حماية الطبقة الوسطى في الوطن العربي

محمد رضا عباس

الحوار المتمدن-العدد: 7836 - 2023 / 12 / 25 - 18:47
المحور: الادارة و الاقتصاد
    

قبل أيام قمت بنشر مقال على هذا الموقع الكريم تحت عنوان " كيف يقتل السوبرماركت محل ماما وباب؟ " , وذكرت فيه ان أسواق السوبرماركت الكبيرة التي نشاهدها في أوروبا و الولايات المتحدة قد قتلت العلاقات العامة مع أبناء المجتمع الواحد وسببت بإفقار الطبقة المتوسطة في هذه البلدان .
طالب بعض من معارفي توضيحا اكثر عن تأثير السوبرماركت على الطبقة الوسطى وكيفية معالجة هذا التأثير .
عندما تحدثت عن السوبرماركت , لم اتحدث عن سوبرماركت تباع فيها الفاكهة والخضر والبقوليات وحاجيات البيت الضرورية والتي تجدها الان في جميع الدول العربية تقريبا . عندما تحدثت عن السوبرماركت تحدثت عن تلك السلسلة من الأسواق التي غزت أوروبا وامريكا ودول صناعية أخرى . تحدثت عن سلسلة أسواق وول مارت (Walmart) , تحدثت عن سلسلة محلات لووز (Lowe’s) , واتحدث عن ريست رينت ديبو (Restaurant Depot).
هذه الأسواق مسؤولة عن فقدان الالاف من أصحاب الاعمال الصغيرة أعمالهم في المدن الامريكية وسببت في فقر أصحابها , واضطرتهم باختيار اعمال لا يرغبونها .
خذ أسواق وول مارت (Walmart)مثلا . معدل مساحة سوق وول مارت هو 110 الف متر مربع , يعني بحجم ساحة كرة القدم مرتين . ستجد في هذه المحلات سلع وخدمات ما يقارب المئة . من هذه السلع هو بيع الزهور , الملابس بكل انواعها , أجهزة الحاسوب وملحقاتها , بيع الكتب , بيع المستلزمات المدرسية للطلاب , القماش , الأثاث, تجهيزات الطفل منذ يوم ولادته , المخبز, بيع اللحوم بكل أنواعها , بيع الأسماك بكل أنواعها , صيدلية , مواد زراعة بمختلف اشكالها , منظفات بكل أنواعها , مواد التجميل بكل أنواعها, الأجهزة الكهربائية الصغيرة , أجهزة التلفزيون , اللعاب الالكترونية , أدوات المطبخ , الحلاقة , فحص النظر, فحص السمع , اعداد الحسابات الختامية للمواطنين من اجل تقديمها الى دائرة الضرائب , ومطاعم وورشة تصليح السيارات وبيع الاطارات. باختصار , ان كل محل من هذه المحلات كافيا للقضاء على سوق مدينة بالكامل. بكلام واضح , سوق واحد يقضي على مدينة الاعظمية , والأخر على سوق الكاظمية . بمعنى حضور وول مارت الى مدينة الكاظمية سوف يقضي على جميع المحلات من بداية شارع باب المراد وحتى نهاية باب القبلة . أصحاب بيع الإطارات , بيع الذهب , القماش, الأثاث, أدوات الطبخ , مكاتب بيع الكتب, القصاب, الخباز, الصيدلية , الحلاق , محلات بيع الأجهزة الالكترونية , البقال , بائع الحلويات , والعطار , كلهم سيكونون في خبر كان . لا مجال لهم العيش مع الأقوياء.
وهذا بالضبط ما جرى ويجري في الكثير من الولايات في أمريكا . الأسواق الكبيرة قضت على محلات الشارع الرئيسي للمدينة (قلب المدينة )ولم يبقى منها الا المطاعم المتخصصة , البارات , مكاتب المحامين , ومحلات التخصص مثل بيع بدلات الاعراس , محلات العنتيك و البنوك التجارية .
واذا كان هذا غير كافي , فقد ظهر سوق اخر قتل الجانب الاخر من الاعمال , وهو قطاع بيع مواد تأسيس البيوت والعقارات . ابرز هذه الأسواق هو لووز (Lowe’s) . في هذا السوق تجد كل ما نحتاج لبناء بيت . من المسمار الى الثريا (النجفة). انهم يبيعون كل ما تحتاجه حديقة البيت من تراب و ازهار واشجار , طابوق وحصى ورمال وسمنت , اثاث مطبخ بالكامل , مفروشات غرف , أجهزة كهربائية بكل أنواعها , اخشاب بكل أنواعها , اصباغ جدران , و أدوات الحمام . بمعنى من يدخل الى هذا السوق سيجد كل ما يحتاجه بيته الجديد ولا داعي لزيارة محل اخر.
واذا كنت صاحب مطعم , فلا تحتاج الذهاب الى سوق المدينة وشراء ما يحتاجه مطعمك من للحوم وحبوب وفاكهة وخضر وأدوات طهي و صحون تقديم . في محلات ريست رنت ديبو (Restaurant Depot) يجد صاحب المطعم كل ما يحتاجه صيفا وشتاء في سفرة واحدة .
كتبت أيضا في مقالي السابق , ان أسعار السلع والخدمات التي تباع في هذه الأسواق والمحلات هي أسعار تنافسية , بحيث لم تعطي المجال لأصحاب المحلات الصغيرة البقاء على قيد الحياة . هذه المحلات لها قدرة احتكارية عظيمة وتفرض على مجهزيها الأسعار التي تريدها , بعكس أصحاب المحلات الصغيرة الذين ليس لهم قدرة التفاوض على الأسعار.
المشتري يرغب بالتسوق من المحلات الكبيرة على أساس سفرة واحدة يشتري كل ما يحتاجه , أسعار معقولة , والاهم هناك ساحات كبيرة لوقوف السيارات , وهذا ما لا تجده في أسواق الكاظمية او الاعظمية او الحارثية . فلو كان المتسوق يخطط شراء ما يحتاجه بيته لأيام العيد عليه زيارة عشرة محلات على الأقل لشراء ما يحتاجه , على شرط ان يترك سيارته الخاصة في بيته و يستأجر سيارة اجرة لأنه من المحال العثور على مكان للسيارة , وهذا ما تعانيه معظم أسواق بغداد , عدم وجود مكان لوقوف السيارات .
النتيجة ؟
هو ان أصحاب الأسواق والمحلات الكبيرة تنتفخ ثرواتهم , حتى وصلت ثروة أصحاب أسواق وول مارت الى 234 مليار دولار , ومبيعات Lowes’ 97 مليار دولار عام 2023 , فيما وصلت ثروة صاحب سلسلة Restraint Depot الى ما يقارب 6 مليار دولار , ولكن هذه الثروات هي على حساب فقر مئات الالاف من أصحاب المحلات الصغيرة .
ماذا سيكون تأثير خروج مئات الالاف من أصحاب المحلات الصغيرة من السوق؟
أصحاب المحلات الصغيرة ومهما كانت نوع سلعتهم تسمح لهم بالزواج , بناء بيت , وتربية أولادهم , وارسالهم الى المدارس والكليات . ولكن عندما يخرج الوالد مفلسا من عمله بسبب Walmart سوف يضطر باختيار طريقين اما المكوث في البيت وقبول ما قسم الله له حتى الموت , واما الاضطرار الى العمل في احد هذه المحلات .
اذا اضطر الولد بالجلوس في البيت سوف لن يكون لديه المال الكافي لأرسال أولاده الى المدرسة او الى الجامعات وسوف يضطرون بالعمل باي دخل ممكن . واذا اضطر الوالد العمل مع احد هذه الأسواق الكبيرة فان دخله السنوي سوف لن يسمح له العيش في بحبوحة.
ما هو تأثير تلاشي هذه الطبقة على الاقتصاد الوطني ؟
ان تلاشي الطبقة الوسطى لها اثار وخيمة على المجتمع , لان تداعي هذه الطبقة سوف تتبعها تداعيات كبيرة على بقية القطاعات الاقتصادية . الطبقة الوسطى هي التي تعتني بملابسها , تذهب الى مطاعم المدينة , المشاركة في الفعاليات الترفيهية , السفر داخل وخارج البلد , شراء سيارة , شراء أجهزة كهربائية , العناية بالصحة , التعليم , وفوق كل هذا هي الطبقة التي لا تخرق القانون .
وعليه فان انهيار هذه الطبقة يعني انهيار قطاعات اقتصادية كثيرة , وبذلك يكون تأثير السوبرماركت تأثيرين وليس واحد , مباشر على أصحاب الاعمال الصغيرة وغير مباشر على القطاعات التي تتعامل معها الطبقة الوسطى.
ما العمل ؟
شخصيا لا ادعم المولات ولا السوبرماركت . المولات بطبيعة الحال اقل ضرارا على الاقتصاد الوطني من السوبرماركت , ولكن اذا ارادت الدولة ان تبقى على جمالية المدينة وحيويتها , واذا ارادت حماية قطاعات كبيرة من الإفلاس , واذا ارادت منع تفاوت الدخول , فأنها وبمقدورها ان تمنع ظهور السوبرماركت باي حجة كانت . انها بلاء على أصحاب المهن الصغيرة , وهذا يفسر رفض قطاعات كبيرة من الشعب الأمريكي وجودها على اطراف مدنها.

#محمد_رضا_عباس (هاشتاغ)      

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل