واثق الحسناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8038 - 2024 / 7 / 14 - 00:40
المحور:
الادب والفن
ان ( الهرمنيوطيقية) ، التي اسس لها كل من : (شلايماخر، وكادمير، وهوسلر، وهايدغر، وريكور وغيرهم ، جاءت كاداة من ادوات الاشتغال النصي، فاحصة وكاشفة لحقيقة مقاصد المرسل، كردة فعل على نظريات سابقة، اقصت بعض ادوات الاشتغال، فقصر تحلليها وعقم تنظيرها؛ لذلك جاءت بنظرية موسّعة للمعنى تحت عنوان ( فهم الفهم او معنى المعنى) ، بتناولها في بادئ الامر للنصوص الدينية، التي تبنتها الثورة الاصلاحية للوثر، ثم انتقلت الى النصوص الادبية، التي تبناها"سوسير" بشكلها المبسط ثم دور "شلايماخر"، الذي وسّع من دائرة اشتغالها على النصوص الفلسفية، والادبية وغيرها، والتي تتكون من دائرة لغوية ودائرة نفسية .
ان الصوص الحديثة لا يمكن تأويلها والاحتفاء بهاء الا من خلال استقراء رموزها ومرجعياتها وانساقها الثقافية، التي تكمن في عمق مفرداتها ، فتفرض تأويلا خاصا على الناقد ولا يسمى حكما نقديا نهائيا ، اذ لكل انسان رؤى خاصة ينطلق منها، لتحقيق الدراسة، وفهم المعنى والقصدية في ضوء النصوص، وهذ الامر ينطبق على ادونيس واقرانه الاخرين.
لاشكّ ان الممارسة الهرمنيوطيقية في الدراسات النقدية الحديثة، وظيفتها الاهتمام بالمبدع، والنص، والمتلقي بعدما كانت المناهج التقليدية القديمة، توجّه كاشفها على النص والمبدع، فالتأويل يهدم حاجز الغموض بين النص ومتلقيه بتعدد التاويلات لتعدد الدلالات والقراءات. وبهذا وسّعت دائرة النقد الهرمنيوطيقي دائرة الكشف والفحص، بتوسعة ادواته واشتغالاته، وذلك بالتركيز على الجوانب الثقافية و اللغوية والنفسية، والمرجعية، والنسقية، والمعرفية، والاعتقادية، التي من خلالها يمكن الدخول الى نفس و عقل المرسل، ومعرفة مقاصده او تأويلها على وفق ما نستحصله من دلالات عصية علينا بعد فك شفراتها ومعرفة مرجعياتها، ما يفضي الى فهم النص خلال ذا ومرجعيات منتجه، وصولا الى تأويل القارئ الفاحص الأبستمولوجي .وهذه مغاير لخاصية الفهم عند "غادامير" الذي يرى ضرورة فهم النص بتجرده من المؤلف، وتأويل النص بأسلوب الحوار الاستجوابي الاستفهامي، ضمن علاقة المرسل والمرسل اليه والنتائج الافهامية، فقد تكون تفسيرات صحيحة نسبيا تعتمد على مرجعية المرسل والمتلقي، وبالتالي هي قراءات اخرى مغايرة منتجة بطريقة اخرى .بحسب الاشتراطات اللغوية والجمالية والتاريخية لكل نص والتي يجب على كل قارئ ان يأخذها بنظر الاعتبار .
ان الغوص او الابحار في طبقات النص الادونيسي عبر حفريات تفكيكية وسيميائية وهرمنيوطيقية، يحتم علينا معرفة معتقداته وتجاربه الفكرية - كلغة قابلة للتأويل- ومرجعياته وبيئته الثقافية ، اذ يكشف لنا ذلك و منذ الوهلة الاولى المرجعيات التي اتكأ عليها المنتج ، من اشارات، وشفرات رمزية متعددة ، تُحيلنا الى دلالات مضمرة هي المقصودة من قِبل المرسل المتخفي الذي يتخذ القناع في كثير منها ، فضلا عن الانساق الاصولية والعرقية، والتراثية والفلسفية، والفكرية والعقائدية ،التي تجلت في اسلوبه، وطرائق تفرده باتجاه التحرر والاستقلال والانعتاق والانبثاق من العدم الى الوجود ومن الثبات الى التحرك، والثورة والاصلاح، والرفض بأنواعه المختلفة، عبر حلقاته التأويلية ( فهم الفهم )، وصولا الى المقاصد الخفية المسكوت عنها، والتي احال اليها المرسل لعدّة اعتبارات منها، الاستلزام الحواري او الاقتضاء او التابو، الاصولية، فضلا عن ، قراءاته للتراث العربي والاسلامي المشرقي والمغربي، والفلسفة القروسطية.
فالمرجعيات الثقافية، شكّلت نسقا فكريا خاصا بالشاعر ادونيس، طغت على قصائده كما طغت على افكاره السياسية والفلسفية والثقافية والنقدية ، والتي اتهم على اثرها بالحدّية، والندّية، والضدّية من الآخر المركزي المتطرف، حتى أُتهم بالزندقة والخروج والتطرف والمروق مِن قبل بعض الحركات او الجماعات الاصولية العربية الاسلامية، بخاصه في بلده .
ان اقتفاء اثر المرجعيات المتعددة الانساق في الخطاب الادونيس، تساعدنا في عملية تأويل النص ،اذ ان معنى المعنى، وفهم الفهم لا يتم الا من خلال الاحاطة بجميع ظروف الشاعر الداخلية والخارجية بخاصة الثقافية منها ، وصولا الى مقاصده الحقيقية، المسكوت عنها عبر معان مرتبطة بهذه السياقات، والمرجعيات . فالشاعر لديه بصيص امل لتجاوز عطل وعطب وتوقف الماضي / الامس / التراث، عبر اعادة تشكله على وفق مناهج علمية حداثوية ابستمولوجية استنارية فكرية ، تواكب مراحل التطور العلمي العالمي وتساءل عناصره المثيلوجية التعموية، وتشكّل لها خطابا خاصا يليق بماضيها ويضمن مستقبلها.
