أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الورداشي - -يولدُ الصمتُ من رحمِ القراءةِ-














المزيد.....

-يولدُ الصمتُ من رحمِ القراءةِ-


محمد الورداشي
كاتب وباحث مغربي.

(Mohamed El Ouardachi)


الحوار المتمدن-العدد: 7900 - 2024 / 2 / 27 - 00:22
المحور: الادب والفن
    


تضمُّ القراءةُ منافعَ كثيرةً، وتسدي للإنسان القارئ خدماتٍ متعددةً، بيد أن قراءاتي منذ سنوات علمتني لغة الصمت، واكتشفت أن في الصمت غطاءً للروح، وإخفاءً لجوهر النفس العميق؛ ولأن الكلام مرادف للكشف والتعري، لذلك وجدتني مع مر الأيام متوغلا أكثر في الصمت، ومبحرا في لججه الهادئة والمظلمة، حتى لكأني ولدت صموتا، وكاتما لأسرار نفسي.
أقرأ كتبا مختلفة من حيث جنسُها ونوعُها وموضوعُها، لكنها تعمق في نفسي شيئا أساسا، وتدفعني إلى عيش حيوات الآخرين، والوقوف على لحظات ضعفهم وقوتهم، وتتعرى أنفسهم وعقولهم على الورق الأبيض أمام عيني، فآخذ نفسي في رحلة التنقل بين هذه السطور المستقيمة، وأرى الأسرار تنبلج من رحم الكلمات الخرساء، والأفكار تخرج من العقول شفافة عارية. أما عن نفسي، فإنها لا تتعلم إلا الصمت، ولا تتقن إلا التوغل في غياهبه المعتمة، وهكذا، أسيج نفسي، وأفكاري، وحياتي كلها بجبال شاهقة من الصمت والغموض، وأعود هذه النفس التواقة على الصمت؛ لأن في الصمت سترا وحكمة كما قيل.
يقول أحد الروائيين على لسان سارده إن الكلمات تعري الإنسان، وإن الصمت عن الكلام يجعل هذه النفس الإنسانية منكمشة على أسرارها. لكني أرى أن الصبر على الصمت لم يؤتَ لكل الناس، وأن ما يكابده المرء، وهو يخوض تجربة الصمت ويرتقي مدارجها ومراتبها، شيء عظيم ممزوج بالألم الممض، وبالشوق المتأجج إلى الأنس والبوح، وبالرغبة المستمرة في الكلام ومشاركة الهموم الثقال مع الآخرين. فلماذا يصرخ الإنسان صرخته الأولى بعد الولادة؟ لماذا يتعلم الصمت وهو جنين في بطن أمه، لكنه ما إن يفتح عينيه عن الحياة حتى يصرخ، ويطلع الآخرين على أنه موجود؟ فهل الصمت معناه الغياب واللاوجود، والكلام معناه الحضور والوجود؟ أنحن محتاجون إلى الكلام حتى نعرب عن وجودنا للآخرين؟
نتعلم الصمت قبل الكلام ونحن في بطون أمهاتنا، ولكننا ما إن نولد حتى نسعى سعيا حثيثا ومتواصلا إلى الكلام، إلى تعلم العيش مع الآخرين، إلى البوح لهم برغباتنا وأسرار أنفسنا.. لذلك، نعيد بناء ذواتنا وذوات غيرنا بالكلمات، ونعبر عن كينونتنا بهذه الكلمات؛ لأننا لا نوجد إلا باعتبارنا كلمات، ولا نبني تصوراتنا ومفاهيمنا إلا بالكلمات، ولا نتفاعل مع محيطنا إلا بها. أليس أمر الله تعالى إن أراد كينونة شيء أن يقول له "كن فيكون"؟ ألم يبدأ الإنجيل بالقول "في البدء كان الكلمة"؟
إن الكلمة سر الوجود و سيلته، وأصله ومبدؤه، لذلك نسعى دوما إلى تعلم هذه الكلمة، والقبض على معانيها الهاربة، والسيطرة عليها بحسبانها سلطة؛ إذ هي بداية المعرفة التي تعد سلطة، والسلطة بدون كلمة تفقد الحياة لتغدو سلطة جوفاء قائمة على القمع والقهر. هكذا، تولد السلطة من رحم الكلمة، وتولد، أيضا، من رحم الصمت؛ لأن للصمت سلطته الخاصة، والتي قد تكون أقوى من سلطة الكلام. فالغموض موطن الأسرار، والإنسان مولع بالغموض، بالبحث عن الأسرار التي تخفى عنه، ويطمح دوما إلى المعرفة التي تكون بهتك حجب الغموض وأسراره، لهذا يكتسب الإنسان المكلل بالصمت هالة وقداسة من نوع خاص، تجعله مهابا ومحط حيرة وقلق للآخرين؛ لأننا نخاف الغموض والأسرار، ولا نجد طمأنينتنا إلا في الأشياء العارية أمام أنظارنا.
يفقد الصمت سلطته وقداسته بفعل الكلام والكتابة، لذلك نكتب لأنا نريد أن ننقل أسرارنا بالأشكال الخرساء، وأن لا نجشم أنفسنا عناء الكلام مع الآخرين، وخوض حرب الغموض وسوء الفهم معهم، ومن ثم، تبقى الكتابة سبيلا للفرار من الصمت، والتخفيف من وطأته على النفس؛ لأن الصمت إن طال تضاءلت الكينونة في الوجود، وأضحت كتلة تتحرك في المحيط حركات عمياء.
لقد تعلمت الصمت واستهواني الغموض الذي يولده في نفوس الآخرين؛ لأني أرى في الصمت بداية للحكمة، والحكمة لن تكون إلا تربية للنفس على رياضة الصمت، والتدرج في مراتبه ومدارجه، لذلك ما فتئ المتصوفة ينبهون العارف إلى أهمية الصمت، وارتباطه بالكشف عن الأسرار الباطنية، هذه الأسرار التي تفيض بها نفس العارف بعدما تثمل الصمت، وتتقن لغته مستعينة بالعزلة والغياب، والفرار من الدنيا وملذاتها، من الفانين وصخبهم الذي ينزع الروح من صفائها المقدس، ويرمي بها في لجج الحياة الفانية.



