةً،
فبينا هو يطوف في رياض الجنَّة، لقيه خمسة نفرٍ على خمس أينق، فيقول: ما رأيت أحسن من عيونكم في أهل الجنان! فمن أنتم خلد عليكم النّعيم؟ فيقولون: نحن عوران قيسٍ: تميم بن مقبلٍ العجلانيّ وعمرو بن أحمر الباهليُّ والشَّمّاخ، معقل بن ضرار، أحد بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان، وراعي الإبل، عبيد بن الحصين النُّميريّ، وحميد ابن ثور الهلاليِّ. فيقول للشَّمّاخ بن ضرارٍ: لقد كان في نفسي أشياء من قصيدتك فأنشدني لا زلت مخلَّداً كريماً. فيقول: لقد شغلني عنهما النَّعيم الدائم فما أذكر منهما بيتاً واحداً. فيقول لفرط حبّه الأدب وإيثاره تشييد الفضل: لقد غفلت أيُّها المؤمن وأضعت! أما علمت أنَّ كلمتيك، أنفع لك من ابنتيك؟ ذكرت بهما الموطن، وشهرت عند راكب السَّفر والقاطن؛ وإنَّ القصيدة من قصائد النابغة، لأنفع له من ابنته عقرب، ولعل تلك شانته، وما زانته، وأصابها في الجاهلية سباء، وما وفر لأجلها الحباء. وإن شئت أن أنشدك قصيدتيك، فإن ذلك ليس بمتعذرٍ عليّ. فيقول: أنشدني، ضفت عليك نعمة الله، فيجده بها غير عليم. ويسأله عن أشياء منها، فيصادفه بها غير بصير، فيقول: شغلتني لذائذ الخلود عن تعهُّد هذه المنكرات: " إن المتَّقين في ظلالٍ وعيونٍ، وفواكه ممَّا يشتهون، كلوا وأشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون "، إنّما كنت أسِق هذه الأمور، وأنا آمل أن أفقر بها ناقةً، أو أعطى كيل عيالي سنةً، وأنا الان في تفضُّل الله، أغترف في مرافد العسجد من أنهار اللَّبن: فتارةً ألبان الإبل، وتارةً ألبان البقر، وإن شئت لبن الضأن فإنّه كثير جمٌّ، وكذلك لبن المعيز، وإن أحببت ورداً من رسل الأرواي، فربّ نهرٍ منه كأنه دجلة أو الفرات. ولقد أراني في دار الشّقوة أجهد أخلاف شياهٍ لجباتٍ، لا يمتلئ منهنَّ القعب. فيقول، لا زال مقولاً للخير: فأين عمرو بن أحمر؟ فيقول عمروٌ: ها أنا ذا. فيقول: أنشدني. فيقول عمرو: لم تترك فيَّ أهوال القيامة غبَّراً للإنشادي، أما سمعت الآية: " يوم ترونها تذهل كلُّ مرضعةٍ عمَّا أرضعت، وتضع كل ذات حملٍ حملها، وترى النَّاس سكارى وما هم بسكارى ولكنَّ عذاب الله شديد " وقد شهدت الموقف، فالعجب لك إذ بقي معك شيء من روايتك! فيقول الشيخ: إنّي كنت أخلص الدُّعاء في أعقاب الصلوات، قبل أن أنتقل من تلك الدار، أن يمتعني الله بأدبي في الدُّنيا والآخرة، فأجابني إلى ما سألت وهو الحميد المجيد. ثمَّ يذكر له أشياء من شعره، فيجده عن الجواب مستعجماً، إن نطق نطق محجماً. فيقول: أيكم تميم بن أبيّ؟ فيقول رجل منهم: ها أنا ذا. فيقول أخبرني. فيقول تميم: والله ما دخلت من باب الفردوس ومعي كلمة من الشعر ولا الرَّجز، وذلك أنّي حوسبت حساباً شديداً، وقيل لي: كنت فيمن قاتل عليَّ بن أبي طالب. وانبرى لي النَّجاشي الحارثيّ، فما أفلتُّ من اللهب حتى سفعني سفعات. وإن حفظك لمبقىً عليك، كأنّك لم تشهد أهوال الحساب، ومنادي الحشر يقول: أين فلان ابن فلان؟ والشّوس الجبابرة من الملوك تجذبهم الزّبانية إلى الجحيم، والنسِّوة ذوات التِّيجان يصرن بألسنة الوقود، فتأخذ في فروعهنَّ وأجسادهنَّ، فيصحن: هل من فداء؟ هل من عذرٍ يقام؟ والشباب من أولاد الأكاسرة يتضاغون في سلاسل النار ويقولون: نحن أصحاب الكنوز، نحن أرباب الفانية، ولقد كانت لنا إلى الناس صنائع وأيادٍ فلا فادي ولا معين! فهتف داعٍ من قبل العرش: " أولم نعمِّركم ما يتذكّر فيه من تذكَّر وجاءكم النّذير فذوقوا فما للظالمين من نصير " لقد جاءتكم الرسل في زمانٍ بعد زمانٍ، وبذلت ما وكّد من الأمان، وقيل لكم في الكتاب: " واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفَّى كلُّ نفسٍ ما كسبت وهم لا يظلمون " فكنتم في لذات السَّاخرة واغلين، وعن أعمال الآخرة متشاغلين، فالآن ظهر النبأ، لا ظلم اليوم إنَّ الله قد حكم بين العباد.
فيقول، أنطقه الله بكل فضل، إن شاء ربُّه أن يقول: أنا أقص عليك قصّتي: لما نهضت أنتفض من الرّيم، وحضرت حرصات القيامة، ذكرت الآية: " تعرج الملائكة والرُّوح إليه في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنةٍ، فاصبر صبراً جميلاً فطال علي الأمد، واشتد الظمأ والومد، وأنا رجل مهياف ، فافتكرت فرأيت أمراً لا قوام لمثلي به. ولقيني الملك الحفيظ بما زبر من فعل الخير، وجدت حسناتي قليلة كالنُّفأ في العام الأرمل. إلا أن التوبة في آخرها كأنها مصباح أبيلٍ، رفع لسالك السبيل. فلمَّا أقمت في الموقف زهاء شهر أو شهرين، وخفت في العرق من الغرق، زينت لي النفس الكاذبة أن أنظم أبياتاً في رضوان، خازن الجنان، ثمّ ضانكت الناس حتى وقفت منه بحيث يسمع ويرى، فما حفل بي، ولا أظنّه أبه لما أقول. فغبرت برهة، نحو عشرة أيام من أيّام الفانية، ثم عملت أبياتاً ووسمتها برضوان، ثمّ دنوت منه ففعلت كفعلي الأوَّل، فكأني أحرك ثبيراً، وألتمس من الغضرم عبيراً، فلم أزل أتتبع الأوزان التي يمكن أن يوسم بها رضوان حتى أفنيتها، وأنا لا أجد عنده مغوثةً، ولا ظننته فهم ما أقول، فلمّا استقصيت الغرض فما أنجحت، دعوت بأعلى صوتي: يا رضوان، يا أمين الجبَّار الأعظم على لفراديس، ألم تسمع ندائي بك واستغاثتي إليك؟ فقال: لقد سمعتك تذكر رضوان وما علمت ما مقصدك، فما الذي تطلب أيها المسكين؟ فأقول: أنا رجل لا صبر لي على اللواب أي العطش وقد استطلت مدة الحساب، ومعي صل بالتوبة، وهي للذنّوب كلّها ماحية، وقد مدحتك بأشعارٍ كثيرة ووسمتها باسمك. فقال: وما الأشعار؟ فإني لم أسمع بهذه الكلمة قطّ إلا الساعة. فقلت: الأشعار جمع شعرٍ، والشعر كلام موزون تقبله الغريزة على شرائط، إن زاد أو نقص أبانه الحسُّ، وكان أهل العاجلة يتقربّون به إلى الملوك والسادات، فجئت بشيء منه إليك لعلك تأذن لي بالدُّخول إلى الجنة في هذا الباب، فقد استطلت ما الناس فيه، وأنا ضعيف منين؛ ولا ريب أنّي ممن يرجو المغفرة، وتصحُّ له بمشيئة الله تعالى. فقال: إنك لغبين الرأي! أتأمل أن آذن لك بغير إذن من رب العزة؟ هيهات هيهات! وأنَّى لهم التناوش من مكان بعيد. فتركته وانصرفت بأملي إلى خازن آخر يقال له زفر، فعملت كلمةً ووسمتها باسمه وقربت منه فأنشدتها، فكأني إنّما أخاطب ركوداً صمّاء، لأستنزل أبوداً عصماء. ولم أترك وزناً مقيّداً ولا مطلقاً يجوز أن يوسم بزفر إلا وسمته به، فما نجع ولا غيَّر. فقلت: رحمك الله! كنَّا في الدار الذاهبة نتقرّب إلى الرئيس والملك بالبيتين أو الثلاثة، فنجد عنده ما نحب، وقد نظمت فيك ما لو جمع لكان ديواناً، وكأنّك ما سمعت لي زجمةً أي كلمة، فقال: لا أشعر بالذي حممت، وأحسب هذا الذي تجيئني به قرآن إبليس المارد، ولا ينفق على الملائكة، إنّما هو للجان وعلَّموه ولد آدم، فما بغيتك؟ فذكرت له ما أريد، فقال: والله ما أقدر على نفع ولا أملك لخلق من شفع، فمن أي الأمم أنت؟ فقلت: من أمة محمَّد بن عبد الله بن عبد المطَّلب. فقال: صدقت ذلك، نبي العرب، ومن تلك الجهة أتيتني بالقريض، لأنّ إبليس اللعين نفثه في إقليم العرب فتعلَّمه نساء ورجال. وقد وجب عليّ نصحك، فعليك بصاحبك لعلّه يتوصّل إلى ما ابتغيت. فيئست ممّا عنده، فجعلت أتخلل العالم، فإذا أنا برجل عليه نور يتلألأ، وحواليه رجال تأتلق منهم أنوار. فقلت: من هذا الرجل؟ فقيل: هذا حمزة بن عبد المطَّلب صريع وحشيٍّ، وهؤلاء الذين حوله من استشهد من المسلمين في أحدٍ. فقلت لنفسي الكذوب: الشّعر عند هذا أنفق منه خازن الجنان، لأنَّه شاعر، وإخوته شعراء، وكذلك أبوه وجدُّه، ولعلَّه ليس بينه وبين معدِّ بن عدنان إلا من قد نظم شيئاً من موزون، فعملت أبياتاً على منهج أبيات كعب بن مالكٍ التي رثى بها حمزة، وجئت حتى وليت منه فناديت: يا سيّد الشهداء، يا عمَّ رسول الله صلَّى الله عليه سلّم، يا ابن عبد المطَّلب! فلّما أقبل عليّ بوجهه أنشدته الأبيات. فقال: ويحك! أفي مثل هذا الموطن تجيئني بالمديح؟ أما سمعت الآية: " لكلِّ امرىء ٍمنهم يومئذ شأنٌ يغنيه " فقلت: بلى قد سمعتها، وسمعت ما بعدها: " وجوهٌ يومئذ سفرةٌ، ضاحكةٌ مستبشرةٌ، ووجوهٌ يومئذٍ عليها غبرةٌ، ترهقها قترةٌ، أولئك هم الكفرة الفجرة ". فقال: إنَّي لا أقدر على ما تطلب. ولكني أنفذ معك توراً إلى ابن أخي عليّ بن أبي طالبٍ، ليخاطب النبيَّ، صلّى الله عليه وسلَّم، في أمرك. فبعث معي رجلاً، فلمّا قصَّ قصتّي على أمير المؤمنين، قال: أين بيَّنتك؟ يعني صحيفة حسناتي. وكنت قد رأيت في المحشر شيخًا لنا كان يدرِّس النحو في الدار العاجلة، يعرف بأبي عليّ الفارسيّ، وقد امترس به قومٌ يطالبونه، ويقولون: تأوَّلت علينا وظلمتنا. فلمّا رآني أشار إليّ بيده، فجئته فإذا عنده طبقةٌ، منهم يزيد بن الحكم الكلابيُّ، وإذا جماعةٌ من هذا الجنس كلُّهم يلومونه على تأويله. فقلت: يا قوم، إن هذه أمورٌ هيِّنةٌ، فلا تعتنوا هذا الشيخ، فإنّه يمتُّ بكتابه في القرآن المعروف بكتاب الحجَّة، وإنه ما سفك لكم دماً، ولا أحتجن عنكم مالاً، فتقرَّقوا عنه. وشغلت بخطابهم والنَّظر في حويرهم، فسقط منَّي الكتاب الذي فيه ذكر التَّوبة، فرجعت أطلبه فما وجدته، فأظهرت الوله والجزع، فقال أمير المؤمنين: لا عليك، ألك شاهدٌ بالتَّوبة؟ فقلت: نعم، قاضي حلب وعدولها. فقال: بمن يعرف ذلك الرجل؟ فأقول: بعبد المنعم بن عبد الكريم قاضي حلب، حرسها الله، في أيَّام شبل الدَّولة، فأقام هاتفاً يهتف في الموقف: يا عبد المنعم بن عبد الكريم قاضي حلب في زمان شبل الدَّولة، هل معك علمٌ من توبة عليّ بن منصور بن طالب الحلبيِّ الأديب؟ فلم يجيبه أحد. فأحذني الهلع والقلُّ، ثم هتف الثانية، فلم يجيبه مجيب، فليح بي عند ذلك أي صرعت إلى الأرض ثمّ نادى الثالثة، فأجابه قائل ٌيقول: نعم، قد شهدت توبة عليِّ بن منصور، وذلك بأخرةٍ من الوقت، وحضرت متابة عندي جماعةٌ من العدول، وأنا يومئذٍ قاضي حلب وأعمالها، والله المستعان. فعندها نهضت وقد أخذت الرَّمق، فذكرت لأمير المؤمنين، عليه السَّلام، ما ألتمس، فأعرض عنَّي وقال: إنَّك لتروم حدداً ممتنعاً، ولك أسوةٌ بولد أبيك آدم. وهمت بالحوض، فكدت لا أصل إليه، ثمّ نغبت منه نغباتٍ لا ظمأ بعدها؛ وإذا الكفرة يحملون أنفسهم على الورد، فتذودهم الزَّبانية بعصيٍّ تضطرم ناراً، فيرجع أحدهم وقد احترق وجهه أو يده وهو يدعو بويلٍ وثبور. فطفت على العترة المنتجيبن فقلت: إنّي كنت في الدار الذاهبة إذا كتبت كتاباً وفرغت منه: قلت في آخره: وصَّلى الله على سيّدنا محمّد خاتم النَّبيِّين، وعلى عيرته الأخيار الطَّيبين. وهذه حرمةٌ لي ووسيلةٌ، فقالوا: ما نصنع بك؟ فقلت: إنَّ مولاتنا فاطمة، عليها السلام، قد دخلت الجنَّة مذ دهرٍ، وإنَّها تخرج في كلِّ حينٍ مقداره أربع ٌوعشرون ساعةً من الدُّنيا الفانية فتسلَّم على أبيها، وهو قائمٌ لشهادة القضاء، ثمّ تعود إلى مستقرِّها من الجنان، فإذا هي خرجت كالعادة، فاسألوا في أمري بأجمعكم، فلعلّها تسأل أباها فيَّ فلمّا حان خروجها ونادى الهاتف: أن غضُّوا أبصاركم يا أهل الموقف حتى تعبر فاطمة بتت محمد، صلّى الله عليه وسلم، اجتمع من آل أبي طالبٍ خلقٌ كثيرٌ، من ذكورٍ وإناثٍ، ممّن لم يشرب خمراً، ولا عرف قطُّ منكراً. فلقوها في بعض السّبيل، فلّما رأتهم قالت: ما بال هذه الزَّرافة؟ ألكم حالٌ تذكر؟ فقالوا: نحن بخيرٍ، إنّا نلتذُّ بتحف أهل الجنّة، غير أنَّا محبوسون للكلمة السابقة، ولا نريد أن نتسرَّع إلى الجنّة من قبل الميقات، إذ كنّا آمنين ناعمين بدليل قوله: " إنَّ الذين سبقت لهم منّا الحسنى أولئك عنها مبعدون. لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون. لا يحزنهم الفزع الأكبر، وتتلقَّاهم الملائكة: هذا يومكم الذي كنتم توعدون " وكان فيهم عليُّ بن الحسين وابناه محمّدٌ وزيدٌ، وغيرهم من الأبرار الصالحين. ومع فاطمة، عليها السّلام، امرأة أخرى جري مجراها في الشرف والجلالة، فقيل: من هذه؟ فقيل: خديجة ابنة خويلد ابن أسد بن بد العزَّى، ومعها شبابٌ على أفراسٍ من نورٍ. فقيل: عبد الله، والقاسم، والطَّيب، والطاهر، وإبراهيم: بنو محمدٍ، صلّى الله عليه وسلم. فقالت تلك الجماعة التي سألت: هذا وليٌّ من أوليائنا، قد صحّت توبته، ولا ريب أنَّه من أهل الجنَّة، وقد توسَّل بنا إليك، صلّى الله عليك، في أن يراح من أهوال لموقف، ويصير إلى الجنّة فيتعجلَّ الفوز. فقلت لأخيها إبراهيم، صلّى الله عليه: دونك الرجل. فقال لي: تعلَّق بركابي. وجعلت تلك الخيل تخلَّل الناس وتنكشف لها الأمم والأجيال، فلّما عظم الزَّحام طارت في الهواء، وأنا متعلّق بالرِّكاب، فوقفت عند محمّدٍ، صلّى الله عليه وسلم، فقال: من هذا الأتاويُّ؟ فقالت له: هذا رجلٌ سأل فلانٌ وفلانٌ - وسمِّت جماعةً من الأئمة الطاهرين - فقال: حتَّى ينظر في عمله. فسأل عن عملي فوجد في الدّيوان الأعظم وقد ختم بالتوبة، فشفع لي، فأذن لي في الدُّخول. ولمَّا انصرفت الزَّهراء، عليها السلام، تعلَّقت بركاب إبراهيم، صلّى الله عليه.
فلمّا خلصت من تلك الطُّموش، قيل لي: هذا الصِّراط فاعبر عليه. فوجدته خالياً لا عريب عنده فبلوت نفسي في العبور، فوجدتني لا أستمسك. فقالت الزَّهراء، صلّى الله عليها، لجاريةٍ من جواريها: فلانة أجيزيه. فجعلت تمارسني وأنا أتساقط عن يمينٍ وشمالٍ، فقلت: يا هذه، إن أردت سلامتي فاستعملي معي قول القائل في الدار العاجلة:
ستِّ إن أعيك أمري، ... فاحمليني زقفونه
فقالت: وما زقفونه؟ قلت: أن يطرح الإنسان يديه على كتفي الآخر، ويمسك الحامل بيديه، ويحمله وبطنه إلى ظهره،
فقالت: ما سمعت بزقفونه، إلاّ الساعة. فتحملي وتجوز كالبرق لخاطف. فلمّا جزت، قالت الزَّهراء، عليها السلام: قد وهبنا لك هذه الجارية فخذه كي تخدمك في الجنان.
فلمّا صرت إلى باب الجنّة، قال لي رضوان: هل معك من جوازٍ؟ فقلت: لا. فقال لا سبيل لك إلى الدخول إلاَّ به فبعلت بالأمر، وعلى باب الجنَة من داخلٍ شجرة صفصافٍ، فقلت: أعطني ورقةً من هذه الصَّفصافة حتى أرجع إلى الموقف فآخذ عليها جوازاً، فقال: لا أخرج شيئاً من الجنَّة إلاّ بإذنٍ من العليِّ الأعلى، تقدَّس وتبارك. فلمّا دجرت بالنازلة، قلت: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون! لو أن للأمير أبي المرجّى حازناً مثلك، لما وصلت أنا ولا غيري إلى قرقوفٍ من خزانته. والتفت إبراهيم، صلّى الله عليه، فرآني وقد تخلفت عنه، فرجع إليَّ فجذبني جذبة حصَّلني بها في الجنة. وكان مقامي في الموقف مدَّة ستَّة أشهرٍ من شهور العاجلة، فلذلك بقي عليَّ حفظي ما نزفته الأهوال، ولا نهكه تدقيق الحساب. فأيكم راعي الإبل؟ فيقولون: هذا. فيسلّم عليه الشيخ ويقول: أرجو أن لا أجدك مثل أصحابك صفراً حفظك وعربيتك. فيقول: أرجو ذلك، فاسألني ولا تطيلنَّ. فيقول: أحقّ ما روى عنك سيبويه في قصيدتك التي تمدح بها عبد الملك بن مروان من أنَّك تنصب الجماعة فيقول: حقٌّ ذلك.
وينصرف عنه رشيداً إلى حميد بن ثور فيقول: إيه يا حميد! لقد أحسنت في قولك. فكيف بصرك اليوم؟ فيقول: إنَّي لأكون في مغارب الجنَّة، فألمح الصَّديق من أصدقائي وهو بمشارقها، وبيني وبينه مسيرة ألوف أعوامٍ للشمس التي عرفت سرعة مسيرها في العاجلة! فتعالى الله القادر على كلّ بديع.
