|
|
سالم لأنّه ظلّ . . سالما!
سليمان جبران
الحوار المتمدن-العدد: 7960 - 2024 / 4 / 27 - 22:36
المحور:
الادب والفن
قبل مدّة كتبتُ، في مناسبة فاجعة ، كيف اختار الوالد ثلاثة أسمائنا، سليمان وسالم وسليم: " سليمان تذكيرا بعمّ الوالد، سليمان الجبران، سالم لأنّ أمّنا وقعتْ منْ شاهق، وهي حبلى به، فلم يصبْ بأذى، وسليم استنفادا للمشتقّ". أحد الأصدقاء العارفين بتلك الحكاية، اتّصل بي محرّضا على كتابة ملابسات هذه التسمية. الحكاية هذه وقعتْ في أوائل الأربعينات. أيّام الانتداب البريطاني. وأنا أرويها كما سمعتُها مِن والدي غير مرّة. كان الوالد يحكيها لنا، وهو في غاية السعادة. وهل مِن سعادة أكبر من الضحك على البوليس الإنجليزي، وعلى "الفسّادين" الذين أوصلوا "النقلة" إلى الشرطة انتقاما مِن الوالد؟ وصل الضاابط إلى "الحارة". سأل عن بيت والدي، فقالوا له إنّ المقصود هو ذاك المنشغل في النقاش باب الدكّان. تقدّم إليه، وطلب منه مرافقته إلى البيت. إلى بيتنا لإجراء التفتيش فيه. الضابط المذكور كان عربيّا. لكنْ كلب الشيخ شيخ ، وأسفل من صاحبه الشيخ، أحيانا. ما زلتُ أذكر الحادثة كما رواها لنا أبي. وأذكر اسم الضابط ابن الجليل أيضا. لكنّي لا آتي عليه هنا. لماذا يضرس أبناؤه اليوم إذا كان والدهم أكل يومها الحصرم وغير الحصرم، في خدمة سيّده الإنجليزي؟ ذكرتُ في موضع آخر أنّ الوالد لم يكنْ يحب العمل في الأرض. كلّ الأعمال، في نظره، كانتْ أربح من العمل في الأرض. حتّى "التهريب" على أنواعه. كان التهريب في الأساس من لبنان. ملابس وأحذية على الغالب. بل كان للوالد صديق من"بنت جبيل" ، شريكه في التهريب، وأقرب إليه من أخ. أمّا التهريب الذي أتناوله هنا، فتهريب الدخّان أو التبغ بالذات. كان الوالد يومها يهرّب مع شركاء له كثيرين، الدخّان المفروم. يفرمونه عندنا في البيت، على الهاون، ثمّ يجعلونه في قوالب ملفوفا في أوراق وزنها كيلو غرام أو نصف كيلوأو ربع، جاهزا للشحن والبيع. إلى غزّة؟ ساق الضابط المذكور والدي، مثل قاتل كبشوه متلبّسا، إلى البيت لتفتيشه. جميع مَنْ في الشارع، وفي البيوت على جانبيه، شاهدوا المنظر ذاك، واثقين كيف ستكون النهاية. وصل الضابط الهمام ومَن معه بأبي إلى البيت، لكنّهم وجدوا الباب موصدا. استجاب الوالد لأمر الضابط، فأرسل مَن يبحث عن الأمّ ليأتي بها، فتفتح الباب المقفل، ويجروا التفتيش الدقيق في البيت. كانت ألأمّ عند الجدّة. حبلى ومعها صغيرها ابن السنتين أيضا. أنا يعني. أخبروها بما رأتْ عيونهم، وبأوامر الضابط بقدومها إلى البيت حالا لإجراء التفتيش الدقيق. لكنْ كيف تذهب الأمّ برجليها فتفتح الباب، ليجد البوليس داخل البيت كلّ الدخان المفروم، فيقود زوجها إلى السجن؟ خسارة مادّيّة كبيرة، وبهدلة فوقها. كان مِن حظّ الوالد أنّ خشبة، مِن خشبات السقف الطينيّ، كانتْ سقطتْ في تلك الأيّام، وكانت العائلة في انتظار الصحو والنشاف، ليتمّ ردّها، أي إصلاحها، بخشبة جديدة بدلا منها. جاء الأصدقاء الذين شاهدوا الوالد مع البوليس إلى أمّي، وأخبروها بالحكاية مفصّلة. فقرّ الرأي أنْ يصعدوا إلى السطح، فيتدلّى أحدهم مِن فتحة الخشبة تلك ليربط الدخّان المفروم بالحبل، وينتشلوه، ليذهبوا به بعيدا عن البيت، فتبوء بذلك "الفسدة" وكبسة البوليس بالفشل والإحباط! صعدوا السطح، مِن سطح الجيران كالعادة، وأمّي معهم. جاءوا الفتحة الناشئة عن سقوط الخشبة الميمون، وأخذوا يتشاورون همسا في طريقة النزول لرفع ما في البيت من التبغ المفروم. كلّ هذا والضابط الهمام مع والدي أمام الباب المقفل، في انتظار قدوم الأمّ، لإجراء التفتيش الدقيق في البيت. الوالد عرف بحدسه الفلاحيّ، وقد تأخّر قدوم الوالدة، ما يدور وراء الأكمة. فأخذ يحدّث الضابط بكلّ ما يخطر في البال، لتمضية الوقت. عن القرية، وسبل الحياة فيها، والمعيشة الصعبة المكتوبة على السكّان لتحصيل قوتهم، والقيام بأود عائلاتهم .. والضابط يصمت هنيهة، لا يُصغي طبعا إلى شيء من حكايات الوالد، ثمّ ينهال على الوالد، وعلى الأنبياء كلّهم بالمسبّات، خفيفة حينا وفاحشة أحيانا. لكنْ لا مناص من الانتظار: الباب مقفل، والضابط أمامه ينتظر، والأمّ لا بدّ لها من المجيء مهما تأخذرتْ. فلا مجال لتفويت الفرصة وقد سنحت! على السطح حول فتحة الخشبة الواقعة، تجمّع بضعة أصدقاء والأمّ، المرأة الوحيدة بينهم وصاحبة البيت. لكنْ مَن يُدلّونه بالحبل من السطح لانتشال المهرّبات من البيت؟ لم يتطوّع أحد الرجال بالنّزول. احتجّوا أنّهم لا يعرفون موضع الدخان المفروم كلّه. أو خافوا؟ لم يتطوّع أحد بالنزول إلى البيت، مربوطا بالحبل، سوى الأم. الأمّ الحبلى، وبطنها لحلقهاّ. ربطوا الأمّ مِن ساعديها بالحبل، ودلّوها تحت، متّكلين على الله. لكنّ الله لم يسعفهم . إمّا لأنّه لا يشارك في التهريب، أولأنّهم ربطوا الحبل بسرعة وخوف، فلم يوثقوه. ما إن دلّوا الأمّ من السطح حتى فلت الحبل من ساعديها، فسقطت الأمّ تحت، بمن في بطنها، لتصل المصطبة جالسة على قفاها، دون أن تصاب بأذى! لا هي، ربّما من الخوف، ولا الطفل المسكين في بطنها. ظلّ الجنين سالما في بطنها. لذا سمّاه الوالد يوم خرج إلى العالم، بعد هذه الحادثة ، سالما! سقط من شاهق، في بطن أمه وظلّ سالما. لا ننسَ أيضا: المهلهِل، البطل الشعبيّ المعروف اسمه أيضا الزير سالم ! أبي والضابط الهمام ومَن معه سمعوا الخبطة طبعا، حين وقعتِ الأمّ: - شو هدا الصوت يوسف؟ سأل الضابط الهمام والدي متحدّيا غاضبا. - أنا سمعت الصوت مثلي مثلك. بعرفش شو هذا. تنساش إنّه في دواب في الإسطبل! كان بيتنا ذاك غاية في الطول، أذكر. تدخله من الباب، حيث وقف الضابط والوالد، فتعبر الإسطبل الطويل، على يسارك، حيث تُربط المواشي على طوالاتها، ثمَّ ترتقي إلى المصطبة في درجات، فتصل إلى "غرفة الجلوس" حول الموقد. ومن خلف الحائط حيث كنّا نسند ظهورنا قرب الموقد، يمتدّ التبّان، وفيه يُخزن التبن أيّام الموسم في الصيف. يصعدون بالخيشة المليئة بالتبن إلى السطح، ومن هناك يفرّغونها في التبّان! نهضت المسكينة أمّي، ناسية الوقعة. جمعت كلّ الدخّان المفروم في الكيس المدلّى من الفتحة، وربطته ربطا وثيقا، لينتشله الأصحاب فوق. ثمّ ربطتْ نفسها، ربطا سليما هذه المرّة، لينتشلوها هي أيضا إلى فوق، إلى السطح، ويذهبوا بالتبغ بعيدا عن البيت، ويا دار ما دخلك شرّ! بعدها، حملتْ أمّي الطفل ابن سنتين، وجاءت البيت على مهلها، امتثالا لأوامر الضابط الهمام. طبعا فرح الضابط بقدومها ومعها المفتاح. أدارت الأمّ المفتاح في السكّرة، فانفتح الباب، ليدخل الضابط الهمام البيت مسرعا كالمجنون . لم يذهب الانتظار الطويل عبثا، علق أبو زريق على التينة – فكّر الضابط الهمام في نفسه. فتّش الضابط ومرافقوه البيت. لم يبقوا فيه شيئا لم يقلبوه، ولا جارورا لم يفتحوه. لكنّهم لم يعثروا على شيء يبلّون به ريقهم. أخيرا التفت الضابط الهمام فوقعتْ عينه على إسكملة في صدر البيت، وعليها صحن قهوة صغير فيه بعض التبغ المفروم. - شو هدا يوسف؟ - هذا احشيه في ... ، أجابه الوالد باسما!
[ "ملفّات الذات" 2018، ص. 11 - 14]. 11
#سليمان_جبران (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لائحة الدفاع
-
صغار لكن..
-
الشاعر جورج نجيب خليل
-
مقدّمة كتاب الفارياق: مبناه وأسلوبه وسخريته
-
يهود لا يعرفون العبريّة!!
-
القناعة كنز لا يفنى؟!
-
كيف تصير في هذه الأيام، أديبا مرموقا، وبأقل جهد ؟!
-
-الجمرة- المتّقدة على الذوام في شعر الجواهري
-
حِكَم من الحياة والتراث!
-
من الحِكم الخالدة للشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعَرّي ( 973
...
-
الذئبُ ذئب!
-
رجل -حمل السلّم بالعرض- فسبق عصره!
-
صلاح جاهين، شاعر الثورة الناصرية (1986-1930)
-
التوأم المدهش : نجم وإمام
-
يرم التونسي
-
المقوّمات الفنّيّة في شعر الأطفال
-
الرحيل الافتراضي!
-
الحلّ التاريخي؟!
-
السهل الممتنع
-
كرة القدم - مرض؟!
المزيد.....
-
لغة الدموع الصامتة
-
مصر.. عمر هلال يجمع أحمد حلمي وهند صبري في فيلم -أضعف خَلقه-
...
-
فنانة سورية تصبح سيدة نيويورك الأولى...من هي ؟
-
صوّر في طنجة المغربية... -الغريب- خلال استعمار الجزائر في قا
...
-
يتناول ثورة 1936.. -فلسطين 36- يحصد الجائزة الكبرى في مهرجان
...
-
-صهر الشام- والعربية والراب.. ملامح سيرة ثقافية للعمدة ممدان
...
-
انطلاق أعمال المؤتمر الوطني الأول للصناعات الثقافية في بيت ل
...
-
رأي.. فيلم -السادة الأفاضل-.. حدوتة -الكوميديا الأنيقة-
-
-المتلقي المذعن- لزياد الزعبي.. تحرير عقل القارئ من سطوة الن
...
-
موفينييه يفوز بجائزة غونكور الأدبية وباتت الفرحة تملأ رواية
...
المزيد.....
-
الذين باركوا القتل رواية
...
/ رانية مرجية
-
المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون
...
/ د. محمود محمد حمزة
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية
/ د. أمل درويش
-
مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز.
...
/ السيد حافظ
-
إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
المرجان في سلة خوص كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
بيبي أمّ الجواريب الطويلة
/ استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
-
قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي
/ كارين بوي
-
ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا
/ د. خالد زغريت
-
الممالك السبع
/ محمد عبد المرضي منصور
المزيد.....
|