|
الغذامي وفخاخ الدراسات الثقافية الغربية والفلسفية، مشروع التناص أو التلاص .
واثق الحسناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8365 - 2025 / 6 / 6 - 16:32
المحور:
قضايا ثقافية
يؤسفنا شديد الاسف ، ان الدكتور الناقد عبد الله الغذامي، اعتكز في نقوده الثقافية على اسلوب الشطحات الاشهارية، الذي سبقه اليه الكثيرون مِمَن وقعوا في فخاخ الاشهار الاعلامي المؤدلج، والانبهار والاندهاش المستغرب، والاجترار والتكرار المستعرب ضمن مبدأ ( خالف تعرف) ، ومن شطحاته التي لا تُقبل في الدرس النقدي الاكاديمي العربي بخاصة، لمجانبتها الصواب، ومفارقتها العرف وخروجها عن المركز والنسق والمألوف، بدافع الشهوة النقدية او الشهرة العربية( قصب السبق) . وما نعته للمتنبي العظيم بـ" الشحاذ " الا نموذجا لتلك الشطحات والاوهام المغرقة في خالف تعرف، فهو وصفٌ قاس ومجانب للحقيقة، كونه تغافل عن سياق ونسق وعرف وبيئة، وطبيعة قصيدة المتنبي، وعلاقتها بالسلطة في حينها، وعن الطبائع والانساق المغذّية لشعر المتنبي، والتي لا يجوز محاسبته عليها، كونها عرفا تقليديا اولا، وكون المتنبي اختلف، بل اختار له مسلكا مدحيا لا يذل النفس، ولا يريق ماء الوجه، لذلك كثر حساده واعداؤه ومبغضيه، بخاصة ابو فراس الحمداني، وهو ابن عم سيف الدولة الحمداني، والذي اعاب على المتنبي بُخْلِه في مدح سيف الدولة، بخلاف كثير من الشعراء الذين مدحوه باقل ثمن، وهم صاغرون، فاسلوب مدح المتنبي مختلف تماما عن مدح غيره فهو لم يكن مدحا ماديا خالصا ابدا بل هو يرتقى الى فوق ذلك يندرج ضمن مدح المشتركين في السلطة والهم أي بين مرتبتين ومقامين متساويين. وان كان المدح سنّة لابدَّ منها في كل زمان ومكان، كونه يتعلق بالعلاقة ما بين السلطة المالكة لزمام الامور والحياة والعيش والمصير والحال والاحوال، وبين حالة الفقر والعوزر لدى الشعراء او القيمة المعنوية والاعتبارية، وعلى الرغم من ذلك نجد المتنبي هو الشاعر الوحيد الذي يقرأ شعره مجالسا الملوك والقادة، ومنافسهم في كثير من الامور والاحوال بخاصة في مجلسه وملبسه ومأكله ومشربه، بل تغلّب عليهم في عفته وانفته، وشجاعته، وفروسيته، مشترطا عليهم ان يقول الشعر جالسا، وان لا يقول الا ما فيهم، وان لا يأتمر بإمرتهم في مدحياته .. هذا ما دار من حوار بينه وبين سيف الدولة، وان اشتهرت بعض قصائده بالمدح ، فهو كان يرى في نفسه صورة الخليفة العربي او ما يمثل رمز السلطة العربية، فتقربه ومدحه لم يكن للشخص بقدر ما هو لمن يمثل السلطة العربية او الاسلامية خير تمثيل، فهو لايمدح الا من يراه ممثلا حقيقا للسلطة العربية -وان غفل كثير من النقاد ذلك – فقصيدته المدحية لها ظروفها وسياقاتها الخاصة، التي اضطرته اليها، كونها بعض الضرورات الحتمية كالحروب مثلا او كالرمزية العربية والاسلامية، كما يرى بعض الفلاسفة ( اضطرارا على مضض) حين كانت بدايته الشعرية، لغرض المعيشة كونه من عائلة فقيرة اما في السنين التسع التي قضاها برفقة سيف الدولة، فكانت مدحياته تنم عن شعور عربي قومي تجاه السلطة المركزية الام ضد الروم، فكان يرافق سيف الدولة في حروبه ضد الروم شعورا منه بالحس