فيقول: لقد أحسنت في الدالية. فيقول حميدٌ: لقد ذهلت عن كلّ ميمٍ ودال، وشغلت بملاعبة حورٍ خدال. فيقول: أمثل هذه الدالية ترفض؟ فيقول حميدٌ: لقد شغلت عن زبدٍ، وطرد النّافرة من الرُّبد، بما وهب ربَّي الكريم، ولا خوف عليَّ ولا حزن. ولقد كان الرجل منا يعمل فكره السَّنة أو الأشهر، في الرَّجل قد آتاه الله الشَّرف والمال، فربّما رجع بالخيبة، وإن أعطى فعطاءٌ زهيدٌ، ولكنَّ النّظم فضيلة العرب.
ويعرض لهم لبيد بن ربيعة فيدعوهم إلى منزله بالقيسيَّة، ويقسم عليهم ليذهبنَّ معه، يتمشون قليلاً، فإذا هم بأبياتٍ ثلاثةٍ ليس في الجنَّة نظيرها بهاءً وحسناً، فيقول لبيدٌ: أتعرف أيُّها الأديب الحلبيٌّ هذه الأبيات؟ فيقول: لا والذي حجَّت القبائل كعبته! فيقول: صيَّرها ربِّي اللّطيف الخبير أبياتاً في الجنَة، أسكنها أخرى الأبد وأنعم نعيم المخلَّد. فيعجب هو وأولئك القوم ويقولون: إنَّ الله قديرٌ على ما أراد.
ويبدو له، أيَّد الله مجده بالتأييد، أن يصنع مأدبةً في الجنان، يجمع فيها من أمكن من شعراء الخضرمة والإسلام، والذين أصلّوا كلام العرب، وجعلوه محفوظاً في الكتب، وغيرهم ممّن يتأنس بقليل الأدب. فيخطر له أن تكون كمآدب الدار العاجلة، إذ كان البارئ، جلَّت عظمته، لا يعجزه أن يأتيهم بجميع الأغراض، من غير كلفةٍ ولا إبطاءٍ، فتنشأ أرحاءٌ على الكوثر، تجعجع لطحن برٍّ من برّ الجنّة، وإنَّه لأفضل من برِّ الهذليِّ
بمقدارٍ تفضل به السماوات والأرضين، فيقترح، أمضى القادر له اقتراحه، أن تحضر بين يديه جوارٍ من الحور العين، يعتملن بأرحاء اليد: فرحىً من درٍّ، ورحىً من عسجدٍ، وأرحاءٌ لم ير أهل العاجلة شيئاً من شكل جواهرهنّ. فإذا نظر إليهنّ، حمد الله سبحانه على ما منح،
ويبتسم إليهنَّ ويقول: اطحنَّ شزراً وبتّاً. فيقلن: ما شزرٌ وما بتّ؟ فيقول: الشَّزر على أيمانكنَّ، والبتُّ على شمائلكنَّ، ويحبس في صدره، عمَّره الله بالسُّرور، أرحاءٌ تدور فيها البهائم، فيمثل بين يديه ما شاء الله من البيوت، فيها أحجارٌ من جواهر الجنّة، تدير بعضها جمالٌ تسوم في عضاه الفردوس، وأينقٌ لا تعطف على الحيران، وصنوفٌ من البغال والبقر وبنات صعدة، فإذا اجتمع من الطَّحن، ما يظنُّ أنَّه كافٍ للمأدبة، تفرَّق خدمه من الولدان المخلَّدين فجاؤوا بالعماريس، وضروب الطّير التي جرت العادة بأكلها: كأبجاج العكارم، وجوازل الطّواويس، والسَّمين من دجاج الرَّحمة وفراريج الخلد، وسيقت البقر والغنم والإبل لتعتبط؛ فارتفع رغاء العكر ويعار المعز، وتؤاج الضأن، وصياح الدِّيكة، لعيان المدية. وذلك كلُّه، بحمد الله، لا ألم فيه، وإنَّما هو جدُّ مثل اللَّعب، فلا إله إلاّ بالله الذي ابتدع خلقه من غير رويّةٍ، وصوَّره بلا مثال.
فإذا حصلت النَّحوض فوق الأوفاض، والأوفاض قال، زاد الله أمره من النَّفاذ: أحضروا من في الجنَّة من الطُّهارة السّاكنين بحلب على ممرّ الأزمان، فتحضر جماعةٌ كثيرةٌ، فيأمرهم باتِّخاذ الأطعمة، وتلك لذِّةٌ يهبها الله، عزَّ سلطانه، بدليل قوله: " وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذُّ الأعين وأنتم فيها خالدون. وتلك الجنَّة التي أورثتموها بما كنتم تعملون. لكم فيها فاكهةٌ كثيرةٌ منها تأكلون ".
فإذا أتت الأطعمة، افترق غلمانه الّذين كأنَّهم اللّؤلؤ المكنون، لإحضار المدعوِّين، فلا يتركون في لجنَّة شاعراً إسلامياً، ولا مخضرماً، ولا عالماً بشيءٍ من أصناف العلوم، ولا متأدَّباً، إلاَّ أحضّروه. فيجتمع بجدٌ عظيمٌ والبجد: الخلق الكثير، فتوضع الخون من الذهب، والفواثير من اللُجين، ويجلس عليها الآكلون، وتنقل إليهم الصَّحاف، فتقيم الصِّحفة لديهم وهم يصيون ممَّا ضمَنته كعمر كويّ وسريٍّ وهما النّسران من النّجوم.
فإذا قضوا الأرب من الطّعام، جاءت السُّقاة بأصناف الأشربة، والمسمعات بالأصوات المطربة.
ويقول، لا فتئ ناطقاً بالصواب: عليَ بمن في الجنة من المغنيِّن والمغنِّيات: ممّن كان في الدار العاجلة، فقضيت له التَّوبة.
فتحضر جماعةٌ كثيرةٌ من رجالٍ ونساءٍ: فيهم الغريض، ومعبدٌ وابن مسجحٍ، وابن سريجٍ؛ إلى أن يحضر إبراهيم الموصليُّ وابنه إسحاق. فيقول قائلٌ من الجماعة، وقد رأى أسراب قيانٍ قد حضرن، مثل بصبص ودنانير وعنان: من العجب أن الجرادتين في أقاصي الجنَّة. فإذا سمع ذلك لا برح سمعه مطروقاً بما يبهجه، قال: لابدَّ من حضورهما. فيركب بعض الخدم ناقةً من نوق الجنَّة، ويذهب إليهما على بعد مكانهما فتقبلان على نجيبين أسرع البرق اللامع. فإذا حصلتا في المجلس، حيَاهما وبشَّ بهما وقال: كيف خلصتما إلى دار الرحمة بعدما خبطتما في الضلال؟ فتقولان: قدرت لنا التَّوبة ومتنا على دين الأنبياء المرسلين. فيقول: أحسن الله إليكما، أسمعانا شيئاً من التي تروى لعبيد مرة ولأوس أخرى وما سمعتا قطَ بعبيدٍ ولا أوسٍ، فتلهمان أن تغنيِّا بالمطلوب، فتلحِّنان فتطربان من سمع، وتستفزَّان الأفئدة بالسُّرور، ويكثر حمد الله، سبحانه، كما أنعم على المؤمنين والتّائبين، وخلَّصهم من دار الشّقوة إلى محلِّ النَّعيم. ويعرض له، أدام الله الجمال ببقائه، الشَّوق إلى نظر كالسحابٍ
فينشئ الله، تعالت آلاؤه، سحابةً كأحسن ما يكون من السُّحب، من نظر إليها شهد أنَّه لم ير قطُّ شيئاً أحسن منها، محلاّةً بالبرق في وسطها وأطرافها، تمطر بماء ورد الجنَّة من طلٍّ وطشٍّ، وتنثر حصى الكافور كأنَّه صغار البرد، فعزَّ إلهنا القديم الذي لا بعجزه تصوير الأمانيّ وتكوين الهواجس من الظُنون.
ويلتفت فإذا هو بجران العود النُّميريّ، فيحييِّه ويرحِّب به، ويقول لبعض القيان: أسمعينا قول هذا المحسن:
فإذا عجبت الجماعة من إحسانها وإصابتها قالت: أتدرون من أنا؟ فيقولون: لا والله المحمود! فتقول: أنا أمُّ عمروٍ
فيزدادون بها عجباً، ولا إكراماً، ويقولون: لمن هذا الشعر؟ ألعمرو بن عديِّ اللَّخمي؟ أم لعمرو بن كلثوم التغلبيِّ؟ فتقول: أنا شهدت ندماني جذيمة: مالكاً وعقيلاً، وصبحتهما الخمر المشعشعة، لمّا وجدا عمرو بن عديٍّ، فكنت أصرف الكأس عنه، فقال هذين البيتين، فلعلَّ عمرو بن كلثومٍ حسَّن بهما كلامه واستزادهما في أبياته.
ويذكر، أذكره الله بالصّالحات، الأبيات التي تنسب إلى الخليل بن أحمد. والخليل يومئذٍ في الجماعة، وأنَها تصلح لأن يرقص عليها، فينشىء الله، القادر بلطف حكمته، شجرةً من غفرٍ والغفر الجوز فتونع لوقتها، ثمّ تنفض عدداً لا يحصيه إلاّ الله سبحانه، وتنشقُّ كلُّ واحدةٍ منه عن أربع جوارٍ يرقن الرائين، ممنّ قرب والنّائين، يرقصن على الأبيات المنسوبة إلى الخليل
فتهتزّ أرجاء الجنَّة، ويقول، لا زال منطقاً بالسَّداد: لمن هذه الأبيات يا أبا عبد الرحمن؟ فيقول الخليل: لا أعلم. فيقول: إنّا كنّا في الدار العاجلة نروي هذه الأبيات لك. فيقول الخليل: لا أذكر شيئاً من ذلك، ويجوز أن يكون ما قيل حقَّاً. فيقول: أفنسيت يا أبا عبد الرحمن وأنت أذكر العرب في عصرك؟ فيقول الخليل: إنّ عبور السَّراط ينفض الخلد ممّا استودع. ويخطر له ذكر الفقَّاع الذي كان يعمل في الدار الخادعة، فيجري الله بقدرته أنهاراً من فقَّاعٍ، الجرعة منها لو عدلت بلذَّات الفانية، منذ خلق السموات والأرض إلى يومٍ تطوي الأمم الآخرة، لكانت أفضل وأشفَّ. فيقول في نفسه: قد علمت أنَّ الله قديرٌ، والذي أريد، نحو ما كنت أراه مع الطَّوَّافين في الدار الذاهبة. فلا تكمل هذه المقالة، حتى يجمع الله كلَّ فقَّاعيٍّ في الجنَّة من أهل العراق والشام وغيرهما من البلاد، بين أيديهم الولدان المخلَّدون يحملون السَّلال إلى أهل ذلك المجلس. فيقول، حفظ الله على أهل الأدب حوباءه، لمن حضره من أهل العلم: ما تسمَّى هذه السَّلال بالعربيَّة؟ فيرمُّون أي يسكتون ويقول بعضهم: هذه تسمَّى البواسن، واحدتها باسنةٌ، فيقول قائلٌ من الحاضرين: من ذكر هذا من أهل اللغة؟ فيقول، لا انفكَّت الفوائد واصلةً منه إلى الجلساء: قد ذكرها ابن درستويه، وهو يومئذٍ في الحضرة. فيقول له الخليل: من أين جئت بهذا الحرف؟ فيقول ابن درستوية: وجدته في كتب النضر بن شميل: فيقول الخليل: أتحقُّ هذا يا نضر، فأنت عندنا الثّقة؟ فيقول النَّضر: قد التبس عليَّ الأمر، ولم يحك الرجل، إن شاء الله، إلاَّ حقّاً. ويعبر بين تلك الأكراس أي الجماعات طاووسٌ من طواويس الجنَّة يروق من رآه حسناً، فيشتهيه أبو عبيدة مصوصاً، فيتكون ذلك في صفحةٍ من الذَّهب. فإذا قضي منه الوطر، انضمَّت عظامه بعضها إلى بعضٍ، ثمَّ تصير طاووساً كما بدأ. فتقول الجماعة: سبحان من يحيى العظام وهي رميم. هذا كما جاء في الكتاب الكريم: " وإذ قال إبراهيم ربِّ أرني كيف تحيي الموتى قال: فخذ أربعةً من الطيَّر فصيرهنَّ إليك ثمَّ اجعل على كلِّ جبلٍ منهنّ جزءاً، ثمّ ادعهنَّ يأتينك سعياً، واعلم أنَّ الله عزيزٌ حكيمٌ.
