أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله خطوري - الكلبُ الأندلسي















المزيد.....

الكلبُ الأندلسي


عبد الله خطوري

الحوار المتمدن-العدد: 7431 - 2022 / 11 / 13 - 19:11
المحور: الادب والفن
    


يبدأ آلمشهد بِيَد تشحذ موسى حِلاقة بحِرفية بالغة.رَجُلٌ واثق حاسم فيما سيهم به، يمسك أُوزَّالْ (١) يُدخن سيجارة روتين يومي بطريقة ميكانيكية غير آبهة.ينظر إلى الأسفل تهتزُ كتفاه، يُكْمِل مهمّةً يبدو أنه آعتاد عليها منذ سنين.يتوقف برهة.يختبرُ حِدة الشفرة بظفره بحِرفية محترسة..آه..إنه حاد..هذا يكفي..هذا صالح..حان الوقت..إلى العمل..يخرج إلى الشرفة.يسند يديه على حافتها.يرفع هامته يرنو إلى سماء معتمة يُضيئها قمرٌ مُكتمل سرعان ما تُقَطِّعُ أوصالَه غيومٌ عابرة كمقاصل في حركة سريعة خاطفة تقصل كل شيء..ثم..تأتي إحدى أصعب اللقطات وأعنفها في تاريخ سينما بداية القرن العشرين...
هذه الصور وغيرها هي من فيلم"الكلب الأندلسي"، شريط قصير أخرجه الاسباني لويس بونويل(1900- 1983)عام 1929في باريس، وهو باكورة أعماله.كَتَب السيناريو بالاشتراك مع الرسام الاسباني السريالي سلفادور دالي.والشريط مستوحى من حلمين، أحدهما للويس بونويل حينما رأى ذات مرة غيمة تقطع القمر وموسى حلاقة تشق عينا، وحُلْم دالي المتعلق بيَد آدمية مَلْأى بسروب نمل يتحرك يدب في كل آتجاه خارجا من بؤرة وسط الراحة..طبعا هي صور غريبة لا علاقة لها بالمدعو "واقعا"؛ بل وليس هناك كلب ولا أندلسي، إنما نحن أمام تتابع مشاهد كابوسية_إنْ شئنا_حبكت بمهارة لتصدم مشاهد ذاك العصر.الفيلم استهوى السرياليين واعتبروه بمثابة بيان سريالي آخر بعد البيان الذي كتبه أندريه بروتون خلال صيف 1924...
لقد استعمل المخرج"بونويل"في شريطه عدة تقنيات مثل توظيف الصور الثابتة والمتحركة والأحلام والكوابيس وتقطيع توالي اللقطات إلى مشاهد معنونة بأزمنة مخلخلة لا رابط منطقي بينها وآستعمال الحركات المعبرة الصامتة"المِيم"واللصق الكولاج والمونتاج والتشظي والتشتيت،أي مزج صور لا علاقة تجمعها بشكل تعاقبي دون أن يعني ذلك تسلسلا زمنيا كرونيكيا، وتوظيف تقنية الكتابة الاتوماتيكية على غرار ما كان سائدا في السينيما"الصامتة" المعتمدة على الرؤية البصرية دون سماع الأصوات بالاقتصار على خلفية موسيقية تتابع المشاهد بنوتات مختارة حسب نوعية محتوى السياق...
الشريط غير منصوح به للصغار وذوي الإحساس المُرهف لِما يتضمن من لقطات قد تبدو مُرعبةً أو مُستفِّزة في بعض مناحيها أو إيروتيكية في مناح أخرى، ولكن الشريط يظل بشهادة الدارسين للفن السابع تحفةً سينمائيةً في سياقه ومجاله، خصوصا وأنه من انتاج سنة 1929..تصور في هذه السنة المبكرة من تاريخ السينما يُنْتَجُ ويُخْرَجُ فيلمٌ سريالي في أوربا يمكن آعتباره أول فيلم رعب موغل في وحشيته وفضاعته.انه عبارة عن لقطات متتالية لا يربطها منطقٌ عقلي، فهو مجرد حركات شخوص في مكان في زمان غير محددين في مشاهد يتابع فيها ما يشبه قصصا غير مفهومة بالعقل، كيف لا وهي في مجملها أحلام كوابيس كان قد حلم بها فعلا سالفادور دالي السريالي الغريب الأطوار.ولا يستطيع المُشاهد أن يستشفَّ من مُدة عرضها القصيرة سوى تلك اللقطة الأولى العنيفة التي يجرح بها شخص عين آمرأة شابة في مقتبل الأعمار..لقد فُسِّرَتْ اللقطة الصدمة المباغتة بأن المُشاهد يجب أن لا ينظر للسينما بعينه الجارحة بل بعين أخرى مجروحة سالت منها دماء العفن المعجن بطفيليات رُؤى زائفة، وعما قريب ستنبجس منها جحافل الديدان ينهش بعضها البعض على غرار نمل الراحة ونتانة جثة شارل بودلير في قصيدته المأثورة.. ربما هي عين السينما المرادفة للشعر والفن وبصيرة الانسان، أو عين"القلب"عوض الاكتفاء بما يُسمى بالنظرة الواقعية للأشياء..ولعلَّ كلمة "القلب"عندنا في العربية تتماشى مع هذه الدلالة مادامت تُحيلُ على قلب الأشياء ومعانيها المستهلَكَة إلى ما وراء الظواهر من مكنونات ومستورات كائنة في خفاء لا يُفقهُ إلا بحدس وآستبصار.. فليس ثمة شيء ثابت قار في دلالة الأشياء.ان السريالي يحفرُ على الكلمة ويأخذها من استعمالها العادي الجاهز ويقلبُ معناها يُحوله الى تشكيل دلالي آخر مغاير، وهذا بالضبط ما بفعله أمثال علي أحمد سعيد"أدونيس"في أشعارهم مما يجعل الأعمال الفنية تتفاعل تستأنس بعدة تأويلات نابعة من نظريات نقدية وعلمية مختلفة كالتحليل النفسي البسيكاناليز للفصام والذهان وتقلبات المزاج والهلوسات وآضطراب الرؤى، والتحليل التطبيقيي والمقاربات التحليلية للجريمة والاغتصاب والشعور بالعجز عن الفعل والحركة مما يدفع إلى سادية ومزوشية مضاعفتيْن..اليد التي فقأت العين في مشهد البداية أمست منملة في إشارة إلى ما سيلحقها من بتر وآجتثاث وقصل...

نامت يدي،
نامت عروق يدي
وتثاءب المللُ.
أمشي على قلبي ،
على بصري أمشي
وراء غدي أمشي ولا أصلُ...

على حد تعبير أدونيس،ويدٌ مثل هذه تستحق ما يقع لها.إنها يد غير عاملة غير فاعلة، عليها إما أن تعمد إلى الفعل أو تستوعبه، لا خيار لديها.أوَلَيْسَتْ اليد العليا عندنا في المأثور خير من اليد السفلى..اليد القوية الفاعلة سحابة تقصل كبد القمر.اليد المَهينة عالَة فضْلة زائدة عن الحاجة تمسي فرجة في شارع عام يستعرضها مارون فضوليون ومَنْ لا شغل لهم إشفاقا وتسلية.تُودَع في صندوق للذكريات يُحَنِطُ حركةً صدئَتْ تلاشى أوارها وآنهارت قوتها على صفيح زمن خلا"كان ذات يوم"..ومنذ ستة عشر عاما كانت الكتب في راحتها محمولة محضونة لتترك مكانها لأسلحة ترشق الرصاص وتقتل تفتك، وزمن يخلو"مرور ثماني سنوات"،وزمن خال ينبئ بالفواجع والقوارع..؛لنجد مع توالي المشاهد أن لقطة البدء ما هي إلا زمن مبهم يتوسط ما سيأتي وما مضى، كأننا أمام إعلان لقوة هذا الحاضر كربيع للحياة بسرعة خاطفة يتحول إلى ماض مكفن مُرَمّل مُحَجّـرٍ صَدئ مليئ بخراب الأرواح،وإذا صارت لحظاتنا المعيشة كذلك، فإننا قد نندم على فوات الأزمنة في إطلاقها إنْ لَمْ نسارع إلى..فمتى نقول نحن الآن هنا مع أدونيس وقد...

صدِئتْ عَرَباتُ النهارْ
صَدىء الفارسُ
إنني مقبلٌ من هناكْ
من بلاد الجذور العقيمهْ,
فَرَسي برعمٌ يابسُ
وطريقي حِصارْ.
ما لكم،ما لكم تَسخرونْ؟
اهرُبوا فأنا من هناكْ
جئتكم،فلبستُ الجريمهْ
وحملتُ إليكم رياحَ الجنونْ .

فمتى نصارح أنفسنا بجرأة تَجاوزها القوم منذ سنين خلتْ، أنَظَلُّ مغمورين بنشوة الانتماء الجماعي السلالي لدم واحد مشترك منتشين بمرويات حُكِيَتْ لنا عن بطولات مزعومة تحتاج لعين جديدة عوض العين العرجاء التي وُرِّثَتْ لنا ترى ما يُرادُ لها أن ترى ولا تبصر في نهاية المطاف ولا في بدايته إلا آنعكاس الانعكاس الواهم الذي يضخم أشياء الذات يُعَمْلقُها يصورها في فنطاسم أحلام جبارة لا تُقْهَرُ..متى نبقر عيننا الحولاء التي ترى من الشيء الواحد أشياااء..متى نعي أن يَدنا التي زَرعت غرست بذرت هي نفسها التي آختلست سرقت والتي سَبَّحَتْ وشَهّدتْ، هي ذاتها التي ذَبَّحَتْ بقرتْ سلخت آغتصبتْ وسلبتْ..ألَمْ يعشْ أهلونا في تواريخنا السالفةِ البعيدةِ الحُدُوثِ والحديثة حياة البشاعة بمفهوم أفلام الغُـورْ(Gore)(٢) بجميع تجلياتها.. بدماء تشرشر تتفجرُ من أمخاخ عجنتها الحجارة الملقاةكالرصاص على كل مَنْ هَمّ ولم يهم..الكبير يأكل يسرط يبتلع الصغير جهارا علنا عيانا،ألمْ نعشْ في أبدان آبائنا وأجدانا زمن فوضى السيبة وقبلها وبعدها دهورا من المدد غرقنا جميعنا في البؤس القميئ و"الوساخة"الذميمة القذرة لأخلاق معدومة وسلوكات ليل نهار مقرفة، وازدراء وآحتقار ومهانة وذل وتذلل وآستعباد وآسترقاق وسُخْرة و و و...حَيَوَاتٍ لَوْ عشناها في وقتها لكُنا بعض ضحياها، بل نحن شئنا أم أبينا نتاج ذاك المعيش من بكب ما فيه من تقزز مقرف للحياة..لا تمتقعوا، هي صورتنا فقط التي يجب أن نزيل الحجب عن مقلنا المهيضة كي تبصرها، كي لا نكتفي بتلقي مشاهد منيرة من الجانب المضيئ من القمر فقط دون طرفه الآخر المظلم على حد تعبير مجموعة"بينك فلويد"، وإذا لم نتستطع إنجاز هذه الرؤيا وتحقيق فعاليتها نظرا لتراكم العلل في أنساغ بآبئنا، فما علينا إلا آنتشالها من محاجرها والرمي بها بعيدا سحيقا كي ترى أكثر من مداها وترى نفسها ووترانا وتراكم..هذا ما يقترحه الفيلم، فأروني ماذا تقترحون.. أنا لا يهمني كلب الأندلس هذا،فعندي تيفْسَا يْنُو وكساب وغيلاس وإيزْمْ وجرمون وأوسْكَا وزميلته تُوسكاتْ(٣)...أنا لا أهتم لأندلس راحت في الغابرين، فلديّ بلدات صافنات آلأعالي أهرمومو الفحص تاحفورت بويبلان بني خلو كوان تابحيرت الشعرا الغار تيغرضين باب لوطا (٤) وألف حكاية وحكاية تُحكى ما تزال في أفئدة حيواتنا التي لم تنزف بعدُ...


_ إشارات:
١_أوزَّال:بالامازيغية سكين مؤنثها توزالتْ.

٢_(الغور Gore)نوع من أفلام الرعب الرخيصة جدا لا إخراج فني فيها.

٣_تيفْسَا يْنُو وكساب وغيلاس وإيزم وجرمون وأوسْكَا وزميلته تُوسكاتْ:أسماء بلسان أمازيغي يطلقونها على كلاب الرعي والحراسة والرفقة في الفلوات ...

٤_أهرمومو الفحص تاحفورت بويبلان بني خلو كوان تابحيرت الشعرا الغار تيغرضين باب لوطا:أسماء مناطق بداية الأطلس المتوسط التي تقطنها قبائل آيت وراين الأمازيغية بالمغرب أنحاء فاس صفرو تازا



#عبد_الله_خطوري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تَصَوَّرْ
- اَلْحَرْطَانِي
- عْمَارَةْ لَبْلَادْ
- اَلْقَمَرُ آلدَّامِي
- طَيْفُهَا
- مُجَرَّدُ غَفْوَةٍ لَا غَيْر
- رَبيعُ آلْهَفَوَاتِ
- غُولِيك
- صَوْلَجَان
- مَصَائر
- اَلْمَكَانُ الْمُعَيَّنُ
- سَتَجْأَرُ آلذئابُ ذاتَ نهار
- كَطَائر-طَابَ-
- صَدَى أَزِيزِ آلْجَنَادِبِ طُوفَان
- رُحْمَاكَ
- في عُمْقِ آلشَّهْقَةِ بَابٌ
- جَنَازَةُ آلْأَحْدَاقِ
- سَلَامٌ لِلشَّبِيبَةِ وَآلتَّصَابِي،مقاربة لِ:داليةٍ للشاعر ...
- بُويَبْلَانْ
- ضِرْسُ آلفرزدقِ


المزيد.....




- شاهد.. فلسطين تهزم الرواية الإسرائيلية في الجامعات الأميركية ...
- -الكتب في حياتي-.. سيرة ذاتية لرجل الكتب كولن ويلسون
- عرض فيلم -السرب- بعد سنوات من التأجيل
- السجن 20 عاما لنجم عالمي استغل الأطفال في مواد إباحية (فيديو ...
- “مواصفات الورقة الإمتحانية وكامل التفاصيل” جدول امتحانات الث ...
- الامتحانات في هذا الموعد جهز نفسك.. مواعيد امتحانات نهاية ال ...
- -زرقاء اليمامة-... تحفة أوبرالية سعودية تنير سماء الفن العرب ...
- اصدار جديد لجميل السلحوت
- من الكوميديا إلى كوكب تحكمه القردة، قائمة بأفضل الأفلام التي ...
- انهيار فنانة مصرية على الهواء بسبب عالم أزهري


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله خطوري - الكلبُ الأندلسي