|
الشخصيات المبدعة - محميات طبيعية -
منى نوال حلمى
الحوار المتمدن-العدد: 7493 - 2023 / 1 / 16 - 18:42
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
اعتبار الشخصيات المبدعة " محميات طبيعية " ضد الحصار والهجوم والتشويه ------------------------------------------
وجه الحياة مشوه ، قبيح ، ممتلئ بالبقع والبثور والحفر . ليس وجها جميلا على الاطلاق ، ولا يحفز على الحركة ومواصلة المقاومة وتحمل طبيعتها القاسية ، غير المبالية بنا . تفاجئنا الحياة ، بالأمراض والموت وفقد منْ ظللنا نحبهم ونرعاهم فى قلوبنا . تجبرنا على الجنون ، حينما ندرك كم هى تافهة أحلامنا ، ورغباتنا . كم هى ساذجة مضحكة أيامنا . وكم هو مؤلم الغثيان الذى نستيقظ معه كل صباح ، وعلى وسادته المتنمرة ننام كل مساء ، يخبرنا بحقيقة العبث وعدم الجدوى . يا لها من بطولة ، أن تصفعنا الحقيقة مع شروق الشمس وغروبها ، نتقبلها ونختار ألا نفارق . ويا لنا من أشقياء ، نحاول فلسفة ما هو عصى على التفلسف ، لا نمل من اعطاء معنى على ما هو خُلق ، ليبقى بلا معنى . وتدرك الحياة تكوينها المأساوى ، وجبروتها الذى لا تهذبه مرور الأزمنة . وتعلم أنها مهما حاولت ، لا تستطيع تغيير نوع ولون القماش الذى صًنعت منه . تنظر الحياة الى وجهها فى مرأة الوجود ، ولا يعجبها ما تراه محدقا لها فى تحدى ، واستهزاء . تتيقن أننا نستحق أرفع الأوسمة والجوائز . فمع هذا الوجه ، منْ يريد رؤيته كل يوم ، " فدائى " . ومنْ تود توريث جيناتها ، " فدائية " . ورغم ذلك ، فان الحياة لا تشعر أنها مدينة بالاعتذار ، أو الشرح والتفسير . واخترعت الحياة حلا مؤقتا ، يجمل من وجهها المخادع ، ويحسن من سُمعتها لدينا نحن البشر . نخاف أن نعترف أننا لا نحبها ، ونرفض قوانينها ، حتى لا نُتهم بازدراء الحياة ، أو بالتمرد على مشيئة الآلهة ، أو بالضعف بعد ملايين السنين من التطور . وكان الحل أن ترسل الحياة ، من فترة الى أخرى ، أنواعا من البشر تلطف من جوها الخانق ، تضفى على العالم شيئا من التعقل والنظام والمعنى ، تسعدنا بينما يحاصرنا الشقاء ، وتبعث فينا الرجاء رغم سحابات اليأس ، وتعطينا مصلا تحت الجلد يوهمنا .. أن لا فناء . شخصيات من النساء والرجال ، تعدل الأشياء المقلوبة ، وتضبط الايقاع الواقع ، وتمحو آثار النغم " النشاز " . مثل كل البشر ، وليست مثل البشر . هؤلاء هن النساء المبدعات ، وهم الرجال المبدعون ، على الأرض يمشين ويمشون . لكن الطموح ليس الاكتفاء بما هو على الأرض . هذا هو العطاء الوحيد للحياة البخيلة . وهذه هى منحتها ، وهى التى تأخذ ولا تمنح . بفضل هؤلاء المبدعات والمبدعين ، فى كل مجال ، على مدى العصور والأزمنة ، يقل عدد البقع والبثور والحفر ، المغروزة فى وجه الحياة . ولا شئ يدعو مجتمعات كوكب الأرض للتباهى والشعور بالفخر والتميز ، لا شئ يرتقى بأحوالها ، وينظف أخلاقها ، وينهض بعقولها ، الا احتفائها بتلك الشخصيات المبدعة ، لتعتلى حصريا أعلى تمجيد . وأصحاب الابداع عملات نادرة ، لابد لأى مجتمع لديه رغبة جادة فى التغير الى الأفضل ، أن يعتبرهم " محميات طبيعية "، لا يتم المساس بها تحت أى مُسمى ، وتوفير كافة الخدمات والضمانات ، لكى تواصل مهمتها التاريخية . تتعدد الشخصيات المبدعة . لكن الجوهر واحد ، وهو القدرة على رؤية المعتاد بعين غير اعتيادية ، والاحتفاظ بالتفرد الذاتى ، والقلب الطفولى المحمل بالدهشة والبساطة والعفوية ، عدم المساومة على الحرية الفكرية والشخصية ، التخيل بلا حدود وقيود ، عدم توقف التساؤل ، احداث الصدمات للسائد ، ازدراء المحظورات الموروثة ، عدم القناعة والرضا بواقع الأشياء . هذا الجوهر المشترك للعملية الابداعية ، هو ما يجعل الابداع هو كبرى الفضائل الممكنة ، وقمة النبل الأخلاقى . عرفنا من فلاسفة الأخلاق القدماء أن الفضيلة وسط بين رذيلتين . فالشجاعة وسط بين الجبن والتهور . والكرم وسط بين البخل والتبذير . والنظام وسط بين الفوضى والجمود. ولأن الإبداع فضيلة ، فهو يخضع للنظرية نفسها . فالإبداع وسط بين رذيلتين (الجنون) ، و(العادية) . ويكون المبدع بالتالى ، هو الوتر المشدود بين الإنسان فاقد العقل (المجنون) ، والإنسان فاقد التفرد (العادى) . وإذا نظرنا إلى (الجنون) باعتباره حالة الانفصال الكامل المستمر عـن الواقع والناس والعالم الخارجي ، وإلى (العادية) باعتبارها حالة الاتصـال الكامل ، يكون الإبداع هو تلك الحركة الخلاَقة (الفاصلة) بين قطبي أو رذيلتي الانفصال والاتصـال . ويكون المبـدع هو ذلك المسافر أبدا ، على المسافة المتأرجحة والوعرة ، بين الخارج والداخل بين الآخر والذات ، بين الكلام والصمت ، بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون . هنا تكمن عبقرية المبدع أو (المبدعة) وأيضـا مأساته. يدرك المبدع أن استمرار عبقريته وإبداعه ، مرهون بالإبقاء على الخيط الرفيع بين الاتصال والانفصال. فالإبداع يُشحن ويجـدد بالاتصال. لكنه لا يمنح طاقاتـه وأسراره ورؤاه ، إلا بالانفصال . ويحكى لنا التاريخ، عن مواهب وطاقات مبدعة ، تبددت بسبب ارتباك في جرعتى الاتصال والانفصال ، فإذا زادت جرعة الاتصال بالعالم الخارجي، كان ضياع الوقت، وحصار التفاهات ، والمشاغل غير الموحية . أو زادت جرعة الانفصـال عـن العـالم الخارجي، فكانت العزلة ، والإفلاس، والجدب، وربما الكآبة ثم الجنون أو الانتحار. يتعطش المبدع إلى نوع خاص رفيع من التواصل . ليس أي بشر، ليس أي حوار، ليس أي عمل فنى، قادر على مخاطبة ثرائه وعمقه وتمرده . قد يفضل المبـدعات والمبدعين العزلة والانفصال ، عن تواصـل زائف سطحی ، يسحب من طاقاتهم وينال من إنسانيتهم وإبداعهم . وفى مجتمعاتنا ، هناك " خوف من الابداع " ، يجعله محاصرا بالعديد من الممنوعات والمحظورات والخطوط الحمراء . لا بد أن يتغير الخوف من الابداع ، الى فهم عميق لضرورته الحضارية والأخلاقية والثقافية والنفسية ، ونتركه كما يشاء ، يجرى اللازم من العمليات التجميلية لوجه الحياة ، ليصبح أكثر احتمالا . وعندما ننظر اليه ، تزداد مناعتنا وتشبثنا بالعيش .
#منى_نوال_حلمى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تنقصنى الشجاعة الكافية .... قصيدة
-
العشق أحلى حين افترقنا ... أربع قصائد
-
اعلان مصر دولة هادئة عام 2023
-
2023 ... عام جديد يؤكد القسم لأمى بألا أتزوج الا - القلم -
-
عبادة الميكرفون صناعة الكفار
-
مُطاردة ... أربع قصائد
-
المقاومة الايرانية الشعبية تستحق كأس العالم فى الشجاعة والحر
...
-
نعى كاتبة ... قصة قصيرة
-
- خصخصة - الايمان
-
الفكر - الكهنوتى - وذكرى ال 74 للميثاق العالمى لحقوق الانسان
-
لست متفرغة للعشق .. لِم طاوعت شفتيك قصتان قصيرتان
-
حملة اعلامية قومية لفض الاشتباك بين فض غشاء البكارة ومعنى ال
...
-
الدولة المدنية وصلابة البنية الداخلية
-
كما لم أستسلم لأى رجل ...... قصة قصيرة
-
أسلمة المونديال ... لمصلحة منْ ؟؟
-
الوداع على ورقة بردى .. قصة قصيرة
-
النساء .. لماذا يتجملن ويرتدين الأزياء الفاخرة والمجوهرات وا
...
-
تجدد الحياة سيفرغ كأس - الكوكتيل - المسمومة
-
النبوءة ... قصة قصيرة
-
سيدة مشاعرى ... قصة قصيرة
المزيد.....
-
روسيا تدعي أن منفذي -هجوم موسكو- مدعومون من أوكرانيا دون مشا
...
-
إخراج -ثعبان بحر- بطول 30 سم من أحشاء رجل فيتنامي دخل من منط
...
-
سلسلة حرائق متتالية في مصر تثير غضب وتحليلات المواطنين
-
عباس يمنح الحكومة الجديدة الثقة في ظل غياب المجلس التشريعي
-
-البركان والكاتيوشا-.. صواريخ -حزب الله- تضرب مستوطنتين إسرا
...
-
أولمرت: حكومة نتنياهو تقفز في الظلام ومسكونة بفكرة -حرب نهاي
...
-
لافروف: أرمينيا تسعى عمدا إلى تدمير العلاقات مع روسيا
-
فنلندا: معاهدة الدفاع مع الولايات المتحدة من شأنها أن تقوض س
...
-
هجوم موسكو: بوتين لا يعتزم لقاء عائلات الضحايا وواشنطن تندد
...
-
الجيش السوداني يعلن السيطرة على جسر يربط أمبدة وأم درمان
المزيد.....
-
فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال
...
/ إدريس ولد القابلة
-
المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب
...
/ حسام الدين فياض
-
القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا
...
/ حسام الدين فياض
-
فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
يوميات على هامش الحلم
/ عماد زولي
-
نقض هيجل
/ هيبت بافي حلبجة
-
العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال
...
/ بلال عوض سلامة
-
المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس
...
/ حبطيش وعلي
-
الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل
...
/ سعيد العليمى
-
أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم
...
/ سعيد زيوش
المزيد.....
|