مرايا الغياب/ بشير البرغوثي3

محمود شقير

الحوار المتمدن-العدد: 7575 - 2023 / 4 / 8 - 12:21
المحور: الادب والفن
    

كان معنياً بمتابعة ما ينشره بعض المثقفين الفلسطينيين من بحوث سياسية، وما ينظمونه من ندوات دراسية حول المجتمع الفلسطيني ومنظماته السياسية وأحزابه. وقد أصدر العام 1996 كراساً موسوماً ب "مساهمة في النقاش حول الحزب السياسي الفلسطيني" تحدث فيه "عما يسميه بعض الكتاب (أزمة اليسار الفلسطيني)" وفند الدعوة إلى إقامة حزب جديد، معتبراً الحديث عن أزمة اليسار بمثل هذا التعميم نوعاً من الخلط الذي لا يرى الفرق في الرؤى والبرامج بين قوى اليسار المختلفة، والاكتفاء بوضعها في سلة واحدة دون تمييز، كما أنه ينطوي على تجاهل لما أنجزه حزب الشعب (وحزب فدا) من تجديد في برنامجه السياسي وفي نظامه الداخلي، حيث لم تعد الماركسية هي المرجعية الفكرية الوحيدة للحزب، ولم تعد المركزية الديمقراطية هي المرتكز الرئيس الذي ينهض عليه التنظيم الحزبي.
وبدا معنياً بتوضيح مظاهر الخلل في الطروحات التي تضمنها كتاب "أزمة الحزب السياسي" الذي صدر متضمناً مواد ندوة دراسية عقدت لهذا الغرض، حيث لاحظ أن تركيز الكتاب "منصب على الناحية الذاتية، وكأن قيام قيادة جديدة وتوسيع الديمقراطية، سيكون البلسم الشافي لأمراض الأحزاب السياسية، وسيوسع جماهيريتها"ص7 واعتبر "أن هذا التبسيط للمسألة لا يساعد على حلها. هناك صعوبات، بلا شك، يمكن أن ترقى إلى مستوى الأزمة عند البعض، ولكنها ليست بدون جذور موضوعية. لكننا لا نقصد بذلك إلقاء المشكلة برمتها في سلة العوامل الموضوعية. فهناك عوامل ذاتية أيضاً أبرزها عدم القدرة على قراءة تلك العوامل واستخلاص الاستنتاجات الملائمة عند بعض تلك الفصائل."ص8
وأضاف في هذا الصدد " ولقد كان جديراً بالذين تصدوا لبحث ما أسموه "أزمة اليسار" الفلسطيني أو "أزمة الحزب السياسي الفلسطيني" أن يقدموا لنا ولو عرضاً بسيطاً لتصورهم للبنية الاجتماعية والسياسية التي يعمل ضمنها الحزب السياسي الفلسطيني ويتأثر بها ويؤثر فيها. فالحزب، أي حزب، وهذه من البدهيات، لا يعمل في الفراغ، بل هو ينبثق أصلاً من التربة الاجتماعية بهدف التأثير السياسي فيها."ص8
وتتضح قدرة بشير على السجال الفكري والسياسي، من تحليله للواقع الاجتماعي الفلسطيني وللأوضاع المستجدة بعد اتفاق أوسلو، والتداخل بين الوطني والاجتماعي بعد قيام السلطة الوطنية الفلسطينية والتناقضات الطبقية الناشئة عن ذلك، وتأثيرها على وزن القوى السياسية ونفوذها بين الجماهير.
ثم يستعرض الظروف التاريخية التي نشأ فيها الحزب السياسي الفلسطيني، وتأثره بالبنى القبلية والعشائرية والعائلية التي كانت تميز المجتمع الفلسطيني في بدايات القرن العشرين، وكذلك تأثره بالتجربة الحزبية العربية باعتباره امتداداً لها، هذا الامتداد الذي استوجبه الصراع مع الغزوة الصهيونية لفلسطين.
ويخلص إلى الحديث عن الحزب السياسي الفلسطيني في الوقت الراهن، مؤكداً "أن ما يطلق عليه اسم الأزمة ليس حدثاً طارئاً في الحياة الحزبية الفلسطينية، وإنما له جذوره في تاريخ ونمو الأحزاب في فلسطين أو باسم فلسطين." ص28، مشيراً إلى "أن الموضوعية تقتضي أن لا يحشر الجميع في قفص واحد، فحزب الشعب ظل محتفظاً ببرنامجه الخاص بالقضية الوطنية لأن جميع التطورات زكت هذا البرنامج وأكدت صحته. وفيما عدا ذلك، أدخل تعديلات على برنامجه العام تلائم التطورات الملموسة ثلاث مرات في غضون أربعة عشر عاماً، أي منذ إعادة تأسيسه في عام 1982." ص30
ويشير إلى أهمية دور المثقفين في الحياة السياسية قائلاً: "إن ضعف حضور المثقفين في صفوف المعارضة السياسية الحزبية سبب هام في الأزمة الحزبية الراهنة. فالمعارضة الجادة والمسؤولة تتطلب برامج عملية وعلمية في مواجهة برامج السلطة في مختلف الميادين السياسية والاجتماعية، وبدون مثل هذه البرامج يكون من العسير على الجمهور المقارنة والتقييم، ويكون أيضاً، من الصعب تبلور رأي عام تحركه المعرفة وليس الغريزة والإحساس."ص42
مع ذلك، ورغم هذه الجهود الفكرية والسياسية، ما زال اليسار الفلسطيني بكل تنظيماته ضعيفاً، وتأثيره بين الجماهير ما زال محدوداً. ولذلك أسباب ذاتية تتعلق باليسار نفسه، وأسباب موضوعية تتعلق بالتشوهات التي طرأت على البنية الطبقية للمجتمع الفلسطيني، وباستعصاء حل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً.

