أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - السبت المستحيل















المزيد.....

السبت المستحيل


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 7555 - 2023 / 3 / 19 - 16:19
المحور: الادب والفن
    


" كانَ على الأقدار، لو أنها أقل فظاظة وكنتُ أكثر حظاً، أن تأتي بي للعالم، بصفة مُحقِّق، في ستينيات القرن التاسع عشر وليس في ثمانينيات القرن العشرين ". هكذا صرّحَ المحققُ الجنائي، كارل فون أولين، عقبَ نجاحه في حل لغز الجريمتين، اللتين وقعتا في مدينة أوبسالا، السويدية.
كلماته تلك، كانت موجّهة للصحافة؛ ولعلها كانت على سبيل التفكّه. وكان يُمكن الأخذ بهذا الإعتقاد، لولا أن أولين أظهرَ قدراً كبيراً من التواضع غبَّ تمكّنه من توقيف المجرم. لكن المحقق، في مناسبة لاحقة، عادَ ليفاجئ وسائل الإعلام حينَ أكّد أن نجاحَهُ المَوْصوف مُدينٌ لديستويفسكي، وتحديداً روايته " الجريمة والعقاب ".
وقائع الجريمة الأولى، جرت قبل عامين، وكان ضحيتها شابٌ أجنبيّ يُشرف على لعبة الروليت في أحد ملاهي أوبسالا. الملهى، المزدهر عادةً في ليالي الصيف، كان يبعد بضعة أمتار عن مرسى النهر، وكان يبدو للناظر عن بُعد كأنه إحدى السفن، الراسية. هذا البناء، المنتمي لعمارة القرن الثامن عشر، يتجاور مع حديقة المدينة الكبرى من ناحيتها الشمالية. وفي هذا المكان الأخير، سقط قتيلاً رجلُ الروليت في منتصف ليلة سبت من بداية شهر تموز/ يوليو. مَن اكتشفَ الجثّة، كان أيضاً شاباً من خلفية أجنبية. عثرَ على القتيل ( بحَسَب أقواله للبوليس )، عندما كان يهمّ بالتبوّل في البقعة المشجّرة، الكائنة مباشرةً خلف الملهى.
" عرفتُ من مساعد القتيل، أن هذا كان بدَوره قد اتجه إلى الحديقة للتبوّل بسبب ازدحام حمّامات الملهى، ليقع ثمة ضحيةً لطعنةٍ وحيدة في القلب "، قال أولين لرئيسه وكان قد قدّم له للتوّ تقريره الأوليّ عن الجريمة. الرئيس، وكان ما يزال في الخدمة بالرغم من تجاوزه سنّ التقاعد، ألقى نظرةَ عطفٍ على المحقق الشاب، قبل أن يعلّق بالقول: " بالطبع، سأطلع على التقرير لاحقاً. لكن ها قد مضى أسبوعان، والمجرم ما فتأ طليقاً؟ "
" إنها جريمة في غاية الغموض، وربما علينا الإنتظار شهرين على الأقل لحين الاهتداء إلى خيطٍ متصل مع القاتل "، أجابَ المحققُ بشيءٍ من التململ. ثم استطردَ، موضّحاً: " القتيل، كان بنفسه مقامراً وأغرقَ نفسه بالديون. بالنتيجة أن امرأته أخذت ولديهما الصغيرين، لتطلب بعدئذٍ الحماية من الرعاية الإجتماعية. لكن عموماً، لم يكن له أعداء مباشرين كما أنه لم يتعرض لأيّ تهديد ". ثم أضافَ بعد لحظة: " ستقرأ ذلك بالتقرير "
" أجل. وأتمنى أيضاً أن أقرأ تفاصيلَ تحقيقك مع مساعد لعبة الروليت؛ أعني مساعد القتيل "
" هوَ بعيدٌ تماماً عن أيّ شبهة، لكنني استفدتُ من معلوماته عن معلّمه الراحل وكذلك عن الروّاد الدائمين للعبة "، قالها المحققُ ثم ألقى نظرةً على ساعته. الرئيس، قام بنفس الحركة: " حانت ساعة الغداء، وسنواصل حديثنا أثناء تناولنا للطعام "، قال ذلك وهوَ ينهضُ من مكانه.