#محمد_الورداشي (هاشتاغ)       Mohamed_El_Ouardachi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -حِدادُ الصباحِ-
- -حينما يزورني طيف أمي-
- -مذاقُ النفاقِ-
- -حينما تَبكي الروحُ!-
- قراءة في كتاب -الكلام والخبر: مقدمة في السرد العربي- للدكتور ...
- قراءة في كتاب -سرديات معاصرة- ل الحسين أيت باها
- مقوماتُ القصةِ القصيرةِ
- إني متعبٌ يا صاحبي!
- محمود درويش في ضيافة السيميائيات
- قلق في الكينونة
- خواطرُ المطرِ
- -زلزال مفاجئ-
- -بحثت فوجدت نفسك-
- الذات بين الوحدة والألفة
- وهم التعويض
- - كيف ينشر اليوتوب أمراضه في المجتمعات العربية؟-
- عائدون بقوة
- تصنيف المجتمع بين أفلاطون ونيتشه
- مُلاحظاتُنَا حول -كلمتنا في الرد على أولاد حارتنا -
- -صهيلُ الذاكرةِ... القلمُ الكونيُّ-


المزيد.....




- تابع مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 22 .. الحلقة الثانية وا ...
- بمشاركة 515 دار نشر.. انطلاق معرض الدوحة الدولي للكتاب في 9 ...
- دموع -بقيع مصر- ومدينة الموتى التاريخية.. ماذا بقى من قرافة ...
- اختيار اللبنانية نادين لبكي ضمن لجنة تحكيم مهرجان كان السينم ...
- -المتحدون- لزندايا يحقق 15 مليون دولار في الأيام الأولى لعرض ...
- الآن.. رفع جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2024 الشعبتين الأ ...
- الإعلان الثاني.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 158 على قناة الفجر ...
- التضييق على الفنانين والمثقفين الفلسطينيين.. تفاصيل زيادة قم ...
- تردد قناة mbc 4 نايل سات 2024 وتابع مسلسل فريد طائر الرفراف ...
- بثمن خيالي.. نجمة مصرية تبيع جلباب -حزمني يا- في مزاد علني ( ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الورداشي - -يولدُ الصمتُ من رحمِ القراءةِ-