أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - باسم عبدالله - الزمان والمكان في المفهوم الخرافي للإله















المزيد.....



الزمان والمكان في المفهوم الخرافي للإله


باسم عبدالله
كاتب، صحفي ومترجم

(Basim Abdulla)


الحوار المتمدن-العدد: 7583 - 2023 / 4 / 16 - 15:24
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


الزمكان، او الزمان المكاني، spacetime بمعنى الفضاء في ابعاده الاربعة، فلا وجود للأشياء واللاحداث بمعزل عن الزمان والمكان، لكننا نتوصل غالبا الى استنتاجات لا نجد لها تفسيرات و ادلة منطقية إلا انها تناسب الواقع الذي نعيشه والمشاعر الدينية التي تعتري الكثير مما يقع في مغالق الزمان والمكان حتى تتسرب الى العقول مفاهيم فلسفية عديدة لا نجد حيال واقعيتها غير التسليم لوجودها وغير العجز في الوقت ذاته لعدم فهمها. هذا الأمر المعقد المحبط للواقعية قد تسبب فيه تراث الفكر الديني. يعتبر الزمان المكاني فرع من فروع الفلسفة واشكالية عقلية خرجت من خلالها الافكار الدينية التي وضعت العالم الروحاني في مساره، فالوجود نتاج الزمان والمكان ومن خلالهما انبثق وتحددت من خلاله المعارف والمعتقدات، فلا يمر جيل الا ووقع ضمن تفسيراته وتحليلاته مفهوم الوجود ومن خلاله انبثق المنطق والتاريخ ليفسر لنا طبيعة العلاقة بين الزمان والمكان وبالتالي لا تخلو امة لا تفسير لها في نظرية الزمان والمكان.
ان الذي يتبادر الى الذهن طبيعة العلاقة بين الزمان والمكان وانفصالهما عن العقل، وهل هما معا منفصلان ام انهما من مخترعات الوجود الفلسفي للكون؟ كيف امكن تحديد حركة الزمن في اتجاه واحد وماذا لو كان هناك اتجاه آخر للزمن، او ان يكون زماننا غير زمان الكواكب الأخرى وماذا يعني مرور الوقت، هل هو حالة عقلية او ضرورة كونية؟ لقد قدمت لنا الفلسفة الهندوسية والهندية من خلال نصوص الفيدا ان عالم الكونيات الهندوسي مر من خلال دورات خلق، بعث، وتدمير متكرر كان فيه الزمن ملاصقا لكل الدورات الكونية هذه، فكل دورة فيه زادت عن 4 ملايين سنة. اشارت كذلك الفلسفة اليونانية لبارمنديس وهيراقليطس بمقالاتهم الى ترسيخ العلاقة بين العقل والزمن. فكلا الزمان والمكان مفهوم واحد، لفهم طبيعة الكون. بقدر ما اشار افلاطورن بأفكاره التي مهدت الطريق لظهور المسيحية بين الأنا والجوهر، كذلك غيرت افكاره في الزمان معتقداتنا وفهمنا للمعتقدات الروحانية، فلقد كان يرى الزمان، الحركة الملازمة للاجرام السماوية ومن خلاله يكون المكان هو الفراغ الذي تكون في الاشياء. كذلك اشار ارسطو الى عدد متغيرات الزمان، واشار القديس اوغسطين الى اثبات وانكار الزمن فهو لم يعلم كنه الزمن، ولم يكن في مقدوره استيعاب دلالاته العقلية. لكن تحليلات اوغسطين ربط الزمن بالمعرفة من خلال حركة الاشياء. لقد قام فلاسفة العصور الوسطى وعلماء الدين بتطوير المفهوم الكوني للزمن، فالوجود له بداية وله ماض اي انهم اخضعوا مفهوم الزمن كولادة كونية تماما، اي حالة مادية تخضع للتطور، لقد انبثقت المفاهيم الدينية الباكرة ان من غير الممكن الوجود اللابدائي للكون او استحالة وجود اللانهائية للكون من خلال مفهوم الزمن. اي لا يوجد شي لا نهائي، فكل شي يخضع للنهاية. تطورت تحليلات الافكار الدينية كما هو الحال عند الحسن بن الهيثم في التصور الفضائي، فلقد استنبط من خلاله فكرة في كتابه البصريات ان الكون بشكله الهندسي البديع ماهو إلا تعريف للمكان وانه امتداد يلتصق بفعل الزمن. هذا الفهم الجديد للفضاء والادراك البصري وذهول العقل امام مدارك الكون الواسعة، رفض الحسن بن الهيثم الادراك الحسي للمكان عن استقلالية الرؤيا، اي انه لم يفصل طبيعة المكان ككيان مستقل عن مجرد الرؤيا، فالبصر لا يمكنه قياس وحدة المكان على اساس مستقل اي ان الحسن نظر الى طبيعة المكان او المسافة انها امتداد كوني لا حصر له في تحديد قيمة الزمن. لنناقش الآن معضلة عقلية اكثر تعقيدا والتي ذهبت بنا الى متاهات المعتقدات في العالم الغيبي وعلاقته بالزمان والمكان، مادام الاستدلال العقلي قد انكفأ في تفسيره العلمي الى الواجهة الظنية في فهم الزمان والمكان. لقد قدم لنا الواقع العقلي في علم الوجود امكانية تفسير الزمان والمكان بمعزل عن العقل، فالمثاليون ينكرون وجود زمان ومكان مستقل يعزلون ان الاشياء توجد دائما خارج العقل ومع ذلك لا يؤمنوا باستقلالية الزمان والمكان. لقد التصق المعتقد الروحاني من خلال عجز العقل فصل الزمان والمكان وهم بذلك طوروا المفهوم الروحاني في دمج الزمان والمكان في مفهوم الادراك الكوني. لقد دخل مفهوم الواقعية واللاواقعية في المفهوم الفلسفي للزمان والمكان. استخدم الفيلسوف الالماني ايمانوئيل كانت في القرن الثامن عشر في عصر التنوير مستخدما نظرية المعرفة في كتابه ” نقد العقل الخالص ” فيما يخص الزمان المكان فالوقت فكرة وهي نتاج اي فكرة اخرى مثل الفضاء، لهذا تتكون عندنا خبرة، فهو ليس كيان انما عنصر في وجود شبكي منهجي يمكن استخدامه لجعلنا امام خيار منهجي منظم. لقد اعتبر كانت ان قياس الزمن بين الاحداث هي حقائق لها وجود مادي في حياتنا، لقد اقر كانت الى حقيقة الزمان والمكان كعناصر واقعية يكون بهذا قد شق طريق استقلاله عن المنعطفات الخيالية والوهمية لمفهوم الزمان والمكان في المعتقدات غير الواقعية.
