أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الورداشي - ويأتي الرحيلُ سريعا!














المزيد.....

ويأتي الرحيلُ سريعا!


محمد الورداشي
كاتب وباحث مغربي.

(Mohamed El Ouardachi)


الحوار المتمدن-العدد: 8233 - 2025 / 1 / 25 - 04:50
المحور: الادب والفن
    


لم أكن أعلم أن لحظة الرحيل مؤلمة لتجعلني أسقط مترنحا من هول الصدمة، وأن الجسد المسجى على الأرض قد تحمل كل تلك الأوجاع والآلام المبرحة التي تمزقه شيئا فشيئا، وأن ذلك الأنين الخافت الذي يشبه الحشرجة يحبل بشفرات ورموز غامضة، وأن تلك النظرات التائهة التي تعرب عنها العيون الشاحبة المنطفئة تختزن لحظة الرحيل السريع. لم أكن أعلم أن وجود الجسد المسجى على الأرض بيننا وجود عابر، وأن الوجود لا يمتلئ إلا بحضور الغياب؛ لأن الوجود والغياب عنصران متلازمان في حياتنا، والحياة لا تأخذ معناها في غياب الموت الذي يعطي المعنى الحقيقي للحياة. كيف ستكون الحياة بدون موت؟ وكيف ستكون للحضور قيمة دون استحضار الغياب؟.
رأيت الجسد ينطفئ ويذوب، وفي كل انطفاءة تزداد نظرات العيون اختراقا للقلب وتأثيرا في النفس، وتختلط الذكريات الماضية بلحظات الحاضر الهاربة، وتأتي المشاعر الإنسانية العميقة غائمة مشوشة؛ فلم يعد القلب يدري أهو أمام لحظات فرح أم حزن، وهل بمقدوره تجشم عناء الغياب وما يحمله من فيض المعنى والدلالة.
أنظر إلى العيون الشاحبة زمنا طويلا، وأتغلغل في سوادها وبياضها، وأنصت إلى أنينها وأحس آلامها التي تسيل دموعا ساخنة على تجاعيد الوجه التي أضحت أخاديد للبكاء الدائم، وأقترب أكثر فأكثر حتى أنصت إلى الكلمات الغامضة المتناثرة؛ إذ لا تبلغ أذني إلا على شكل وشوشات وهمسات.. وشوشات الموتى وهمساتهم في أجداثهم، فلم أجد المعنى في تشظي الجسد المتألم، ولم أسطع على نسيانه صبرا.
تقول العيون الخابية إن القريب تركك قبل البعيد، وإن غربتك عن العالم المحيط بك قد طالت، وإن ما لغو الأناسي وصراخهم في حضرتك لم يزدك إلا ألما ووجعا، وإن تعبيرهم عن الحزن والأسى لحالك لم يكن إلا نفاقا وزيفا، فذرفت دموعك الغالية لأنك لا تملك قوة للكلام، لكي تقول ما يمور في أعمق أعماقك، وما يمزق روحك المثقلة بالحنين لأيام الصبا والقوة والتجلد في وجه الشامتين بك.
هجرك الكلام بعدما نثرت كلماتك القليلة أمام أناس لا يسمعون، وجف دمع عينيك لأنهم لا يبصرون أسياخ الألم التي تطفو على ملامح وجهك. ضاقت بك الأرض بما رحبت، وأحسست بشعور غريب يلح عليك بالرحيل، ففكرت في الهرب من الأصوات التي تقض مضجعك وتسبب لك أرقا وسهودا يغيب معه الوسن الوئيد، لكن، وآه من لكن هذه، ركبتاك الخائرتان لم تقويا على الوقوف، ولا على حمل جسدك النحيل المنهك بذلك الداء العضال، ذاك الداء اللعين الذي طاب له المقام في جسدك فأقام، حتى تلاشت الروح واضمحلت في الجسد المضمحل، ولم تعد تريد من المنى إلا الرحيل، لكن ليس أي رحيل، وإنما الرحيل السريع الذي يكون خلاصا لعنائك الطويل.
وها هو الزمن العجول يحقق لك أمنيتك الأخيرة، لكنه لم يأت مبكرا كما أردت، فتركك تصارع مصيرك وحيدا وغريبا بين إخوانك، وتنظر إليهم تلك النظرات الحارقة التي تخترق ما ضمت عليه جوانحهم، وترمي بهم في قاع الحيرة الغامضة، وتجعلهم طعما وفريسة للمعاني الغائبة الحاضرة؛ لأن غيابك سيعطيها حضورا قويا، وحضورك يصنع منها صورا للنسيان.
كنت الحاضر الغائب بيننا، ووضعك المزدوج هذا، لم يكن سهلا على من أحبك، ورأى فيك السند المتين الذي لا يضعف أمام الدواهي، ولا يرتعد حينما تتكالب عليه بنات الدهر التي تأتي متتابعة. لكني كنت مختلفا في قراءة رموز وشفرات عينيك، ووضعت نفسي في غمار البحث عن طبيعتك الموزعة بين الحضور والغياب. فلم هذا الحضور الغائب والغياب الحاضر يا صاحبي؟
دعني، قبل الرحيل، أخبرك مشاعر المحيطين بك قبل مرضك وأثناءه، أما ما جرى بعد رحيلك، فلا قوة لي على حكيه وتتبعه لأنه مؤلم لك، ومخيب للآمال الجسام التي عقدتها عليهم. وأطلعك على الدوافع التي حملتني على الكتابة في هذه اللحظة المرهقة بالأحداث المتسارعة التي يغطي ويمحي بعضها بعضا.
لا أكتب نعيا لك، ولكني أكتب عن نفسي ومآلي في مساق الحديث عنك، وأقرأ حياتي في شريط حياتك وتجاربك الخاصة.. لذلك، أقول لك...
كانوا موقنين، في كل مرة رأوك، أنك ستترجل عن صهوة الحياة، وضربوا عين الأمر وأنفه، وانتهوا إلى التكهن بأن رحيلك وشيك في الأيام القليلة المقبلة. لقد وضع مرضك حجابا بينك وبينهم، وخافوا ضعفهم الذي تحمله عيناك، فلم يكن أمامهم إلا الصدود عنك، وهجرانك مليا في لحظة صراعك المرير أعزل ووحيدا.
أما لم حملت قلمي للكتابة عنك، فإن السبب يكمن في ما تختزنه نفسي من حسرة وضيم، في الغربة التي تحيط بي من كل الجهات، في الاختناق الذي يعتريني بين لحظة وأخرى. فضلا عن كونك صورة لضعفي وانكساري الدائمين.
يأتي الرحيل لينهي عذابات السنين التي عشناها في غربتنا، ويضع نهاية لهذه المهازل البشرية التي تملأ حياتنا، وتجعلنا ضحية البحث الدائب عن خيالات الأشياء والأشخاص، ويكون لحظة الحسم بين الوجود الحقيقي والزائف، بين الإنسان الأصيل والمنتهز، بين من يغرقنا ويرمي لنا حبل نجاة وهميا، ومن يلقي بنفسه في الأعماق لينقذنا.
كنت أريد الحديث عن مسارك السياسي والنضالي وسط رفاقك، بيد أن الوجع التي يتسلل إلى جسدي، حتى غدوت آكل نفسي كل لحظة، هو ما يمنعني من تتمة هذه الكلمات حتى نهايتها، والوقوف عند دقائق الأمور وجزئياتها، واستكناه حقيقة المشاعر ومعانيها، وصدق المواقف ومشروعيتها. وحتى لا أشق عليك وأشوش على هدوئك في وجودك البعيد، وأثقل كاهلك بتفاصيل حياتنا بعد رحيلك السريع، فإن لنا لقاء وحوارا في الأيام المقبلة، لأن الكتابة تبقى الوسيلة الفعالة للحوار بين عالمك المترع بالأسرار والغموض، وعالمنا الحابل بالخيالات والأوهام.



