|
الخاسر الأكبر
سعد الله مزرعاني
الحوار المتمدن-العدد: 7827 - 2023 / 12 / 16 - 10:28
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
قد يتبادر إلى الذهن، فوراً، أن شعب غزّة هو المقصود في هذا العنوان، أو قد يريد البعض (في وسائل إعلام المطبّعين) أن يكون الأمر كذلك! منذ حوالي سبعين يوماً، تنقل وسائل الإعلام، كلها تقريباً، مشاهد مرعبة عن المقتلة الإسرائيلية التي لا يشبع منفّذوها ولا يهدأون: من الجو والبر والبحر، ضد سكان غزة. تنقل تلك الوسائل، أيضاً، عذاباتهم التي لا مثيل لها نتيجة الدمار والحصار وانعدام فرص الأمن وحضور ومخاطر الموت في المنازل أو الطرقات أو الخيم أو المستشفيات، كل مظاهر ومعالم وأسباب الحياة... أو الموت جوعاً أو برداً، أو بسبب الأوبئة.... إنه الدمار العظيم الذي يقف وراءه إجرام رهيب!لكنّ غزّة لا تُختصر، فقط، بالمشهد المأساوي المشار إليه. ففي قلب هذا المشهد المروّع وبالتكامل معه، يقع صمود غزّة الشعب، وتقع مقاومتها التي جعلت المشهد العام، مشهدَ بطولةٍ ومواجهة وصمود شعبي مذهل رغم جنون العدو الصهيوني وآلة قتله التي تتغذّى بدعم كبير، وبمشاركة غير مسبوقة من قبل واشنطن، والتحالف الغربي. خسارة غزّة والضفة والفلسطينيين عموماً، هي تضحيات غير مجانية. إنها لبنات شامخة في دروب الحرية والتحرير، وفي مسيرة بطولة وتضحيات لم تتوقف منذ حوالي مئة عام. هل هي إسرائيل، إذاً، الخاسر الأكبر؟ إنها خاسرة دون أدنى شك. هي اعتقدت كأسطورة سيزيف (وإسرائيل قامت على الأساطير الملفّقة) أنها قد بلغت قمة الجبل. فإذا هي تعود إلى قعر الوادي! رغم المعاهدات الراسخة (!) والتطبيع الذي بلغ ذروته مع السعودية، ورغم الاستيطان الجامح والقمع والتجريف، ورغم الإرهاب والتطرف اللذيْن بلغا أعلى ذروتهما مع فريق الحكومة الحالية... فقد عادت الأمور إلى البدايات، أي إلى الاحتلال: في الضفة، عبر بطولاتٍ مبهرة وتضحيات شجاعة، من جنين إلى القدس التي بارك احتلالها «إله» البيت الأبيض دونالد ترامب! ثم عبر عملية «طوفان الأقصى» التي ألحقت بإسرائيل وقيادتها ضربة مؤلمة تتكرر كل يوم الآن، عبر مقاومة مصمّمة وشجاعة وذات كفاءة جعلت الصهاينة يغرقون، بالفعل، في رمال غزّة! إذا لم يكن أحد طرفَي القتال المباشرين هو الخاسر الأكبر، فمن تراه يكون؟ لا شكَّ أن الخاسر الأكبر هو تاجر الحروب الدولي الأول، الولايات المتحدة الأميركية. خسارة واشنطن لا تقتصر على خسائر إسرائيل (وواشنطن شريكتها الكبرى فيها وآخرها الـ 14 مليار دولار). إنها بالإضافة إلى ذلك، خسائر أكبر وأشمل على امتداد العالم كله، وهي خسائر متنوعة: سياسية واقتصادية ومعنوية وأخلاقية، وكلها ذات طابع إستراتيجي، بمقدار ما تمسّ مشروع الهيمنة الأميركية على الكوكب والذي بات أكثر شراسة وعدوانية منذ طغى وتفرَّد، خصوصاً، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي مطلع تسعينيات القرن الماضي. كانت الولايات المتحدة قد صاغت لمشروع هيمنتها