لقد خالفت بشكل واضح التفسيرات المثالية في فهم طبيعة الزمان والمكان. نكون قد توصلنا الى استنتاج مفترق طريق، لمنطق بين الواقع والخيال العقلي في مفهوم الزمان والمكان. ماذا يعني مفهوم الزمان في الفكر الديني؟ لماذا خالف مفهوم الزمان في الفكر الديني جميع النظريات والواقعية التي لم تجرد فعل الزمان عن حركة التاريخ والمعرفة؟ ذلك ان تجرد الوحي من الصبغة الأرضية قد البس عقيدة الإله الواحد ذات الصبغة التي لا علاقة لها بمفهوم الزمن الأرضي، لقد ادرك الإنسان مفهوم الزمان من خلال حركة الأرض حول نفسها او حول الشمس، فشروق الشمس وغروبها وتعاقب الفصول وميلاد الناس ووفاتهم ارتبط بشكل مبكر بمفهوم الزمان وفعله في الأحداث بحيث تمكن الإنسان تدوين التاريخ كله بموجب فهمه لحركة الزمان بل ارتبطت حركة الزمان بتاريخ انصاف الآلهة بولاداتهم ووفاتهم، ومعاناتهم على الصليب وتغير شكل الطبيعة عند تعرضهم للموت العنيف كما حصل ليسوع المسيح عندما انشق حجاب الهيكل والارض تزلزلت والصخور تشققت وخروج الموتى من قبورهم، فهذا كله استدل به العقل اللاهوتي بربط العلاقة الزمنية بالأحداث الرهيبة. الزمان اذاً حركة رغم انها حركة عدم في الوجود تتحول الى قوة ومعتقد عند الكثير من الشعوب. لقد باتت الحركة طريق الاتجاه الى الموت والسكون طريق الخلود والبقاء، ذلك ان مفهوم الخلود في الملأ الاعلى دار الخلود لانه خال من حركة الزمن. لقد قرن الزمن ذاته بالسكون وصار شكلا من اشكال الألوهية، فالله ثابت غير متغير ، اسمى من الحركة فالحركة الإلهية وافعالها انما تستمد من صفاتها الجوهرية من الإرادة العلية التي تحيط الذات الإلهية. لقد بات واضحاً التقسيم اللاهوتي في فجر الديانات الباكرة ان الذات الإلهية تجسد شمولية الفضاء الكوني الساكن، لهذا ادرك العقل المتدين ان الله خلود في ذاته فهو ازلي وباق مع الأيام لا يعتريه التدهور ولا مفاعيل الازمنة، لهذا اعترى الخلق حركة الزمن فنشأ الخلق. لقد امكن تقسيم المعتقد الروحاني بجعل الثابث للذات الإلهية والمتغير للطبيعة البشرية والأشياء المحسوسة، لقد تطور العقل الخرافي الى استحداث المفهوم الروحاني للزمن عبر استنباط المعتقد فصار مفهوم كلمة الله او العقل الكوني او الإرادة الكلية المطلقة مسميات لمعتقد واحد يرى ان الكلمة الإلهية تجردت من قبضة الزمن ازلية هي موجودة مع الله قبل نشوء الزمن، لهذا حث العقل الغيبي على تطوير الإدراك الإلهي ان الله لا يوجد بمعزل عن كلمته فهما معا كيان واحد، لقد ظهر اول تعبير في سفر الأمثال 8 ” انا الحكمة اسكن الذكاء واجد معرفة التدابير ... منذ الازل منذ البدء منذ اوائل الارض... اذ لم يكن قد صنع الارض ” لقد استدل سبق الزمان للذات الإلهية تجريده عن المحتوى المادي الحركي للطبيعة، هكذا يزخر انجيل يوحنا بالكثير من علاقة يسوع للعالم الخالد عبر حواره مع اتباعه ان كلامه ليس منه انما من الذي ارسله في العالم الآخر حيث لا يحل في الزمان، وصف لنا االلاهوت المسيحي ان المسيح كلمة الله، في المعنى السابق للزمن و ” ابن مريم ” الحركة الفعلية للزمن.
