أيوب بن حكيم
الحوار المتمدن-العدد: 8311 - 2025 / 4 / 13 - 17:57
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
المفهومُ نتاجُ أفهوم، المفهوم لا يُشْرَح، بل يُشرّح، إذا شُرِح فقد نخبويته وإذا شرّح إجرائيًا أضحى ذا جدوى.
المفهوم لا يقوّض لأنه مشترك لغوي دِلاليًّا، لا يُفَسّر، بل يمارَس في الكمون ليتصير أفهوما قد تنتج عنه مفاهيم اطرادا، المفهوم إبستيمولوجيا ليس نتاجَ مجاله التداولي فقط، بل تداخلا بين "مجالات"، أي من العبث اعتبار مفهوم ما حكرًا على مجال.(1) المفهوم كمون في الصيرورة التي لا تُفقِده هُويته، قراءة نص ما في ضوء المفهوم يجب - قبلها - قلبها فنقرأ المفهومَ في تداوله النصي بنيويا، فتكوينيا، المفهوم ليس انفعالا حجاجيا فإقناعا فخضوعا، المفهوم تفاعل فتصيير في مناطق النفي من لدن المتلقي، المفهوم إذا لم يصبح نظرية صغيرة فقدَ كثافته، المفهوم كائن رحالة، مُثاقِف، كامن يتحكم باللعبة المنهجية، المنهج ما هو سوى ضحية لمفهوم. فيبني المفهومُ النص، ويُبنى من شظايا التداخل المعرفي، المفهوم لا يُخلق من فراغ، يتعين أن نعرف أن أي مفهوم تم خلقه فنسبة الإبداع فيه لا تتجاوز حيزَ الإضافة التداولية، فهو نتاج لأفهوم عام، و يَستحضِرُ كبارَ السن مما سبقه، ويبني أطفالا ذوي احتياجات للملء، وعلى مبدعي المفاهيم أن يضيفوا إليها الحيز التداولي لكي تصبح كائنات كاملة سرعان ما تشيخ، ثم تنهض من الرماد !!
المفهوم صناعة، يمتلئ المفهوم بذاته كرونولوجيا وتكوينيا كأنه من صلب نفسه! يلتقط إشاراتٍ من مفاهيمَ أخرى فتتراحل إليه، يتوزع جسمه بينها كما يتفرق الدم بين القبائل، حتى إذا طالبته بالأصالة طالبها، وحدثها أنه هي جميعا، نأكل تفاحة فتمتصها عضلاتنا، هل من حق التفاحة أن تقول إن العضلاتِ تفاحة ؟! وتتشكل السحابة بتشكلات متباينة، لكن السحابة في النهاية سحابة مهما تلونت.
تضطر المفاهيم الأصلية للتطبيع والتعايش والتسامح مع المفهوم المؤثل، بل والأخذ عنه بوصفه مفهوما دخيلا أضحى غيرَ دخيل.
يا لنفاق المفاهيم !!
انخلاط مفهومي منظم بفوضى، مفهوم الأسطورة أنموذجا/رَوْسَمًا ليس وليدَ نظريات النقد والثيولوجيا والميثولوجيا والأنثروبولوجيا، وليس وليدا من مفاهيمها: الأنماط العليا- اللاشعور الجمعي- الزمن الأول...بل هو مفهوم أولي أصيل أصبح دخيلا من تعالقها، هو مفهوم قديم لدى الإنسان غير الكاتب، فتمت إعادة تحيينه وملئه ، عقلية الإنسان المعاصر سترفض هذا المفهوم بإيهام نفسها أنها عقلية غير أسطورية فسقطت في محذور أسطورية الإيمان بأسطورية العقل..
يا لانفصام المفاهيم!!
النقد المعاصر نفسه سيرفض المفهوم، وسيعتبره تمحلا! فجأة سيقدِم بعض البشر المعدودين على الشعر والحداثة وما هم منهما على استقطاب رموز أسطورية بطرائقَ مثيرة للشفقة ( درويش وقباني والسياب ..) كيف تجترح مفهوما مجترحا، كيف تتسول برموز لا تعيشها ولا تؤمن بها !
مفهوم الرمز يتعايش مع الأسطورة والخرافة والساجا والملحمة، الرمز لا نفعي ولا تشابهي، الرمز تأملي وتجاوري، شروط صارمة لملء المفهوم الأصغر من أجل ملء المفهوم الأكبر: مثل الخلايا التي تملأ العضلة، ما بنا اليوم مع العضلات !!
يشيخ المفهوم انشياخا، ولشيخوخته اعتبارات خارجية لا داخلية، سياسية وأيديولوجية...ولا يموت المفهوم انتحارا لكونه فقد اجرائيته وفعّاليته وتناسبه مع الهم البشري، بل يغتال رمزيا من لدن السلطة فيصبح ثقبا أسودَ قابلا للبعث، وقد يبعث مفهوم ما من الرماد إذا توسل به فيلسوف مشهور أو استدعته سلطة سياسية أو أيدديولوجية فينمو في كنفها نموَّ متبَنّى ( مفاهيم الوهابيين التي ماتت لمدة 700 سنة قبل أن تُتبنى سياسيا )
يا لانظلام المفاهيم !