الكوني نظرية متكاملة واضحة وصريحة وهجومية و«استباقية». ففي عام 2002 قدّمت إدارة جورج بوش الابن وفريقه من «المحافظين الجدد»: «خطة إستراتيجية الأمن القومي» الأميركي. وهي تتلخّص في هدفين: الأول، وضع قوة أميركا «غير القابلة للتحدي» في خدمة التوسع الاقتصادي الأميركي. الثاني، فرض «أسلوب الحياة» الأميركي على كل الدول والشعوب باعتبار أن الإمبريالية الأميركية هي قمة الحضارة و«نهاية التاريخ وخاتم البشر» كما نظَّر الكاتب الأميركي فوكوياما! حاول بايدن وإدارته تعويض الإخفاق في أوكرانيا بنجاح ظنّاه سريعاً وسهلاً في غزّة
اختبرت الولايات المتحدة معركة التفرّد الكامل والهيمنة الشاملة بمشروع «الشرق الأوسط الواسع»، عبر غزو العراق عام 2003. ورغم هزائمها تواصل السياسة نفسها مع ازدياد المنافسة والإخفاقات: من الشرق الأوسط إلى روسيا، إلى الصين، حيث أعلن أوباما، رسمياً، نقل معركته الأساسية إلى هناك وما زالت. في السياق تعاظمت التحديات السياسية والاقتصادية والعسكرية. وما بدأه بعد الرئيس الروسي بوتين، بعد غزو العراق، يتصاعد اليوم إلى مستوى تهديد تفرّد جموح واشنطن، والسعي لبناء عالم متعدد الأقطاب، ومن أجل «عدم التفرد بإدارة العالم من قبل قوة واحدة» كما طالب الرئيس الروسي منذ حوالي عشرين عاماً! بعد إخفاقات الحرب العسكرية في أفغانسان والعراق خصوصاً، كانت «الحرب الناعمة» والثورات «الملوّنة» وصولاً إلى «الربيع العربي» الذي صادرته واشنطن ومعه تطلعات الشعوب نحو الاستقلال والسيادة والتقدم. في السياق تم تحريض دول المنظومة الاشتراكية السابقة ضد روسيا وخصوصاً منها أوكرانيا التي كانت رأس الحربة في استهداف الاتحاد الروسي. آثر بوتين الاستباق ونقل المعركة إلى أرض العدو، بعد أن يئس من إقناع الغرب الأطلسي بالتفاهم واحترام مصالح كل الأطراف. وجد الصهاينة في ذلك سانحة لتسجيل انتصار مدوٍّ ضد الشعب الفلسطيني ولتصفية قضيته، ولتحويل الشرق الأوسط إلى محمية أميركية محورها إسرائيل التي وصفها روبرت كندي جونيور بأنها «وجودنا ورأس حربتنا في الشرق الأوسط». وضعت حكومة من وصفهم الرئيس الأميركي (قبل أيام) بـ«الأكثر تطرفاً»، خطة برعاية واشنطن أيضاً، التي تولَّت الضغط من أجل توسيع التطبيع، لتوجيه ضربة مميتة إلى القضية الفلسطينية: بعد المستوطنات واجتياح الضفة الغربية، وحصار قطاع غزة، ضمن مسار تهجيري يُذكّر بأسوأ بدايات المشروع الإرهابي الإحلالي الصهيوني. خطتا أوكرانيا وإسرائيل لم تسيرا كما تشتهي الرياح الأميركية. زيلينسكي عجز، بعد أن أرهق واشنطن والدول الغربية بما قدّمته من دعم هائل وشامل اقترن بحصار روسيا وعزلها وشيطنتها. كان يتوسل مواصلة الدعم في زياته قبل أيام لواشنطن، حين اعترف محاوره «الديموقراطي» السيناتور ديك داربن، بأن «الدعم هو قضية حياة أو موت في قضية دفعته أميركا للاستمرار فيها!». من جهتها، فاجأت عملية «طوفان الأقصى» إسرائيل حتى الموت! حاول بايدن وإدارته تعويض الإخفاق في أوكرانيا بنجاح ظنّاه سريعاً وسهلاً في غزّة. حصل العكس تماماً! إسرائيل عجزت وأخفقت هي الأخرى. أمّا المجازر التي حاولت التعويض بها عن فشلها في الميدان، فقد ارتدّت عليها وعلى واشنطن، وخصوصاً أن الحملة الشعبية الهائلة التي اجتاحت العالم، بما فيها دول الأطلسي، قد كانت، أساساً، نقضاً لما تاجرت به واشنطن من مزاعم الدفاع عن حقوق المواطن وحريته وعن الحضارة البشرية و«العالم الحر». بعد عودته من تل أبيب منذ حوالي شهرين، قال بايدن، متباهياً ومتوجهاً إلى الشعب الأميركي: «إن قيادة أميركا تجمع العالم». أمّا في خطابه الأخير الانعطافي، يوم الثلاثاء الماضي، فقال: «هناك مخاوف حقيقية، في مختلف أنحاء العالم، من أن تفقد واشنطن مركزها الأخلاقي بسبب دعمها لإسرائيل»! إنّ أوّل مؤشرات الحضارة هو التخلّي عن الظلم وشريعة الغاب وقهر الشعوب واستباحة أرضها وسيادتها وخيراتها. أمّا أعظم تلك المؤشرات فهو النضال من أجل التحرّر وتحقيق العدالة. بهذه المعاني أضحى الشعب الفلسطيني، بكفاحه وتضحياته العظيمة، هو الرابح الأول رغم المجازر. أمّا أميركا، فهي الخاسر الأكبر! هذه هي الحقيقة، ولن يغيّرها إيغال الصهاينة في جنون القتل والإبادة: في محاولة يائسة لإعادة عقارب الزمن إلى الوراء!
#سعد_الله_مزرعاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إجرام الصهاينة: التفوّق على الذات!
-
قمّة الاحتواء والتمييع
-
معادلة الجزء والكل: واشنطن العدو الأساسي
-
غزة العُظمى!
-
مفارقات ما بين اللجوء والنزوح
-
نظام اللامحاسبة
-
السيادة في بازار الفئوية والارتهان
-
خلل وتجاهل وعِبر
-
بين سيئ وأسوأ
-
أسباب وآفاق التحولات السعودية
-
فتى الكتائب... مغامراً!
-
عشرينية الاحتلال الأميركي: تغيير الوسائل وثبات الأهداف
-
واشنطن... لمحات من مسار الهيمنة!
-
أزمة الحريري وأزمة لبنان
-
وفي الليلة الظلماء...
-
أين المعارضة وأيّ معارضة!
-
الدولة الطائفية الهشّة
-
المعارضة الوطنيّة: إعادة تأسيس
-
الإمعان في تشويه «الطائف»
-
معارك ما بعد الترسيم
المزيد.....
-
مصر.. بدء تطبيق التوقيت الشتوي.. وبرلمانية: طالبنا الحكومة ب
...
-
نتنياهو يهدد.. لن تملك إيران سلاحا نوويا
-
سقوط مسيرة -مجهولة- في الأردن.. ومصدر عسكري يعلق
-
الهند تضيء ملايين المصابيح الطينية في احتفالات -ديوالي- المق
...
-
المغرب يعتقل الناشط الحقوقي فؤاد عبد المومني
-
استطلاع: أغلبية الألمان يرغبون في إجراء انتخابات مبكرة
-
المنفي: الاستفتاء الشعبي على قوانين الانتخابات يكسر الجمود و
...
-
بيان مصري ثالث للرد على مزاعم التعاون مع الجيش الإسرائيلي..
...
-
الحرس الثوري الإيراني: رد طهران على العدوان الإسرائيلي حتمي
...
-
الخارجية الإيرانية تستدعي القائم بالأعمال الألماني بسبب إغلا
...
المزيد.....
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
-
الخطاب السياسي في مسرحية "بوابةالميناء" للسيد حافظ
/ ليندة زهير
-
لا تُعارضْ
/ ياسر يونس
المزيد.....
|