هذا التصور اللاهوتي دخل للفكر الديني مفهوم الخلود والأزلية، المفاهيم التي تخص الذات الإلهية تطورت عبر تاريخ النخب الدينية فصار كلام الله ازلياً، ولا يمكن فصل كلامه عن ذاته، هذه الذات مستقلة عن الزمان والمكان، ولا علاقة للتاريخ البشري به، لقد تطور المعتقد الغيبي للزمن من خلال مفهوم العدم، استمرار الوجود في الماضي الى غير نهاية في استنباط حقيقة الوجود فقط من خلال الذات الإلهية، فلا توجد جزئيات للزمن عند قياسه للمفهوم الإلهي فالماضي والمستقبل فيه قطعة واحدة مترابطة هي الزمن الحالي، فلا يحيط الذات الإلهية هذا المفهوم كما احاط لكل الوجود، فالزمن حالة وعاء كوني يتسع ويتمدد في الإرادة الإلهية في مجهول متصل لايدركه العقل وفق قياساته المادية، لقد اقر العقل استحالة تتابع الزمن للغيب ذلك ان الغيب في اطار الفضاء المفتوح حركة مستديرة متقدم في عمق المجهول، لهذا لن يتسرب الزمن في عوالم غير المحسوس، فهو ليس محدث لهذا يكون الزمن الاطار الغيبي للأبدية. التوراة بحسب الخطاب الديني مفهوم ازلي، ذلك ان كلمة الله تغلغلت في نصه الديني، وكذلك في المسيحية،فالمسيح كلمة الله، شخصاً مجسداً للذات الإلهية اجتازت الزمن الثابت غير المتحرك الى الزمن المتحرك في الولادة البشرية فدخل التاريخ المادي، لكن وفاة المسيح وصلبه حادثتان لم ترتبطا بالزمن الراسخ عند العنصر الإلهي الابوي ليسوع، يكون بهذا قد اخترق المعتقد اليهودي في ازلية الذات الإلهية وعلوها عن المحسوس المجرد، وفي الإسلام يعد القرآن كلام الله منذ الأزل، رغم تصادم واقعية النص القرآني بما يدلل عدم دقة اللوح المحفوظ في الحفاظ على ازلية الزمن للأحداث قبل وقوعها. فأذا كان القرآن قديم قدم الذات الإلهية لكان قد تعذر اتيان النصوص التي تعارض نصوص اللوح المحفوظ بعقيدة الناسخ والمنسوخ، ذلك ان الأمر كله اندرج في الزمن المتحرك للحدث الديني عبر التاريخ.
لقد تغير المسار الاعتقادي للغيب متنقلا من الله الى الوحي الى النبي، الامر الذي لم نجد هذا الأمر في المسيحية، اي اننا حيال زمن مختلف رغم اننا في خندق واحد حيال عقيدة الغيب. ما اهمية القدر في تمسك الزمن وثباته في الفكرة الروحانية للإله؟ بحسب العقيدة اليهودية التي مثلت اساس عقيدة الإله غير المرئي، كان الخلق والتاريخ كله سيناريو الإرادة الإلهية، فعلى اختلاف الزمان والمكان كانت الأمة اليهودية كلها تؤدي ادوارا مرسومة لها ففي فعل تلك الإرادة اراد الإله تشتيتهم وهو امر مكتوب عليهم منذ الأزل، حتى يجعل من معاناتهم شعبا ينال رضى الله في الارض الموعودة، وعلى هذا الأساس حتى صلب يسوع او السور القرآنية كلها تنبع من سراج واحد مثل قدر الإنسان وانكسار ارادته امام الإرادة الإلهية فما الذي فعله المؤمن والكافر انما نتاج القدر الإلهي. ان هوة الصراع بين الواقع واللوح المحفوظ، حتى ان المبدأ المعتزلي في الإسلام ان احداث الحروب وردت بنصوص آيات وسور قرآنية لم يكن محمد يعرف نتيجتها فكيف تم ذلك منذ الأزل؟ فما اهمية الأيمان و الكفر امام حتمية القدر؟ ان كانوا قد نالوا النار او الجنة؟ ما هي اهمية افعالهم ان كان الأمر كله مفروض عليهم. لقد انتج الزمن الثابت عدم تحرره من قبضة الإله لان الزمن غير المتحرك انما افعال قدرية لا حياد عنها وبهذا يكون الفكر الديني قد اعطى العبودية للإله من خلال الزمن الواسع المتحرك داخل عوالم الوجود المادي. لقد عانى الفكر الإنساني صراعا شديدا بين المعتقدات اللاهوتية للزمن والتفكير العلمي الذي حاول الأنفلات من قبضة الازل في النص الإلهي، فلا معنى للحديث عن الحرية والأرادة، فلا حرية ولا ارادة يمكن رصدها امام الحتمية القدرية والفكرية للنص الازلي، فلا إرادة بشرية تحدث فعلا متحرراً او حدوث تحرر في سياق تاريخي مستقل، فهذا هو الوهم بحد ذاته، فمن اراد كسر قدسية النص اي تحريره من عبودية الأزل انما يمثل حالة الحاد تخرج المفكر عن القيم الدينية. ان الذي جعل عقيدة الأزل واللوح المحفوظ في العقائد الدينية يصل مداه الى كبح العقل عن التنوير والجدل العلمي فصل العلم عن التطبيق فصار من الصعب نقض منطق الفكر الديني، وعلى العلم اثبات عدم منطقية خضوع الزمن للفكرة الإلهية، حتى بات العلم غير قادر على تحرير العقل من قبضة الوهم القائم بين الزمن الوجودي وزمن الغيب الإلهي. لقد ظهر في القرن التاسع عشر علم الفيزياء آخذا بالتطور اذ قدم العالم الفيزيائي البرت اينشتاين نظرية النسبية الكونية فتم تحديد العلاقة بين الجاذبية وانحناء الفراغ في بعده الزمني الرابع اضافة الى بعد الزمن الثلاثي، الطول، العرض، الارتفاع مما يجعل الكون اربعة ابعاد ثلاثة منها مكانية واحداث رابع زمني. فصار يسمى الزمكان space-time صار الزمن منحنى اوله يتصل بآخره وصار قانون الابدية متحداً ليس فقط في مدارج علم الغيب انما اتصال الوجود في واقعه الذي نعيشه فلا زمن غيره. لقد تم تعديل المعتقد الغيبي انه حاضر وماض ومستقبل في كيان واحد، الله ليس مستقلا عنه، انما حضوره نفسه في الحاضر والماضي والمستقبل، لقد وضع الفكر الجديد للإيمان بالغيب، هو ان المنظومة اللاهوتية ماهي إلا تعديل للمعتقد من خلال تجريد الزمن الإلهي من واقعه غير المحسوس الى واقعه الحضوري فليس هناك زمن خاص به، كلنا جميعا ندور في فلك الوجود بكل ابعاده، لقد باتت عقيدة الخلود والأزل مجرد فرضية لفكرة لا اساس لها.