رحلة المفاهيم رحلة إنسانية ذهنية مذهلة مستشكلة، إذ يبقع خالق المفهوم في مكانه، فيرحل مفهومه عنه ليصبح كونيا، قد يُفهم، قد يشوه، وقد يطور، أما مفاهيم التراث فهي زحف صامت إلينا، تُحرجنا، هي لا تنتمي إلى زمننا، لكنها تنتمي إلينا، تعيش فينا، حتى خالقو هذه المفاهيم يعيشون بيننا، وما زالت مفاهيمهم تطغى وتستنهضُ الحروبَ تارة، و تطفئ لهيب الفتن تارة أخرى، فالكثير من المذاهب تريد استقطاب ابن تيمية ومفاهيمَه، قامت معارك فكرية بسبب مفاهيم الشاطبي والراغب والمحاسبي والغزالي ونظرتهم لمفهوم العقل الموسع الذي يحوي القلب فالمقاصد، شكلت مفاهيم ابن رشد معركة حامية بين مفكرينا، وكثير غيرهم رحلوا من أزمنتهم، ليمكثوا بيننا متبخترين برحلتهم إلينا من جهة الزمن، فهل رحلت مفاهيمهم إلينا لتعاصرنا ؟ أم رحلنا إليها لنعاصرها ؟ سؤالان ممضان .
داخل مجالنا التداولي؛ يرحل المفهوم من مجال إلى آخر، مفهوم العلة رحل من غلغامش إلى الفلسفة اليونانية، استقبله علم النحو وأصول الفقه وأصول الدين، يحاول علم "فقه العلوم" الإجابة عن ماهية الآليات التي تنتج الاختلافات في المفهوم نفسه في رحلته الأفقية بين مجال ومجال داخل الأنا التراثية .. مشروع رهيب، وثقافتنا في بدءاته باستحياء.
ترحل مفاهيم الآخر إلينا، الإشكال هنا أكبر وأكثر إحراجا، بعضهم ينتقد التوسل بمفاهيم الآخر ومناهجه، البعض يدعو إلى تبييء المنهج، والبعض يدعو إلى تجديد المنهج، ويحاول المزج بين آليات الآخر والإبداع من داخل النسق الإسلامي بما يتناسب مع التداوليات الإسلامية، لكن البعض آثر أن تكون بيننا وبين مفاهيم التراث مسافةٌ كافية، هنا تنبع إشكالات، ألسنا نرى أن الآخر طور نفسه عن طريق مفاهيم الأنا ؟ إذن أليست مفاهيمه تطويرا للأنا ؟ إذن لم نرفضها ؟ هذا كان سؤال "علي حرب" وهو يخابث ما سماه "الأصولية النقدية في مشروع "عبد العزيز حمودة" الرافضِ للمفاهيم الرحالة .
الإشكال الآخر الذي يعاور مسألة رحلات المفاهيم المسماة " المثاقفة " هو إشكال الترجمة مصطلحا، و التكييف دلالةً ، هل الأنطولوجي هو الوجودي ؟ هل الاختلاف عند دريدا هو نفسه الاختلاف عند ابن عربي ؟ هل مفهوم تواطؤ الأضداد في التفكيكية هو نفسه في الصوفية القديمة؟ هل مفهوم الوجود هو نفسه مفهوم الكائن ؟؟ لماذا ننحرج من عبارة الله موجود ! هل لدلالتها الصرفية بمعنى المفعول ؟
بذلك رحل مفكرون عرب معاصرون رحلات طويلة في التراث، من أجل تقعيد وشرعنة دريدا عبر ابن سينا والسهروردي وابن عربي، رحلة مضادة، من أجل إثبات وجود الآخر في ثقافتنا، وشرعنه مبادئه من مبادئنا، رحلات غريبة هي، رحلات مضادة، ورحلات مضادة للرحلات المضادة .
ترتحل المفاهيم إذا لم تجد لها تربةً خصبة، رحلت مفاهيم ابن رشد، حينما لم يؤمن بها المسلمون، تلقفها الغرب، وبنى بها فرقة الرشدية، هاجرت مفاهيم ابن عربي حينما لم يستسغ المغاربة تصوفه التأملي الفلسفي، رحل إلى مصر، ــ ومصر بحيرة مغربية التصوف ــ فتم إقصاؤه، ثم موليا وجهه قبل الشام، فوجد الملاذ، وطور نفسه، ابن عربي قبل أن يرحل إلى المشرق، رحل إلى ابن رشد حسب روايته في الفتوحات المكية فتغير التاريخ، كلاهما رحل، هاجرت مفاهيم ابن رشد التي أزعجت السلطة المغربية، وهاجر ابن عربي بجسده ومفاهيمه معا ليتماهى مع متصوفة المشرق عامة والشام خاصة. شعر ابن رشد أن منهجه جاف فسمع بأبي العباس السبتي بمراكش ومفاهيمه الصوفية فتراجع ابن رشد عن نظرته العرفان مثلما تراجع الجابري في العقل الأخلاقي العربي حين قرأ المحاسبي وحين تراجع ابن خلدون في كتابه شفاء السائل عن مهاجمته التصوف ...
