أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محيي الدين ابراهيم - حامد عويس شيخ التشكيليين العرب ( الجزء الثالث )














المزيد.....

حامد عويس شيخ التشكيليين العرب ( الجزء الثالث )


محيي الدين ابراهيم

الحوار المتمدن-العدد: 8342 - 2025 / 5 / 14 - 15:44
المحور: الادب والفن
    


الفن بوصفه معركة: عويس بين الاشتراكية والإنسان بروح مفعمة بالوطنية الرفيعة:
"ليست الحرب وحدها ما يستدعي القتال، بل حتى الجمال يحتاج من يذود عنه، والكرامة تحتاج إلى من يخطّها باللون قبل الدم."
حين حمل محمد حامد عويس فرشاته، لم يكن يمسك أداة للرسم، بل كان يرفع سلاحًا. لم تكن اللوحة عنده "سطحًا لونيًا"، بل كانت ساحة مواجهة، بين الجمال والقبح، بين الإنسان والاغتراب، بين الحلم والخذلان، بين الكادح والسلطة، بين الأرض والمحراث من جهة، والمكتب والكرسي من جهة أخرى. ولأنه عاشق فطرة ومتصوف وجدان، فقد كانت معركته لا تُخاض بالدم، بل بالحب. وكانت وسيلته فنًا ملتزما لا بالتوجيه السياسي، بل بالحق الطبيعي: حق الإنسان في الخبز والضوء والصوت والحلم.
لقد شكلت المرحلة الجامعية في مدرسة الفنون الجميلة بالقاهرة مفصلًا بالغ التأثير في فكر الفنان الناشئ. هناك، اكتشف عويس أن الفن ليس حرفة، بل لغة مقاومة. وبينما كان زملاؤه في المدينة يتبادلون أطروحات الاشتراكية العلمية وأفكار العدالة الاجتماعية، كان هو يتذكر عرق الفلاحين على ضفاف النيل، ففهم الاشتراكية لا بوصفها فلسفة حزبية، بل بوصفها حالة وجدانية مناصرة للمغبونين.
وحين اقترب من الحركات الاشتراكية التي انتشرت في أوساط الطلاب في الأربعينيات، لم يجذبه الطابع السياسي السري، بل انبهر بالفكرة: أن الفن يمكن أن يكون لغير النخبة، أن يكون للفلاح، للعامل، للمرأة المطحونة في المطبخ، للطفل الذي يجلس حافيًا عند عتبة البيت. آمن عويس بأن ما قرأه في كتب الاشتراكية، إنما كان حيًا متجسدًا في طين قريته، في جسد والده المنحني على المحراث، في وجه والدته التي تعجن الخبز وتبتسم رغم الجوع.
لكن تصوفه الروحي رفض أن يجعل من الفن أداة دعائية. فكان يرى أن السرية السياسية خيانة للناس، وأن الحقيقة يجب أن تُقال علنًا، في الضوء، على جدران المتاحف، في صالات العرض، في مدارس الأطفال، في الساحات المفتوحة. ولذلك اختار الفن أداة للمقاومة، لأنه – كما قال – الأبقى، والأصدق، والأقرب إلى قلب الفلاح.
وما لبث أن بلور موقفه الفكري والفني في عبارة تشبه وصية:
"إذا لم يكن الإنسان هو بطل اللوحة، فلا حاجة لهذه اللوحة."
وكانت الواقعية الاشتراكية، التي جاءت إلى مصر عبر روسيا والبلدان الاشتراكية بعد الحرب العالمية الثانية، تتطلب خطابًا بصريًا يمجد الطبقة العاملة، ويحشد الجمال لصالح النضال اليومي. غير أن عويس، بعبقريته الروحية، نزع عن هذا التيار طابعه الأيديولوجي المجرد، وبث فيه الروح المصرية الحقيقية: جعل من العامل قديسًا، ومن الفلاحة عذراءً، ومن البطل إنسانًا صامتًا يحمل المطرقة أو المجرفة كما يحمل المتصوف مسبحته.
لقد كانت فرشاته تعمل كما تعمل المناجل في موسم الحصاد، تقطع ما فسد، وتجمع ما نضج، وتصنع من الألم خبزًا بصريًا. في لوحته "خروج الوردية"، نرى جموع العمال تتحرك من باب المصنع كما لو كانوا موكبًا جنائزيًا، لكن العيون تحمل حياة، وتحمل سؤالاً: من نحن؟ ولماذا نكدح؟ ولمن نزرع؟ ويقول الناقد عز الدين نجيب عن تلك المرحلة:
"لقد آمن عويس بأن لوحته يجب أن تكون رسالة بصرية مباشرة، لا تزويق فيها، لا فذلكة تقنية، بل خريطة لمشاعر الجماهير."
وفي هذه المرحلة، نجد الفنان ينحو نحو التكثيف الجسدي، فتغدو الأجساد في لوحاته ضخمة، واضحة، مهيبة. العامل يبدو مثل صخرة نحتها الزمن. الفلاح له وقفة الوليّ، والمرأة كأنها أمّ الكون. لم تكن هذه المبالغة صورية، بل كانت تجسيدًا لرؤيته في أن الإنسان، حين يعمل ويُظلم ويصبر، يصبح أقدس من الحجر وأجمل من الطين.
وحين رسم لوحة "السد العالي"، لم يصور المشروع كما تفعل الصحف الرسمية، بل جعله عملاقًا يجلس على الأرض، ومن بين رجليه يمر النيل، ويخرج الناس إلى الضوء. السد ليس جدارًا هندسيًا، بل جسد البطل الشعبي، الذي يجلس مثل أبي الهول، صامتًا، حاضرًا، خالدًا.
وكان الناقد الإسباني كارلوس أريان قد وصف أعمال عويس سنة 1968 بأنها:
"تصوير ينبع من صميم العروبة والإسلام، لكنه في الوقت ذاته تصوير عالمي، يحمل قضايا البشرية كلها: النمو، الكرامة، الدفاع عن النفس."
وهكذا لم تبقِ واقعية عويس في فلك الاشتراكية المنغلقة، بل ارتقت إلى مستوى الرؤية الكونية المتجذرة في المحلية. لقد مزج بين الفكر والنور، بين المطرقة والهالة، بين الشعب والسماء. كان، كما وصفه الناقد الألماني فريتس كريمر سنة 1961:
"حين ترى لوحات عويس، تؤمن أن صانعها لابد أن يكون من مصر، لما تحويه من سمات شعب مصر وأمانيه."
وما يميز عويس، في خضم هذه المعركة الفنية، أنه لم ينزلق إلى المباشرة. كان يحترم المتلقي، ويترك له هامشًا للتأمل. ففي لوحاته عن "البطالة"، لا يُظهر الغضب، بل يُظهر الحزن. العامل القوي الجالس على الرصيف يبدو كمن يحتضن همّ الكون، عينيه فيهما فراغ، وسكونه أبلغ من أي صراخ. إنه الفنان الذي عرف أن أقصى درجات الاحتجاج أن تهمس حين يريدونك أن تصرخ.
وقد بلغ هذا الموقف ذروته حين خفتت موجة الواقعية الاشتراكية، وانحسر المد الثوري، ودخلت مصر في سياسات الخصخصة والانفتاح. وقتها، لم يتراجع عويس، لم يغيّر بوصلته، بل استمر يرسم الإنسان البسيط بوصفه البطل الحقيقي في كل زمن، حتى حين غابت المنابر وانطفأ الضوء.
كان، في أعماقه، يحمل يقينًا صوفيًا بأن الفن لا يُمارَس من أجل السياسة، بل من أجل الحقّ المطلق، ذلك الحق الذي تتجلى فيه صورة الله في وجه العامل، وصوت الأنبياء في حناجر الفلاحين.
ولذا فإن "معركته" لم تكن فقط طبقية، بل كانت روحية أيضًا، تحرير الروح من استلابها، ومن غربتها، ومن تحويلها إلى آلة إنتاج دون معنى.
إن عويس لم يكن يكتب المانيفستو، بل يرسمه. لم يكن يعتلي المنابر، بل ينحتها من القماش واللون. لم يكن زعيمًا، بل درْويشًا يرقص بريشة مشتعلة على لوحات من نور وظل وطين.