افادنا العقل الفيزيولوجي ان الإله كي يخلق الكون لابد ان يكون داخل منحنى الزمن الكوني في ابعاده الاربعه، اي ان يكون داخل الكون نفسه فلا يمكن خلق الكون بمعزل عن وجوده خارج نظامه الكوني، وعندما يكون داخل ملكوت الوجود يكون الله ذاته خضع لقوانين الزمان والمكان، بينما هو الديمومة المستمرة ولا زمان خاص به، يبقى وجوده في العقل المجرد ايمان نملأ من خلاله فراغ احساسنا بعقيدة وجوده. ان النظرية العلمية مهما كانت راقية في مصادرها التجريبية تبقى نظرية قد تصححها نظريات اخرى وهكذا يتحتم علينا دائما احترام الموروث العلمي خاصة للتجارب التي تخص علاقة العلم بالغيب، ذلك ان النظرية العلمية تخضع دائما لمختبرات التجارب، للتعديل والتطوير، هذا ما يجعلها جديرة بالقبول والمنطق، على خلاف الافكار الغيبية التي لم تثبتها النتائج التطبيقية، لهذا يمكننا الوثوق بالنظرية النسبية، ولعل اهم ما فيها مفهومها للزمن وهي مسألة تتصل بالعقل خاصة تلك التي تعلقت بالأزل، الأمر الذي يعارض حقائق النظرية العلمية ويقف مع المعتقد الغيبي بخصوصها في النقيض الصريح، عندما تحدث الله عن خلق الانسان وخلق الكون في ايام، يتسرب الزمن في المفهوم العلمي كحقيقة اي يقف الخلق في المنظومة الكونية وهذا ما يجعل اي علاقة بين خالق ومخلوق خاضعان لتأثير الزمن، فالزمن المطلق المفتوح في رحاب الكون ماهو إلا خيال عقلي اثبت عدم صحته الواقعية في النظرية النسبية. ذلك ان امتداد الزمن تخيل عقلي ليس إلا، لكن في الحقيقة منحنى يسير فيه زمن داخل تقسيمات العقل ماض، حاضر، مستقبل، فعندما تحدث الله عن خلق في زمن الايام الستة او الثمانية، انما هو استمرار لفعل الزمن الكوني ذاته عند الإنسان والحقيقة الكونية. في حالة جزئية الزمن وليس من خلال انطلاقه، ماذا كانت تفعل الألوهية قبل الخلق؟ وهل احاطها الزمن؟ للإجابة على سؤال كهذا، يجدر بنا ان نعلم ان اختراع الأزل اي وجود الله في الزمن المطلق يناقض النظرية العلمية ولا يجعل هناك معنى للزمن الوجودي، اذا كان هناك ازل لم يكن للزمن وجود ومعنى. تطلعنا سورة الرعد الفقرة 39 ” يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب ” فازالة ما يشاء تعني تراجع الزمن ثم ازالة المقدر او المكتوب بفعل الزمن كذلك، فهذا الحضور في الزمن وامتداده يعني انعدام الخلود او الابدية، فالآية تفيد ان لا شئ مكتوب لا يتغير او مقدس ولا يتبدل، انما يمحو الله مقادير ويثبت غيرها فالتغيير والتبديل بمعنى صفة الزمن المتغير في مساره الكوني وهذا ما جعل الله نفسه يتلائم مع معطياته الكونية. في سورة الرعد كذلك نلمس الإقرار الإلهي ” ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ” ففعل الناس يمكن ان يغير حكم القدر، فيغير الله ما بهم متى تمكنوا ان يغيروا ما بأنفسهم. هذا التغيير في القدر علاقة زمنية الله في خلقه وعلاقة ارادة المخلوق في امره، الحقيقة الكونية هنا ان السلوكيات الفردية بحسب منظورها الزمني تتحدد على اساسها المقادير، بمعنى اننا امام مصير مرن لا علاقة للإرادة الإلهية فيه، فهو مسار يتمدد فيه الزمن بحسب الإرادة وليس بحسب المصير المحتوم. الازلية والابدية والزمن كلها امتداد واحد بما يفسر معنى الوجود والخلود. لقد خلط العديد من علماء الدين كابن عربي – الانسان الكامل ، ج 1 ص 103 في محاولته انقاذ التناقض في مبدأ العقيدة الإسلامية وايجاد مخرج يفسر معتقد الغيب على حساب النظرية النسبية، وقد كشف الإلهام او الحدس في دمج الإحساس الروحاني عندما يضم اليه الازل كجزء من الذات البشرية، ففي كتاب الموتى لقدماء المصريين ايمان مطلق ان الزمن واحد رغم تقسيماته المتباعدة وبقي عجز الفكر الإنساني في احتواء الزمن ماهو إلا صراع عقلي بين الذات والخرافة. استنتاجاً، تم دينيا فصل الازل عن الزمن التقليدي اذ تحولت الكثير من الاحداث التاريخية الى مختبر قدري او إرادة إلهية في تسيير احداثه، بشكل قلب اختيار الارادات البشرية في منطلقاته الواقعية، فالايمان ان كلام الله ازلي لم يجسد الصراع المادي للتاريخ، هذا الامر دفع العديد ان يعيشوا خارج واقعهم التاريخي ويتأملوا الاعجاز القدري للزمن، اذ تعلقوا على ظنون قسرية في احساس سرمدي اضفوا على قدسية النص الديني تبريرات لم تقدم غير نصوص فارغة من محتواها. ان انكفاء الذات المتدينة على نفسها احدث الاغتراب عن الواقع والابتعاد عن الحياة السليمة.