القومي العربي، فاكرام سيف الدولة عليه لم يكن استعطافا او اذلالا او لأنه متكسب او شحاذة كما يصور لنا الغذامي، وهو الذي يقول : ( سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا، بانني خير من تسعى به قدم)، فهل يوجد اشجع واقوى وانصح من هذا القول، وفي حضرة السلطة، التي غصّت بالمتملقين والمتزلفين من المدّاحين والمتلوقين والمنافقين للسطلة ؟! بل هو جزء من رد الجميل، والاعتراف به من باب الصداقة والاخوة والتعاون المشترك، بدليل ان سيف الدولة يعطي المتنبي اضعاف ما يعطيه للشعراء الاخرين، ويقيم له وزنا واعتبارا معنويا اكثر من غيره، حتى اكثر من ابن عمه ابي فراس الحمداني، على الرغم من قربه منه سياسيا وعسكريا وادبيا، وصلة الرحم و القرابة بينهما، وهو ايضا شاعر وفارس شجاع ، لكنه لم ينل من حظوة وسطوة وقيمة ورتبة مثلما نالها المتنبي عند سيف الدولة، حسب قول ابي فراس على الرغم من انه لا يقول فيه الا قصيدة او قصيدتين في السنة، وهذا يعني ان المتنبي كبير وعزيز النفس عالي الهمة، وفارس شجاع، ليس كما صوّره الغذامي ب(الشحاذ) المتسول الضعيف النفس والعزيمة والمنافق، وجل اهتمامه وهمّه هو التكسب والشحذ، وهذه صفات تناقض ما قرأناه عن المتنبي، وما قيل فيه من صفاة الشجاعة والنبل والمروءة والسخاء والايثار والانفة والعزة والعلو والشموخ والسمو الا عند الغذامي للاسف..!! ،وذا كنا نأخذ ما اخذه الغذامي على المتنبي، هذا يعني اننا نصف معظم -ان لم يكن كل- الموظفين في وزارات الثقافة والاعلام وغيرها من مؤسسات الدولة اليوم،المداحين لمسؤوليهم بالشحاذين ايضا، كونهم يحصلون بعض الاموال او الهدايا والهبات جراء ما يقدمونه من قصائد او اشعار او فنون اخرى ، تمدح السلطة او تدعمها بدافع وطني او شخصي ايديولوجي، ففرق بين انك تمدح احدا بما فيه او على مضض او مضطر، وبين انك تمدح احدا تزلفا، وتملقا، وتكسبا، ونفاقا، وشحاذة كما يرى الغذامي ، ولست مضطرا كما حدث في مجلس سيف الدولة ممن مدحوه يوميا، تكسبا مذلا، فالمتنبي توعد وتهدد سيف الدولة ومداحيه، ومجالسيه في عقر دارهم ،بقوله :( اذا رأيت نيوب الليث بارزة، فلا تظنن ان الليث يبتسم)،وقوله :( سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا، بانني خير من تسعى به قدم)، فهل مثل هكذا مواقف شجاعة وبطولية وانفة وعفة واباء، وتوعد وتهديد، تنتظر التكسب المُذل او الشحاذة كما يدّعي الغذامي فلماذا لم يستهدف الحُطئية وحادثته المشهورة مع عمر بن الخطاب، حين القى به في السجن لهجائه الناس من اجل التكسب، وهو مشهور بذلك وصار نسقا في الهجاء من اجل التكسب، حين ترجاه للعفو عنه: ماذا تقول لافراخٍ بذ مرخٍ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر القيت كاسبهم في قعر مظلمة فاغفر عليك سلام الله ياعمر ، فلو اراد المتنبي التكسب والشحذ -كما يرى الغذامي- لما سمعنا العالم كلّه اليوم ينشد شعره، ويتغنى به ،ولم نره علامة فارقة في الادب والشعر العربي، بخاصة الحكمي والقيمي ولما ذكرناه ربّما ولم يقلّده ( في همة النفس وعزتها والانفة والحكمة ..) كثير ان لم يكن كل شعراء العصر الحديث والمعاصر المتأثرين به ؟؟! فشعره المدحي له خصائصه، انه لا يمدح الا لمَن فيه من الخلفاء او مايراه مناسبا له في وقته ومناسبته وموجباته ربما تماشيا مع التراث الاسلامي بخاصة مواقف الرسول الاعظم(ص) من الشعر، بخاصة المدح والنسيب والغزل الماجن منه، ولما يرى خلاف ذلك يعود ليهجوه، حتى مدحياته لم تكن بأسلوب ساذج وضعيف وخالية من روحية الصدق، ويطغى عليها الطابع التكسبي والمادي، والضعف وعدم الانسجام او التذلل او القبح كما قرأنا لكثير من الشعراء المدّاحين للسطلات، كما وصفهم ابو فراس لسيف الدولة، بل كانت قوية كقوة نفسه، وعزيمته، وطموحه فهو يرى نفسه جزء من السلطة العربية والاسلامية وما مدحياته للملوك والخلفاء والحكام والقادة الا من جانب الدفاع عن رمز لسلطة العربية والاسلامية- ان لم يمثلها هو فعلا في قرارة نفسه، كما ان ما يناله من السلطة من عطايا قبالة ما يقدمه وبحجم مقامه الذي يراه مقابلا لمقام السلطة كأي قائد عسكري، بخاصة انه يلهب مشاعر المقاتلين في المعارك، ويرافقهم مع سيف الدولة فالشاعر في المعارك لا يقل شأنا من دور الخطيب في المعارك، فكانت العطايا التي تُمنح له على قدر مقامه، وقدره واعترافا وعرفانا بما قدّمه للسطلة، انطلاقا من حسه القومي العروبي، ووقار نفسه، وانفة العربي من التكسب في الشعر وغيره من الصِنَع او الحِرف، بخلاف ما ذهب اليه الغذامي . بدليل ان معظم -ان لم يكن- كل شِعر المتنبي، هو شعر حِكمي قيمي اجتماعي تعليمي اخلاقي فيه انفة وعزة نفس، وكرم وايثار، وفخر وشموخ، لا يمكن ان يقابل بكلمة (شحاذ) ابدا ، لأعتداده بنفسه السلطة العربية والاسلامية التي يرى فيها رمزا من رموزها ما دفعه للتقرب من السلطات ليس بدافع التكسب والشحاذة بل بدافع الحس القومي العروبي ، وهذه الصفات لم تتوفر في شاعر عربي او غير عربي –حسب علمنا- من شجاعة وكرم وانفة، وحلم وحكم ومجالسة للسلطة وانتقادها في عقر دارها دون خوف او وجل او خشية حرمان من مال او مرتبة او مقام او حظوة، كما انها لا تتوافق مع سلوك الشحاذين، فسلوك المتنبي سلوك العربي الاشم الفارس الشجاع الابي الكريم ..وسلوك الشحاذين سلوك سلبي سيئ مبتذل قبيح دنيء، كما وصفهم الجاحظ في كتابه (البخلاء)، فهل ينطبق ذلك على شاعرنا الكبير المتنبي كما يرى الغذامي ؟! وهكذا نجد الغذامي قد تجاوز نقديا وعرفيا وعلميا واخلاقيا ومنطقيا على المتنبي، وكأنه لم يقرأ قول ابي فراس الحمداني لسيف الدولة حين هجاه مع مُجالسيه وفي مجلسه، اذ قال ابو فراس :( تعطيه عشرين الف درهم على القصيدة، ولا يقول لك الا قصيدة او تعطيه الفين درهم على القصيدة، ولا يقول لك الا قصيدة واحدة في كل سنة، وانا آتيك بعشرين شاعرا، يقولون فيك عشرين قصيدة خير مما يقول هذا الدعي، ويكفيهم ما تعطيهم مئة او الف درهم خير مما تعطيه للمتنبي ) فعزة نفس المتنبي وانفته خلقت له حسادا وخصوما كُثر، لكن ذلك لا يجبره على التكسب والمتاجرة والشحاذة في المدح -كما يرى الغذامي- بل ان في ذلك تعارضا منطقيا واخلاقيا كبيرا، اذ ان من المعروف عن المتنبي عزة النفس والانفة والعلو والسمو والكبر فضلا عن نسبه الاصيل، وهذه الصفات نفسيا واجتماعيا، لا تنسجم مع الشحاذة التي تتطلب