في العام التالي، وقعت جريمة جديدة في المدينة. وكان من الممكن اعتبارها حدثاً مألوفاً، لولا أن توقيتها كان مُصاقباً لتوقيت جريمة رجل الروليت؛ أي ليلة يوم السبت من بداية شهر تموز/ يوليو.. كذلك، ماتت الضحية بطعنة وحيدة في القلب. أما المكان، الذي اكتشفت فيه الجثة، فإنه يقع في جنوب المدينة، أين يتجه نهرها ليصب في البحيرة الكبرى. ففي ساعة الفجر، وكان ضوءُ السماء مبهراً مثلما هوَ صيفُ هذه البلاد، كان رجلٌ يتنزه مع كلبه عندما لحظَ وجود شخصٍ متمددٍ على دربٍ فرعيّ في الغابة تحتَ أيكةٍ من أشجار الصنوبر. ليتبيّنَ من ثم، أنها جثة امرأة سويدية شابة، حيث رقدت دراجتها العادية إلى جانبها. ساعة على الأثر، وكان المحقق أولين يتأمل الجثة بعدما سبقَ وأخرجه رنينُ الهاتف من لجّة الحلم. المعلومات الأولية، التي حصل عليها لاحقاً، أفادت أن الضحية كانت موظفة في مؤسسة الديون. وهذه المؤسسة ( لمن لا يعلم )، لها اسمٌ مشنوع عند المواطنين، شبيهٌ لاسم موظفي مخالفات السيارات: فلو تأخرتَ بسداد فاتورة الهاتف، على سبيل المثال، فإن قيمتها ستتضاعف عشر مرات بعد مرور شهر واحد. علاوة على ذلك، فإن الرجل المُدين يظل محظوراً من امكانية الاستفادة من القروض أو حتى من الحصول على مسكن.
التحقيق، اهتدى بالطبع لوشائجَ معيّنة بين الجريمتين. بيد أنّ ذلك، لم يأتِ في حينه بنتيجة يُمكن أن تؤدي إلى كشف القاتل. ثم مرت الأيام، والأشهر، ليقترب موعدُ الصيف الثالث، المشئوم. في الأثناء، كان أولين يحاول باستماتة كسبَ الوقت بالبحث المكثف قبل أن تسقط الضحية رقم ثلاثة في الميعاد المعلوم. قراءاته أيضاً، بالأخص في علم النفس وأدب الجريمة، عليها كان أن تضطرد وتأخذ الكثير من وقته خارج الدوام الرسميّ. أخيراً، قدّم تقريراً جديداً لرئيسه، يُداور حول الأساسيات المشتركة بين الجريمتين. وقد دُهشَ الرئيسُ ولا غرو، لما وصل بقراءته إلى هذه الفقرة: " كأني بالقتيل الأول، المثقل في حياته بالديون، قد عمد إلى قتل الموظفة ومن ثم قام شخصٌ آخر بقتله ". غيرَ أن التقريرَ يتابعُ: " لكن الواقع، يدحضُ بالتأكيد هذا التصور الخيالي وغير المنطقي. مع ذلك، أراني أبحث في العلاقة بين القتيلين، أي المديون والمُطالِب بالدين، فلعلها تقودني إلى قاتلهما، الماكر والغامض ".
قبل حلول السبت الأول من تموز/ يوليو، وتحديداً قبل ثلاثة أيام منه، كان أولين يتصفح بشرود أعمدةَ جريدةِ المدينة، والتي أولت الاهتمامَ منذ البداية لموضوع الجريمة الأولى ثم الثانية. مر نظره بعدئذٍ على الصفحات الثقافية، ليتوقف عند مقالٍ أدبيّ يحملُ هذا العنوان: " الجريمة والعقاب؛ هل راسكولنيكوف هوَ يهوذا الاسخريوطي، رمزياً؟ ". اسمُ كاتب المقال، كان غريباً عن سمع المحقق؛ بالرغم من أن هذا الأخير كان مواظباً على قراءة الجريدة منذ أعوام عديدة. كون أولين أيضاً من القراء النهمين لدستويفسكي، فإنه بدأ في قراءة المقال بكثير من الانتباه والاهتمام. بعد ساعة، دخلَ المحققُ على رئيسه وعلى وجهه أمارات الارتياح: " أظنني توصلتُ لمعرفة القاتل "، قالها باقتضاب وثقة.
قبل غروب شمس ذلك اليوم الطويل، ألقيَ القبضُ على شاب سويديّ، يُدعى نيلس نيلسون. وكما سنتوقع، كان هوَ كاتبُ المقال. بصماته، كانت مطابقة لبصماتٍ وجدت على أشياء تخص الضحيتين. وسرعانَ ما أعترفَ بحضور المحقق، أنه المذنب. سأله أولين عن سبب اختياره للتوقيت المعلوم، الخاص بكلتا الجريمتين. فأجاب المتهم برصانة: " لا لشيء سوى لخداع البوليس.. وبالطبع، أقصدُ ميقات الجريمة الثانية. أما الجريمة الأولى، فرأيتني تلك الليلة أخرجُ خلفَ مدير لعبة الروليت إلى حديقة الديسكو، وهناك وجهت له الطعنة القاتلة "