هيمن النص الديني على الأفكار التي تولدت من خلال عبارات نصية مقطوعة الواقع ولا برهان على صلاحية مدلولاتها الواقعية، كما هو الحال في الفهم الخاطئ للزمن وهو فهم قديم اوقع العديد من المفكرين في شباكه. اعطى الدين مدلوله العقائدي ان كلام الله الأزلي غير كلام الله التاريخي، وهذا ما ناقض الفكر الواقعي والعلمي للنظرية العلمية للزمن، فالله تحدث في سياق تاريخي اقره العقل لكن لم يتمكن من فصل كلام الأزل عنه، فالاحكام والتفسيرات التي حاول قادة الفكر الديني تبريرها كي لا تتعارض مع الازل والابدية، فسرت من خلال الفاظها المجردة غالبا ما كانت ومازالت نقيض الواقع، لقد قمع الفكر الديني محاولات الفكر التقدمي من خلال استنباط المنطق لعقائد بررت التناقض على اساس ايماني، كما هو الحال في اسباب التنزيل، الناسخ والمنسوخ، محاولين زج النص في متاهات زمن لا وجود له في واقعنا التاريخي، انتهى الأمر فيه الى صراع عقلي جدلي، كما هو الحال في الفكر المعتزلي، المتصوف، السلفي، الى قيام الجهادية التي تدافع عن النص تحت ذريعة قدسية النص وحمايته من الإنهيار امام التخريب والتغريب. صدام وقع ويقع ولا سبيل الى نكرانه اذ تبقى العقول تنتهج من سبيل الغيب وتستلهم منه احساسها بقدسية الزمن الخالد، فلا مجال امامنا غير الفهم العلمي للحقائق التاريخية فهذا هو الطريق الوحيد الذي يزيل العنف الديني بكل اشكاله عندما نجد مكان حقيقي للزمن الإلهي في تاريخنا كواقع وليس كظنون لزمن ازلي، يتفرد فيه الإله بعيدا عن تاريخنا. اين الحقيقة المطلقة؟ إن القياس المنطقي لحقيقة الزمان لا توجد لسببين، اولهما الجهل ذلك ان عمل العقل في المجهول ينقلب الى ما يزج العقل في ظلمات الغيب المجهول فلا يطال منها حقيقة، فالرضوخ الى حقيقة الزمان بقياسه العلمي فحسب امرا ليس سهلا، اذ مازال الزمن متمسك بلاهوت العقائد الدينية وبات جزءاً من تكوينها فهذا التصدع بين الحقيقة العلمية والفكر الديني قائم لا ينته وليس مقدرا عليه ان ينتهي في القريب العاجل، السبب الآخر تعنت العقل الاتكالي على مفاعيل الغيب والصاق الزمن ككيان فاعل هو الاساس في الذات الإلهية بعد المشيئة الكونية للإله. اي ان المشيئة لا قيمة لها بغير مفعول الزمن، لهذا يصعب فصل الزمن عن الاستدلال العلمي للزمن كحقيقة علمية لا علاقة لها بتاريخ الإله الأزلي، ذلك ان الايمان الديني بالزمن يقودنا الى منطق الجبرية القدرية واسقاط الإرادة الاختيارية للإنسان، حتى يصبح الثواب والعقاب قرين الزمن الإلهي بمداه السرمدي الواسع انه جزئية صغيرة من مفعول الزمن فما قيمة حرية الإنسان في الإختيار ان كانت لا تستمد طاقتها إلا من خلال الإرادة الإلهية ؟ حتى مصيره المعد سلفا اما الى الجنة او الى النار، يكون بلا معنى، ذلك ان مقتضيات العلم الإلهي في كل حركة وسكون بحيث لا يمكن الإيمان بها إلا من خلال الازل الممتد بين الذات الإلهية والجبرية القدرية، من الضروري ان يدرك الإنسان خطورة الإيمان بالزمن السرمدي للإله الى صحة تقديره وتدبر واقعيته في زمننا الذي اوجدنا فيه نظام حياتنا، في تقسيمه عبر التاريخ، اذ لا يمكن الإمساك بالابدية مادامت عقولنا مادية تخضع لمنطلقات الطبيعة فهذا الزمن عبر منجزات العقل الواعي قد قدم لنا الحقيقة التي يمكن من خلالها فهم حقيقة الزمن، فلنا فيه مفهوم واحد، لجعل حياتنا اسهل ولا نغوص في مسارات لم نعرفها عنه غير مصادر التأملات العقلية، فلقد ران عليها الزمن، نتمسك بالوعي العلمي فهو الطريق الذي يبعدنا عن اقحام عقولنا في مزالق اقل ما فيها تفرق الشعوب وتزرع في طريقها العنف، لقد وعينا زمن العلوم وبات من حق الشعوب ان تصنع من واقع الزمن حياة افضل لسلام باق، سلام ازلي هو الاسمى من خيال العقول.
