أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ضيا اسكندر - من الطفولة إلى الإجرام: كيف يُصنع القتلة؟














المزيد.....

من الطفولة إلى الإجرام: كيف يُصنع القتلة؟


ضيا اسكندر

الحوار المتمدن-العدد: 8296 - 2025 / 3 / 29 - 15:57
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


منذ أن خطّ البشر أولى صفحات ماضيهم، والمجازر تلطّخ تلك الصفحات بالدماء. وبينما تناول المؤرخون بعمق المجازر التي شهدها العصر القديم، تأريخاً وتحليلاً وإدانةً، فإن المجازر الحديثة لم تعُد مجرد سطور مكتوبة، بل وثّقتها عدسات الإعلام، وفضحتها تسجيلات مصورة حيّة، جعلت تكذيبها أمراً مستحيلاً، حتى على أبرع المزوّرين.

وأحدث هذه الفظائع كانت المجازر التي استهدفت الطائفة العلوية في الساحل السوري، والتي راح ضحيتها آلاف الأبرياء. ومع أن المنظمات الحقوقية والإنسانية حاولت توثيقها، فإن الأرقام الدقيقة ظلت عصية على الحصر، خاصة بعد أن قرر مرتكبوها تغييب الكاميرات، تجنّباً للإدانة، بعدما انتشرت مئات المقاطع المصورة، وأحدثت صدمةً واستنكاراً عالمياً، بل ووضعت الجهات الداعمة لهم في موقفٍ حرج.

لكن السؤال الذي ظل يؤرقني هو: كيف يستطيع إنسان أن يذبح آخر بدم بارد؟ كيف يتحوّل إلى وحشٍ لا يهتز أمام صرخات ضحاياه، ولا تردعه قطرة دمٍ تنسكب على الأرض؟ ما الذي يجرّد الإنسان من فطرته الأخلاقية، ويدفعه ليقتل بوحشية، لمجرد أن الضحية وُلدت في بيئة لم يخترها، تماماً كما لم يختر المجرم نفسه، البيئة التي أنتجته؟

على مدار حياتي، تنقّلت عيناي بين شاشات التلفزة ومقاطع الفيديو المتداولة، حيث تعاقبت أمامي مشاهد تثير سؤالاً يتنامى إلحاحه مع كل جريمة موثّقة: من المجازر التي ارتكبها نظام حافظ الأسد، خلال صراعه مع الإخوان المسلمين، ثم ما استأنفه وريثه بشار بعد انتفاضة الشعب السوري عام 2011، حين أمطر المدنيين بالصواريخ وألقى البراميل المتفجرة على الأحياء السكنية، وحوّل المدارس والأسواق إلى مقابر جماعية، إلى عمليات الذبح الوحشي في عهد داعش، وصولاً إلى المجازر التي نفذتها الميليشيات المسلحة بحق القرى والبلدات في الساحل.
وكلما أمعنتُ النظر في هذه الفظائع، ازداد السؤال اشتعالاً: هل من ينشأ في بيئة يسودها العنف، سيجد العنف طبيعياً؟ هل الفقر والظلم يحوّل الإنسان من ضحية إلى جلاد، كردّ فعل انتقامي؟ هل الجهل والتلقين العقائدي يصنعان القاتل؟ هل سحق العدالة والحرية والديمقراطية يخلق الجريمة؟
أم أن هذه العوامل كلها تتضافر، فتسلب الإنسان إنسانيته وتعيد تشكيله في صورة قاتل بدم بارد؟
في هذا السياق، أذكر قصة قرأتها منذ ثلاثين عاماً عن فنانٍ كلّفه الملك برسم صورة للرحمن على جدار الكنيسة. وبعد بحثٍ طويل، وجد ضالّته في طفلٍ نقيّ، ملامحه تنضح بالبراءة والبسمات العذبة. أبدع الفنان لوحته، فانبهر بها الملك، ثم أمره برسم صورة الشيطان على الجدار المقابل، ليكون للعِظة والمقارنة.

بحث الفنان طويلاً عن وجه الشرّ، جاب السجون ومحالّ الفساد، لكنه لم يجد ملامح تخلو تماماً من الإنسانية.
واصل الفنان بحثه، وسط إلحاح الملك الذي كان يطالبه بالإسراع في إنجاز اللوحة، إذ مضت سنوات دون أن يجد الوجه الذي يجسّد الشر المطلق.
وبعد أكثر من عشرين عاماً، عثر أخيراً على مبتغاه داخل أحد المعتقلات: رجل رثّ الثياب، أشعث الشعر، قاسي الملامح، توحي نظراته بالخواء واليأس، وكأن الحياة قد سحبت منه آخر بقايا الإنسانية.
حينها، شعر الفنان بأنه وجد ما يبحث عنه. عرض عليه رسمه مقابل بعض الراحة بعيداً عن جو الزنازين، فوافق الرجل دون تردد. وبعد استئذان إدارة المعتقل، سُمح له بذلك، لكن تحت رقابة مشددة، فقد كان السجين واحداً من أخطر المجرمين الذين عرفتهم السجون.