اراقة ماء الوجه، والتزلف، والتملق، والتي لم نسمع او نقرا بوجودها عنده . والغريب ان الغذامي لم يستهدف شعراء اخرين تكسبوا وشحذوا وعاصروا المتنبي، عرفوا بالتكسب والتسول المهين والمذل؟! .. بخلاف ما عرف عن مدحيات المتنبي التي انمازت بعلو وهمّة النفس وانفتها، اذا لماذا المتنبي ؟!! نرى ان الغذامي يبحث عن ضربة اعلامية اشهارية شطحية، تستهدف مراكز الثقافة العربية، لتحرك الماء الساكن في النقد العربي، ولا ضير في ذلك ان كانت هذه غايته حقا. وان كانت مغالِطة فالمهم عنده ان تأخذ مداها في الاعلام الاشهاري، وتحدث لغطا واشكالا او التباسا او تعارضا جماهيرا، وهي غاية المرسِل، وقد تحققت فعلا . ولكن نحن نرى انه لا يجوز ان يُسخَّر النقد لأغراض شخصية ،على حساب الاصالة، والرصانة، والقيم الجمالية والثقافية والاخلاقية، والعرفية الادبية والاجتماعية. فان كان المتنبي قد خلق لنا نسقا ثقافيا تراثيا، تغنت به الاجيال تلو الاجيال، يراه الغذامي فحوليا او مركزيا مغالطا، فهذا فخر لنا أن تربى اجيالنا على مثل هكذا اشعار قيمية حكمية تربوية تعليمية اخلاقية، بدليل انها ملئت الكتب والمكتبات والمدارس والجامعات في كل انحاء العالم ولم تشبع او تستطع ان تهضم او تحفظ ما كتبه المتنبي ، كما يرى الاستاذ الدكتور علي جواد (( مرت الف سنة، ولم نستطع ان نكون عند حصان المتنبي، وليس المتنبي)، لذلك نحن نعذر الدكتور الغذامي، لما ذهب اليه من تجديد نقدي مجتر غربي ( الدراسات الثقافية الغربية البريطانية، وتحديدا الفصل الدراسي الخاص بالثقافة الشعبية في الجامعة المفتوحة في بريطانيا)،التي ترى ان العمل ما بين الدراسات النقدية والدراسات الثقافية، يجب ان يكون او يبنى على اساس التدخل الحاد او التخلخل البنيوي ،عبر المساءلة والتشكيك، والتشريح والهدم، والتقويض، واعادة البناء بعيدا عن الوصف الادبي الجمالي او البلاغي ، فمنظرو الدراسات الثقافية،( يستنتجون ان الدراسات الثقافية، تعتقد ان عملها الفكري الخاص، مفترض انه يمكن ان يصنع اختلاف، )، ولكن لا ننكر ان بدايات الدراسات الثقافية في اوربا وبريطانيا تحديدا كانت( بدافع سياسي خفي، فدراسة ثقافة الطبقة العاملة في بريطانيا في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، انطوت على مهمة سياسية من حيث الكيان القومي الثقافي، بخلاف الدراسات الثقافية في امريكا، التي كان فيها الكيان القومي متضادا مع الثقافة الرفيعة) . ولذلك هناك من يرى ( ان التعارض بين الدراسات الثقافية الفعّالة، والدراسات الادبية السلبية، قد يكون تفكيرا رغبيا). والغذامي انطلق من رؤية بعض النقاد الغربيين التي تقول: ( ان الجدالات حول العلاقة بين الادب والدراسات الثقافية، متخمة بالتذمرات من جهة النخبوية، والاتهامات بان دراسة الثقافة الشعبية سوف تجلب الموت للأدب) ومن هنا ادّعى الغذامي ( موت النقد الادبي)، منطلقا في الوقت نفسه من هذه الرؤية في تحديد القيمة كمعيار لنقده المزعوم، الذي طبّقه على المتنبي، اذ نظر الى مدحيات المتنبي من حيث القيمة الاعتبارية والمعنوية والمركزية الثقافية، بعيدا او بمعزل عن القيم الاجتماعية والادبية الجمالية والشعرية