اننا امام استنتاج عقلي ومنطقي شامل وبموجز العبارة عندما نتأمل مصادر الذهنية التي صاغت العلاقة الجدلية للزمن ومن المسؤول عن صياغة تلك العلاقة وما اهمية عقيدة الزمن بخصوص الوجود الإنساني وكيف يمكن تفسير هذه العقيدة في الذهنية الشرقية وكيف صاغها الإنسان وبالتالي تمكن من تنظيم معتقده الراسخ وفقاً لما بذلته تلك الذهنية على مدى آلاف السنين؟ إن الاجابة نجدها عند عالم الاجتماع الفرنسي اميل دوركهايم عبر كتابه ”الاشكال البدائية للحياة الدينية ” ” ... من خلال دراسته للمعتقدات الدينية لسكان استراليا، منطلقاً من ايمانه في استخلاص مفاهيم الزمان والمكان والسببية من التجربة التي تشتمل على جملة احساسات في انها تنشأ مفاهيم الزمان والمكان من بينها علاقات لا يمكن اطلاق صفة اليقين عليها ، اذ بحسب دوركهايم انها مجرد هباء لا طائل منه ” (1) لا شك ان المعتقدات الدينية قد صاغت العقلية الجماعية حول مفهوم الزمان في شكله غير المحسوس من خلال المنطلقات الغيبية بخصوص ازلية الزمان، بعد ان تم تفسير الزمن الايكولوجي ” علم البيئة المختص بدراسة العلاقات بين البشر وبيئتهم المادية ” فهذه الدراسة قدمت فعاليات الطبيعة استنادا الى التغيرات الدينية من مراحلها البسيطة الى التركيبة الاعقد، لقد تكدست الخبرات حول الزمن وصيغت في الذهن الجماعي بسبب معتقدات دينية، صار الزمن والخوف منه في افتقار الإنسان الى الامان يعيش الحاضر ، مستلهماً غياهب الماضي البعيد للكون بلا ان يدرك في عقله حقيقه كنه الزمن هذا التوجس ” ... زرع الخوف من الموت والفناء شكلا تصورياً، لهذا لم يكن امام الدين إلا التأكيد على نمط للوجود يتصف بالخلود والتعالي والابدية، بلا بداية ولا نهاية بلا اخطاء، منزها عن التغير ” (2) مادام الزمن يدور في دورة الطبيعة بلا نهاية، فلا يضيع اي شي ولا يتبدد، انما يتشكل كل شي ويولد من جديد بفعل خوارق الزمن الخالد في الحضور الإلهي، الزمن بمعناه السرمدي اعادة تشكيل الوجود البشري كنوع من الحساب في شقيه العقابي والثوابي.
استحوذ الزمان على ذهنية العقل الجماعي، فلا وجود بلا زمان بل ان الوجود والزمان باتا شكلا اساسياً في اثبات الحياة. لقد تغلغل الزمان في كل شي فلا وجود بمعزل عن الزمان، لكن الزمان اللاهوتي يعد امتدادا للزمان القائم، فالمعتقدات الدينية كلها تضع المقدس حاضراً في حياة الإنسان اذ لا حياة للإنسان بلا سلطان الزمن الذي يأخذه في النهاية الى الفناء. لقد اخفقت الانثروبولوجيا ” علم الإنسان ” بما شكله من قيم فكرية وحضارات، الافلات من قبضة الزمان إلا وكان المكان متصلا به، ذلك ان قيم الجماعات للفكر قد تداخلت على اعتبار ان ” الهوية المميزة للزمان لا يمكن ادراكها الا عن طريق المكان وما يسند ذلك هو التصورات الدينية حول الكون (3) لقد درج الفكر الديني على دمج الزمان بالزمن الأزلي السرمدي، رغم قصور العقل عن ادراكه وفهم محتواه، لكن استطاع ان يصنع من خلال ازلية الزمان منظومة دينية متكاملة لم تنفك عنه وصار الزمن الوجودي مكملا بشكل فاعل للزمن السرمدي. لهذا فتسرب المعتقد الغيبي للزمان يمكن العثور عليه من خلال التطور العقلي للمنظومة الإلهية بما يقابها الموروث البشري بين الألوهية البشرية وعلاقتها في كون ما وراء الطبيعة. ان عصر التنوير قد جلب معه الكثير من التحولات الفكرية ازاء الزمان والمكان، فالقيم الدينية تعرضت للفحص العقلي وتراجعت بتفسيراتها العلمية وفق المنطق العلمي اي تحولت من رؤية ” الله كقوة تتحرك خارج وخلف المخلوق الى ان الله اصبح مقصوراً على العمل من خلال الاسباب الطبيعية ومنسجم مع قوانين التي تخص الدراسات الإنسانية ” (4) اي انتقل المعتقد الى اضافة تصور جديد لمفهوم الزمان لدى الإنسان لم يستند على تفسيرات دينية كما كانت بل وضع الإعتبار على حركة الإنسان، فالسكون والحركة التي كانت امتيازا للزمان صار الإنسان اصلا لتلك الحالة الوجودية للزمن من خلال العلم، اي تراجع المفهوم الديني لقدسية الزمان في عصر التنوير وصار الزمن الابدي الذي اختص فيه الإله ينحسر في مدارجه الروحانية عند عدد قليل من رجال النخبة الدينية والتي مازلت ليومنا هذا متمسكة بوجوده الإلهي وبقدسيته. لقد لعب الفكر الإقتصادي الغربي كما توقع كارل ماركس ان الزمان انحصر في اقتصاد الوقت، فهذا الزمن يقل كلما خضع للحساب اي ان الزمن صار بيد مالك الإنتاج لكن العامل صارت حاجته للساعة يقيس فيها فترة عمله، فهذا الزمن بات صراعا بين المالك والعامل، هذا احدث ثورة في احساس الإنسان بالزمان، ” الحكم على الزمان بما انجزه من عمل، بالشعور بالتعب لتحل محله دقات الساعة التي لا ترحم (5) لقد اسس التوجه الاقتصادي في العلاقة بين مالك الانتاج والعامل، ان صار الحاضر مدار حياة الإنسان، فمشهد الزمان علاقة اقتصادية اجتماعية، اما الماضي لم يدل على نظام ثقافي ولا اقتصادي، فلم يقع في منظور الذهنية الجماعية اي اعتبار للزمن الابدي القائم في الغيب المجهول. لقد انحسر التفكير الديني بما يفيد مفهوم الزمان في تقبل علاقة التعبد للإله عبر مساره في الفكر الديني فهو ايمان لا صلة له بواقع عملي وبالتالي يكون علاقة تعبدية، لقد بات الصراع بين الزمن الصعب في العمل بقياس آلامه وساعاته وسنين جهوده يمثل زمانه الإنساني والواقعي ولا وجود للبعد الغيبي فيه، فالذهنية هنا ذهنية التعايش مع واقع لا ذهنية غائب يردعه الزمن الابدي، في الحساب مفهوم الزمن الحي. لقد انتصر الزمن الحي على معتقدات الزمن السرمدي الخفي وغير المعلن لا في الماضي ولا في طيلة فترة حياة الإنسان، لهذا تراجع دور المؤسسات الدينية في محاولاتهم عبر قرون تقريب المسافة بين الزمن الحي والزمن الخفي، فلم ينتصر في حاضر الحياة غير زماننا الحي.
