نزار فجر بعريني
الحوار المتمدن-العدد: 8343 - 2025 / 5 / 15 - 15:53
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
القارئ السياسي الموضوعي،الذي يبتغي معرفة حقائق الصراع والوصول إلى استنتاجات موضوعية ، وبغض النظر عن أي تصنيف مهني، يجب أن يدرك جيدا عوامل سياق تطوّر أحداث الصراع ومآلاتها في مصالح وسياسات الدول الفاعلة ، خاصة ، الولايات المتّحدة، وهذه العوامل الأمريكية،التي تحكم المسارات الرئيسية للأحداث وتحدد اتجاه مآلاتها، ليست وليدة ظروف تفجّر ثورات الربيع العربي!
لقد انطلقت خطط وسياسات السيطرة الإقليمية الأمريكية منذ مطلع الخمسينيات... في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وقد سعت بأدواتها المتغيّرة وفقا للشروط التاريخية المتحركة، الى قطع صيروات الانتقال السياسي والتحوّلات الديمقراطية، ودفع نتائج الصراعات السياسية الداخلية على السلطات المحلية، وصراعات السيطرة الإقليمية والدولية،وبما تملكه من أوراق ضغط وأدوات تنفيذ فعّالة، على مسارات تحقق المصالح الأمريكية!!
في ربيع ٢٠١١، وفي مواجهة استحقاقات تحوّل حراك السوريين إلى ثورة ديمقراطية ناجزة، لم تخرج سياسات وخطط "واشنطن الديمقراطية" عن عوامل السياق التاريخية، وكانت مراحل متعاقبة من " الخَيار الامني الميليشياوي" بين ربيع ٢٠١١و نهاية ٢٠١٩ قد أدّت إلى تفشيل الدولة وتقسيمها، كما حوّلت إجراءات تأهيل سلطات الأمرالواقع الجديدة بعد مطلع ٢٠٢٠ إلى تبلور أربع حكومات منفصلة، متصارعة على الشرعية والحصص ومناطق النفوذ والنهب، ووقد حصلت واشنطن على حصّة الأسد !!
ما حصل بين ٢٧ نوفمبر و الثامن من ديسمبر ٢٠٢٤، في معارك إسقاط سلطة الأسد على يد هيئة تحرير الشام، وما واكبها من معارك كر وفر بين قسد وفصائل الجيش الوطني للتمدد على جميع الجبهات، لا يخرج عن عوامل السياق التاريخية التي صنعت بعد ٢٠١٥ وقائع ومرتكزات وتناقضات مشروع تقسيم سوريا!
فالظروف المُسّهلة لوصول قوّات غرفة العمليات العسكرية إلى دمشق وسيطرتها على السلطة تبيّن طبيعة العامل الأمريكي، بما يجعل العملية الانتقالية في الجوهر مسارا أمريكيا جديدا لحكم سوريا، (بعد ان قوّضت الحرب اليمنيّة الإسرائيلية مرتكزات سلطة الأسد- ابو قسد ، والعمود الفقري لمشروع التقسيم- في نتائج حروبها على مرتكزات شبكة السيطرة الإيرانية، التي أعقبت هجوم طوفان الأقصى في الثامن من أكتوبر٢٠٢٣وصولا إلى عشية هجوم رد العدوان، ٢٧ نوفمبر٢٠٢٤ )، ولا يضعف من موضوعية هذا الاستنتاج أن تكون تركيا هي الداعم الرئيسي، ونحن ندرك استحالة نجاح الجهود التركية عندما تتعارض مع عوامل السياق الأمريكية.. وقد فشلت حروب تركيا المتواصلة منذ ٢٠١٦ في تغيير وقائع سيطرة قسد!!
في ضوء رؤية ما صنعته عوامل السياق على جميع الصعد والمستويات من وقائع سيطرة جديدة بعد الثامن من ديسمبر، وإدراك طبيعة القوى التي انضوت في إطار غرفة العمليات العسكرية، وطبيعة التحدّيات التي تواجهه القيادة السياسية الانتقالية، وخاصّة،طبيعة التحدّيات المصيريّة التي باتت تواجهها سلطة قسد بعد إسقاط مظلّة حمايتها الأسدية وتحوّل خصومها وأعدائها في الهيئة والجيش الوطني إلى سلطة سورية ، وفي حال تقدّمت جهود العملية السياسية على مسارات توحيد السلطة والجغرافيا ومرجعية السلاح ، قرأتُ طبيعة الصراع على سوريا في هذه المرحلة التاريخية، وأرى أنّ معارك الصراع على سوريا تتقدّم على مستويين، تترابط في مساراتها مصالح وجهود و علاقات القوى المتصارعة جدليا:
المستوى الأول:
صراع على شكل السلطة، بين قوتين قيد التشكّل في مسارات العملية السياسية و الصراع الميداني:
أ- الإسلام السياسي الوسطي، الذي يعّبر عن خطّه السياسي الرئيس احمد الشرع، وباتت تمثّله حكومة التكنوقراط، وتدعمه بشكل رئيسي إقليميّا السعودية وقطر وتركيا، والولايات المتّحدة، على الصعيد الدولي ...
ب- الإسلام الجهادي، في قواعد وجمهور الهيئة والجيش الوطني التركي... إذ تخشى قواه ورموزه من فقدان ما حققته من مكاسب وامتيازات خلال مراحل الصراع، (خاصة بعد ٢٠١٥، وتحوّل بعضها إلى سلطات أمر واقع محلية)، في تقدّم مسارات وصيرورة العملية السياسية الانتقالية، تحاول استغلال ما تواجهه السلطة من تحدّيات فرض سلطتها وإجراءات احتكار السلاح، من أجل تثبيت مرتكزاتها وضمان مصالحها...
المستوى الثاني:
الصراع حول مصير الكيان الجيوسياسي السوري، الذي لا يواجه فقط مخاطر تثبيت أبرز وقائع مشروع التقسيم التي باتت تتجسّد في " إقليم شمال وشرق سوريا" في أعقاب إسقاط سلطة الأسد، العمود الفقري لمشروع التقسيم ومظلّتة الشرعية، و تحوّل حكومة الهيئة إلى سلطة سورية، (علما أنّه كانت قد ترسّخت أربع سلطات أمر واقع في نتائج حروب إعادة تقاسم حصص السيطرة الميليشياوية بين ٢٠١٥ ٢٠٢٠، وتعززت عوامل تحوّلها إلى كيانات سياسية مستقلّة في إجراءات وخطوات إعادة التأهيل بعد ٢٠٢٠)، بل وظهور نزعات انفصالية في الساحل والسويداء، تتقاطع جهود العاملين عليها مع جهود قسد الساعية للدفاع عن مصير مشروعها الخاص، عبر تثبيت مرتكزات وجود الكيان( قسد والإدارة الذاتية)وإعطائه الشرعية الدستورية في مسارات العملية السياسية الانتقالية الجارية و وفقا لرؤيتها لمستقبل سوريا. والحال هكذا، من الطبيعي أن تصبح أهداف مشروع قسد الذاتية ، وبما تحوذه من احتضان ودعم خارجي، قاطرة مشروع التقسيم، وتشكّل إجراءاتها خطرا راهنا واستراتيجيا على السلم الأهلي والأمن القومي السوري!
كيف قرأتُ الصراع على الساحل السوري؟
أعتقد أنّه في محاولة من قيادة قسد وأدواتها من السوريين، وشركاء مشروع التقسيم الاقليميين والدوليين، للحفاظ على سلطتها ومواقع سيطرتها الراهنة -إقليم شمال وشرق سوريا الديمقراطي- وفرض رؤيتها وشرعيتها الدستورية في مآلات العملية السياسية الانتقالية، تركّزت جهودها (وفقا لخطط شاملة، لتفشيل مسارات العملية السياسية التي تقوم على مبادىء إعادة توحيد الجغرافيا وحصر امتلاك السلاح، وتتعارض مع رؤية قسد، ولا تشرعن وجود سلطتها دستوريا، وفي استغلال للتحديات التي تواجهها السلطات الجديدة في جهودها لتجميع السلاح وفرض سيطرتها، خاصة نتائج المواجهات الدموية بين الميليشيات الجهادية والمجموعات المسلحة في أرياف حمص وحماه واللاذقية وطرطوس )، على تشكيل رأي عام علوي، يقتنع بأنّ العلويين مستهدفون كطائفة ، ويجد في الحماية و التقسيم الطريق الوحيد للنجاة، بما يؤدّي في شروط الصراع الراهنة ، في حال تحقق الأهداف ، إلى إقامة كيان" علوي " في الساحل السوري، تابع لقسد، وعلى نموذجها، يشرعن ( في حال نجاح جهود مماثلة في الجنوب السوري )تحوّل سوريا إلى أقاليم منفصلة، تتنازع سلطاتها على الشرعية، ومواقع النهب والسيطرة. ...
بخلاف ذلك ، وبما يتناقض مع المقدّمات والأهداف والوسائل، والمآلات ، و في ضوء رؤية واشنطن، وشريكيها التركي والسعودي، لمستقبل سوريا الموحّدة، ورفض غالبية أبناء الساحل السوري، أرى أنّه من المستحيل قيام كانتون في الساحل، ليس فقط لأنه يهدد سلطة دمشق (التي يريدون لها الاستقرار في مسارات العملية السياسية الانتقالية وبما يؤدّي الى تفكيك الفصائل، واحتكار امتلاك السلاح)، ويقوّض عوامل بناء دولة سورية، بل ولأنّه أيضا يتكامل مع أهداف مشروع قسد في تهديد الأمن القومي التركي... وهو ما يحوّل فقراء العلويين إلى أداة، ورأس حربة في معارك الصراع على الساحل، ويضع العلويين، كأفراد وككيان، في مواجهة طائفية مع أبناء الساحل، وأمام مخاطر وجودية، تتصدّر أدواتها الميلشيات الجهادية الطائفية ، التي تجد في شروط الصراع فرصة للانتقام، وتعزيز وجودها في مواجهة القوى الوسطية...
هي الوقائع التي حددت رؤيتي السياسية، وجعلتني أدرك طبيعة أهداف قوى و وسائل التحريض والتجييش التي بدأت مبكّرا تعزف على نغمة استهداف العلويين كطائفة وعملت على صناعة أدواته الطائفية ، ، واستغلّت في حملاتها الإعلامية المنظّمة نتائج هجوم أذرع مشروع التقسيم في السادس من مارس ، كما استغلّته الميليشيات الجهادية لإشباع شهوة قادتها للدم والثأر ، وقد جيّرت دماء ضحايا المجازر الطائفية من أجل تسويق وتسويغ تدّخل دولي، غير قابل للتحقق، وكانت النتائج الواقعية كارثية على جميع الصعد ، أجّجت مشاعر ومواقف الصراع الطائفي، وو ضعت السلم الأهلي أمام مخاطر غير مسبوقة!!
في حيثيات ونتائج معارك الصراع على الساحل، خاصة فشل السلطة في تقدير طبيعة المشروع وأدواته وأهدافه، وتوفير وسائل مواجهته، خاصة توفير أسباب الحماية لجنودها و للمدنيين ، ومنع ارتكاب المجازر الطائفية، فقد نجحت جهود وأكاذيب أبواق الدعايات التي تقف خلفها قسد بشكل رئيسي، في صناعة رأي عام " علوي " مخدوع ، ومضلل، وفي توريط طيف واسع من النخب السياسية والثقافية المرتبطة بأجندات مشروع قسد ، وقد دفع الجميع الثمن، في السلطة والمدنيين وعناصر الأمن العام، وكانت قسد والميليشيات الطائفية الرابح الوحيد !!
في خلاصة التجربة، وأبرز الدروس :
١لايوجد مصلحة للعلويين ( ولا الدروز أو الأكراد) في التحوّل إلى رأس حربة مشروع تقسيم ، ليس فقط لانّ أهدافه ومصالح قواه تتعارض مع مصالحهم الوطنية ، وتضعهم في حروب طائفية مدمّرة مع أبناء الساحل، وفي مواجهة خاسرة مع مسارات الدولة الجديدة، بل ، علاوة على ذلك، لأنّ مشروع تأسيس أقليم منفصل في الساحل السوري لايملك في مصالح وأجندات الولايات المتّحدة وتركيا والسعودية الحد الأدنى من عوامل وشروط النجاح، وستشكّل نتائج حروب السيطرة على الساحل جروحا عميقة في النسيج الاجتماعي والضمير السوري ، ومظالم طائفية غير قابلة للشفاء!!
٢ عوامل السياق السابقة الذكر تبيّن أن السلطة الجديدة ستأخذ فرصتها كاملة في بناء مؤسسات دولة جديدة، وهذا تفويض أمريكي، وما تقوم به تركيا والسعودية لايخرج عن هذا السياق.
٣ يحق لكلّ سوري معارضة إجراءات السلطة وتوجهاتها ، بجميع الوسائل السلمية والشرعية ، وبشرط عدم الارتباط بأجندات التقسيم ، والارتهان لقواها، وبالتالي عدم استخدام السلاح ، ووسائل التحريض والتجييش الطائفي والقومي ، وهي جرائم بحق السلم الأهلي والأمن القومي السوري، و ينبغي على جميع السوريين رفضها، وعلى القانون محاسبة مرتكبيها !!
٤ من المؤسف أن لاترى التيارات والأحزاب التي ترفع راية الديمقراطية طبيعة منظومة الأوهام التي تحدد أفكار ثقافتها السياسية وسلوكها !!
بناء ًعلى قراءات أيدولوجية ساكنة، عاجزة عن رؤية طبيعة التغيّرات التي تخضع لها هيئة تحرير الشام في سياقات تحوّلها إلى سلطة دولة، تصل إلى استنتاجات غير موضوعية، بأنّ السلطة الجديدة "الجهادية " مؤقتة، وتسير حتما إلى الفشل والسقوط، وما عليهم سوى التسريع في ذلك، والاستعداد لتشكيل البديل الديمقراطي الذي تدعمه الحكومات الديمقراطي في أوروبا و "إسرائيل!!
هي نخب واهمة، تعيش حالة انفصام أيدولوجي، وانفصال عن وقائع وحقائق الصراع على سوريا ، كما كانت طيلة عقود، ولا تجيد القراءة السياسية الموضوعية... وقد وضعتها أوهامها عمليا في خندق قسد، وأصبحت موضوعيا وذاتيا بعض أدوات مشروع التقسيم، تماما كما هو حال بقايا سلطة الأسد ، وقد وضعت نفسها، في نهاية المطاف، خارج دوائر التأثير والفعل الوطني السوري!!
نعم لسوريا الموحّدة، دولة المواطنة المتساوية والقانون العادل.
#نزار_فجر_بعريني (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