ويقول هو، آنس الله بحياته، لمن حضر: ما موضع يطمئنّ؟ فيقولون: نصبٌ بلام كي. فيقول: هل يجوز غير ذلك؟ فيقولون لا يحضرنا شيءٌ.
وتمرُّ إوزَّةٌ مثل البختية، فيتمنَّاها بعض القوم شواءً، فتتمثَّل على خوانٍ من الزُّمردُّ، فإذا قضيت منها الحاجة، عادت، بإذن الله إلى هيئة ذوات الجناح، ويختارها بعض الحاضرين كردناجاً، وبعضهم معمولةً بسمّاقٍ، وبعضهم معمولةً لبنٍ وخلّ، وغير ذلك، وهي تكون على ما يريدون.
ويفترق أهل ذلك المجلس وهم ناعمون. ويخلو، لا أخلاه الله من الإحسان، بحوريّتين له من الحور العين، فإذا بهره ما يراه من الجمال قال: أعزز عليَّ بهلاك الكنديِّ، وأين صاحبتاه منكما لا كرامة لهما ولا نعمة عينٍ؟ لجلسةٌ معكما بمقدار دقيقةٍ من دقائق ساعات الدُّنيا، خيرٌ من ملك بني آكل المرار وبني نصر بالجيرة وآل جفنة ملوك الشَّام. ويقبل على كل ِّواحدةٍ منهما يترشَّف رضابها ويقول: إنَّ امرأ القيس لمسكينٌ مسكينٌ! تحترق عظامه في السَّعير وأنا أتمثّل بقوله. فتستغرب إحداهما ضحكاً. فيقول: ممَّ تضحكين! فتقول: فرحاً بتفضلُّ الله الذي وهب نعيماً، وكان بالمغفرة زعيماً، أتدري من أنا يا عليَّ بن منصور؟ فيقول: أنت من حور الجنان اللَّواتي خلقكن الله جزاءً للمتَّقين، وقال فيكنَّ: كأنَّهنّ الياقوت والمرجان فتقول: أنا كذلك بإنعام الله العظيم، على أنّي كنت في الدار العاجلة أعرف بحمدونة، وأسكن في باب العراق بحلب وأبي صاحب رحىً، وتزوَّجني رجلٌ يبيع السَّقط فطلَّقني لرائحةٍ كرهها من فيَّ، وكنت من أقبح نساء حلب، فلمَّا عرفت ذلك زهدت في الدنيا الغرَّارة، وتوفَّرت على العبادة، وأكلت من مغزلي ومردني، فصيَّرني ذلك إلى ما ترى.
وتقول الأخرى: أتدري من أنا يا عليَّ بن منصور؟ أنا توفيق السَّوداء التي كانت تخدم في دار العلم ببغداد على زمان أبي منصورٍ محمَّد بن عليٍّ الخازن وكنت أخرج الكتب إلى النُّساخ.
فيقول: لا إله إلاّ الله، لقد كنت سوداء فصرت أنصع من الكافور. فتقول: أتعجب من هذا،
ويمرُّ ملكٌ من الملائكة، فيقول: يا عبد الله، أخبرني عن الحور العين، أليس في الكتاب الكريم: " إنَّا أنشأناهنَّ إنشاءً، فجعلناهنَّ أبكاراً، عرباً أتراباً، لأصحاب اليمين ". فيقول الملك: هنَّ على ضربين: ضربٌ خلقه الله في الجنَّة لم يعرف غيرها، وضربٌ نقله الله من الدار العاجلة لمَّا عمل الأعمال الصالحة. فيقول، وقد فكر ممَّا سمع، أي عجب: فأين اللّواتي لم يكنَّ في الدار الفانية؟ وكيف يتميَّزن من غيرهنَّ؟ فيقول الملك: قف أثري لترى البديء من قدره الله. فيتبعه، فيجيء به إلى حدائق لا يعرف كنهها إلاّ الله، فيقول الملك: خذ ثمرةً من هذا الثمر فاكسرها فإنَّ هذا الشجر يعرف بشجر الحور.
فيأخذ سفرجلةً، أو رمَّانةً، أو تفَّاحةً، أو ما شاء الله من الثمار، فيكسرها، فتخرج منها جاريةٌ حوراء عيناء تبرق لحسنها حوريّات الجنان، فتقول: من أنت يا عبد الله؟ فيقول: أنا فلان بن فلانٍ. فتقول: إنَّي أمنَّى بلقائك قبل أن يخلق الله الدُّنيا بأربعة آلاف سنة. فعند ذلك يسجد إعظاماً لله القدير ويقول: هذا كما جاء في الحديث: أعددت لعبادي المؤمنين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، وبله ما أطلعتهم عليه.
ويخطر في نفسه، وهو ساجدٌ، أنَّ تلك الجارية، على حسنها، ضاويةٌ، فيرفع رأسه من السُّجود وقد صار من ورائها ردفٌ يضاهي كثبان عالجٍ، وأنقاء الدَّهناء، وأرملة يبرين وبني سعدٍ، فيهال من قدرة اللّطيف الخبير ويقول: يا رازق المشرقة سناها، ومبلغ السائلة مناها، والذي فعل ما أعجز وهال، ودعا إلى الحلم الجهَّال، أسألك أن تقصر بوص هذه الحوريَّة على ميلٍ في ميل، فقد جاز بها قدرك حدَّ التأميل. فيقال له: أنت مخيَّر في تكوين هذه الجارية كما تشاء. فيقتصر من ذلك على الإرادة.
ويبدو له أن يطَّلع إلى أهل النّار فينظر إلى ما هم فيه ليعظم شكره على النّعم، بدليل قوله تعالى: " قال قائلٌ منهم: إنّي كان لي قرينٌ، يقول أئنَّك لمن المصدِّقين، أئذا متنا وكنَّا ترباً وعظاماً أئنَّا لمدينون. قال هل أنتم مطَّلعون. فاطَّلع فرآه في سواء الجحيم، قال: تالله إن كدت لتردين، ولولا نعمة ربِّي لكنت من المحضرين ".
فيركب بعض دوابِّ الجنَّة ويسير، فإذا هو بمدائن ليست كمدائن الجنَّة، ولا عليها النّور الشّعشعانيُّ، وهي ذات أدحالٍ وغماليل. فيقول لبعض الملائكة: ما هذه يا عبد الله؟ فيقول: هذه جنِّة العفاريت الذين آمنوا بمحمَّد، صلَّى الله عليه وسلَّم، وذكروا في الأقحاف، وفي سورة الجنَّ، وهم عددٌ كثيرٌ. فيقول: لأعدَّلنَّ إلى هؤلاء فلن أخلو لديهم من أعجوبةٍ. فيعوج عليهم، فإذا هو بشيخٍ جالسٍ على باب مغارةٍ، فيسلِّم عليه فيحسن الرَّدَّ ويقول: ما جاء بك يا إنسيُّ؟ إنَّك بخيرٍ لعسيّ، مالك من القوم سيّ! فيقول: سمعت أنَّكم جنٌّ مؤمنون فجئت ألتمس عندكم أخبار الجنَّان، وما لعلَّه لديكم من أشعار المردة.
فيقول ذلك الشيخ: لقد أصبت العالم ببجدة الأمر، ومن هو منه كالقمر من الهالة لا كالحاقن من الإهالة، فسل عمّا بدا لك.
فيقول: ما أسمك أيّها الشيخ؟ فيقول: أنا الخيثعرر أحد بني الشِّيصبان، ولسنا من ولد إبليس ولكنَّا من الجنّ الذين كانوا يسكنون الأرض قبل ولد آدم، صلّى الله عليه.
فيقول: أخبرني عن أشعار الجنِّ، فقد جمع منها المعروف بالمرزبانيّ قطعةً صالحة. فيقول ذلك الشيخ: إنّما ذلك هذيانٌ لا معتمد عليه، وهل يعرف البشر من النَّظيم إلاّ كما تعرف البقر من علم الهيئة ومساحة الأرض؟ وإنَّما لهم خمسة عشر جنساً من الموزون قلَّ ما يعدوها القائلون، وإنَّ لنا لآلاف أوزانٍ ما سمع بها الإنس. وإنَّما كانت تخطر بهم أطيفالٌ منَّا عارمون فتنفث إليهم مقدار الضُّوازة من أراك نعمان. ولقد نظمت الرّجز والقصيد قبل أن يخلق الله آدم بكورٍ أن كورين. وقد بلغني أنّكم معشر الإنس تلهجون بقصيدة امريء القيس:
تحفِّظونها الحزاورة في المكاتب، وإن شئت أمليتك ألف كلمةٍ على هذا الوزن. وكلُّ ذلك لشاعرٍ منَّا هلك وهو كافرٌ، وهو الآن يشتعل في أطباق الجحيم. فيقول، وصل الله أوقاته بالسعادة: أيُّها الشيخ، لقد بقي عليك حفظك! فيقول: لسنا مثلكم يا بني آدم يغلب علينا النِّسيان والرُّطوبة، لأنِّكم خلقتم من حماءٍ مسنونٍ، وخلقنا من مارجٍ من نار. فتحمله الرَّغبة في الأدب أن يقول لذلك الشّيخ: أفتملُّ عليَّ شيئاً من تلك الأشعار؟ فيقول الشيخ: فإذا شئت أمللتك ما لا تسقه الرِّكاب، ولا تسعه صحف دنياك.