صار الوعي بالزمان يجسد خبرة الحياة اليومية يتعمق اكثر في الذهنية الجماعية من خلال ميادين العمل ومنجزات البيولوجيا الطبيعية والفضاء، لقد انجزت الماركسية بفعل تركيزها على العمل الجماعي خطوات هامة في تقديس الزمن الحاضر، فصار الزمن وحدة قياس الإنتاج، والتركيب الزمني عنصر الربح والسيطرة على زمن الآخرين، انها المؤسسة الإقتصادية التي قدمت لنا مفهوم الزمن بشكله الواقعي والفاصل بين حياة الغنى والفقر، بين شعوب تستعمره دول اغنى وحكومات تستغل جهود الشعوب لتخدر عقولهم بزمن قابع في المجهول، زمن سرمي، خالد، ابدي، يعيشه العابد على الأمل. ان الفكر الديني يبيع الأمل لحياة قادمة فيها زمن لا ينقطع، لكن حياة الشعوب في واقع الزمن الحي، يجسد اصل حياتهم. ان التفسيرات الدينية لا طائل منها ولا تقف على حقيقة قطعية الدلالة، كلها تتركز في عجز الفكر المتدين الغوص في متاهات وفق المفاهيم الفلسفية التي اسست المعتقدات في طرق الخيال، عبر مسيرة لاهوتية امتدت آلاف السنين، نحن اليوم لسنا بحاجة للزمن السرمدي، ان صح وجوده ام لم يصح، اننا بحاجة الى واقع نزيل فيه التخلف، الجهل، الفقر، التعصب للغيب المجهول، لنبني الشعوب التي فقدت فرصة حياتها الكريمة، فالزمن الحقيقي في ربط السعادة الإنسانية بالحياة الدنيا كي نراها اجمل بدل النزاع الديني ومأساة الطائفية ليكن الزمن الحاضر انتصارا للعقل المستنير فلا خلاف ان تؤمن بما تريد لكن لا تقدم للآخرين زمن لا يستثمر فيه الآخرين غير حرمانهم وانعدام وجودهم.
نعود للزمكانية بحسب الطبيعة الإلهية، فلقد اسس الفكر الديني في العهد القديم ما درج عليه المثاليون في تعريف الله”: لانه هكذا قال العلي المرتفع، ساكن الأبد، القدوس اسمه ” في الموضع المرتفع المقدس اسكن، ومع المنسحق والمتواضع الروح لأحيي روح المتواضعين ” (6) وفي المزمور 90 استخدم موسى تشبيه بسيط عن علاقة الله بالزمن : ” لأن الف سنة في عينيك مثل يوم امس بعد ما عبر وكهزيع من الليل ” هذه المقارنة ازلية الله بوقتية الإنسان، هي مقارنة عقلية في استدلال قدسية الزمن السرمدي عن زمن العلاقات الأرضية. فالله بحسب موسى لا يسقط مع مرور الزمن، بقدر ما امكن زج العقل في متاهات الزمن الغيبي لقد تم استبعاد الله بالزمن المفتوح لا سابق فيه ولا قادم، ولقد اوغل الفكر الديني في تعتيم الشخصية الإلهية ” منذ الأزل الى الأبد انت الله ” فهو ايمان جعل الزمن نتاج إلهي صار فهما جزئياً فلا بداية ولا نهاية رغم ان الزمن في رحلة المعراج الى الله كانت احداث زمنية تصوغها العقلية البشرية وفق معايير يسودها الطابع التصوري للإله وانفلات قدراته في الصياغة الروحانية، صار الحوار استفاضة عقلية وفي زمن اتصل بالطبيعة البشرية. ادركنا الزمن نتيجة وجود المادة وبالتالي لا يوجد زمن بمعزل عن المادة، لكن الفكر الديني عندما جرد الله عن المادة بمعنى ازال عنه فعل الزمن منزهاً الله عن المادة لهذا لا يطرأ عليه التغيير، فحساب الزمن بلا معنى امام التصورات الدينية للإله، يبقى حالة رمزية، فمفهوم الأبدية انطلق من خلال تجريد الزمن عن المادة، الابدية هي التعبير الرمزي عن عدم محدودية الإله وعدم احتوائه بمكان في مقادير الكون، خارج اطار الزمن، لهذا ان اية محاولة للتقريب العقلي بين المحدود والمطلق بخصوص الله والطبيعة البشرية ضرب من اوهام الخيال العقلي، المقصود منها تعجيز العقل كي يصل الى جعل الرمز الإلهي يبقى محصنا في الغيب المجهول وهو الحاجز الأبدي بين الإيمان والكفر. ان عقولنا نتاج طبيعة وفق حواس ترسل المعطيات المادية للدماغ، وتنقل معها مادية الأفكار، اما المساحة الروحانية فلا توجد في عقولنا وعلينا ان نتعامل مع الزمان والمكان نتاج عقولنا فهي قياس المادة ومن دلالاتها نعيش ونتقدم، فكلمة موجود متلازمة بشكل حتمي في المكان والزمان، فالموجود في هذه الحالة لابد له من موجد. اما كونه غير موجود فهذا يعني العدم، يوصف الوجود انه ذاتي، فوصف الشي انه موجود اقرار بماديته التي يحتويها الزمان والمكان، النوع الآخر وجود بغيره اي ان الشي موجود لكن اوجده غيره وقد اشار ابن القيم تفرد الله بوجوده الابدي والازلي هو ” ليس قبله شي وليس بعده شي ” (7)عند تأمل ابن القيم في بحثه عن الطبيعة الإلهية نجد استحالة تغلغل العقل في طبيعة الكيان الإلهي وبالتالي الدخول في مجاهل تعمي العقل عن التبصر في القياسات المادية للإله وبهذا يتخبط العقل البشري في رؤى ظنية توجسية اعتقادية ليس لها طائل وتدفع بالعقل الى التراجع والإنكسار، ذلك البحث في الظنون الإعتقادية تقلص مدارك العقل في المنطق والاستدلال ولا شي يكون امامه غير منطق ديني بلا دليل، لهذا ان اتخاذ قرار ابن القيم كحقيقة للطبيعة الإلهية يعني ان مفهوم الزمان والمكان لا يقاس بحسب الإيمان بإله سبق الزمان والمكان وكان منتشرا في كيانه في الوجود المطلق الابدي.