يتحدث "عبد الفتاح كيليطو" عن "أدب الغرابة"، أدب مفعم بأنه ليس نسقيا، كذلك كان ابن عربي وابن رشد، كل مفهوم يرحل من موطنه إلى موطن آخر قسرا هو مفهوم غريب غير نسقي، وقد يقلب الكون، آمن ابن عربي بالاختلاف في أقصى ممكناته، سمع "دريدا" عن "ابن عربي" ومفاهيم من بعض المفكرين العرب خصوصا مفهوم "تواطؤ الأضداد"، فالتمس منهم أن يترجموا له "ابن عربي، فهاجر ابن عربي هجرة ثانية إلى فرنسا.
الصراع على المفاهيم الرحالة في ثقافتنا المعاصرة، يبلغ ذروته حينما رأى جيل دولوز أن " الفلسفة هي فن إبداع المفاهيم " في كتابه "ما الفلسفة "1992، قبله بثلاث سنوات قالها الفيلسوف المفهومي "طه عبد الرحمان" فلم يكترث أحد، وحينما تلقفها متفلسفتنا من دولوز، رددوا العبارة حتى أصبحت قانونا لا يعلى عليه، تحسر "طه عبد الرحمان" فتساءل بخبث وحسرة : لماذا أخذوا العبارة من "دولوز" رغم بعد الشقة بين الثقافتين ولم يأخذوها مني ؟ نقول : العربي مَهُوسٌ بالمفاهيم الرحالة، فإذا كانت منا فهي ليست رحالة، فيرحل هو إليها لاستجلابها من الآخر ليحقق رضى عن الذات .
التأثيل بوصفه خَلقا شكليا جديدا للمصطلحات الأجنبية عن طريق عرضها على ميزان التداول في اللغة العربية صرفا واشتقاقا وتوليدا، يبقى رحلة من أهم رحلات المفهوم بين ثقافتين مختلفتين، والواسطة هي الترجمة التأصيلية، ففقه العلوم ينوب عن مصطلح إيبيستيمولوجيا، والظاهراتيات هي الفينومينولوجيا و التقويضية أو التفكيكية هوdéconstruction و التداوليات هي.pragmatiques
هاهنا يخصص بعض مفكرينا كتبا كاملة لتبني نظرية رحلة المفاهيم ، وانتقالها من الثقافات الأخرى إلى ثقافتنا، يشرعون، ويدفعون الاتهامات والشبهات ويبدعون الدعاوى.
يتنافس مفكرونا في تأثيل المفاهيم وترحيلها، ويتهم بعضهم بعضا أن المصطلح المنحوت المؤثل إنما هو له، فقه العلوم وفقه الفلسفة مثلا بين المرزوقي وطه عبد الرحمان، يتنافسون أيضا في وضع مصطلحات كثيرة لمفاهيم رحالة مثل " الإيديولوجيا " فهي تارة الأدلوجة حسب العروي، وتارة المذهبية عند الوضعيين في مصر، فيرد طه إنها : الفِكرانية حسب إمكانات التداول العربي .. وهكذا .
هذه هي رحلة المفاهيم، رحلة مستشكلة ومستشكلة، سواء داخل هُويتنا، وبيننا وبين الآخر، بين الآخر وتراثنا .
هامش
(1) يدعي اللسانيون أن البنيوية ابتكار لساني، وهذا قول مجانب للصواب من وجهين: الأول أن العلوم الحقة تشتغل بالقوانين البنيوية فجاءت اللسانيات الحديثة فطبقت ما طبقته، الثاني ان البنيوية لم تشتهر باللسانيات بل بالانثروبولوجيا..
[ رحلة المفاهيم وعودها بالترجمة: X هي الشيء ]
من المفاهيم الأساسية للرياضيات النظرية مفهوم المجهول X ..
وهو ترجمة حرفية من العربية لكلمة ( الشيء ) وابتكر هذا المفهوم العالم المغربي الأندلسي الفقيه القلصادي المدفون بمدينة باجة التونسية. وذلك قبل 600 سنة.
فالإسبان أخذوا كلمة (شيء) لتضمينها في تطويرها لعلم الرياضيات وتكتب شيء X فهذا الحرف في الإسپانية ينطق ( شي ) معطشة ..
ولما جاء الانجليز والفرانسة لأخذ علوم الرياضيات من الإيطاليين والإسپان نطقوا الشي الإسپانية x اكس … وبقيت تنطق اكس ولما أخذنا نحن المسلمين هذا المصطلح أخذناه بلفظة إكس وليس ( الشيء )..
#أيوب_بن_حكيم (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