أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الورداشي - صمتُ الصباحِ














المزيد.....

صمتُ الصباحِ


محمد الورداشي
كاتب وباحث مغربي.

(Mohamed El Ouardachi)


الحوار المتمدن-العدد: 8214 - 2025 / 1 / 6 - 18:00
المحور: الادب والفن
    


أتى الصباح خجولا متثاقلا، فأخذ الشعاع يتسلل من زجاج النافذة، ويضيء عتمة الغرفة الصغيرة. تقلب في فراشه مرات عديدة، وتحسس جانبه الأيمن بحثا عن هاتفه الذي أخذ يرن ويرتعد، نظر إلى شاشته بعينين ذابلتين بالحمى، ومثقلتين ببقايا نعاس ثقيل يجثم على جفنيهما، رأى الساعة تشير إلى السابعة والنصف، وضع يده على جبينه وشعر بحرارة تسري في أطراف أصابعه؛ أصيب بذعر شديد، فحاول أن يلملم شظايا جسده المرتخي، وأن يقف على قدميه المرتعشتين، فلم يستطع الوقوف ولا الجلوس، كان يحس بتيار نوم حارق يهاجم عينيه، وحرارة تكتسح ما تبقى من مناطق جسده العليل.
حمل نفسه وتصفح رقم صديقه، حاول الاتصال كثيرا، لكنه لم يحظ برد أو كلمة منه، أغمض عينيه وتمدد بلأي على فراشه، واستسلم للنعاس والحمى اللذين تكالبا على جسده النحيل منذ ليلة أمس.
كاد النوم يسيطر عليه لولا أصواتٌ مرتفعةٌ آتية من الزقاق، أصوات نساء عبارة عن تلاسن وسباب وشتيمة، ابتسم ابتسامة شاحبة، وعلم أن أحد أبناء الجارة قد تشاجر مع أبناء جارات أخريات، وأيقن، كعادته، أن جارته تثقن دور الضحية علما أنها الجلاد، وتظهر براءة أبنائها وحسن تربيتهم كما يظهر الذئب براءة الحمل ووداعته.
باءت محاولات النوم بالفشل، فأزمع على النهوض وارتداء ملابسه مهما كلفه الأمر من عناء ومشقة. وبعد لأي، ارتدى ملابسه وتأبط كتابا يحمل عنوان "الصمت لغة المعنى والوجود" للفيلسوف وعالم الاجتماع "دافيد لوبروتون"، ونزل الدرج بخطوات وئيدة، فوجد نفسه في الشارع أمام رياح باردة، لفحت وجهه المتفصد عرقا، وأحس بالبرد يخز جسده كالإبر.
تابع مشيه على الرصيف، ومشاهداته للناس وهم يمشون الهوينى، جالت في خاطره أفكار متضاربة، وتساءل عن أعماق هؤلاء التائهين المشدوهين الذين يركضون وراء اللاشيء، وينظرون إلى الفراغ بوصفه أفقا طموحا لهم، ولما يحسون باليأس يرتد البصر إلى الأرض، ويأخذون في تأمل الرصيف وأشيائه حتى يبلغوا مقصدهم.
كان يعلم، في قرارة نفسه، أن هؤلاء المعذبين في الأرض يحملون هموما كالجبال في قلوبهم الصغيرة، ويخبئون موتهم الرتيب ومعاناتهم المستمرة في أعينهم الذابلة التي تنظر إلى الفراغ، وأن في نفس كل واحد منهم أحلاما كبيرة أجهضت قبل أن تولد، وشعورا عارما بالرغبة في الحياة الكريمة، وأن بنات الدهر بخّرتْ أحلامهم ومشاعرهم، فلم يتبق منهم سوى أجساد عليلة تحمل موتهم المؤجل، وبقايا أحلامهم وركام مآسيهم ومعاناتهم.
تابع مشيه وتأملاته في هدوء، فنظر إلى الكتاب الذي يحمله مبتسما، وقال مناجيا نفسه:
- " ما أبلغ لغة الصمت! وما أعمق معانيه ودلالاته! ما أجمل صمت الإنسان الذي خبر الحياة ووقف على مهازلها ومآسيها! ما أعظم الصمت الذي يعد عزاءً مكتوما لنفس فقدت روحها، وبلسما لجراح إنسان وعى شرطه الوجودي، وأيقن بموته وفنائه؛ لذلك لم تعد الدنيا همه وشاغله، والأشياءُ الزائلةُ العابرةُ مبتغاه ومسعاه، وإنما يتمسك بالباقي والدائم الذي لم ولن يزول".
استفاق من مشاعره الصوفية التي تراود نفسه كلما أعياها المرئي، وترمي بها في غمار البحث عن اللامرئي. تحسس جبينه بيده المرتجفة، فشعر بالحرارة تتراجع وتتلاشى شيئا فشيئا، فتابع مشيه وحيدا، يئن كلما أثقله الحمل الذي على منكبيه، فيتوقف لحظات ليتنفس الهواء البارد ويملأ رئتيه بكمية كبيرة، وما إن يصل باب المقهى حتى يختبئ في جسده كالحلزون بفعل النظرات التائهة نحوه، فتتراءى له سهاما تخترق صدره بل جسده كله، لكنه يطأطئ رأسه، ويتسلح بالصمت بوصفه معنى المعنى، ويدخل المقهى ولا يرى إلا نفسه في عيون الآخرين، كأن عيونهم مرآة تعكس ما يختلج نفسه وأنفسهم، كأنهم مشتركون في المأساة نفسها، ويحملون الموت الرتيب المؤجل نفسه، ويقبضون على سراب الأحلام والآمال عينها.
يتخذ لنفسه مكانا في زاوية المقهى، يفتح دفتي كتابه، ويحتسي قهوته بانتشاء، ويردد في صمت:
"سننتصر على الحياة ببقايا حياتنا، ونسقي أحلامنا المجهضدة حتى تنمو ورودا في قلوبنا، ونضمد جراحنا بدموعنا المالحة، ونواجه موتنا بقبول وفرح؛ لأن الحياة والموت لا يعاشان إلا مرة واحدة، وما يعاشُ مرة واحدة، يكون جديرا بفرح الكينونة وهي تملأ الوجود وتمتلئ به".



