أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شقير - قالت لنا القدس1















المزيد.....

قالت لنا القدس1


محمود شقير

الحوار المتمدن-العدد: 7649 - 2023 / 6 / 21 - 12:21
المحور: الادب والفن
    


تمهيد أوّل

هي مدينتي الأولى. لم أعرف أيّة مدينة قبلها.
بعدها عرفت مدناً كثيرة، وعشت منفيّاً في مدن أخرى: بيروت، عمّان وبراغ.
أحببت هذه المدن الثلاث، التي احتضنتني ثماني عشرة سنة هي مدّة إقامتي في المنفى القسريّ، غير أنّ القدس ظلّت مدينتي التي جرّبت فيها الدهشة الأولى، دهشة الاحتكاك بالمكان الفسيح حيث تكثر حركة الناس وتتعدّد المشاهدات.
ثم إنّني ذقت فيها مرارة الحرب، شاهدت الحرب بأمّ عيني. ولم تكن الحرب هي نهاية المطاف، عرفت فيها الحبّ وانبهار القلب بفتنة الجمال. عرفت فيها المزيد من أسرار الحياة، ثم عشت فيها ذلّ الهزيمة، وحينما أبعدت منها تجرّعت مرارة الفراق.
القدس بالنسبة لي هي حاضنة الروح ومهد الطفولة والشباب.
لا يمكن أن أتصوّر تجربتي في الحياة دون أن تكون القدس حاضرة فيها تمام الحضور. في سنوات الطفولة شاهدت الناس وهم يتقاطرون من كل أنحاء فلسطين الى القدس، يتجمّعون في ساحات المسجد الأقصى، يردّدون الأغاني الشعبية والدينية، يرقصون ويحتفلون، ثم ينطلقون في موكب مهيب إلى مقام النبي موسى الذي لا يبعد عن القدس سوى كيلومترات عدّة.
شاهدت في سنوات الطفولة، المصلّين المسيحيين من أبناء القدس ومن غير أبنائها، وهم يجتازون درب الآلام نحو المكان الذي صلب فيه السيّد المسيح، يجتازون الدرب بخطى متّئدة فيما تعلو التراتيل الدينية الشجيّة، وتعبق في الجوّ روائح البخّور.
في المسجد الأقصى، كان إحساسي الأوّل بالمكانة الخاصّة للقدس. وفي كنيسة القيامة كان إحساسي الأوّل بأهميّة التعدّدية، وبأهمية التسامح والتعايش بين الأديان. وبالقرب من سورها الذي بني أوّل مرّة قبل آلاف السنين، كان إحساسي الأوّل بعراقة المدينة. وكان لي في القدس كتاب أوّل، وفيلم سينمائي أوّل، وحب أوّل، وتظاهرة سياسيّة أولى، واجتماع حزبي ثانٍ (اجتماعي الحزبي الأوّل كان في رام الله، التي لا يقلّ حبّي لها عن حبي للقدس). كانت المدينة تعلّمني بحكم نشأتها وتكوينها، وبحكم تنوّع ثقافتها وعراقة تاريخها، كيف أصبح إنساناً بعيداً عن التعصّب والانغلاق.
في شوارعها الممتدّة خارج السور وفي أسواقها المسقوفة، كنت أرى خلقاً كثيرين: أعيان المدينة ورجال الدين فيها، مثقّفيها وتجارها وموظفّيها وعمّالها وحَمّاليها، نساءها بالأزياء التقليدية، أو بالأزياء الحديثة التي ترتديها شابّات متماهيات مع إيقاع العصر، يتهادين في الأماسي الرائقة، مضفيات على المدينة رونقاً وبهاء. وكنت أرى أهالي القرى المجاورة للمدينة، نساء ورجالاً، وهم يأتون إلى المدينة لغايات شتّى، ولا يعودون إلى قراهم إلا قبيل المساء .
وثمة نساء ورجال من مختلف البلدان، يجيئون إلى المدينة للسياحة أو للحج.
في القدس، تعرّفت إلى المقهى، السينما، المكتبة، النادي الرياضي، المطعم، الفندق، المسجد، الكنيسة، الحزب السياسي، وبعض عادات الشعوب التي يأتي بها رجال ونساء من أماكن نائية.
هذه المدينة ليست أيّة مدينة. إنّها مدينة من طراز خاصّ. هي مدينتي التي تعلّمت منها، وهي التي ألهمتني كثيراً ممّا كتبت وما زالت تلهمني. لها المجد والحرية والخلاص.

تمهيد ثانٍ

أعود إليها بعد طول غياب، ألتقي الأهل والأصدقاء والناس الذين لم أرهم منذ ثماني عشرة سنة.
أعود رغم الصلف الذي تبدّى في لهجة ذلك الضابط الإسرائيلي، الذي سلّمني قرار الإبعاد على حدود لبنان. قلت له حينما سلّمني القرار: القدس مدينتي وإليها سوف أعود. قال: القدس ليست لك ولن تعود. لكنّني عدت، والفضل في ذلك، يعود إلى صمود شعبنا في وطنه، وإلى تضحيات الانتفاضة، وإلى تضامن قوى الخير والديمقراطية والسلام، في كلّ بقاع الدنيا، مع شعبنا.
وأعود بعد سنوات طويلة قضيتها في بيروت وعمّان وبراغ. في بيروت عايشت الحرب الأهليّة اللبنانية بضعة شهور، كتبت أثناءها عدداً من القصص تبدّى فيها اثر الحرب والإبعاد. ثم غادرت بيروت الى عمّان، التي غمرتني بعطفها وحبّها، وكانت لي فيها أروع الصداقات، وكانت لي فيها نشاطات متنوّعة جمعت بين السياسة والثقافة، وبين العمل النقابي والإبداع. ثم غادرت عمّان الى براغ، ممثّلاً للحزب في مجلة قضايا السلم والاشتراكية. كانت براغ من أهمّ المحطّات في حياتي، تعرّفت فيها على الكثيرين من القادة السياسيين، من شتى بقاع الدنيا، وتعرّفت فيها –عن قرب- على أخطاء البيروقراطيّين في الحزب الشيوعي، تلك الأخطاء التي أودت، مع غيرها من العوامل الداخلية والخارجية، بالتجربة التي كانت تسمّي نفسها "اشتراكية"، فانهار النظام، الذي كنّا نعتقد أنّه البديل لكلّ التجارب الاجتماعيّة، التي لم تحقّق العدل للناس. ثم أيقنّا بعد الانهيار أنّ هذا النظام لم يكن هو النظام الأمثل، وأنّ الاشتراكيّة الصحيحة لم تجد طريقها بعد إلى حيّز التنفيذ، في أيّ بلد، حتى الآن.
أعود مع فوج من الإخوة المبعدين، تعبر بنا الحافلة جسر الأردنّ الى فلسطين، يحيط بنا الألوف من أبناء الشعب الذين تجمّعوا طوال النهار في استراحة أريحا، ووسط الزغاريد والهتافات نمضي، ويسألني مراسلو الصحافة والتلفزيون: ما هو شعورك وأنت تعود الى الوطن؟ بالله عليكم، هل هذا سؤال؟ هل يُسأل العائد إلى مكانه الأوّل مثل هذا السؤال؟
أتأمّل التلال التي تجثم في ثبات على جنبات الطريق، أتأمّل الأشجار والبيوت والقرى، أتأمّل القدس وأنا أطلّ عليها من على قمّة جبل قريب، فأراها محاطة بالمستوطنات من كلّ الجهات، وأرى قبّة الصخرة التي تنتظر الخلاص منذ سنوات، وأتذكّر تلك الأيّام الحزينة، أيام حزيران 1967 وما تلاها من أيام، وأتابع، من ثمّ، الجيل الجديد الذي زادته الانتفاضة قوّة وبأساً وصلابة وقدرة على الصمود.
وأعود، لأنام في حضن أمّي القدس بعد سنوات من التشرّد والنفي والترحال والغربة والقلق، سأروي لها كلّ ليلة شيئاً ممّا كابدت طوال تلك السنوات، سأحدّثها عن ليالي الشوق والحنين، وسأصغي إليها، بكلّ حواسي، وهي تحدّثني عمّا كابدت هي الأخرى من عذاب على أيدي الجنود الغرباء وقطعان المستوطنين الطامعين في مجدها وبهائها وتاريخها. ولن أفارقها بعد الآن، أو هذا ما أصبو إليه وأتمنّاه.
أعود لأرى المدينة على حقيقتها دون تزويق أو أوهام، ولأرى كيف كانت المدينة وكيف أصبحت بعد سنوات من العسف والمعاناة.
يتبع...



#محمود_شقير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مرايا الغياب/ مؤنس الرزاز4
- مرايا الغياب/ مؤنس الرزاز3
- الليلة الأولى... رواية لجميل السلحوت ضد الجهل
- مرايا الغياب/ مؤنس الرزاز2
- مرايا الغياب/ مؤنس الرزاز1
- مرايا الغياب/ بشير البرغوثي8
- مرايا الغياب/ بشير البرغوثي7
- مرايا الغياب/ بشير البرغوث6
- مرايا الغياب/ بشير البرغوثي 5
- مرايا الغياب/ بشير البرغوثي4
- مرايا الغياب/ بشير البرغوثي3
- مرايا الغياب/ بشير البرغوثي2
- مرايا الغياب/ بشير البرغوثي1
- مرايا الغياب/ سليمان النجاب18
- مرايا الغياب/ سليمان النجاب16
- مرايا الغياب/ سليمان النجاب15
- مرايا الغياب/ سليمان النجاب14
- مرايا الغياب/ سليمان النجاب 13
- مرايا الغياب/ سليمان النجاب12
- الأرملة... رواية اجتماعية لجميل السلحوت وديمة جمعة السمان


المزيد.....




- فيلم سعودي يحصد جائزة -هرمس- الدولية البلاتينية
- “مين بيقول الطبخ للجميع” أحدث تردد قناة بطوط الجديد للأطفال ...
- اللبنانية نادين لبكي والفرنسي عمر سي ضمن لجنة تحكيم مهرجان ك ...
- أفلام كرتون طول اليوم مش هتقدر تغمض عنيك..  تردد قناة توم وج ...
- بدور القاسمي توقع اتفاقية لدعم المرأة في قطاع النشر وريادة ا ...
- الممثل الفرنسي دوبارديو رهن التحقيق في مقر الشرطة القضائية ب ...
- تابع مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 22 .. الحلقة الثانية وا ...
- بمشاركة 515 دار نشر.. انطلاق معرض الدوحة الدولي للكتاب في 9 ...
- دموع -بقيع مصر- ومدينة الموتى التاريخية.. ماذا بقى من قرافة ...
- اختيار اللبنانية نادين لبكي ضمن لجنة تحكيم مهرجان كان السينم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شقير - قالت لنا القدس1