8

كتبت في دفتر اليوميات:
لم أكن متنبهاً في غمرة الحماسة للفكر الذي آمنت به، لبعض الصيغ الجاهزة التي كانت ترد في الأنظمة الداخلية للغالبية العظمى من الأحزاب الشيوعية، مثل: السهر على نقاوة الماركسية- اللينينية من أي انحراف يساري أو يميني (ربما تسربت هذه الصيغة إلى الأنظمة الداخلية للأحزاب بتأثير الرفاق السوفيات، الذين تابعوا مثلما تابع غيرهم، عدداً من الانقسامات في الحركة الشيوعية العالمية بدءاً بالتروتسكية، مروراً بالماوية، وليس انتهاء بالشيوعية الأوروبية).
في ما بعد، صارت كلمة "السهر" تستفزني (وربما استفزت كثيرين غيري) لما فيها من مجانية وتعميم، بعد الذي تكشف من هيمنة للبيروقراطية على أكبر حزب في الحركة الشيوعية العالمية. فمن هو الذي يقرر كيف تكون نقاوة الماركسية- اللينينية؟ وبأي مقدار تكون هذه النقاوة؟ ومن يضمن أنه باسم النقاوة لن تكمم الأفواه، ويتعطل النقد وينحسر الإبداع والتجديد؟

