أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الورداشي - -مذاقُ النفاقِ-















المزيد.....

-مذاقُ النفاقِ-


محمد الورداشي
كاتب وباحث مغربي.

(Mohamed El Ouardachi)


الحوار المتمدن-العدد: 7831 - 2023 / 12 / 20 - 16:16
المحور: الادب والفن
    


في هذا المساء البارد وقف ينظر متأملا الوجوه الواجمة، وفي نفسه شيء من الحسرة والضيم. ظل واقفا في مكانه ينتظر صديقه مدة زمنية، فأخذ يشغل نفسه بالسيارات التي تمر أمامه، وكلما بلغ المائة فالألف أعاد الكرة، وبدأ العد من الصفر حتى باغته منبه سيارة صاخب.
أطل من نافذة السيارة شاب مدور الوجه، مكفرة ملامحه، فخاطب الواقف:
- أنت لا تخاف الموت..
نظر إليه الواقف مشدوها دون أن ينبس بكلمة، فأخذ يعد بسرعة أكثر من السابق، والشاب يلاحقه بنظراته الشزراء، وينتظر منه تعقيبا أو ردا على كلامه. لم يقف طويلا وإنما امتطى سيارته بخفة، ثم انطلق كالسحابة يطوي الطريق.
بعد انتظار طويل، أتى صديقه وهو يجر قدميه ويتفرس ملامح الواقف. قال في نفسه إن التعب قد هده، وبلهجة المعتذر قال:
- تأخرت كثيرا عن لقائك.
بابتسامة رد الواقف:
- لا تعتذر لأني شغلتك معي..
لم يضف كلمة بل ظل يقرأ أفكار صديقه المسطورة على صفحة وجهه.. كان خاطره مضطربا لأن الحوار لم يجد نفعا مع رب العمل، لذلك ارتأى أن يخاطبه بصراحة:
- رفض تشغيلك..
حك رأسه ثم أضاف:
- عليك أن تحلق لحيتك صديقي..
بهت وتحسس شعرات لحيته الكثيفة، فرد معقبا:
- لن أفعل صديقي.. إنها مبدأ.
- ليس هذا زمن المبادئ والالتزام، بل زمن الأقنعة.
- كيف؟
- أحلق لحيتك، وبمجرد ما تحصل على العمل عد إلى سيرتك الأولى..
حلق ذقنه وتحصل على عمل في المعمل، فعلم أن لا خير في هذا الزمن، وأن النجاة من سوق البطالة تقضي النفاق: السياسي، والديني، والاجتماعي.
كان ذائبا في عمله ذات صباح، فسمع صوتا مبحوحا قريبا منه، التفت فوجد أمامه رجلا ضخم البنية، ذا عينين جاحظتين، يرتدي معطفيا جلديا أسود، وفي يده هاتفان. وقف أمامه ينظر إليه نظرات قوية اخترقت كيانه، فارتعدت يداه، فسقط الثوب منهما على الطاولة، ثم خاطبه الرجل ذو الصوت المبحوح:
- أنت الشاب الذي التحق بالمعمل هذا الأسبوع؟
فرد عليه بصوت تخنقه الرهبة:
- نعم سيدي.
- هل أخبروك بقانون العمل معنا؟
أجاب مستغربا:
- لا.
- حسنا، عليك أن تترك عينيك ولسانك في المعمل، وإلا فلا مكان لك بيننا.
هز رأسه موافقا دون أن يفهم القصد من وراء هذه الكلمات، فطأطأ رأسه منشغلا بالثوب، لكنه يلقي نظرات خاطفة إلى الوجوه الواجمة، ويتساءل عن سبب صمت العمال داخل المعمل، وعن انهماكهم في العمل دون أن ينبسوا ببنت شفة أو عين.
مر عامان سريعين على دخوله المعمل، وتعلم خلالهما أن يترك عينيه ولسانه في المعمل، وفهم أن قصد تلك الكلمات التي سمعها من صاحب المعمل منذ التحاقه بأسبوع هو البكم والعمى؛ لأنه يعرف أن ما يجري داخل المعمل لا ينبغي أن تنتبه إليه العين، وأن لا ينقله اللسان إلى الآخرين.
أحس أن سيف الرقيب وعينيه بدآ يتراجعان، وتنفس حيزا من الحرية في التحرك داخل المعمل، وفي ارتداء الملابس التي تحلو له، ففكر في ترك لحيته تنمو على سجيتها، واستمر في عيش هذه الحرية الضيقة طولا وعرضا، وأخذ يعمل على الاعتناء بلحيته أكثر، ويصلي صلواته في وقتها على مرأى ومسمع من العمال والمكلفين بمراقبة المعمل، وتوزيع المهام والخدمات على العمال.
تأخر ذات يوم في الطريق، ولما بلغ باب المعمل وقف متسمرا، يطرق الباب في خفوت، فتح الباب وتسلل منه كالسهم، ثم وجد نفسه في الساحة أمام الرجل ذي الصوت المبحوح، سلم عليه بكلمات منفلتة، ثم خفظ بصره إلى أسفل، وارتعش من تلك النظرات التي تفحصه من رأسه إلى أخمص قدميه.
قال الرجل ذو الصوت المبحوح مخاطبا الشاب:
- لا تعتقد أن العين التي غضت طرفها عنك قد أصابها العمى، إنني أعرف عنك كل صغيرة وكبيرة.
توقف لحظة يرقب وقع كلماته في نفس الشاب، ولما لم يظفر منه بكلمة، أردف قائلا:
- يشفع لك تفانيك في عملك، والتزامك بصلاتك في وقتها، تعال معي.
خطا الرجل خطواته البطيئة وهو يلقي نظرة يمينا وشمالا، يحذوه الشاب في صمت، فلما وصلا الإدارة ودلفا مكتب الرجل، أذن له بالجلوس، وأخذ ينظر إليه تلك النظرات المعهودة، وظلا دقائق صامتين لا يتحدثان إلا بالنظرات الهادفة.
قال له، بعد صمت دام دقائق، بنبرة مستعطفة:
- بلغني أن العمال يستعدون لخوض إضراب، ولا شك أن لك علما بهذا الأمر.
- لم أسمع أو أرى ما يخص الإضراب.
- إنهم رفعوا مطالب كثيرة إلى الإدارة، يريدون ظروف عمل ملائمة، كأنهم يعملون في المناجم.
- لا علم لي بهذا سيدي، ولا دخل لي في الإضراب.
ابتسم الرجل ابتسامة عريضة، فتابع الشاب كلامه:
- إني مؤمن بقسمة الله، وقنوع بما يأتي من فضلكم.
كان صاحب المعمل يعرف أن الشاب بدوي، فقير اجتماعيا وفكريا، وأنه لا يملك إلا بصيص إيمان في قلبه، وهو زاده وموجهه في ما يفعل ويقول، لذلك عهد إليه بمهمة رفع تقارير حول حركات العمال وسكناتهم، وقد أخبره أنه ليس صاحب المعمل، فهو مدير له فحسب، وأن صاحبه هو رجل علية القوم، وأنه سيتحدث له عن تفانيه وإخلاصه في العمل.
تسرب فرح صغير إلى قلب الشاب، فأخذ يرفع التقارير تباعا وبانتظام، حتى تفاجأ ذات يوم بالعمال يشبكون أيديهم حول عنقه، حاول الانفلات منهم، ولم يتركوه حتى كادت روحه أن تخرج، فارتمى على الأرض يتنفس بمشقة كبيرة.
بلغ مدير المعمل ما جرى، فنادى على الشاب، وعاتبه لأنه لم يؤد مهمته كما اتفق، فقرر تسريحه من العمل بحجة أنه يسبب الفوضى بين العمال. بهت الشاب من حجم الصدمة، فانفلتت دمعة ساخنة من عينيه المحمرتين، ثم انصرف خائبا يجر انكساراته، ويحمل في قلبه جرحه.
تعلم الشاب أن النفاق بلسم العلاقات الاجتماعية المسمومة، وأن اللحية باتت علامة على الشيطنة، وشماعة تعلق عليها أخطاء وإخفاقات الأقوياء، وأن من يحمل في قلبه بصيص إيمان صار ضحية ذوي القلوب الجوفاء من الإيمان.
عاد إلى القرية يحمل جرحه بين أضلعه، فظل منزويا في غرفة مظلمة شهرا كاملا، لا يغادرها إلا لقاء حاجاته. تناول غذاءه الذي أحضرته أمه، فنظرت إليه نظرة حزينة، فذرفت عيناه دمعات معسّلة، ثم انسحبت وهي تنتحب، كأنها فطنت بموت ابنه الجريح في مساء ذات اليوم؛ مات وهو كظيم بعدما خضب لحيته دموعا ونحيبا.



