أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - إبراهيم اليوسف - خدعة مرتد الهوية: خيانة الذات وأقنعة المأزوم-2-














المزيد.....

خدعة مرتد الهوية: خيانة الذات وأقنعة المأزوم-2-


إبراهيم اليوسف

الحوار المتمدن-العدد: 8350 - 2025 / 5 / 22 - 05:57
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


ليست الهوية مصادفة جغرافية، ولا مصادفة لغوية أو دينية أو عرقية. بل هي فعل تراكميّ عميق، تختزنه الروح وتكتبه الذاكرة في تضاريس الكينونة. هي نظام داخلي من الانتماء، والولاء، والتفاعل، والانفتاح، والتجاوز، ولكنها في الوقت نفسه حدودٌ وجودية لا يمكن التنصل منها إلا بفعل الخيانة. والخيانة هنا ليست فعلاً خارجياً تجاه الآخر، بل هي خيانة الذات ذاتها. خيانة تبدأ عند ارتداء قناع "النجاة" المزيف، ذلك القناع الذي يصنعه المرتدّون عن هوياتهم تحت ذريعة التحرر، أو العالمية، أو الانفتاح أو العقلانية المتعالية.
إنّ مرتد الهوية ليس بالضرورة عميلاً مباشراً أو جاسوساً مرئياً، بل قد يكون مثقفاً بارعاً في التأويل، يستنجد بمصطلحات الحداثة وما بعدها لتسويغ قطيعته مع شعبه، ليشرعن ارتداده عن رموزه، ليعيد تشكيل صورته الجديدة بوصفه "إنساناً كونياً" بلا جذور، بلا لغة أم، بلا سرديات، بلا ذاكرة جمعية. هو كائن يرى في كل انتماء "تطرفاً"، وفي كل دفاع عن الذات "شوفينية"، وفي كل تمسك بالتاريخ "ماضوية بائدة".
هنا تقع الخدعة الكبرى: الخدعة التي يخدع فيها المرتدّ نفسه أولاً، والآخرين تالياً. فهو لا يعلن خروجه من الهوية صراحة، بل يقدمه على أنه تجاوز، أو تفوق على الانتماء. يرتدي قناع الوعي الأعلى، في حين يخفي في داخله إحساساً دفيناً بالدونية، أو رغبة في النجاة الفردية ولو على حساب الجماعة.
تتجلى هذه الخيانة في لحظة التأزم. لحظة الأزمات الكبرى، عندما تشتدّ الضغوط السياسية أو الثقافية أو الوجودية. عندئذ تظهر الأقنعة: قناع الحياد السياسي، قناع المثقف الذي لا يعترف بالحدود، قناع الفنان الذي ينتمي فقط إلى الجمال، قناع الكاتب الذي "يكتب للإنسان"، لكنه في الوقت نفسه لا يتورع عن تبني وجهة نظر الجلاد، بحجة الموضوعية أو التحليل أو النقد البنّاء.
هنا، تنكشف اللعبة: مرتدّ الهوية لا يكتفي بالصمت عن آلام شعبه، بل يهاجم مَن يتكلم عنها. لا يكتفي بالانسحاب من الموقف، بل يحوّل كلّ من بقي في موقعه إلى متعصب، جاهل، أو متخلف. يكتب بلغة الآخر، يدافع عن منظومة الآخر، ويحاكم ذاكرته وتاريخه بمنطق القامع.
إنّ الخيانة التي نعيشها اليوم، في ظلّ انكشاف الهويات، ليست خيانة من الخارج، بل هي خيانة داخلية. هناك من يتكلم باسم الحرية ليشرعن عبوديته، ومن يتكلم باسم الإنسانية ليسوغ تشظيه الذاتي، ومن يتبنى منطق العلمانية ليروج لمشروع الإبادة الثقافية، ومن يرفع راية "ما بعد الانتماء" ليخفي انخراطه العميق في مشاريع إقصاء الهويات المقهورة.
وما من شيء أكثر إيلاماً من رؤية من كانوا أبناء القضية وهم يسهمون، بوعي أو من دونه، في دفنها. لا لأنهم بالضرورة أشرار، بل لأنهم خضعوا لتأويل الخديعة، فظنّوا أنهم كلما تخلّوا عن ماضيهم ارتقوا، وكلما نبذوا انتماءهم تأنسنوا، وكلما هاجموا جماعاتهم صاروا عقلانيين.
لكن العقلانية ليست إنكاراً للذات، ولا التحرر يكون بخلع الجلد، ولا يمكن أن تكون العالمية مشروعاً لاستئصال الخصوصيات. بل العكس تماماً: العالمية تبدأ من الاعتراف بالأصل، من المصالحة مع الهوية، من الصعود من الجذور لا القفز فوقها.
مرتدّ الهوية كائن مأزوم، يرتعد من سطوة الآخر، فيرضخ لثقافته، ويجعل منها مرجعية مقدسة، لا تقبل المساءلة. وهو إذ يفعل ذلك، يسقط في شرك التقديس المضاد: يقدّس الآخر ويحاكم الذات. وهذه هي الخدعة الأكثر عمقاً: أن يمارس الاستلاب لا بوصفه كارثة، بل بوصفه إنجازاً.
ما هو الحل؟
مؤكد أن الحل ليس في عزل الذات أو إعادة إنتاج الانغلاق، بل في الصدق مع النفس، في الاعتراف بأن الهوية ليست قيداً، بل شرطاً أساسياً للتحرر الحقيقي. وأن من لا يملك أرضاً فكرية يقف عليها، لن يستطيع أن يساهم في بناء مستقبل إنساني مشترك.
لذلك، فإنّ مهمة اليوم ليست محاكمة المرتدين، بل فضح الأقنعة. رفع أسباب الارتداد. تعرية خطاب التجميل، الذي يجعل من التنكر فضيلة. إنقاذ الفكر من تواطئه مع السلطة، والمثقف من تحوّله إلى قناع جديد لمشروع الإلغاء.