9

جاء إلى براغ، وأقام في فندق الحزب الجديد. الفندق مبني على مقربة من الشارع الرئيس الذاهب إلى المطار ويتكون من طبقات عدة، وهو محاط بأشجار كثيفة ونباتات زينة وورود.
كانت براغ في تلك الفترة، مركزاً لتحركات سياسية ولقاءات بين ممثلي أحزاب شيوعية ويسارية وأخرى وطنية ديمقراطية، وكانت مقراً لممثلي أحزاب وتنظيمات ولاجئين سياسيين. وكنت مغتبطاً بما تتيحه حكومة هذه البلاد وحزبها من فرص لقوى سياسية فلسطينية وعربية، لتنسيق أنشطتها مع منتسبيها في أوروبا والعالم وكذلك في بلدانها. كنت مغتبطاً بما في مدينة براغ من جمال ومتعة، ومن فرص للتزود بالثقافة والاستمتاع بفنون الموسيقى والمسرح. ولم أكن على معرفة وافية بحجم البيروقراطية التي تتفشى في أجهزة الحكم، ولا بالترهل الذي أخذ يفتك بالحزب منذ سنوات. كنت ألحظ بعض مظاهر الترهل والبيروقراطية، إلا أنني لم أكن أعتقد أنها مستفحلة إلى حد كبير في أجهزة الحزب والدولة. لم أكن كذلك على بينة من قوة المعارضة، التي استطاعت في ما بعد السيطرة على مقاليد الحكم في البلاد (ميلان كونديرا الذي غادر براغ إلى باريس العام 1975، بعد أن فصل من الحزب الشيوعي بسبب آرائه الإصلاحية المؤيدة لحركة دوبتشيك، سينشر روايته الموسومة ب "الجهل" بعد أحد عشر عاماً من سقوط النظام الشيوعي في بلاده. سيكتب عن مشاعر مواطنيه التشيك الذين هاجروا من البلاد لعدم توافقهم مع النظام. سيكتب عن إرنا التي هاجرت إلى باريس، وها هي ذي تأتي زائرة إلى براغ بعد سقوط النظام: "شعرت بنفسها سعيدة في باريس، أكثر من هنا، لكن رباطاً سرّياً من الجمال أبقى على ارتباطها ببراغ فقط، فتدرك فجأة كم تحب هذه المدينة، كم يجب أن يكون هجرها مؤلماً."ص86، وفي موضع آخر من الرواية نرى جوزيف الذي هاجر من تشيكوسلوفاكيا إبان الحكم الشيوعي إلى الدانمارك، ثم عاد في زيارة لبلاده بعد عشرين سنة من الغياب، والتقى صديقه "ن" الذي كان عضواً في الحزب الشيوعي، ثم مال مع الريح حيث مالت، وسأله "رأيه بالاستعادة السريعة والفجة للرأسمالية. فهزّ "ن" كتفيه وأجاب بأنه نظراً للظروف لم يكن هناك من حلّ آخر."ص98 ).
وحينما جاء بشير إلى براغ، كانت أوضاع البلاد ما زالت في حالة استقرار نسبي. وكان من ضمن برنامجه لهذه الزيارة، إلقاء محاضرة أمام مندوبي الأحزاب الشيوعية الممثلين لأحزابهم في مجلة "قضايا السلم والاشتراكية"، التي يقع مبناها قريباً من مبنى فندق الحزب الجديد. جاء في الموعد المحدد (سأقوم بتقديم صلاح خلف لإلقاء محاضرة في المجلة، وكذلك نايف حواتمة)، وكنت مبتهجاً بقدومه إلى المجلة التي أعمل فيها ممثلاً للحزب الشيوعي الفلسطيني. وكان محط إعجاب ممثلي الأحزاب وتقديرهم لسعة اطلاعه ولقدومه من الأرض الفلسطينية المحتلة، حيث تندلع الانتفاضة الأولى التي يشارك فيها الحزب جنباً إلى جنب القوى الوطنية والديمقراطية والإسلامية.
قدمته بكلمات مناسبة، ثم تحدث ما يقرب من ساعة، وأمضى ممثلو الأحزاب الشيوعية قرابة ساعة أخرى وهم يطرحون عليه الأسئلة وهو يجيب عنها. بعد ذلك، بأشهر معدودات، أجرت المجلة حواراً مطولاً معه. قمت بإرسال الأسئلة التي وضعها أعضاء من مجلس التحرير، إلى مكتبه في القدس، حيث أجاب عنها، وأرسل إجاباته إلى المجلة التي قامت بنشرها بالعربية وبلغات أخرى كانت تصدر بها المجلة في بلدان عدة.
في المساء، جاء إلى بيتي في براغ، وكان معه ابن عمه وزوج أخته، رجل الأعمال ثروت البرغوثي. كنت أسكن مع أسرتي في شقة في بناية في منطقة براغ 6 واقعة على تخوم المدينة. وجاء إلى البيت نعيم الأشهب ومحمد أبو شمعة ومازن الحسيني.
تناولنا طعام العشاء معاً. تحدث بشير في السياسة وقتاً، وروى حكايات ظريفة عن بعض وقائع العمل في صحيفة الطليعة، وامتدت سهرتنا إلى الحادية عشرة، تخللتها سخريات كان لبشير الدور الأبرز فيها.
في مساء آخر، التقينا في بيت نعيم الأشهب. البيت يقع في حي قريب من طريق المطار. وكان في البيت عدد غير قليل من الرفاق والأصدقاء. كنا نبتهج حينما يأتي أحد القادمين من الأرض المحتلة إلى براغ، فكيف إذا كان هذا الأحد هو بشير البرغوثي!
وفي مساء ثالث، ذهبنا إلى فندق الحزب الجديد، إلى الجناح الذي يقيم فيه بشير. جاء عدد من قادة الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي وموظفي اللجنة المركزية، لتناول طعام العشاء بدعوة من بشير. تناولنا الطعام في إحدى قاعات الفندق، وجرت مباحثات سياسية أثناء ذلك، ولم يكن أحد يتوقع أن هؤلاء القادة سيتم إقصاؤهم مع بقية رفاقهم عن سدة الحكم في وقت قريب.
في مساء رابع، في الليلة التي سبقت مغادرته لمدينة براغ وعودته إلى الوطن، التقينا في مطعم قريب من نهر الفلتافا. كانت براغ تتمدد مسترخية في الليل، وفي أحشائها تتوثب رغبات كثيرة وتطلعات. وكنا نخمن بأن ثمة تململاً في المدينة، لكننا لم نتوقع مقداره ومداه على نحو دقيق. لذلك، بدا بشير مرتاحاً في تلك الليلة لنتائج زيارته لتشيكوسلوفاكيا، حيث التقى عدداً من المسؤولين فيها، وعدداً من المسؤولين الفلسطينيين الذين قدموا من تونس خصيصاً للتحاور معه. وكان سليمان النجاب موجوداً معنا في تلك الليلة. تناولنا طعام العشاء في المطعم، وتحدثنا في شؤون شتى، ثم ذهب بشير وسليمان إلى الفندق. وفي الصباح ودعناهما في المطار، حيث غادر سليمان إلى تونس وبشير إلى فلسطين.
يتبع...

#محمود_شقير (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات