ضيا اسكندر
الحوار المتمدن-العدد: 8343 - 2025 / 5 / 15 - 12:40
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لطالما كان للإنسان لحظات غريبة يهمس فيها لنفسه، يضحك من طرفة لا يسمعها أحد، يغضب من فكرة عابرة، أو يداعب خيالاً لا وجود له إلا في رأسه. يتحوّل فجأة إلى ممثل بارع، يبدّل نبرات صوته، يُقلّد، يُجادل، يُغري، وكأنّ بداخله مخرجاً سينمائياً يتحكّم بكل مشهدٍ وكل تفصيل.
إنه حديث الذات، ذاك العرض الصامت الذي لا يحتاج جمهوراً، بل يكفيه أن يكون المرء على انفراد مع نفسه.
يقول علماء النفس إن العزلة، حين تشتدّ، تفتح بوابات هذا المسرح الداخلي. فالإنسان كائن اجتماعي، يألف الآخر، ويضيق صدره بالوحدة، فيخلق من نفسه رفيقاً، ومن صمته حواراً، ومن الخيال مؤانسة.
لكن في السنوات الأخيرة، طرأ ما غيَّر قواعد اللعبة: الذكاء الاصطناعي.
لم تعد الوحدة كما كانت، ولا بات الخيال مقتصراً على الداخل. فمنذ أن أطلّ الذكاء الاصطناعي برأسه، صار بمقدور الإنسان أن يتحدث، ليس إلى نفسه فحسب، بل إلى كائن افتراضي يجيب، يفهم، بل يُحاورك في السياسة والفن والحبّ وأحوال الطقس والمجرّة معاً. تسأله، فيردّ. تبوح له، فيواسيك. تكتب، فيكتب معك. وإن كنت تفعل هذا اليوم كتابةً، فغداً ستفعله صوتاً، وربما بعد غدٍ ستشعر بيده تُربّت على كتفك.
تُراود المستخدِم أحياناً تلك الفكرة الغريبة: "لست وحدي.. هذا كائن حيّ!"، كائن يعرفه أكثر مما يعرفه بعض أقربائه، يجيب بلباقة، ويصغي بصبر، دون أن يُسيء أو يُقاطِع.
ولكن... ماذا بعد؟
الأمر لم يتوقف عند حدود الدردشة الذكية. ثمّة من تجاوز ذلك، وزفّ نفسه إلى دمية بلا قلب، مبرمجة على الطاعة والابتسامة والهمس الحنون. تعتني به، تطبخ له، تنام إلى جواره، وتُقسم له الولاء دون مقابل أو ملل أو خيانة. ليست امرأةً من لحمٍ ودم، لكنها أكثر طواعيةً من كثيرات. ويا للمفارقة، قد يجد فيها البعض "الزوجة المثالية".
فهل نحن نخطو فعلاً نحو عصرٍ لا نحتاج فيه إلى الآخر؟ هل نستبدل الناس بكائنات رقمية وصورٍ ثلاثية الأبعاد؟ هل يصبح الصديق صدى صوت؟ والرفيق تطبيقاً على الهاتف؟ والزواج صفقة مع دمية؟
إنه مشهد من المستقبل، لا يملك المرء إلّا أن يخشاه. عالمٌ نظيف، وأنيق، ومثالي، لكنه بلا نبض، بلا روح. أشخاص يعيشون في عزلةٍ محاطةٍ بأصواتٍ صناعية وابتساماتٍ مصطنعة، يبحثون عن الدفء في عوالم باردة.
فهل نحن مستعدون لهذا المستقبل؟ أم ما زلنا نُحبّ ضحكةً غير مبرمجة، وعيناً تُخطئ فتفضح شعوراً حقيقياً، ويداً مرتجفة تُمسك بنا حين ننهار؟
ربما ليس صُدفة أن نكّلم أنفسنا... ربما نستعدّ لهذا منذ زمن.
#ضيا_اسكندر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