والبلاغية. فهو يحاسب المتنبي، ثقافيا عبر القيم الاجتماعية المتعارضة مع القيم الشعرية والجمالية في نظره، ولا يخفى ان ما قام به الغذامي من استهداف قيمي للمتنبي (وهو ليس فيه ) تأثراً بما قام به النقاد الغربيون من استهداف لقيم الادباء الغربيين الكبار الذين كانوا يمثلون مراكزا ثقافية وادبية في الاداب الغربية، بخاصة شكسبير واليوت ووردزوث من حيث الممارسات الفكرية والثقافية، واثرها اجتماعيا ونفسيا وفنيا على المتلقي . فالغذامي لم يأت بشيء من عندياته، بل هو جامع لقوالب جاهزة ،ومطبّقة مسبقا ومتناثرة في متون الكتب والنظريات التي درسها، فأسقطها على النص التراثي العربي، فجُل الدراسات الثقافية تصبُ في كشف القيم المخبوءة في الخطابات او النصوص المركزية والكشف عن انساقها المضمرة عبر اليات معينة، كونها خطابات مهمشة ومقيدة ومبطنة ومحجبة ومقنعة تحتاج الى الكشف، وهو ما تبناه كثير من الفلاسفة والنقاد الغربيين، كل بحسب طريقته ومنهجه وفهمه واختياره، ولكن بدقة متناهية في التركيز والتنظير والتقعيد، بخلاف ما فعل الغذامي، الذي قدّم لنا مشروعا متناثرا مهلهلا مشتتا مقتضبا هجينا متناصا متلاصا . ان اعتراضنا على ما قدّمه الغذامي –مشكورا- لم يكن من جانب التحامل عليه اطلاقا، بل على ماقدّمه من حِراك نقدي عربي معاصر، لم يختمر او يكتمل بعد فهو يجمع ما بين الادب والثقافة والفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ والايديولوجيا والبلاغة ومعظم النظريات النقدية الحديثة كالبنيوية والتفكيكية والتأويلية والسيمولوجية والتارخانية، كونه متداخلا مع كثير من العلوم والمناهج و النظريات النقدية والفلسفية والاجتماعية والنفسية.. ومتعارضا مع غيرها، فلا نستطيع الامساك بتلابيبه ورسم معالمه، والاطمئنان اليه. بخاصة ان الدراسات الثقافية شملت عددا كبيرا من خطابات ما بعد الحداثة المكتظّة بالانساق الثقافية . فالانساقُ جزء من الخطابات الثقافية التي تبنى عليها، وتحتاج الى تأويلات موضوعية، تصدر احكاما منطقية وعلمية، بوصفها بنيات معقدة ومتشابكة اشبه بحقول الغام، كونها اعراضا للجماعات الاجتماعية، ف ( التحليلُ التشخيصي المرتبط في الدراسات الثقافية وانساقها، عبر القراءة الفاحصة والدقيقة والكلية للخطابات الادبية المركزية وغيرها ،يتضمن تقييما استنطاقيا لها عير اليات محددة واضحة ). ولكن لا نعذره حينما يُقحم مشروعا او اكراهات لم تثبت بعد، ولم تقرّ ولم تكن واضحة ، فضلا عن كونها قطعا متناثرة غير متناسقة أو منسجمة مع بعضها البعض، بدليل انها تستمد وتستوحي آلياتها واشتراطاتها من نظريات نقدية مثل( التفكيكية، والبنيوية، والافعال الكلامية، والبلاغية، والسميولوجية، والتأرخانية والتأويلية، والحجاجية، والكولنيالية، والنسوية ..فالغذامي هضم النظريات النقدية ودرسها في عقر دارها( لندن) ، واخذ ما اخذ، واهمل ما اهمل، ليخرج علينا بباقة اكراهات (تجميع)، يرى فيها ما يوجب لان تكون نظرية، تأثرا بالنظريات الغربية، متغافلا عن سياقات ومرجعيات وثقافات كل مجتمع وبيئته الخاصة، وهو ما وقع فيه كثير من النقاد والفلاسفة العرب المعاصرون ، ولكن لا يمكن ان نتقبّل هكذا وجهات نظر من الدكتور الغذامي، مشوبة باللبس والاغلاط والشبهات، والتعارضات، والاحكام الواهية والقاسية، متأثرا بتفكيكية دريدا وايدولوجية ماركس، وبنيوية بارت، وافعال اوستين.. محاولا التعشيق ما بين النظرية البنيوية والافعال الكلامية في نسقه اللغوي. والنظرية البلاغية البيانية في التراثية( استعارة وكناية وتشبيه ومجاز ..)