#محمد_الورداشي (هاشتاغ)       Mohamed_El_Ouardachi#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إني ظل الألم يا صاحبي!
- صمتُ الصباحِ
- النفس بين الحنين والرغبة
- هل صمت المثقف آية على انهزامه؟
- -يولدُ الصمتُ من رحمِ القراءةِ-
- -حِدادُ الصباحِ-
- -حينما يزورني طيف أمي-
- -مذاقُ النفاقِ-
- -حينما تَبكي الروحُ!-
- قراءة في كتاب -الكلام والخبر: مقدمة في السرد العربي- للدكتور ...
- قراءة في كتاب -سرديات معاصرة- ل الحسين أيت باها
- مقوماتُ القصةِ القصيرةِ
- إني متعبٌ يا صاحبي!
- محمود درويش في ضيافة السيميائيات
- قلق في الكينونة
- خواطرُ المطرِ
- -زلزال مفاجئ-
- -بحثت فوجدت نفسك-
- الذات بين الوحدة والألفة
- وهم التعويض


المزيد.....




- قطر تعزز حماية الملكية الفكرية لجذب الاستثمارات النوعية
- فيلم -ساحر الكرملين-.. الممثل البريطاني جود تدرّب على رياضة ...
- إبراهيم زولي يقدّم -ما وراء الأغلفة-: ثلاثون عملاً خالداً يع ...
- النسخة الروسية من رواية -الشوك والقرنفل- تصف السنوار بـ-جنرا ...
- حين استمعت إلى همهمات الصخور
- تكريم انتشال التميمي بمنحه جائزة - لاهاي- للسينما
- سعد الدين شاهين شاعرا للأطفال
- -جوايا اكتشاف-.. إطلاق أغنية فيلم -ضي- بصوت -الكينج- محمد من ...
- رشيد بنزين والوجه الإنساني للضحايا: القراءة فعل مقاومة والمُ ...
- فيلم -ساحر الكرملين-...الممثل البريطاني جود لو لم يخشَ -عواق ...


المزيد.....

- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الورداشي - ويأتي الرحيلُ سريعا!