اننا امام تفسيرات ظنية ايمانية لا غير، تعمق الإحساس بوجود الزمان والمكان مقابل مغالق العقل في مادياتها وعوالمها الروحانية لم تثبت على يقين. يبقى مجهود الزمان والمكان في القياسات الدينية مجهود ايماني غير قائم على زج الفرضيات المادية في الوجود الإلهي، لهذا نستنتج ان اية محاولة لربط الغيب في الزمكانية ” الزمان والمكان ” انما هو ضرب من خيال يبدو في ظاهره منطقيا شفافا في استدلالاته لكنه كسراب يحسبه الظمآن ماءا، فلا يجوز وضع قياسات المادية بمنطق الروحانيات التي استحدثها الفكر الديني. لقد اجتهد رجال الدين فصنعوا عالمهم الخاص في الكيان الإلهي للخالق، وهذا اجتهاد يصلح لطائفة من المؤمنين من ترى تلك التفسيرات الفلسفية اثبتت واقعيتها بحسب العقيدة، لكن وضع الزمان والمكان في اطار الإلوهية خطأ لم ينسجم قطعا مع اثبات الإيمان كحقيقة، لهذا لا يجوز تثبيت فكرة الإلوهية للابدية والسرمدية لانها صدرت اصلا من العدم في عالم لم يكن فيه الفكر الديني قد تقدم في اثبات الذات الإلهية على محك المنطق والواقع. اننا نرى ان ابقاء الإله محصن في الغيب المجهول عبر سرمديته الموغلة في اعماق الزمن، تبقى شأنا لا يصح زجه في واقعية التاريخ المادي وليس ملزمة كعقيدة، سيبقى الزمان والمكان ارث بشري وسيبقى الله في ازليته كلاهما منفصلان لا ينسجمان في معتقد عقائدي واحد.

مصادر البحث:
1 - ريمون بودون، أبحاث في النظرية العامة في العقلانية/ العمل الاجتماعي والحس المشترك، ترجمة: د. جورج سليمان، المنظمة العربية للترجمة، نشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2010، ص219- 220.
2 - جون جرانت (محررا), فكرة الزمان عبر التاريخ, ت: فؤاد كامل, سلسلة عالم المعرفة, الكويت, عدد(159) مارس, 1992, ص 12
3 - Alan Barnard and Jonathan Spencer, The Routiedge Encyclopedia of social and cultural Anthropology, second edition, New York, 2010, pp. 689-690.
4 - ينظر: دوريندا اوترام، التنوير، ت: د. ماجد موريس إبراهيم، دار الفارابي للنشر، بيروت، ط1، 2008، ص125.
5 - جون جرانت (محررا), فكرة الزمان عبر التاريخ, ت: فؤاد كامل, سلسلة عالم المعرفة, الكويت, عدد(159) مارس, 1992, ص39 .
6 – سفر اشعياء – اصحاح 57 فقرة 15 .
7 – محمد ابن القيم الجوزي، مدارج السالكين، مجلد 3 ص 34 .



#باسم_عبدالله (هاشتاغ)       Basim_Abdulla#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأنماط القيادية وعلاقتها بالسلوك الاجتماعي
- العراق وقطر، مقارنة دولية
- الزواج بين القيم الدينية والدوافع الجنسية
- علاقة الأنا العليا بخرافة الوحي الإلهي
- - نجار و اعظم - وتناقضات إلوهية المسيح
- سلمان الفارسي والمعراج الإسلامي الزرادشتي
- نرجس وخرافة المهدي المنتظر
- قراءة نقدية في معجزات ومعراج ايليا
- نقد كتاب [ بنو اسرائيل وموسى لم يخرجوا من مصر]
- قراءة نقدية في كتاب انبياء سومريون
- الوحي الإلهي وخرافة النص الديني
- الإله يهوه رحلة التوراة والوثنية
- علاقة التدين بالشخصية الفصامية
- قانون العقوبات بين التشريعات الدينية والوضعية
- ازمة الفكر اليساري في الشرق الإسلامي
- الالحاد في الإسلام : ابن الراوندي نموذجاً
- عقوبة الأعدام في القرآن: السعودية نموذجاً
- الإله مردوخ
- المسلمون في السويد (2)
- المسلمون في السويد (1)


المزيد.....




- حدثها اليوم وشاهدوا أغاني البيبي..تردد قناة طيور الجنة بيبي ...
- السعودية.. فيديو تساقط أمطار غزيرة على المسجد النبوي وهكذا ع ...
- فرنسا تعزز الإجراءات الأمنية أمام أماكن العبادة المسيحية
- المجلس اليهودي الأسترالي يتضامن مع مظاهرات طلاب الجامعات الد ...
- طالبة أمريكية يهودية ترفع دعوى قضائية ضد جامعتها المتهاونة م ...
- -نيتسح يهودا- - هل تعاقب واشنطن وحدة عسكرية إسرائيلية لأول م ...
- السلطات الفرنسية تحذر من خطر إرهابي كبير خلال فترة الأعياد ا ...
- فرنسا تشدد الإجراءات الأمنية قرب الكنائس بسبب المستوى العالي ...
- نزلها عندك.. نزل تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 على الأقما ...
- شاهد: طائفة السامريين اليهودية تقيم شعائر عيد الفصح على جبل ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - باسم عبدالله - الزمان والمكان في المفهوم الخرافي للإله