#محيي_الدين_ابراهيم (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القفز من نافذة الحكاية
- الخديوي إسماعيل وبناء مصر الحديثة: أول برلمان، وأول تعليم مج ...
- النجمة فاتن حمامة وجه القمر سيدة الشاشة العربية
- حامد عويس شيخ التشكيليين العرب ( الجزء الثاني )
- شيخ الفنانين التشكيليين المصريين حامد عويس ( الجزء الأول )
- القنوات الوثائقية وساحات النفوذ: كيف تصنع القنوات الوثائقية ...
- مصر القديمة... مهد الإخراج المسرحي وجذور الدراما الإنسانية:
- مسرح الطليعة يحيي الذكرى ١٥٠ لوفاة -بيزيه- ...
- الإسقاط النجمي: بين التجربة الباطنية والبنية الرمزية
- المسرح النفسي: جدلية السيكودراما والعلاج بالدراما
- ماذا تبقى من القومية العربية؟
- المسرح المصري ١٩٨٠ - ٢٠& ...
- الكتاب الأكثر مبيعا في العالم لعام ٢٠٢ ...
- من أراد الحرية .. عليه أن يستعد للموت
- رواية دعاء الكروان حين تكون المرأة الشرقية ضحية لثلاثية المو ...
- النشيد الأول للعشق
- العشق ورحلة الفناء في الحقيقة
- قراءة في كتاب جماليات الصوفية لسايروس زارجار
- السعادة عند ابن سينا وابن عربي
- مفهوم الحياة من منظور الفلسفة


المزيد.....




- 50 عاما من الأدب الساخر.. جائزة إسبانية مرموقة لإدواردو ميند ...
- -مجلة الدوحة.. من الورق إلى الرقمنة- في جلسة نقاشية بمعرض ال ...
- ملصق الدورة الـ78 من مهرجان كان السينمائي يجسد أشهر عناق في ...
- ريانا تُعلن عن أغنية جديدة لها لفيلم -السنافر-
- رحيل روبرت بينتون.. السينمائي الذي أعاد تعريف الطلاق ومعاناة ...
- روبيرت دي نيرو -المناضل- وأسطورة السينما العالمية: -في بلدي ...
- مصر.. جدل في البرلمان بسبب إغلاق بيوت الثقافة.. ومسؤول: -مسا ...
- السويد الى نهائي مسابقة الاغنية الاوروبية يوروفيجن
- -المعجم الأدبي- يرى النور في طهران بثنائية فارسية - عربية
- المؤرخ الأميركي يوجين روغان: الاستعمار سلّح الاستشراق والعثم ...


المزيد.....

- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محيي الدين ابراهيم - حامد عويس شيخ التشكيليين العرب ( الجزء الثالث )