نزار فجر بعريني
الحوار المتمدن-العدد: 8347 - 2025 / 5 / 19 - 23:36
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في ١٩/٥/٢٠١٩ رحل عن عَالَمِنا المفكّر، والفيلسوف، والأستاذ الجامعي، الدكتور "الطيّب تيزيني"، عن عمر ناهز ٨٥ عاماً، تاركاً إرثاً ضخماً من المؤلفات والأفكار والدراسات الفلسفية والفكريّة.
في الذكرى السنويّة لرحيله المحزن، أعتقد أنّ أفضل ما يمكن أن يقدّمه السوريون تخليداً لذكراه، وتمجيداً لفكره التقدّمي، ولمشاعره الإنسانية النبيلة، هي الإنصات إلى شهادته، والتعلّم من خبرته وخلاصة رؤيته السياسية.
دون إهمال الأسباب التي دفعت نخبة من مفكري اليسار السوري للعودة إلى التراث، نقدا وتنويرا، وتطلّعا لوسائل صناعة مستقبل واعد، وما بذله الطيب تيزيني من جهد، وقدّمه من ثقافة تنويرية في هذا الميدان الإشكالي (١)، أعتقد أنّ الموقع الذي أخذه الطيب تيزيني في عقل ووجدان السوريين يرتبط بشكل مباشر برؤيته السياسية ومواقفه الوطنية والإنسانية التي تجسّدت بانحيازه الصريح والمُعلن بعد ربيع ٢٠١١لتطلعات السوريين المشروعة في التحرر من سلطة الاستبداد والبحث عن مكان لائق بين الشعوب والأمم المتحضّرة.
وقوفه في الجانب الصحيح من التاريخ ورفضه لوسائل السلطة القمعية في مواجهة حراك السوريين السلمي، والتعاطف مع الضحايا لم يكن موقفا طارئا على الطيّب، المفكّر والمثقّف، الذي شكّلت فكرة "العدالة الاجتماعية"، وسبل تحقيقها، وهدف حماية السلم الأهلي، الحافز الأهم لارتقاء فكره ووعيه، بدءاً من فولتير، وليس انتهاءً بماركس.
كباحث سياسي، لم يكن يتجاهل أسباب انغلاق فرص أبواب التحديث والتطوير، وقطع مسارات التغيير الديمقراطي، وقد قدّم من خلال مفهوم "الدولة الأمنيّة" تشخيصا موضوعيا لسبب المعضلة السياسية السوريّة، وتناول في حوارات تفصيليّة، صريحة و شجاعة، رؤيته لاهميّة خطوة تفكيك السلطة الأمنية في آليات الخروج من المأزق التاريخي وعبور مسارات الإصلاح السياسي والتحوّل الديمقراطي، وقد عبّرت مداخلته الجريئة والواضحة في مؤتمر صحارى للحوار الوطني صيف ٢٠١١ عن آمال السوريين وتتطلعاتهم الوطنية والديمقراطية، كما عكست مخاوف تصاعد وتائر العنف المسلّح والطائفي الذي تستخدمه السلطة ضد حراك شعبي سلمي، وكانت كلماته صرخة احتجاج مدويّة وتحذيرا شديد اللهجة من مخاطر الاستمرار في سياسات العنف والتطييف، لكسر إرادة السوريين، وهزيمة تصميمهم على دحر الديكتاتورية!(٢)
يمكننا معرفة المزيد عن شخصية وفكر الطيّب تيزيني من خلال ما جاء في مقابلة متلفزة، بتاريخ ٢٤/٩/٢٠١٧، أجراها الصحفي "كريم خزام"، في برنامج "القنديل"، على شاشة تلفزيون "الغد".
تضمّنت المقابلة مع الدكتور الراحل مقدمة، وعدّة مداخلات.
أوّلاً،
في المقدّمة ،جاء في التعريف بالدكتور الراحل، الطيّب تيزيني:
"قامة من قامات الفكر العربي المعاصر، وأحدُ أهمّ مئة فيلسوف في القرن العشرين. ولد الطيّب تيزيني في مدينة حمص، وسط سوريا، عام ١٩٣٤. تلقّى علومه في تركيا وبريطانيا، وحاز درجة الدكتوراه في الفلسفة من ألمانيا، عام ١٩٦١، ليعود إلى دمشق، ويدرّس الفلسفة في جامعتها.
عُرف تيزيني بانشغاله فكريّاً بتاريخ الحضارة العربية، ناسياً الفصل التعسّفي بين ما قبل الإسلام، وما بعده، واشتهر باستخدام المنهج "المادّي الجدلي"، لتحليل التراث العربي الاسلامي، معتبراً أنّه أصيل بذاته، وليس وسيطاً بين حضارة اليونان والحضارة الأوربيّة، التي رفض فكرة مركزيتها.
كان التيزيني منفتحاً على حوار مخالفيه، وقبل دعوة جامعة دمشق لمناظرة الشيخ "محمّد سعيد البوطي" حول الإسلام وروح العصر، وهي مناظرةٌ لم تتم نتيجة احتشاد الآلاف من أنصار البوطي، مانعين التيزيني من الدخول، الأمر الذي فسّره الأخير بأنه نتاج "قانون الاستبداد الرباعي: الاستئثار بالسلطة والثروة والإعلام والمرجعية المجتمعية".
ثانياً،
يتحدّث في بداية المقابلة، مفسّراً العوامل والأسباب التي دفعته على طريق التفكير النهضوي اليساري الماركسي، بما هو خط التفكير والمواقف الإنسانية الوجدانية، التي ترفض الظلم، وتتبنّى قيم الحق والعدالة.
فمنذ نعومة أظفاره، جذبته أجواء النقاش، والتفاعل الثقافي الإنساني، في بيت والده، حيث كان يستمع إلى حوارات فكرية ثقافية متعددة، وحيث تأثّر برؤى والده، الذي كان له اهتمامات ثقافية وفلسفية متميّزة -تعرّف عليها الطيّب في مكتبته الضخمة، وكان على احتكاك مباشر متفاعل، مع جميع التغييرات في قمّة هرم السلطة، طيلة سنوات ما بعد الاستقلال السياسي (٣).
ثالثا،
نستطيع أن نتلمّس سمات وعيه وثقافته السياسية، من خلال بضعة مواقف وممارسات، تمّت الإشارة إليها في المقابلة.
١ لا يعتقد الدكتور أن ظهور وتمدد "الوعي التكفيري الجهادي"، وحوامله الميليشياوية الطائفية، الذي شكّل أسوأ أدوات هزيمة الحراك السلمي، وتفشيل أهدافه الديمقراطية، يعود لبدايات الحراك، وبسببه، رغم وجود "بيئة حاضنة" في بعض جوانب الوعي الثقافي لشرائح مختلفة من المجتمع السوري. تحدّث الدكتور في هذا الجانب الهام بصراحة عن وجود "خطط واستراتيجيات" خلف ظهور "الفكر الطائفي"، ونجاح أدواته الميليشياوية الداخلية والخارجية في إحكام السيطرة والتحوّل إلى مرتكزات مشروع تقسيم سوريا .
٢ شرح الدكتور الطيّب ما أطلق عليه "قانون الاستبداد الرباعي"، النظريّة التي تفسّر طبيعة أنظمة الاستبداد. حيث يعتقد أنّ نظام الاستبداد يقوم على أربع: "الاستئثار بالسلطة، و الثروة، والمرجعية الاجتماعية، وقيادة المجتمع".
يضيف نقطة أخرى تُبرِز أهمية هذه الرؤية، في الممارسة السياسية لمواجهة ركائز الاستبداد، إذ "يضع هذا الحال شرائح مجتمعية واسعة" في مواجهة نظام الاستبداد، وتجمعها المصلحة في تفكيك أدواته. (العمل الجبهوي الديمقراطي، حول أهداف محددة).
٣ ألمح الدكتور إلى انّ" المجتمع المدني" هو الضحية الأولى لنظام الاستبداد، الذي يعمل على "اختراقه" وتفشيله من الداخل، وأن الطائفية، كما هو الفساد، إحدى أدوات السيطرة.
ربط الدكتور بشكل واضح بين "الاستبداد والفساد"، مؤكّدا أن القانون العام يقوم على "مزيد من الفساد، والإفساد الدائم، لكي يصبح الجميع فاسداً، ومداناً، تحت الطلب".