في نسقه البلاغي والادبي. والدراسات النقدية الحديثة لـ( خطابات ما بعد الحداثة) في نسقه الثقافي، معتمدا في حفرياته العشوائية على منهجية تفكيكة دريدا،( والجدلات النظرية حول المعنى والكيان، والتمثيل، والفعل، والتأثير)، مقارنا في العلاقة بين الدراسات الادبية والدراسات الثقافية من ملتون الى مادونا ، وعلى البنيوية الفرنسية، التي نشأت في ستينيات القرن الماضي ، والتي عالجت، الثقافة بوصفها (سلسلة من الممارسات لديها قواعد وتقاليد، ومواضعات، ينبغي ان يتم وصفها) ، بخاصة تحليل الممارسة الثقافية عند بارت ( التقاليد الكامنة / الثاوية، وتضميناتها الاجتماعية)، والنظرية الادبية الماركسية في بريطانيا، التي درس فيها وتأثر في آدابها ،بخاصة عمل (ريموند وليمز في كتابه ( الثقافة والمجتمع) عام 1958 ، وجوناثان كلر في مدخل نظريته الادبية ونورثرب فراي في تشريحيته النقدية ، وعمل (ريتشارد هوجارد ) مؤسس مركز بيرنجهام للدراسات الثقافية المعاصرة في " استخدامات الكتابة عام 1957 ،بحثا عن استعادة واكتشاف الثقافات الشعبية او ثقافة الطبقة العاملة ،التي لم يكن ينظر ليها بوصفها ثقافة متساوية مع الادب الرفيع، (هذا المشروع لاستعادة الاصوات المفقودة ولدراسة التاريخ من اسفل ،واجه تنظيرا اخر للثقافة اتى من النظرية الماركسية الاوربية، الذي حلل الثقافة العامة، بوصفها متعارضة مع الثقافة الشعبية، بوصفها تشكّلا ايديولوجيا جائرا ،لان معانيها موظفة لكي تضع القرّاء او المشاهدين موضع المستهلكين، وتسوغ او تبرر مجريات سلطة الدولة) ،ان التفاعل بين هذين التحليلين للثقافة ( الثقافة بوصفها تعبيرا عن الشعب ، والثقافة بوصفها فرضا على الشعب ) كما يرى التوسير ( انك تكون مخاطبا- عن طريق الاعلانات)، ،كان مهما لتطور الدراسات الثقافية في بريطانيا اولا وبعد ذلك في كل مكان .لذلك تساءلت الدراسات الثقافية عن( ايِّ مدى نكون متأثرين بالأشكال الثقافية، التي خلقت لنا انساقا ثقافية .وعن ايِّ مدى او بايّة الطرائق نكون قادرين على استخدامها لأغراض اخرى، ونمارس الفعل او التأثير ) .وتكمن الدراسات الثقافية في (( التوتر بين رغبة المحلل لتحليل الثقافة بوصفها مجموع الشفرات والممارسات، التي تصرف الناس عن اهتماماتهم، وتخلق الرغبات التي يتمنونها، ومن جانب اخر امنية المحلل في ان يجد في الثقافة الشعبية تعبيرا موثوقا به للقيمة) .وهو ما فعله الغذامي في اعتراضه على المتنبي من الناحية القيمية، وليس الجمالية والادبية، كونه لا يجاريه احد فيها .ومن هنا كان التخوف من الدراسات الثقافية، بسب احكامها التي قد تكون غير منطقية او قاسية او مبنية على لبس ووهم او اقحام .