فيهمُّ الشّيخ، لا زالت همتَّه عاليةً، بأن يكتتب منه، ثمَّ يقول: لقد شقيت في الدار العاجلة بجمع الأدب، ولم أحظ منه بطائلٍ، وإنَّما كنت أتقرَّب به إلى الرؤساء، فأحتلب منهم درَّ بكيء وأجهد أخلاف مصورٍ، ولست بموفَّقٍ إن تركت لذَّات الجنَّة وأقبلت أتنسخ آداب الجنَّ ومعي من الأدب ما هو كان لاسيما وقد شاع النسيان في أهل أدب الجنة، فصرت من أكثرهم رواية وأوسعهم حفظاً، ولله الحمد.
ويقول لذلك الشيخ: ما كنيتك لأكرمك بالتَّكنية؟ فيقول: أبو هدرش، أولدت من الأولاد ما شاء الله، فهم قبائل: بعضهم في النّار الموقدةٍ، وبعضهم في الجنان. فيقول: يا أبا هدرش، مالي أراك أشيب وأهل الجنّة شبابٌ؟ فيقول: إنَّ الإنس أكرموا بذلك وأحرمناه، لأنّا أعطنا الحولة في الدار الماضية، فكان أحدنا إن شاء صار حيَّةً رقشاء، وإن شاء صار عصفوراً، وإن شاء صار حمامة، فمنعنا التصوَّر في الدار الآخرة، وتركنا على خلقنا لا نتغيَّر، وعوّض بنو آدم كونهم فيما حسن من الصور. وكان قائل الإنس يقول في الدار الذاهبة: أعطينا الحيلة، وأعطي الجنُّ الحولة.
ولقد لقيت من بني آدم شرّاً، ولقوا منّي كذلك، دخلت مرَةً دار أناسٍ أريد أن أصرع فتاةً لهم، فتصوَّرت في صورة عضلٍ أي جرذٍ فدعوا لي الضَّياون، فلمَّا أرهقتني تحوَّلت صلاً أرقم ودخلت في قطيلٍ هناك، فلمَّا علموا ذلك كشفوه عني، فلمَّا خفت القتل صرت ريحاً هفَّافةً فلحقت بالرَّوافد ونقضوا تلك الخشب والأجذال فلم يروا شيئاً. فجعلوا يتفكَّنون ويقولون: ليس هاهنا مكانٌ يمكن أن يستتر فيه. فبيناهم يتذاكرون ذلك عمدت لكعابهم في الكلَّة، فلمَّا رأتني أصابها الصَّرع، واجتمع أهلها من كلِّ أوبٍ، وجمعوا لها الرقاة، وجاؤوا بالأطبَّة وبذلوا المنفسات، فما ترك راقٍ رقيةً إلاَّ عرضها عليَّ وأنا لا أجيب، وغبرت الأساة تسقيها الأشفية وأنا سدكٌ بها لا أزول، فلمَّا أصابها الحمام طلبت لي سواها صاحبةً، ثمّ كذلك حتى رزق الله الإنابة وأثاب الجزيل، فلا أفتأ له من الحامدين فيقول: لله درُّك يا أبا هدرش؟ لقد كنت تمارس أوابد ومندياتٍ، فكيف ألسنتكم؟ أيكون فيكم عربٌ لا يفهمون عن الروم، ورومٌ لا يفهمون عن العرب، كما نجد في أجيال الإنس؟ فيقول: هيهات أيّها المرحوم؟ إنَّا أهل ذكاءٌ وفطنٍ، ولابدَّ لأحدنا أن يكون عارفاً بجميع الألسن الإنسيَّة، ولنا بعد ذلك لسانٌ لا يعرفه الأنيس. وانا لاذي أنذرت الجنَّ بالكتاب المنزل: أدلجت في رفقةٍ من الخابل نريد اليمن، مررنا بيثرب في زمان المعو أي الرُّطب ف سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرُّشد فآمنَّا به ولن نشرك بربنا أحداً: وعدت قومي فذكرت لهم ذلك، فتسرعت منهم طوائف إلى الإيمان، وحثَّهم على ما فعلوه أنّهم رجموا عن استراق السَّمع بكواكب محرقاتٍ.
فيقول: يا أبا هدرش، أخبرني، وأنت الخبير، هل كان رجم النُّجوم في الجاهليَّة؟ فإنَّ بعض النَّاس قول إنَّه حدث في الإسلام. فيقول: هيهات؟ ولكنَّ الرَجم زاد في أوان المبعث، وإنَّ التِّخرُّص لكثيرٌ في الإنس والجنِّ، وإنَّ الصِّدق لمعوزٌ قليلٌ، وهنيئاً في العاقبة للصَّادقين. فيعجبٌ، لا زال في الغبطة والسُّرور، لما سمعه من ذلك الجنيِّ، ويكره الإطالة عنده فيودِّعه.
ويحمُّ فإذا هو بأسدٍ يفترس من صيران الجنّة وحسيلها فلا تكفيه هنيدةٌ ولا هندٌ أي مائة ولا مائتان فيقول في نفسه: لقد كان الأسد يفترس الشاة العجفاء، فيقيم عليها الأيَّام لا يطعم سواها شيئاً.
فيلهم الله الأسد أن يتكلّم، وقد عرف ما في نفسه، فيقول: يا عبد الله، أليس أحدكم في الجنَّة تقدَّم له الصِّحفة وفيها البهطُّ والطِّريم مع النَّهيدة، فيأكل منها مثل عمر السّموات والأرض، يلتذّ بما أصاب فلا هو مكتفٍ، ولا هي الفانية؟ وكذلك أنا افترس ما شاء الله، فلا تأذى الفريسة بظفرٍ ولا نابٍ، ولكن تجد من اللَّذة كم أجد بلطف ربِّها العزيز. أتدري من أنا أيُّها البزيع؟ أنا أسد القاصرة التي كانت في طريق مصر، فلمَّا سافر عتبة بن أبي لهبٍ يريد تلك الجهة، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " اللهمَّ سلَّط عليه كلباً من كلابك "، ألهمت أن أتجوَّع له أيَّاماً، وجئت وهو نائمٌ بين الرُّفقة فتخللَّت الجماعة إليه، وأدخلت الجنَّة بما فعّلت.
ويمرُّ بذئبٍ يقتنص ظباءً فيفني السُّربة بعد السُّربة، وكلَّما فرغ من ظبيٍ أو ظبية، عادت بالقدرة إلى الحال المعهودة، فيعلم أنَّ خطبه كخطب الأسد، فيقول: ما خبرك با عبد الله؟ فيقول: أنا الذئب الذي كلَّم الأسلمي على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، كنت أقيم عشر ليالٍ أو أكثر، لا أقدر على العكرشة ولا القواع، وكنت إذا همّمت بعجيّ المعيز، آسد الراعي عليَّ الكلاب، فرجعت إلى الصاحبة مخرَّق الإهاب. فتقول: لقد خطئت في أفكارك، ما خير لك في ابتكارك، وربمّا رميت بالسِّروة فنشبت في الأقراب، فأبيت ليلتي لما بي، حتى تنتزعها السِّلقة وأنا بآخر النَّسيس، فلحقتني بركة محمّد صلى الله عليه وسلم.
فيذهب، عرِّفه الله الغبطة في كلّ ِسبيل، فإذا هو ببيتٍ في أقصى الجنة، كأنَّه حفش أمةٍ راعيةٍ، وفيه رجلٌ ليس عليه نور سكّان الجنّة، وعنده شجرةٌ قميئةٌ ثمرها ليس بزاكٍ. فيقول: يا عبد الله، لقد رضيت بحقيرٍ شقنٍ. فيقول: والله ما وصلت إليه إلاَّ بعد هياطٍ ومياطٍ وعرقٍ من شقاءٍ، وشفاعةٍ من قريشٍ وددت أنّها لم تكن: فيقول: من أنت؟ فيقول أنا الحطيئة العبسي فيقول: بم وصلت إلى الشّفاعة؟ فيقول بالصَّدق.
فيقول: في أيِّ شيءٍ؟ فيقول: في قولي:
أبت شفتاي اليوم إلا تكلمُّماً ... بهجرٍ، فما أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجهاً شوَّه الله خلقه، ... فقبِّح من وجهٍ، وقبِّح حامله
فيقول: ما بال قولك:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والنّاس
لم يغفر لك به؟ فيقول: سبقني إلى معناه الصّالحون، ونظمته ولم أعمل به، فحرمت الأجر عليه. فيقول: ما شأن الزبرقان ابن بدرٍ؟ فيقول الحطيئة: هو رئيسٌ في الدُّنيا والآخرة، انتفع بهجائي ولم ينتفع غيره بمديحي.
فيخلِّفه ويمضي، فإذا هو بامرأة في أقصى الجنَّة، قريبةٍ من المطلَّ إلى النار. فيقول: من أنت؟ فتقول: أنا الخنساء السُّلميّة، أحببت أن أنظر إلى صخرٍ فاطلَّعت فرأيته كالجبل الشّامخ والنار تضطرم في رأسه، فقال لي؟ لقد صحَّ مزعمك فيَّ؟
فيطلَّع فيرى إبليس، لعنه الله، وهو يضطرب في الأغلال والسّلاسل ومقامع الحديد تأخذه من أيدي الزَّبانية. فيقول: الحمد لله الذي أمكن منك يا عدو الله وعدوَّ أوليائه! لقد أهلكت من بني آدم طوائف لا يعلم عددها إلاّ الله. فيقول: من الرجل؟ فيقول: أنا فلان ابن فلانٍ من أهل حلب، كانت صناعتي الأدب، أتقرَّب به إلى الملوك. فيقول: بئس الصَّناعة؟ إنَّها تهب غفَّةً من العيش، لا يتَّسع بها العيال، وإنَّها لمزلَّةٌ بالقدم وكم أهلكت مثلك! فهنياً لك إذ نجوت، فأولى لك ثمَّ أولى؟! وإنَّ لي إليك لحاجةً، فإن قضيتها شكرتك يد المنون. فيقول: إنّي لا أقدر لك على نفعٍ، فإن الآية سبقت في أهل النَّار، أعني قوله تعالى: " ونادى أصحاب النَّار أصحاب الجنَّة أن أقبضوا علينا من الماء أو ممّا رزقكم الله، قالوا إنَّ الله حرَّمهما على الكافرين ".
فيقول: إنِّي لا أسألك في شيءٍ من ذلك، ولكن أسألك عن خبرٍ تخبرينه: إنَّ الخمر حرِّمت عليكم في الدُّنيا وأحلَّت لكم في الآخرة، فهل يفعل أهل الجنَّة بالولدان المخلَّدين فعل أهل القريات؟ فيقول: عليك البهلة؟! أما شغلك ما أنت فيه؟ أما سمعت قوله تعلى: " ولهم فيها أزواجٌ مطهَّرةٌ وهم فيه خالدون "؟ فيقول: وإنَّ في الجنَّة لأشربةً كثيرةً غير الخمر، فما فعل بشَّار بن بردٍ؟ فإنَّ له عندي يداً ليست لغيره من ولد آدم: كان يفضِّلني دون الشعراء، وهو القائل: إبليس أفضل من أبيكم آدمٍ فتبيَّنوا يا معشر الأشرار
لقد قال الحقَّ، ولم يزل قائله من الممقوتين.
فلا يسكت من كلامه، إلاَّ ورجلٌ في أصناف العذاب يغمِّض عينيه حتى لا ينظر إلى ما نزل به من النِّقم، فيفتحها الزَّبانية بكلاليب من نارٍ، وإذا هو بشَّار بن بردٍ قد أعطي عينين بعد الكمه، لينظر إلى ما نزل به من النَّكال.
فيقول له، أعلى الله درجته: يا أبا معاذٍ، لقد أحسنت في مقالك، وأسأت في معتقدك، ولقد كنت في الدّار العاجلة أذكر بعض قولك فأترحِّم عليك، ظنَّا نَّ التَوبة ستلحقك،
الآن وقع منك اليأس!
فيقول بشَّارٌ: يا هذا! دعني من أباطيلك فإنِّي لمشغولٌ عنك. ويسأل عن امرئ القيس بن حجر، فيقول: ها هو ذا بحيث يسمعك. فيقول: يا أبا هند إنَّ رواة البغداديين ينشدون في قفا نبك، هذه الأبيات بزيادة الواو في أوَّلها،
فيقول: أبعد الله أولئك! لقد أساؤوا الرواية، وإذا فعلوا ذلك فأيُّ فرقٍ يقع بين النّظم والنّثر؟ وإنما ذلك شيءٌ فعله من لا غريزة له في معرفة وزن القريض، فظنَّه المتأخِّرون أصلاً في المنظوم، وهيهات هيهات!
فيقول امرؤ القيس: أدركنا الأوّلين من العرب لا يحفلون بمجيء ذلك، ولا أدري ما شجن عنه، فأمَّا أنا وطبقتي فكنَّا نمرُّ في البيت حتى نأتي إلى آخره، فإذا فني أو قارب تبيَّن أمره للسامع.
ويقول: أخبرني عن التَّسميط المنسوب إليك، أصحيحٌ هو عنك؟
فيقول: لا والله ما سمعت هذا قطُّ، وإنّه لقريُّ لم أسلكه، وإنَّ الكذب لكثير، وأحسب هذا لبعض شعراء الإسلام، ولقد ظلمني وأساء إليَّ! يقال لي مثل ذلك؟ فيعجب، ملأ الله فؤاده بالسُّرور، لما سمعه من امرئ القيس وينظر فإذا عنترة العبسيُّ متلدَّدٌ في السَّعير، فيقول: ما لك يا أخا عبسٍ؟
وإنِّي إذا ذكرت قولك: هل غادر الشُّعراء من متردَّم لأقول: إنَّما قيل ذلك وديوان الشِّعر قليلٌ محفوظٌ، فأمَّا الآن وقد كثرت على الصائد ضباب، وعرفت مكان الجهل الرِّباب. ولو سمعت ما قيل بعد مبعث النّبي، صلى الله عليه وسلّم، لعتبت نفسك على ما قلت، وعلمت أنّ الأمر كما قال حبيب بن أوسٍ:
فيقول: وما حبيبكم هذا؟ فيقول: شاعرٌ ظهر في الإسلام. وينشده شيئاً من نظمه: فيقول: أمّا الأصل فعربيٌّ، وأمّا الفرع فنطق به غبيٌّ، وليس هذا المذهب على ما تعرف قبائل العرب. فيقول، وهو ضاحكٌ مستبشرٌ: لقد شقَّ عليَّ دخول مثلك إلى الجحيم،
وينظر فإذا علقمة بن عبيدة فيقول: أعزز عليَّ بمكانك! ما أغنى عنك سمطا لؤلؤك فيقول علقمة: إنَّك لتستضحك عابساً، وتريد أن تجني الثَّمر يابساً، فعليك شغلك أيُّها السَّليم!
فيقول: لو شفعت لأحدٍ أبياتٌ صادقةٌ ليس فيها ذكر الله، سبحانه، لشفعت لك أبياتك في وصف النَّساء،
فليت شعري ما فعل عمرو بن كلثوم، فيقال: ها هو ذا من تحتك، إن شئت أن تحاوره فحاوره.
فيقول: كيف أنت أيُّها المصطبح بصن الغانية، والمغتبق من الدُّنيا الفانية؟
فيقول عمروٌ: إنك لقرير العين لا تشعر بما نحن فيه، فاشغل نفسك بتمجيد الله واترك ما ذهب فإنّه لا يعود. وأمّا ذكرك سنادي، فإنَّ الإخوة ليكونون ثلاثةً أو أربعةً، ويكون فيهم الأعرج أو الأبخق فلا يعابون بذلك، فكيف إذا بلغوا المائة في العدد، ورهاقها في المدد؟ فيقول: أعزز عليَّ بأنَّك قصرت على شرب حميم، وأخذت بعملك الذّميم، من بعد ماكانت تسبأ لك القهوة من خُصٍ أو غير خصّ، تقابلك بلون الحصّ.
وينظر فإذا الحارث اليشكريُ فيقول: لقد أتبعت الرُّواة
ويعمد لسؤال طرفة بن العبد فيقول: يا ابن أخي يا طرفة خفَّف الله عنك، أتذكر؟
فيقول طرفة: وددت أنّي لم أنطق مصراعاً، وعدمت في الدار الزّائلة إمراعاً، ودخلت الجنَّة مع الهمج والطَّغام، ولم يعمد لمرسي بالإرغام، وكيف لي بهدءٍ وسكون، أركن إليه بعض الركون؟ " وأمّا القاسطون فكانوا لجهنِّم حطباً ".
ويلفت عنقه يتأمّل، فإذا هو بأوس بن حجر، فيقول: يا أوس، إنَّ أصحابك لا يجيبون السائل فهل لي عندك من جوابٍ؟ فإنِّي أريد أن أسألك
فيقول أوسٌ: قد بلغني أنَّ نابغة بني ذبيان في الجنَّة، فأسأله عمَا بدا لك فلعلَّه يخبرك، فإنَّه أجدر بأن يعي هذه الأشياء، فأمَّا أنا فقد ذهلت: نارٌ توقد، وبنانٌ يعقد؛ إذا غلب عليَّ الظَّمأ، رفع لي شيءٌ كالنّهر، فإذا اغترقت منه لأشرب، وجدته سعيراً مضطرماً، فليتني أصبحت درماً،
ولقد دخل الجنَّة من هو شرَّ منِّي، ولكنَّ المغفرة أرزاقٌ، كأنَّها النَّشب في الدار العاجلة. فيقول، صار وليُّه من المتبوعين، وشانئه بالسفَّه من المسبوعين: إنّما أردت أن آخذ عنك هذه الألفاظ، فأتحف بها أهل الجنَّة فأقول: قال لي أوسٌ، وأخبرني أبو شريح.
وكان في عزمي أن أسألك عمّا حكاه سيبويه
ويرى رجلاً في النَّار لا يميّزه من غيره، فيقول: من أنت أيُّها الشَّقيُّ؟ فيقول: أنا أبو كبيرٍ الهذلي، عامر بن الحليس، فيقول: إنَّك لمن أعلام هذيلٍ،
فيقول أبو كبيرٍ الهذليّ: كيف لي أن أقضم على جمراتٍ محرقاتٍ، لأرد عذاباً غدقاتٍ؟ وإنَّما كلام أهل سقر ويلٌ وعويلٌ، ليس لهم إلاّ ذلك حويلٌ، فاذهب لطيّتك، واحذر أن تشغل عن مطيَّتك.
فيقول، بلَّغه الله أقاصي الأمل: كيف لا أجذل وقد ضمنت لي الرَّحمة الدائمة، ضمنها من يصدق ضمانه، ويعمُّ أهل الخيفة أمانة؟ فيقول: ما فعل صخر الغيِّ؟ فيقال: ها هو حيث تراه. فيقول: يا صخر الغىِّ ما فعلت دهماؤك؟ لا أرضك لها ولا سماؤك! كانت في عهدك وشبابها رؤدٌ، يأخذك من حبابها الزَّؤد، وأين حصل تليدك؟ شغلك عنه تخليدك، وحقّ لك أن تنساه، كما ذهل وحشيُّ دمي نساه.
وإذا هو برجلٍ يتضوّر، فيقول: من هذا؟ فيقال: الأخطل التَّغلبيّ، فيقول له: ما زالت صفتك للخمر، حتى غادرتك أكلاً للجمر،
فقال التَّغلبيّ: إنّي جررت الذّارع، ولقيت الدَّارع، وهجرت الآبدة، ورجوت أن تدعى النَّفس العابدة، ولكن أبت الأقضية.
فيقول، أحلَّ الله الهلكة بمبغضيه: أخطأت في أمرين، جاء الإسلام فعجزت أن تدخل فيه، ولزمت أخلاق سفيه؛ وعاشرت يزيد بن معاوية، وأطعت نفسك الغاوية؛ وآثرت ما فني على باقٍ، فكيف لك بالإباق؟ فيزفر الأخطل زفرةً تعجب لها الزَّبانية، ويقول: آه على أيّام يزيد أسوف عنده عنبرا، ولا أعدم لديه سيسنبرا؛ وأمزح معه مزح خليل، فيحتملني احتمال الجليل؛ وكم ألبسني من موشيّ، أسحبه في البكرة أو العشيّ، فيقول، أدام الله تمكينه: من ثمَّ أتيت! أما علمت أنّ ذلك الرجل عاندٌ، وفي جبال المعصية ساندٌ؟ فعلام اطَّلعت من مذهبه: أكان موحِّداً، أم وجدته في النُّسك ملحداً؟ فيقول الأخطل: كانت تعجبه هذه الأبيات
فيقول، جعل الله أوقاته كلَّها سعيدةً: عليك البهلة! قد ذهلت الشّعراء من أهل الجنّة والنَّار عن المدح والنَّسيب، وما شُدهت عن كفرك ولا إساءتك. وإبليس يسمع ذلك الخطاب كلُّه فيقول للزَّبانية: ما رأيت أعجز منكم إخوان مالكٍ! فيقولون: كيف زعمت ذلك يا أبا مرّة؟ فيقول: ألا تسمعون هذا المتكلِّم بما لا يعنيه؟ قد شغلكم وشغل غيركم عمّا هو فيه! فلو أنَّ فيكم صاحب نحيزةٍ قويَّةٍ، لوثب وثبةً حتى يلحق به فيجذبه إلى سقر. فيقولون: لم تصنع شيئاً يا أبا زوبعة! ليس لنا على أهل الجنَّة سبيلٌ.
فإذا سمع، أسمعه الله محاَّبه، ما يقول إبليس، أخذ في شتمه ولعنه وإظهار الشَّماتة به. فيقول، عليه اللَّعنة: ألم تنهوا عن الشَّمات يا بني آدم؟ ولكنَّكم، بحمد الله، ما زجرتم عن شيءٍ إلاّ وركبتموه. فيقول، واصل الله الإحسان إليه: أنت بدأت آدم بالشَّماتة، والبادئ أظلم: ثمَّ يعود إلى كلام الأخطل فيقول: أجلٌ، وإنَّي لنادمٌ سادمٌ، وهل أغنت النَّدامة عن أخي كسعٍ؟ ويملُّ من خطاب أهل النَّار، فينصرف إلى قصره المشيد، فإذا صار على ميلٍ أو ميلين، ذكر أنَّه ما سأل عن مهلهل التَّغلبيَّ ولا عن المرقِّشين وأنَّه أغفل الشَّنفرى وتأبَّط شرّاً، فيرجع على أدراجه، فيقف بذلك الموقف ينادي: أين عديُّ ابن ربيعة؟ فيقال: زد في البيان. فيقول: الذي يستشهد النُّحويُّون بقوله. فيقال: إنّك لتعرِّف صاحبك بأمرٍ لا معرفة عندنا به، ما النّحويّون؟ وما الاستشهاد؟ وما هذا الهذيان؟ نحن خزنة النَّار، فبيِّن غرضك تُجب إليه. فيقول: أريد المعروف بمهلهلٍ التَّغلبيِّ، أخي كُليب وائلٍ الذي كان يضرب به المثل. فيقال: ها هو ذا يسمع حوارك، فقل ما تشاء. فيقول: يا عديَّ بن ربيعة، أعزز عليَّ بولوجك هذا المولج! لو لم آسف عليك إلا لأجل قصيدتك لكانت جديرةً أن تطيل الأسف عليك، وقد كنت إذا أنشدت أبياتك في ابنتك المزوَّجة في جنب تغرورق من الحزن عيناي، فأخبرني لِمَ سُمَّيت مهلهلاً؟ فقد قيل: إنّك سُمَّيت بذلك لأنَّك أوَّل من هلهل الشِّعر أيّ رقَّقه.
فيقول: إنَّ الكذب لكثيرٌ، وإنَّما كان لي أخٌ يقال له امرؤ القيس فأغار علينا زهير بن جنابٍ الكلبيُّ، فتبعه أخي في زرافةٍ من قومه، فيقول: الآن شفيت صدري بحقيقة اليقين. فأخبرني عن هذا البيت الذي يروى لك.
فيقول: طال الأبد على لبدٍ! لقد نسيت ما قلت في الدار الفانية، فما الذي أنكر منه؟ ويسأل عن المرقِّش الأكبر، فإذا هو به في أطباق العذاب، فيقول: خفَّف الله عنك أيُّها الشَّاب المغتصب، فلم أزل في الدار العاجلة حزيناً لما أصابك به الرّجل الغفُليُّ، أحد بني غفيلة ابن قاسطٍ، فعليه بهلة الله! وإنّ قوماً من أهل الإسلام كانوا يستزرون بقصيدتك الميميَّة وإنّها عندي لمن المفردات، وكان يعض الأدباء يرى أنَّها والميميَّة التي قالها المرقَّش الأصغر ناقصتان عن القصائد المُفضَّليَّات، ولقد وهم صاحب هذه المقالة.
فيقول: لقد قلت أشياء كثيرةً، منها ما نُقل إليكم ومنها ما لم يُنقل، وقد يجوز أن أكون قلت هذه الأبيات ولكني سرفتها لطول الأبد، ولعلَّك تنكر أنّها في هندٍ، وأنَّ صاحبتي أسماء، فلا تنفر من ذلك، فقد ينتقل المُشبِّب من الاسم إلى الاسم، ويكون في بعض عُمره مُستهتراً بشخصٍ من النّاس، ثمّ ينصرف إلى شخصٍ آخر،
وينعطف إلى المُرقِّش الأصغر فيسأله عن شأنه مع بنت المنذر وبنت عجلان فيجده غير خبيرٍ، قد نسي لترادف الأحقاب فيقول: ألا تذكر ما صنع بك جنابٌ
فيقول: وما صنع جناب؟ لقد لقيت الأقورين، وسقيت الأمرَّين، وكيف لي بعذاب الدَّار العاجلة!.
فإذا لم يجد عنده طائلاً تركه، وسأل عن الشَّنفرى الأزديِّ فألفاه قليل التِّشكِّي والتَّألّم لما هو فيه، فيقول: إنَّي لا أراك قلقاً مثل قلق أصحابك. فيقول: أجل، إنَّي قلت بيتاً في الدّار الخادعة فأنا أتأدَّب به حيريَّ الدهر،
وللصبر إن لم ينفع الشكو أجمل وإذا هو قرينٌ مع تأبَّط شرّاً، كما كان في الدَّار الغرَّارة.
فيقول، أسنى الله حظَّه من المغفرة، لتأبّط شرّاً: أحقُّ ما روي عنك من نكاح الغيلان؟ فيقول: لقد كنَّا في الجاهليَّة نتقوَّل ونتخرَّض، فما جاءك عنَّا ممّا ينكره المعقول فإنّه من الأكاذيب، والزَّمن كلَّه على سجيَّةٍ واحدةٍ، فالذي شاهده معدُّ بن عدنان كالذي شاهد نضاضة ولد آدم. فيقول، أجزل الله عطاءه من الغفران: نّقلت إلينا أبياتٌ تنُسب إليك. فلا يجيبه تأبَّط شراً بطائلٍ.
فإذا رأى قلة الفوائد لديهم، تركهم في الشَّقاء السّرمد، وعمد لمحلِّه في الجنان، فيلقى آدم، عليه السّلام، في الطّريق فيقول: يا أبانا، صلَّى الله عليك، قد روي لنا عنك شعرٌ
فيقول: إنَّ هذا القول حقُّ، وما نطقه إلاّ بعض الحكماء، ولكنِّي لم أسمع به حتى السّاعة.
فيقول: وفرّ الله قسمه في الثَّواب: فلعلَّك يا أبانا قُلته ثمَّ نسيت، فقد علمت أنَّ النِّسيان متسرّعٌ إليك، وحسبك شهيداً على ذلك الآية المتلوَّة في فرقان محمَّدٍ، صلّى الله عليه وسلم: " ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً " وقد زعم بعض العلماء أنّك إنّما سمِّيت إنساناً لنسيانك،
فيقول آدم، صلَّى الله عليه: أبيتم إلاَّ عقوقاً وأذيَّةً، إنّما كنت أتكلَّم بالعربيَّة وأنا في الجنَّة، فلمّا هبطت إلى الأرض نُقل لساني إلى السُّريانيَّة، فلم أنطق بغيرها إلى أن هلكت، فلمَّا ردَّني الله، سبحانه وتعالى، عادت عليَّ العربيَّة، فأيُّ حينٍ نظمت هذا الشعر: في العاجلة أم الآجلة؟ والذي قال ذلك يجب أن يكون قاله وهو في الدار الماكرة، ألا ترى قوله: منها خُلقنا وإليها نعود فكيف أقول هذا المقال ولساني سُريانيُّ؟ وأمَّا الجنّة قبل أن أخرج منها فلم أكن أدري بالموت فيها، وأنّه ممّا حُكم على العباد، صُيِّر كأطواق حمام، وما رعى لأحدٍ من ذمامٍ، وأمّا بعد رجوعي إليها، فلا معنى لقولي: وإليها نعود، لأنَّه كذبٌ لا محالة، ونحن معاشر أهل الجنَّة خالدن مخلَّدون.
فيقول، قُضي له بالسَّعد المؤرَّب: إن بعض أهل السَّير يزعم أنَّ هذا الشّعر وجده يعرب في متقدم الصُّحف بالسُّريانيَّة، فنقله إلى لسانه، فيقول آدم، صلّى الله عليه: أعزز عليَّ بكم معشر أبينيَّ! إنّكم في الضَّلالة متهوِّكون! آليت ما نطقت هذا النّظيم، ولا نطق في عصري، وإنَّما نظمه بعض الفارغين، فلا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله! كذبتم على خالقكم وربَّكم، ثمَّ على آدم أبيكم، ثمَّ على حوُّاء أمِّكم، وكذب بعضكم على بعض، ومآلكم في ذلك الأرض.
ثمّ يضرب سائراً في الفردوس فإذا هو بروضة مؤنقةٍ، وإذا هو بحيَّاتٍ يلعبن ويتماقلن، يتخاففن ويتثاقلن، فيقول: لا إله إلاّ الله! وما تصنع حيّةٌ في الجنّة؟ فينطقها الله، جلَّت عظمته، بعدما ألهمها المعرفة بهاجس الخلد فتقول، أما سمعت في عمرك بذات الصَّفاء، الوافية لصاحبٍ ما وفى؟ كانت تنزل بواد خصيب، ما زمنها في العيشة بقصيب، وكانت تصنع إليه الجميل في ورد الظاهرة والغب، وليس من كفر للمؤمن بسبٍّ فلمّا ثمَّر بودِّها ماله، وأمل أن يجتذب آماله، ذكر عندها ثاره، وأراد أن يفتقر آثاره، وأكبّ على فآسٍ معملةٍ، يحدُّ غرابها للآملة، ووقف للسّاعية على صخرةٍ، وهمَّ أن ينتقم منها أخرةٍ، وكان أخوه ممَّن قتلته، جاهرته في الحادثة أو قيل ختلته، فضربها ضربةً، وأهون بالمقر شربةً، إذا الرَّجل أحسَّ التَّلف، وفقد من الأنيس الخلف! فلمَّا وقيت ضربة فأسه، والحقد يمسك بأنفاسه، ندم على ما صنع أشدَّ النّدم، ومن له في الجدة بالعدم؟ فقال للحيّة مخادعاً، ولم يكن بما كتم صادعاً: هل لك أن نكون خلَّين، ونحفظ العهد إليَّن؟ ودعاها بالسفه إلى حلف، وقد سُقي من الغدر بخلف. فقالت: لا أفعل وإن طال الدَّهر، وكم قصم بالغير ظهرٌ! إنِّي أجدك فاجراً مسحوراً، لم تأل في خُلَّتك حوراً؛ تأبى لي صكَّةٌ فوق الرأس، مارستها أبأس مراسٍ، ويمنعك من أربك قبرٌ محفور، والأعمال الصّالحة لها وفور.وضربة فأسٍ فوق رأسي فاقره وتقول حيّةٌ أخرى: إنّي كنت أسكن في دار الحسن البصريِّ فيتلو القرآن ليلاً، فتلقَّيت منه الكتاب من أوَّله إلى آخره.