٤ في شهادته حول بداية الأحداث ومآلاتها، لا نحتاج إلى جهد كبير لكي نستنتج السبب الجوهري لتفجّر الصراع عام ٢٠١١، وأدواته، بما يسقط ذرائع "المؤامرة الكونية"، وادعاءات محور "الممانعة". وفي جواب على سؤال فيما إذا كان قد توقّع حدوث " الزلزال " السوري، أجاب، بنعم.
يذكر الدكتور أنّه ومن خلال مساهمته الفاعلة في مؤتمر "الحوار الوطني، برئاسة "فاروق الشرع" في تموز ٢٠١١، كان قد أكّد أنّه "علينا ان نبدأ بما يوصلنا إلى جوهر الأشياء": "الدولة الأمنية".
٥ في سياق الحوار، أجاب الدكتور على سؤال جدّا مهم، شكل العمل على تحقيق ظروفه أهم هدف لحلف "الثورة المضادة"، في سياق الحرب. وفي شهادته، حول العلاقة بين "الدولة الأمنية" ومجموعات الإسلام السياسي "الجهاديّة":
"العلاقة وثيقة!
الإسلام الجهادي موجود قبل ذلك (الحراك الشعبي، آذار ٢٠١١)، لكنّه اكتسب بعداً جديداً. فقد صارت دعوته، ...دعوة العصر ... لم تأتِ العملية بسبب "هبّة" ... حمص غير ذلك. وأنا كنت في المظاهرة الأولى التي خرجت في حمص".
٦ نهج "الإصلاح" وسقوط ورقة التوت. يعتقد الدكتور الراحل أنّ "الدعوة إلى الإصلاح، لم تكن جدّية":
فقد قضى شهرا، مع مجموعة من النخبّة المثقّفة، في دراسة، وتقديم اقتراحات، لورقة عمل حول الإصلاح، قدّمها السيّد وزير الاقتصاد، دون أن تجد آذانا صاغية!!
كان يعتقد الراحل أنّ من واجب الحكومة أن تضمن أمن المتظاهرين السلميين، الذين يطالبون بتلبية إصلاحات مشروعة، لكنّ خيبة أمله كانت محزنة (٤)!... لم يتمالك أعصابه، بكى الطيّب، أهله وناسه، ومشروعه "النهضوي"، بحرقة، ومرارة، وكنا ما نزال نبكي أنفسنا، وأبناءنا، وسوريا، ولا أمل بحاضر هذا البلد المُستباح ومستقبله، قبل إسقاط سلطة الأسد وشبكة السيطرة الإيرانية الداعمة والحاملة في الثامن من ديسمبر المجيد ، ولن يضعف اهميّة الحدث التاريخية وقدرة السلطة الجديدة على فتح صيرورة جديدة، تحمل في طيّاتها عوامل تناقضها مع صيرورة التدمير الأسدية ، أن تكون بقيادة هيئة تحرير الشام، طالما تمّ إنهاء دورها السابق في إطار مشروع التقسيم، وتملك إمكانيات التغيير الذاتي في سياق عوامل إقليمية ودولية متغيّرة، باتت تتقاطع في رسم مستقبل جديد لسوريا !!
٧ لقد أشار الدكتور إلى حقيقة بالغة الأهمية، تستحق الكثير من البحث والتدقيق في ظل خطوات وإجراءات العملية السياسية الانتقالية وما تواجهه من تحدّيات وعقبات:
" تفكيك الدولة الأمنية لن يؤدّي بالضرورة إلى إقامة "دولة الخلافة" ، رغم ما تمّ لاحقاً، في سياق خَيار العسكرة والتطييف، وضع السوريين والمجتمع الدولي، بين خيارين لا ثالث لهما....!!
من الجدير بالذكر أنّه لم يغادر سوريا، رغم الأحداث التي شهدتها، حيث بقي في مدينة حمص، دون أن يتراجع عن موقفه المعارض للنظام.