#محمد_الورداشي (هاشتاغ)       Mohamed_El_Ouardachi#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- النفس بين الحنين والرغبة
- هل صمت المثقف آية على انهزامه؟
- -يولدُ الصمتُ من رحمِ القراءةِ-
- -حِدادُ الصباحِ-
- -حينما يزورني طيف أمي-
- -مذاقُ النفاقِ-
- -حينما تَبكي الروحُ!-
- قراءة في كتاب -الكلام والخبر: مقدمة في السرد العربي- للدكتور ...
- قراءة في كتاب -سرديات معاصرة- ل الحسين أيت باها
- مقوماتُ القصةِ القصيرةِ
- إني متعبٌ يا صاحبي!
- محمود درويش في ضيافة السيميائيات
- قلق في الكينونة
- خواطرُ المطرِ
- -زلزال مفاجئ-
- -بحثت فوجدت نفسك-
- الذات بين الوحدة والألفة
- وهم التعويض
- - كيف ينشر اليوتوب أمراضه في المجتمعات العربية؟-
- عائدون بقوة


المزيد.....




- -بدونك أشعر أني أعمى حقا-.. كيف تناولت سرديات النثر العربي ا ...
- نذير علي عبد أحمد يناقش رسالته عن أزمة الفرد والمجتمع في روا ...
- المؤرخة جيل كاستنر: تاريخ التخريب ممتد وقد دمّر حضارات دون ش ...
- سعود القحطاني: الشاعر الذي فارق الحياة على قمة جبل
- رحلة سياحية في بنسلفانيا للتعرف على ثقافة مجتمع -الأميش- الف ...
- من الأرقام إلى الحكايات الإنسانية.. رواية -لا بريد إلى غزة- ...
- حين تتحول البراءة إلى كابوس.. الأطفال كمصدر للرعب النفسي في ...
- مصر.. الكشف عن آثار غارقة بأعماق البحر المتوسط
- كتاب -ما وراء الأغلفة- لإبراهيم زولي.. أطلس مصغر لروح القرن ...
- مصر.. إحالة بدرية طلبة إلى -مجلس تأديب- بقرار من نقابة المهن ...


المزيد.....

- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الورداشي - صمتُ الصباحِ