حين بدأ الفنان برسمه، توقف الرجل فجأة، وحدّق في الجدار، ثم قال: "أذكر أنني كنت طفلاً، وجئت إلى هذه الكنيسة قبل سنوات، وقد رسم أحد الفنانين وجهي هنا!"

تجمّد الفنان في مكانه. كان هذا الرجل، هو الطفل النقي ذاته الذي رسمه يوماً في صورة الرحمن. كيف تحوّل؟ أي دربٍ شائكٍ سار فيه، ليُسحب من النور إلى الظلام؟
هذا السؤال ذاته سيبقى مطروحاً، ليس في قصة فنانٍ ولوحة، بل في حياة أممٍ بأكملها، تذبح باسم الدين والطائفة والهوية، فيما يبقى القاتل والمقتول في النهاية ضحايا لتاريخٍ لم يتعلّم أحدٌ من دروسه.
هل الحل يكمن في تحقيق العدالة، والتعليم الواعي، ونشر ثقافة التسامح، وتمكين الإنسان من حياة كريمة يشعر فيها أنه ذو قيمة؟ لا سيما أن الإنسان بطبعه ليس شريراً، لكنه يُصنع كذلك، تماماً كما يُصنع الخير في النفوس التي تجد بيئة صالحة للنمو.
الجواب برأيي، نعم. إن تعزيز هذه القيم لا يُعدّ فقط السبيل نحو مجتمع متماسك، بل هو الأساس الذي يُمكّن جميع أفراده من السعي المشترك نحو السلام والأمان والازدهار.



#ضيا_اسكندر (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين إحصاء الموظفين وإحصاء الضحايا.. ذاكرة الحكومة الانتقائية ...
- العلويون في سوريا.. تاريخها معتقداتها معاناتها مستقبلها (الج ...
- العلويون في سوريا.. تاريخها معتقداتها معاناتها مستقبلها (الج ...
- الإعلام.. صانع الأحداث أم بائع الوهم؟
- سوريا بعد مائة يوم: أي عهدٍ هذا؟
- أردوغان وتطلعاته للسلطة الدائمة: تحليل لاستراتيجياته السياسي ...
- بين مطرقة الخوف وسندان الوطنية.. زيارة الدروز إلى إسرائيل
- اتفاق عبدي والشرع.. توقيع في الزمن الحرج
- الإعلان الدستوري: نسخة محسّنة من الاستبداد القديم!
- الطائفية.. حين يصبح الانتماء تهمةً تستوجب القتل
- هل أصبح مصير المفقودين في الأزمة السورية طيَّ النسيان؟
- قراءة أولية في اتفاق -قسد- مع دمشق
- جراح الروح: بين غريزة الانتقام وضرورة النضال السلمي
- هل أهدرت هيئة تحرير الشام لحظة التحول في سوريا؟
- سوريا الجديدة: فلول النظام وإرهابيو المعارضة المسلحة.. عدالة ...
- من السلاح إلى السلام.. تحولات النضال الكردي في تركيا
- الليرة المحبوسة.. جوعٌ مُنظّم وسوقٌ بلا روح
- عذراً نيوتن.. الجاذبية ليست وحدها التي تسحبنا للأسفل!
- فراغ أمني وبطالة متفشية.. سوريا إلى أين؟
- كيف تصنع حرباً أهلية في ستة أيام؟ (دليل الطغاة والمغامرين!)


المزيد.....




- الولايات المتحدة الأمريكية وأوكرانيا تقتربان من حسم صفقة الم ...
- خبيرة روسية: الليمون ليس الأغنى بفيتامين -سي- وهناك بدائل مت ...
- -CNN-: إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا
- ترامب يعلق على إبرام صفقة المعادن مع أوكرانيا
- ترامب: الطفل الأمريكي قد يحصل على دميتين بدلا من 30 لكن الصي ...
- الحكومة الموريتانية تنفي صلتها بزيارة مستشار قائد -الدعم الس ...
- الكويت تفرج عن 10 محتجزين أمريكيين إضافيين
- الخارجية الروسية: لا يحق لسويسرا مصادرة أصول المركزي الروسي ...
- القهوة -تقدم- فائدة صحية مدهشة للمسنين
- الأمن الروسي يداهم ناديا ليليا في موسكو بشبهة الترويج للمثلي ...


المزيد.....

- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ضيا اسكندر - من الطفولة إلى الإجرام: كيف يُصنع القتلة؟