#محمد_الورداشي (هاشتاغ)       Mohamed_El_Ouardachi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -حينما تَبكي الروحُ!-
- قراءة في كتاب -الكلام والخبر: مقدمة في السرد العربي- للدكتور ...
- قراءة في كتاب -سرديات معاصرة- ل الحسين أيت باها
- مقوماتُ القصةِ القصيرةِ
- إني متعبٌ يا صاحبي!
- محمود درويش في ضيافة السيميائيات
- قلق في الكينونة
- خواطرُ المطرِ
- -زلزال مفاجئ-
- -بحثت فوجدت نفسك-
- الذات بين الوحدة والألفة
- وهم التعويض
- - كيف ينشر اليوتوب أمراضه في المجتمعات العربية؟-
- عائدون بقوة
- تصنيف المجتمع بين أفلاطون ونيتشه
- مُلاحظاتُنَا حول -كلمتنا في الرد على أولاد حارتنا -
- -صهيلُ الذاكرةِ... القلمُ الكونيُّ-
- الإصلاح اليتيم... إلى أين؟
- اللغة العربية
- الحاجة


المزيد.....




- تابع مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 22 .. الحلقة الثانية وا ...
- بمشاركة 515 دار نشر.. انطلاق معرض الدوحة الدولي للكتاب في 9 ...
- دموع -بقيع مصر- ومدينة الموتى التاريخية.. ماذا بقى من قرافة ...
- اختيار اللبنانية نادين لبكي ضمن لجنة تحكيم مهرجان كان السينم ...
- -المتحدون- لزندايا يحقق 15 مليون دولار في الأيام الأولى لعرض ...
- الآن.. رفع جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2024 الشعبتين الأ ...
- الإعلان الثاني.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 158 على قناة الفجر ...
- التضييق على الفنانين والمثقفين الفلسطينيين.. تفاصيل زيادة قم ...
- تردد قناة mbc 4 نايل سات 2024 وتابع مسلسل فريد طائر الرفراف ...
- بثمن خيالي.. نجمة مصرية تبيع جلباب -حزمني يا- في مزاد علني ( ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الورداشي - -مذاقُ النفاقِ-