|
الأمل
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 7578 - 2023 / 4 / 11 - 12:21
المحور:
الادب والفن
حياةُ " آناروز "، لم يَعُد يُعرف قدماها من عقبيها بعدَ وفاة والديه، وكانَ بعدُ في سنّ العاشرة. مضى على ذلك ما يَنوفُ الثلاثة أعوام، ازدادَ في خلالها هزالُ الغلام واشتدّ جلده قتامةً. أيضاً تطلّبَ مرورُ تلك الأعوام، كي ترى جدّته لأمه أنّ الوقتَ مُناسبٌ لتزرع في باطنه هذا السرّ: " لقد ماتا غيلةً، وأعمامك هم من دسّوا لهما السمّ. جرى ذلك، لأن والدك سافرَ إلى تارودانت للمطالبة بحصته من أرض أبيه. كل أهل القرية هناك، يعلمون أن والديك لم يموتا ميتة طبيعية ". لم يعلّق الغلامُ بشيء، كون معدته بحاجةٍ آنئذٍ للطعام لا للأسرار. لقد استُهلت معاناةُ ناروز، في حقيقة الحال، غبَّ دفن والديه، وعودته من ثم مع جدّته إلى مراكش؛ أينَ منزلهم، الأشبه بكوخ الناطور، المُنزوي في أكثر الأحياء فقراً. الجدّة، المُناهزة سنّ الستين، كانت مُقعدة منذ زمن بعيد، تتنقلُ على كرسيّ ذي عجلات، أضحى كما لو أنه جزءٌ من جسدها الضئيل. لكنها كانت ما تفتأ امرأةً قوية الشكيمة، صَعبة المِراس، متعلّقة بالحياة على الرغم من معيشتها المتقشّفة حدّ السَغَب. مع أنّ التسوّلَ، وهوَ دخلها الوحيدُ مُذ فقدان عائلها، كان يدرّ عليها مالاً يُمكّنها، لو شاءت، من التمتّع بأطايب الطعام ويُيسّر عليها الأمور الأخرى. هكذا قنعت بوجبةٍ وحيدة من بضع حبات زيتون مع رغيفين، تتناولها مع حفيدها في أوان الظهيرة سواءً في حديقة عامة أو على رصيف الشارع. ولمزيدٍ من التوفير، كانت تنذرُ الصيامَ على الماء وحده يوميّ الإثنين والخميس من كل أسبوع، مُجبرةً الغلام أن يَحذو حذوها: " إنها سُنّة شريفة، يتمرّسُ عليها كلّ من يبغي دخولَ الجنّة "، كانت تؤكّد لحفيدها المسكين حينَ يشكو من الجوع. في المقابل، كانت متشددة مع النظافة لدرجة الوسوسة. وكان هذا لحُسن فأل الغلام، لولا أنه مضطرٌ للتعهّد وحده بأمور الجلي وغسيل الثياب وتلميع المنزل. مع ذلك، كانت تلك مشاغل سهلة بالمقارنة مع دفع الكرسيّ ذي العجلات في آناء النهار والليل، بمعدة متضوّرة جوعاً. " إنها ضبعة ضارية، لكنها لسوء حظي تكرهُ اللحمَ! "، كانَ يُخاطب نفسه عندما يمّر معها من أمام أحد المطاعم. عندئذٍ كانت تأمره أن يجولَ بالكرسيّ إزاء الترّاس، بغيةَ استدرار عطف الزبائن. وهذا أيضاً كان دأبها، لو وجدا نفسيهما أمام مقهى. عليه كانَ في الأثناء أن يحسُد الأولادَ، اللذين يقبعون طوال الوقت مع أهاليهم المتسولين على مداخل المساجد، أو يَجْرُون بسعادة ومرح وراءَ العابرين. لعلّ أصعب مراحل العمل بالنسبة إليه، كان دفعُ الكرسيّ الثقيل على رصيف شارع محمد الخامس، الصاعد باتجاه ساحة جامع الفنا. ذات ليلة، وكانَ قد أغفى بدون عشاء كالعادة، أيقظه رجلٌ بلا ملامح عليه رداءٌ أخضر اللون. قال له: " دَعْ عجلاتِ الكرسيّ تقودها إلى