لا شك ان ادونيس يشير في نصه الشعري الى معتقداته الفكرية والفلسفية الحداثوية، التي تجعل من هذا الخطاب الجمعي العربي اللاواعي خطابا متعددا واعيا مسؤولا متحررا ثوريا على ماضيه المثيلوجي الراكد الجامد اللاواعي المغيب عن علمنه العالم . فهو يرى بالإمكان اتساع العالم العربي على ثورة علمية تحررية ، كما حدث في اوربا من ثورات اصلاحية تحررية في المانيا، وفرنسا، وانكلترا على يد (لوثر، وفولتير، ومونتسكيو، وسارتر، وديكارت، واسبينوزا ..) ،اذ على الرغم من اختلاف توجهاتهم المعرفية ، فقد شكّلت خطاباتهم استنارة فكرية علمية دينية فنية ادبية ، علمية منطقية واستدلالية كبيرة في الذهنية والسلوكية والشخصية الاوربية في كافة المجالات.
وعلى ما يبدو ان الشاعر تأثر كثيرا بالفكر الاوربي، الذي صنع من اوربا سيدة العالم في حينها، وسيَّد امريكا في الوقت الحالي وسّخن التنافس مابين الشرق والغرب، فهو متأثر في انسانية الانسان الاوربي وعقلانيته ومنطقيته وفكره الاستدلالي البرهاني العلمي ، لذك دائما ما يدعو الى احترام الانسان، واحترام فكره ،وتعبيره وتنقله بعيدا عن السلطة القمعية، والتراث المُعطّل للفكر، ليبدع لأنه يرى لا ابداع مع الاغلال والاصفاد والزنازين المظلمة للجسد او العقل في البلدان الشرقية، وهو معنى تفسيري متداول ايضا لدى كثير من العرب الحداثويين.
ويذهب بنا النص الادونيسي الى معان تأويلية اخرى ، كإعادة ترتيب الماضي المؤرق والمثقل بترسباته، بشكل منطقي عقلاني، بعيدا عن العبثية والخيال، والاسطرة، بحسب مرجعيات المنتج الفكرية والثقافية، والفلسفية تحديدا .
ان النص الشعري الادونيسي كثيرا ما يساءل الشارع العربي عن حالة الفراغ والياس والكسل والاحباط واللاوعي والكبت والقنوط والعجز والضعف ، الذي يسيطر على المجتمعات العربية والاسلامية، عندما تأكد انها وسائل للتعطيل الفكري والثوري في المجمعات العربية سببها عدد من التابوهات المقدسة الذي يعدها مدنسة للعقل العربية ومعطلة ومشلّة لحركته. وهو ما تجلى في نبوءة الشاعر، التي قد تحققت بعض منها فيما يسمى ب" الخريف الربيع العربي" ، وما جرى من احدث الثورة السورية المعارضة من تدهور وتقهقر وانزياح واضح في كل المستويات والمجالات التي اثبتت رؤية ادونيس في العقلية الاصولية الراديكالية العقيمة.
ان النص الادونيسي متعدد القراءات، منها ما يتعلق بالولوج في مبناه ومعناه بصفة وصفية مرّة وبصفة تقريرية تعليمية افهامية مرّة ،وبصفة رمزية تأويلية مرّة اخرى، بحسب مقتضيات كل نص، بصورة ايقونية اعلامية ارسالية ابلاغية، تواصلية ايديولوجية، فضلا عن كونه صرخة ادبية فكرية، تمثّلت بهدم كل الانساق التقليدية الاصولية التعموية القبضوية الدوغمائية، التي تقيّد الفكر وتعطّل عجلة العلم، وتغيّب الانسنة وتقصيها بدافع مخيالي اسطوري غير منطقي بحسب ما يراه هو . لذلك نجد ان الشاعر اشتغل على نصوصه، على وفق منهجه التأويلي اللغوي السيكولوجي التأرخاني التفكيكي الحداثوي الاستناري في نقد العقل العربي والاسلامي معا، وبهذا بات صعبا جدا على القارئ العادي، ان يُمسك بتلابيب معانيه ومقاصده الا بعد التسلّح بأدوات معرفية ونقدية وفلسفية كثيرة ومتنوعة . فادونيس ظاهرة فكرية عربية نادرة وفذة لم تاخذ دورها الحقيقي في محطيها العربي قياسا بالمحيط الغربية وهذه من مفارقات المجتمعات العربية الراديكالية المتطرفة، انها لاتريد التغيير والتحرر والانعتاق، وتعد كل تغيير هو بمثابة سلخ للهوية والحاد بالتراث، ونسف للماضي وكل غريب ممنوع، وغير مرغوب فيه مادام يمثل غيرية للهوية الشخصية او الثقافية . فالمجتمعات العربية دائما ما تميل الى الرغد والكسل واللاقتناع بما ليدها، والثبات والجمود والصبر والانتظار، بدافع القدر والابتلاء والمشيئة، وتفكيرها الجمعي تفكير لاواعي قطعاني، لانه يعتكز على الراعي الواحد، فالفرد فيها لا يريد الخروج من حضيرة القطيع خوفا او طمعا، يعزف عن المجازفة والمعارضة والتمرد والاستقلال، والتحرر من عبودية السلطة المركزية ذات الثقافة المتعالية والغيرية والتنميطية .
#واثق_الحسناوي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