ولذلك وصفت العلاقة بين الدراسات الادبية، والدراسات الثقافية بالمشكلة المعقدة، كونها بعيدة عن الدراسات الادبية . اذ ان ( الدراسات الادبية المدركة بطريقة تقليدية من حيث كانت المهمة تأويل الاعمال الادبية، بوصفها انجازات لكتابها. وكان المسوغ او التبرير الرئيسي لدراسة الادب، هو القيمة الخاصة للأعمال العظيمة: تعقيدها وجمالها وتبصرها او ادراكها، وشموليتها، وفوائدها الممكنة لقراء).وهذا لا يعني اننا لا نحتاج الى الدراسات الثقافية الى جانب الدراسات الادبية ، ولكن يجب ان تكون بشرطها وشروطها ضمن اطار تنظيري منطقي موضوعي واضح . ولم تكن كما قيل عن التداولية (سلّة مهملات اللغة) فنقول عنها : ( سلّة مهملات الدراسات الثقافية، والنظريات النقدية) .كما اننا لا يمكن ان نتغافل مسألة ان الادب هو ظاهرة او ممارسة ثقافية اصلا، اذ تبنى على مجموعة من الانساق الثقافية .لذلك جاءت الدراسات الثقافية لفحص الادوار الثقافية ( الانساق) التي كان الادب منشغلا بها .كما ان الانساق الثقافية، التي تحدّث عنها الغذامي والمستمدة والمستوحاة من الدراسات الثقافية البريطانية ، هي موجودة في التراث العربي بكثرة، وان لم يتنبه لها الغذامي للاسف، بخاصة عند الفقهاء والفلاسفة العرب والمسلمين وفي الدرس البلاغي الذي يغص بها، بخاصة في ( الكناية والتشبيه والاستعارة مثلا).و كما جاء في كتاب البيان والتبيين للجاحظ، وغير ذلك من شروح الدواوين او ادب الرحلات او السير الشخصية للشعراء بشكل خاص، والادباء بشكل عام ،فجميع ما ذكر وان كان يصب في الدراسات الثقافية المعنية بالاعراق والانساب والصفات والسلوكيات والميول والطباع (الدراسات الانثروبلوجية والابستمولوجية) ، فهي في الوقت نفسه تطلعنا على الثقافات المهمشة والمقصية وتكشف لنا النسق المركزي ( السلطوي)، والنسق اللامركزي( المهمش). لذلك وصف احد النقاد والفلاسفة العلاقة بين الدراسات الثقافية، والدراسات الادبية بقوله: (يمكن أن يتم جمع المناقشات التي تدور حول العلاقة بين الدراسات الادبية، والثقافية تحت موضوعين عرضين، اولهما : ما يطلق عليه " المعتمد الادبي"الاعمال المدروسة في المدارس والجامعات بطريقة منتظمة، والمعتقد، كونها تشكيلا لـ "موروثنا الادبي". وثانيهما هو : المناهج الملائمة لتحليل الموضوعات الثقافية).وهو ما انتهجه الغذامي، واخذ به في قراءاته للتراث العربي، قراءات ثقافية ونسقية عبر انساقه وجمله ومقولاته الثقافية، ولا يُخفى علينا ايضا محاولات الغذامي لتعضيد مشروعه هذا، وتطعيمه بالاعتكاز على التأثيرات، والتحليلات النفسية والاجتماعية، والفلسفية ( الهوية بكل انواعها وتمثلاتها وتجلياتها، والانا والاخر، والايدولوجية السلطوية ، التأرخانية الحفرية..) واثرها على المتلقين ونسج النسق الثقافي، وهذا ليس بغريب او جديد على الادب العربي اطلاقا. ولكن كل ما في الامر ان الغذامي استعجل في طرح مشروعه دون ان يختمر، ويكتمل بالشكل الصحيح، مستعيرا له بعض المصطلحات الغربية ليكون لباسا جديدا وان كان مرقعا، فمشروعه جاء نتيجة لقراءات واسعة ومعمقة، وتأثيرات غربية واضحة، وطموح نقدي جامح لخلق شيء من ايِّ شيء, ومن هنا وقع في فخاخ العمى النقدي، والهوس القرائي للعيار النقدي الطائش. فلو كان قرأ للمتنبي كما قرأ غيره ممن تعمقوا في دراسته، لما قال ما قال ووصف ما وصف به المتنبي .