#إبراهيم_اليوسف (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من الاستعمار الخارجي إلى استعمار الذات: اللغة الكردية بين من ...
- بين الإبراهيميّة والإخوانيّة: الكرد في مرمى المشاريع العابرة ...
- رحيل أحمد حسين الشيخ سعيد: عد إلى مسقط رأسك هناك، وارقد قرب ...
- من أجل ولادة حزب كردستاني جديد في تركيا نحو أفقٍ ديمقراطي بل ...
- الشاعر الذي يشبه قصيدته حسان عزت الهادىء العاصف بين منافيه!
- الرؤية بين الغياب والامتلاك من غواية اللحظة إلى عقلانية المص ...
- رفع العقوبات عن سوريا: لا رخصة للذبح الحلال... !
- في متوالية الاستقواءات حين يفقد العالم شرعيته
- بعد ثلاث وستين سنة من قتله تحت التعذيب.. نجل الفنان الشهيد ي ...
- وداعًا أيها السلاح لوعاد همنغواي حياً ماذا كان سيكتب؟
- وداعًا أيها السلاح: رواية الموت المؤجل والمعنى المنكسر-2
- وداعًا أيها السلاح...وداعاً أيها الظلم أم وداعًا أيها الحلم؟
- يوسف جلبي الفنان الكردي الكبير غنى لشعبه ولنوروز والمظلومين ...
- سري كانيي... المدينة المنفية من الخرائط والضمائر
- الفنان الكردي الكبير يوسف جلبي في الذكرى الثالثة والخمسين لا ...
- مأثرة التدوين وسقوط التخوين
- ليس دفاعاً عن الشيخ الهجري: حين تُستنجد الطائفة بأخلاقيات ال ...
- الطائفة كأداة تفكيك: حين تُغتال الدولة في مهدها
- الدروز واستهداف الكيان: فتنة المذهبة ومسؤولية الدولة المتخيل ...
- -الفتنةُ على سرير الموتى: فيمن يحترفون زرع الألغام وتأليب ال ...


المزيد.....




- تحديث مباشر.. مقتل موظفين بسفارة إسرائيل بأمريكا والمهاجم هت ...
- -أحمد الشرع حشد دعما بأول شهرين ثم صُدم الناس بالواقع-.. محل ...
- مقتل موظفيْن في السفارة الإسرائيلية في واشنطن
- كوريا الشمالية تشهد حادثا خطيرا خلال تدشين سفينة جديدة
- خبير عسكري: الجامعات الأوكرانية تسقط الطلاب الخاضعين للتجنيد ...
- السلطات اليونانية تحذر من تسونامي بعد زلزال بقوة 6 درجات
- خبير يحذر من تصريح مدفيديف حول الفرصة الأخيرة للمفاوضات مع أ ...
- جملة قالها رئيس جنوب افريقيا لترامب تشعل تفاعلا
- السعودية.. الجيش الأمريكي يعلق على صورة الأمير خالد بن سلمان ...
- السعودية.. صدور حكم على -خاطفة الدمام- يشعل تفاعلا بعد نحو 5 ...


المزيد.....

- أرض النفاق الكتاب الثاني من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العرب ... / بشير الحامدي
- الحرب الأهليةحرب على الدولة / محمد علي مقلد
- خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية / احمد صالح سلوم
- دونالد ترامب - النص الكامل / جيلاني الهمامي
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4 / عبد الرحمان النوضة
- فهم حضارة العالم المعاصر / د. لبيب سلطان
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3 / عبد الرحمان النوضة
- سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا- / نعوم تشومسكي
- العولمة المتوحشة / فلاح أمين الرهيمي
- أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا ... / جيلاني الهمامي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - إبراهيم اليوسف - خدعة مرتد الهوية: خيانة الذات وأقنعة المأزوم-2-