" ماذا كانت مشكلتك معه؟ "
" لا شيء سوى أن لعبة الروليت تُدار بطريقة الغش، وكانت تجعلني مفلساً كل مرة "
" والضحية الأخرى؟ "
" إنها أيضاً كانت تقوم بوظيفتها بدون رحمة، ما أدى ذلك لطردي من المسكن ومن ثم افتراقي عن امرأتي وولديّ "، قالها هذه المرة وهوَ ينفخ بقنوط. الجريدة، التي نشرت ذلك المقال المتسبب بكشف القاتل، كانت ما تزال فوق مكتب المحقق. وما لبث هذا أن رفع الجريدة بوجه المتهم، متسائلاً: " لِمَ نشرتَ هذا المقال، مع أنك على علمي لستَ بالكاتب المحترف؟ ". بقيَ المتهمُ صامتاً، ويلوح أنه بوغت بالسؤال وكان يُديره في رأسه. ثم ما عتمَ وجهه أن غُمر بابتسامة حزينة، بل واحمرّ قليلاً. تساءل بنبرة أسيفة: " إذاً، أتوقع أن مقالي هذا كان وراءَ اشتباهك بي؟ "
" أجل "
" فاعلم، والحالة هذه، أنني تقمّصتُ شخصية بطل ‘ الجريمة والعقاب ‘ وذلك قبل تفكيري بالقتل. أو بالأحرى، بعد وقوعي في المشاكل المادية. بالنسبة لمحتوى المقال، فإنه يعكس حالتي النفسية بعدما تبين لي أيضاً أنني ارتكبتُ بشكل مجانيّ جريمةً مزدوجة "
" هل أنت مسيحيّ ملتزم؟ أعذرني على هذا السؤال، ولكنه في سياق قراءتي لمقالك "
" أفهمك. أبداً لست مسيحياً ملتزماً ولا أعترف أصلاً بالايمان. لكنني في مقالي عقدتُ مقارنة بين شخصية راسكولنيكوف وشخصية يهوذا، خلصتُ فيها إلى أن مؤلف ‘ الجريمة والعقاب ‘ كان بالفعل يوحدهما رمزياً من خلال عدة قواسم مشتركة بينهما إن كان على صعيد الفكر أو المآل والمصير. يهوذا، كان الوسيلة لإثبات فكرة تضحية المسيح بنفسه في سبيل البشرية؛ وهيَ أساس اللاهوت المسيحيّ. هو أيضاً، لم يستفد شيئاً من الثلاثين فضة، التي قبضها ثمناً لتسليمه المسيح. راسكولنيكوف، بدَوره، قتل ليزافيتا شقيقة المرابية العجوز، وكانت هذه الفتاة ترمز للإيمان المسيحيّ وعدّها النقادُ قرينَ سونيا. كذلك لم ينفق راسكولنيكوف شيئاً من المال، الذي سلبه من المرابية العجوز بعد قتلها ".
مرة أخرى، مد المحققُ يدَهُ بالجريدة للمتهم: " في وسعك الاحتفاظ بها، لو شئت. وكما استفاد راسكولنيكوف من فترة سجنه بالعمل المفيد، فإنني أرجو لك أيضاً متابعة اهتماماتك الأدبية ".
تناول المتهمُ الجريدة، ثم نهضَ واقفاً وقد اختلطت في ملامحه، في آنٍ واحد، علاماتُ الحزن والأمل. ابتسمَ بودّ للمحقق، وذلك قبل أن يقوده الشرطيّ إلى حجرة الحجز الإحتياطيّ.



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مساء شتائي دافئ
- الوصيّ
- مفتاح الفردوس
- لعبة الموت
- نظرة جنونية
- فتاة الحديقة
- الورقة الخضراء
- منزل في الأزقة العُلوية
- المكتبة المهجورة
- الأخدود
- سفير جهنم
- شباب إمرأة: ريف ومدينة ورغبة
- غزل البنات؛ فيلم الكوميديا الخالد
- المومياء؛ الفيلم المصري الفريد
- العزيمة؛ فيلم الريادة الواقعية
- ليلة ساخنة؛ إغتصاب آمال الغلابة
- تمصير الروايات الأجنبية: تيريز راكان
- المشاكل النفسية، سينمائياً
- عادل إمام وظاهرة التحرش الجنسي
- مخرج الفظائع


المزيد.....




- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - السبت المستحيل