كما ان عطايا الملوك للشعراء كانت سنّة اشبه بما تقدمه وزارة الثقافة للأدباء والفنانين اليوم .وهي ظاهرة مستمرة الى يومنا هذا، بسبب حاجة الملوك للشعراء وحاجة الشعراء للملوك من مبدأ التخادم او التشارك في السلطة المجتمعية، ولا ننكر بعض المواقف السياسية والثقافية للغذامي، والتي صبّت في مصب بعض الامراء او بعض الجماعات السياسية او الدينية في مراحلها المختلفة من عمره على الرغم من تناقضها، لكنها تنم عن نسقه الثقافي الذي توجب عليه اعتناقها او رفضها ايديولوجيا ،حسب كل مرحلة وطبيعتها وظروفها الخاصة بها، والتي اعطته قيمة اعتبارية كأديب او ناقد عربي .اذا ان علاقة الادب بالسلطة علاقة تعاضدية نفعية ازلية، كما هي العلاقة ما بين السلطة والدين، وهو ما اثبتته الدراسات الفلسفية والادبية والثقافية الغربية،فهي علاقات قائمة الى يومنها هذا .
#واثق_الحسناوي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الغزو المهرجاني لثقافتنا العربية اللاوعية / د. واثق الحسناوي
...
-
النقد الثقافي واثرفي المجتمع المعاصر ، قراءة سوسيثقافية
-
الحراك النسوي العربي، والدعوة الى المساواة ، عيار طائش
-
الدكتور جميل حمداوي في كمّاشة النقد الادبي التفكيكي، تشريحٌ
...
-
العرب واليوم الموعود
-
انقراض الشعوب العربية بالتهجين واالتهجير القصري
-
الجوائز الادبية بين الخطاب الادبي والخطاب السلطوي.
-
اعلان فشل وعقم النظريات النقدية الحديثة والدعوة الى النقد ال
...
-
كذبة النظريات النقدية بضاعتنا ردت الينا
-
النسقُ الدّيني في رواية -متتالية حياة- للروائي المصري أحمد ط
...
-
تظشي الهوية اللغوادبية
-
خطابات الحداثة ومابعد الحداثة
-
اشكالية وشكلية النقاب
-
#لماذا_الشباب؟
-
حسين سعدون والمخاتلة الاسلوبية
-
رؤية نقدية في النص الشعري الادونيسي
-
#تصنيم_ايديولوجي
-
مثقف بلا ثقافة
-
#سوسيولوجيا_الاشهار_الطقسي
-
رسالة من تحت التبن.!
المزيد.....
-
ترامب مازحا عن إيلون ماسك: أمريكا تستطيع البقاء بدون أي شخص
...
-
واشنطن تفرض عقوبات جديدة تستهدف إيران وتشمل كيانات في الإمار
...
-
بضربة شاملة.. قصف روسي لمواقع بأوكرانيا
-
ماكرون ولولا دا سيلفا يحضران فعالية ثقافية في باريس
-
عروض نارية مبهرة تضيء سماء أبوظبي في أولى ليالي عيد الأضحى ا
...
-
أولمرت: إسرائيل مسؤولة عن تلبية حاجة سكان غزة
-
أمريكا.. تحويل الطائرة القطرية إلى -رئاسية- يثير انتقادات في
...
-
استمرار التصعيد بين موسكو وكييف... وروسيا تعلن قتل شخص كان ي
...
-
مقتل أربعة جنود إسرائيليين في غزة وسط نقص كبير في عديد الجيش
...
-
حريق هائل يلتهم صهاريج في أوكلاهوما الأمريكية
المزيد.....
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول
...
/ منذر خدام
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
/ مضر خليل عمر
-
العرب والعولمة( الفصل الرابع)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الثالث)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الأول)
/ منذر خدام
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|