في خلاصة القول، أعتقد أن عَظمة "المثقّف"، المفكّر أو الفيلسوف الباحث، في أي حقل من حقول الإبداع، لا تقتصر فقط على ما يقدّمه من خلال قراءته، أو إعادة قراءته للتراث أو "عوامل الحضارة -وهو جانب يتعلّق أساساً، رغم أهميته التاريخية، بالطموح، والنجاح الشخصي، والمهني.
إنّ الوجه الأكثر إشراقاً في إبداع المثقّف هو ربطه الاستنتاج النظري، بالممارسة السياسية، من خلال الانحياز لقضايا شعبه، في اللحظة السياسية التاريخية الحاسمة، حين يكون للموقف السياسي الصادق، دور حاسم في حماية "السلم الأهلي"، ودفع الشعوب والأوطان، على مسالك التقدّم، وتجنيبها الخيارات الأسوأ.
رَحَل الطيّب تيزيني عن عالمنا، فبكاه جميع السوريين، "معارضين وموالين"، وهي حالة نادرة في سوريا اليوم، وخسرت الثقافة العربية برحيل التيزيني، أَحدَ صروحها، لكنّ إرثه باقٍ كنجمة في السماء، تُنيرُ درب الأجيال القادمة نحو النهضة والتقدّم.
التحيّة والمجد، لِمَن قضوا، أو ينتظرون، ويحملون في قلوبهم محبّة، وفي عقولهم فسحة أمل لسوريا!
▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎
(١)-
قدّم الطيّب عشرات المؤلفات التي يتجلّى من خلالها مشروعه النهضوي، كان من أهمّها "مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط "،"من اللاهوت إلى الفلسفة العربية الوسيطة"، و"روجيه غارودي بعد الصمت"،"بين الفلسفة والتراث"، و"حول مشكلات الثورة والثقافة في العالم الثالث"، و"دراسات في الفكر الفلسفي للشرق القديم".
(٢)-
في المحاضرة الاولى أمام المؤتمر، وفي أعقاب كلمة "مشجّعة"، لفاروق الشرع، تعيد المشكلة إلى جوهرها السياسي الديمقراطي، أوضح الطيّب تيزيني أن المخرج الوحيد هو في "تفكيك الدولة الأمنية":
"قلتُ لهم أنا قادم من حمص، وعلى الرغم من تساقط الأمطار، شاهدتُ الناس تخرج إلى الشوارع، يتمنّون، على "الرئاسة"، وعلى المرجعيات أن يعيدوا النظر بكل الخطّة الاستراتيجية الموضوعة، وفي بدايتها، الدولة الأمنية"!
" صرّحت بذلك، فاضطرب الجو، لكنني لاحظت أن السيد
نائب الرئيس، كان متضامناً".
يضيف الدكتور، ساخراً، "اكتشفت لاحقاً، تجاهل وسائل الإعلام، لهذه المحاضرة، وعدم ذكرها إلا مرّة واحدة، وفي خبر موجز، لم يدم "دقائق" ،وأنّ المؤتمر نفسه لم يتكرر، ولم يكن إلا صرخة ضائعة"!.
(٣)
شارك "طيب تيزيني" في العمل السياسي قبل سفره خارج سوريا للتعليم، يقول عن ذلك في حوار له مع جريدة الراية: “في الحقيقة هنالك بعض الجذور التي تشدني إلي السياسة فكراً وممارسة، فلقد أسهمت في بعض الأحزاب اليسارية التي نشأت في سوريا لفترة زمنية كنت بعدها أعود إلي العمل الفكري خصوصاً بصيغة الفكر السياسي، لذلك فالتجارب التي عشتها في أحزاب سياسية معينة كانت تقدم لي تجربة عميقة، سعيت وأسعى إلي التنظير لها في إطار الفكر السياسي العربي، وقد تعمق هذا الاتجاه لدي حين لاحظت ضرورة العودة إلي الفكر السياسي العربي في التاريخ العربي علي نحو العموم، فكتبت مثلاً بعض كتاباتي التي امتزجت باهتمام عميق بالسياسة وبالفكر السياسي”
(٤)-
" فيه أربع خمس مظاهرات بدا تطلع في حمص، هيك أُعلمت. هدول بدهم ضمان الأمان " ....." هنن خرجوا، وانتهت العملية كلّها بمأساة".
▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎▪︎
#نزار_فجر_بعريني (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