حتفها، ولتفُز أنتَ بمالها المكنوز ". صباحاً، استعادَ آناروز تلك الرؤيا عندما كان يُجاهد في دفع الآلة الجهنمية على الرصيف. إذ خيّل إليه أنه ذاتُ الرجل الأخضر، هذا الذي يمدّ إليه الآنَ يدَهُ بالصدقة، وكان حينئذٍ يجتازُ تقاطعَ أحد الشوارع، المنفتحة على ساحة الحرية. مدّ الغلامُ يدَهُ للرجل، فيما كانت اليد الأخرى تسندُ ظهرَ الكرسيّ ذي العجلات. بعدئذٍ اضطرَ أن يتقدّمَ خطوةً للأمام، مع تراجع الرجل، ما أدى لإفلاته زمامَ الكرسيّ. بقيَ آناروز ينظرُ إلى القطعة الذهبية في يده، دَهِشاً وسعيداً في آنٍ واحد، لحين أن سمعَ صرخةً دوّت عن قرب: جدّته، كانت إذاك قد تكوّمت تحت عجلة إحدى السيارات فيما كرسيّها قد انقلبَ إلى جانب. أسبوعٌ كانَ قد مضى على الحادثة المأسوية، عندما أحيلَ آناروز إلى مركزٍ حكوميّ لرعاية الأحداث. ثمة في صالةٍ مستطيلة، تتسع لأربعين سريراً، مصبوغة الجدران والسقف بكلسٍ حائل اللون، راحَ وهوَ مستلقٍ يُدير في رأسه ما جرى مؤخراً من أمور. كان مُحقق النيابة قد اقتنعَ على ما يبدو بروايته للحادثة ( والمحذوف منها بالطبع حكاية الرؤيا )، لكنه استفهمَ عن تلك القطعة الذهبية، التي منحها له الرجلُ الأخضر. وتذكّرَ الغلامُ أنه ردّ عندئذٍ بحيرة: " أعتقدُ أنني فقدتها حينَ هُرعت كي أرى ما حلّ بجدتي ". وإنه المحقق نفسه، مَن أخبره فيما بعد أنّ أعمامه أعتذروا من السلطات عن عدم إمكانيتهم حضانة ابن أخيهم اليتيم. فعلّقَ آناروز في نفسه على الخبر: " لا بدّ أنهم عثروا الآنَ على كنز الجدّة، مثلما أنهم استولوا ولا بدّ على منزلنا ".
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أمسية من أجل جوانا
-
التمثال
-
مَغامِضُ منزل العزلة
-
حواءُ التاسعة مساءً
-
حدائق الليمون
-
المُعسكر المُريب
-
الحسناء والإنتحار
-
التاجرُ والجنيّ
-
الخرابة
-
السبت المستحيل
-
مساء شتائي دافئ
-
الوصيّ
-
مفتاح الفردوس
-
لعبة الموت
-
نظرة جنونية
-
فتاة الحديقة
-
الورقة الخضراء
-
منزل في الأزقة العُلوية
-
المكتبة المهجورة
-
الأخدود
المزيد.....
-
دنيا سمير غانم تعود من جديد في فيلم روكي الغلابة بجميع ادوار
...
-
تنسيق الجامعات لطلاب الدبلومات الفنية في جميع التخصصات 2025
...
-
-خماسية النهر-.. صراع أفريقيا بين النهب والاستبداد
-
لهذا السبب ..استخبارات الاحتلال تجبر قواتها على تعلم اللغة ا
...
-
حي باب سريجة الدمشقي.. مصابيح الذاكرة وسروج الجراح المفتوحة
...
-
التشكيلية ريم طه محمد تعرض -ذكرياتها- مرة أخرى
-
“رابط رسمي” نتيجة الدبلومات الفنية جميع التخصصات برقم الجلوس
...
-
الكشف رسميًا عن سبب وفاة الممثل جوليان مكماهون
-
أفريقيا تُعزّز حضورها في قائمة التراث العالمي بموقعين جديدين
...
-
75 مجلدا من يافا إلى عمان.. إعادة نشر أرشيف -جريدة فلسطين- ا
...
المزيد.....
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
المزيد.....
|