فيقول، لا زال الرُّشد قريناً لمحلِّه: فكيف سمعته يقرأ: فالق الإصباح؟ فتقول: لقد سمعته يقرأ هذه القراءة،
ويهكر، أزلفه الله مع الأبرار المتَّقين، لما سمع من تلك الحيَّة، فتقول هي: ألا تقيم عندنا برهةً من الدَّهر؟ فإنِّي إذا شئت انتفضت من إهابي فصرت مثل أحسن غواني الجنَّة، لو ترشَّفت رضابي لعلمت أنّه أفضل من الدِّرياقة
ولو تنفَّست في وجهك لأعلمتك أنَّ صاحبة عنترة تفلةٌ صدوفٌ. فيذعر منها، جعل الله أمنه متَّصلاً، والطّالب شأوه من تقصير منتصلاً، ويذهب مهرولاً في الجنَّة ويقول في نفسه: كيف يركن إلى حيَّةٍ شرفها السُّمُّ، ولها بالفتكة همّ؟ فتناديه: هلُمَّ إن شئت اللَّذَّة، فإنَّي لأفضل من حيَّة ابنة مالكٍ
فيقول وهو يسمع خطابها الرَّائق: لقد ضيّق الله عليَّ مراشف الحور الحسان، إن رضيت بترشُّف هذه الحيَّة.
فإذا ضرب في غيطان الجنَّة، لقيته الجارية التي خرجت من تلك الثَّمرة فتقول: إنِّي لأنتظرك منذ حينٍ فما الذي شجنك عن المزار؟ ما طالت الإقامة معك، فأملَّ بالمحاورة مسمعك، قد كان يحقُّ لي أن أوثر لديك على حسب ما تنفرد به العروس، يخصُّها الرّجل بشيءٍ دون الأزواج. فيقول: كانت في نفسي مآرب من مخاطبة أهل النّار، فلمّا قضيت من ذلك وطراً عدت إليك، فاتبعيني بين كثب العنبر وأنقاء المسك. فيتخلّل بها أهاضيب الفردوس ورمال الجنان؛ فتقول: أيّها العبد المرحوم، أظنُّك تحتذي بي فعال الكنديّ فيقول: العجب لقدرة الله! لقد أصبت ما خطر في السُّويداء، فمن أين لك علمٌ بالكنديّ وإنَّما نشأت في ثمرةٍ تبعدك من جنٍّ وأنيس؟ فيقول: إنَّ الله على كلِّ شيءٍ قديرٌ. ويعرض له حديث امرىء القيس في داره جلجلٍ، فينشئ الله، جلّت عظمته، حوراً عيناً يتماقلن في نهرٍ من أنهار الجنَّة، وفيهنَّ من تفضلهنّ كصاحبة امرئ القيس، فيترامين بالثَّرمد، وإنّما هو كأجلِّ طيب الجنَّة، ويعقر لهنَّ الرَّاحلة، فيأكل ويأكلن من بضيعها ما ليس تقع الصِّفة عليه من إمتاعٍ ولذاذةٍ.
ويمرُّ بأبياتٍ ليس لها سموق أبيات الجنّة، فيسأل عنها فيقال: هذه جنِّة الرُّجز، يكون فيها: أغلب بني عجلٍ والعجَّاج ورؤبة وأبو النّجم وحميدٌ الأرقط وعذافر بن أوسٍ وأبو نخيلة وكلُّ من غفر له من الرُّجاز، فيقول: تبارك العزيز الوَّهاب! لقد صدق الحديث المرويُّ إنَّ الله يحبُّ معالي الأمور ويكره سفسافها؛ وإنَّ الرّجز لمن سفساف القريض، قصّرتم أيّها النَّفر فقصر بكم.
ويعرض له رؤبة فيقول: يا أبا الجحّاف، ما أكلفك بقوافٍ ليست بالمعجبة فيغضب رؤبة ويقول: ألي تقول هذا وعنِّي أخذ الخليل، وكذلك أبو عمرو بن العلاء، غبرت في الدّار السّالفة تفتخر بالَّلفظة تقع إليك ممّا نقله أولئك عنِّي وعن أشباهي؟ فإذا رأى، لا زال خصمه مغلَّباً، ما في رؤبة من الانتخاء قال: لو سبك رجزك ورجزاً أبيك، لم تخرج منه قصيدةٌ مستحسنةٌ، ولقد بلغني أنَّ أبا مسلم كلَّمك بكلامٍ فيه ابن ثأداء، فلم تعرفها حتى سألت عنها بالحيِّ، ولقد كنت تأخذ جوائز الملوك بغير استحقاق، وإنّ غيرك أولى بالأعطية والصِّلات.
فيقول رؤبة: أليس رئيسكم في القديم، والذي ضهلت إليه المقاييس، كان يستشهد بقولي ويجعلني له كالأمام؟ فيقول، وهو بالقول منطقٌ: لا فخر لك أن استشهد بكلامك، فقد وجدناهم يستشهدون بكلام أمةٍ وكعاء يحمل القطل إلى النّار الموقدة في السَّبرة التي نفض عليها الشَّبم ريشه، وهدم وأجلُّ أيامها أن تجني عساقل ومغروداً، وتتلو نعماً مطروداً، وإنَّ بعلها في المهنة لسَّيء العذير، غلظ عن الفطن والتَّحذير، وكم روى النُّحاة عن طفلٍ، ماله في الأدب من كفلٍ، وعن امرأةٍ، لم تعدّ يوماً الدّرأة.
فيقول رؤبة: أجئت لخصامنا في هذا المنزل؟ فامض لطيّتك، فقد أخذت بكلامنا ما شاء الله. فيقول، أسكت الله مجادلة: أقسمت ما يصلح كلامكم للثنّاء، ولا يفضل عن الهناء، تصكُّون مسامع الممتدح بالجندل، وإنَّما يطرب إلى المندل ومتى خرجتم عن صفة جملٍ، ترثون له من طول العمر، إلى صفة فرسٍ سابحٍ، أو كلبٍ للقنص نابح، فإنًّكم غير الرّاشدين فيقول رؤبة: إنّ الله سبحانه وتعالى قال: " يتنازعون فيها كأساً لا لغوٌ فيها ولا تأثيم، وإن كلامك لمن اللغو، ما أنت إلى النصفة بذي صغو. فإذا طالت المخاطبة بينه وبين رؤبة، سمع العجّاج فجاء يسأل المحاجزة. ويذكر، أذكره الله بالصّالحات، ما كان يلحق أخا النِّدام، من فتور في الجسد من المدام، فيختار أن يعرض له ذلك من غير أن ينزف له لبُّ، ولا يتغير عليه خبَّ فإذا هو يخال في العظام النّاعمة دبيب نملٍ، أسرى في المقمرة على رملٍ، ويتكئ على مفرشٍ من السُّندس، ويأمر الحور العين أن يحملن ذلك المفرش فيضعنه على سريرٍ من سرر أهل الجنَّة، وإنَّما هو زبرجدٌ أو عسجدٌ، ويكوِّن البارئ فيه حلقاً من الذَّهب تطيف به من كلِّ الأشرار حتى يأخذ كلُّ واحدٍ م الغلمان، وكلُّ واحدةٍ من الجواري المشبَّهة بالجمان، واحدةً من تلك الحلق، فيُحل على تلك الحال إلى محلِّه المُشيَّد بدار الخلود، فكلَّما مرَّ بشجرةٍ نضخته أغصانها بماء الورد قد خلط بماء الكافور، وبمسكٍ ما جني من دماء الفور، بل هو بتقدير الله الكريم.
وتناديه الثَّمرات من كلِّ أوبٍ هو مستلقٍ على الظَّهر: هل لك يا أبا الحسن، هل لك؟ فإذا أراد عنقوداً من العنب أو غيره انقضب من الشَّجرة بمشيئة الله، وحملته القدرة إلى فيه، وأهل الجنَّة يلقونه بأصناف التَّحيَّة وآخر دعواهم أن الحمد لله ربِّ العالمين" لا يزال كذلك أبداً سرمداً، ناعماً في الوقت المتطاول منعمَّاً، لا تجد الغير فيه مزعماً.



#كمال_التاغوتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بوَّابَةُ الغِيَابِ
- مَنْجَمِيٌّ
- لا تَكنْ جوازَ عُـــبُور
- طَلَلٌ
- حِصْنُ العَاشِقِ الحَصِينُ (الحِرْزُ الثَّانِي)
- حِصْنُ العَاشِقِ الحَصِينُ
- حَنِين
- فِي الشِّعَابِ
- مِعراجُ العُشَّاقِ
- أجْنِحَةُ السَّمَرِ
- الزّهراء - الزّاهرة
- كَالِسْتُو
- إبْرِيقُ الشّاي
- طاحونة الهواء
- بِمَ يَحْلُمُ الورْدُ؟ (استرسال3)
- بِمَ يَحْلُمُ الوَرْدُ؟ (استرسال)
- بِمَ يَحْلُمُ الورْدُ؟
- مقام العشق
- وجْهُ الشّنْفَرَى
- أورفيوس


المزيد.....




- بدور القاسمي توقع اتفاقية لدعم المرأة في قطاع النشر وريادة ا ...
- الممثل الفرنسي دوبارديو رهن التحقيق في مقر الشرطة القضائية ب ...
- تابع مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 22 .. الحلقة الثانية وا ...
- بمشاركة 515 دار نشر.. انطلاق معرض الدوحة الدولي للكتاب في 9 ...
- دموع -بقيع مصر- ومدينة الموتى التاريخية.. ماذا بقى من قرافة ...
- اختيار اللبنانية نادين لبكي ضمن لجنة تحكيم مهرجان كان السينم ...
- -المتحدون- لزندايا يحقق 15 مليون دولار في الأيام الأولى لعرض ...
- الآن.. رفع جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2024 الشعبتين الأ ...
- الإعلان الثاني.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 158 على قناة الفجر ...
- التضييق على الفنانين والمثقفين الفلسطينيين.. تفاصيل زيادة قم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كمال التاغوتي - رسالة الغفران (منقّحة)