أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله خطوري - اَلْحَرْطَانِي















المزيد.....

اَلْحَرْطَانِي


عبد الله خطوري

الحوار المتمدن-العدد: 7429 - 2022 / 11 / 11 - 20:41
المحور: الادب والفن
    


حَمَتْ غُرفُ الحَمَّام الثلاثة.اشتد أوار حَرها.تصاعدتْ أبخرةٌ بلون الرصاص من صهاريج موزعة هنا هناك في أركان ساخنة مبللة.تصعب الرؤية يصعب التنفس في مثل هذا الجو الخانق، لكن المستحمين سرعان ما يعتادون على هذه الطقوس المعهودة في الحمامات البَلْدِيّة.إنها تُغريهم تجذبهم إليها، خصوصا في ليالي القر القارس، فينخرطون في مراسيمها بألفة سريعة...
الذي جهة اليمين بَدَا مَهووسا في الإبقاء على نظافة مكانه.يهرق الماء ويعاودُ ليُذهبَ آثار الصابون والشمبوان الذي ينزل ممزوجا بخيرات بَدَنِ صديقي في المحن المتلذذ بتحميمته.عَقَدَ الحرطانيُّ حول حَقْوَيْهِ خرقة بالية كاكية اللون تصل إلى مستوى ركبتيْه الناتئتيْن.ينطرح أرضا. يهرق ماء. يجثو. يخوض في لُجَجِ ضحلة تغمر البَلاط الإسمنتيّ. يمسحه.يفركه بيدين معروقتيْن طويلتيْن..كان حنقا متلهفا متأففا كأنه يستجدي شخصا ما أو يتوسل لأحد أو يبحث عن شيء فقده.مندلقُ اللسان يتصبب عرقا.أضحكُ من المشهد متذكرا أطلال مَنْ"ضاع في التُّرْبِ خاتمه"..هو لا يعير آتنباها لأحد.كان غارقا في ما هو فيه.اِستغربتُ افراطه في تنظيف المكان بمثل تلك الطريقة المبالغ فيها.إنه حريصٌ على عدم الاعتماد على أشياء وأمتعة الحمام.لم يستعملِ الدلاء المخصصة للمستحمين،بل أحضر أوعيةً أخرى خاصة حمراء زرقاء صفراء تتباهى برشاقتها وألوان أطيافها المزهرة أمام الحالة المزرية للقباب الخشبية القاتمة الخشنة الثقيلة..أعَدّ كل شيء..وعاء خاص بالماء الساخن،وعاء آخر خاص بالبارد، وثالث للمزج بينهما.نظرتُ إليه.نظرتُ إلى صديقي في المحن.تبادلنا النظرات باسمَيْن..يدخلُ آلْيَقِقُ الغرفة المعتمة.كتلةٌ من عجين لحم وشحم بيضاء تَغرق في دوامة غبش البخار، تتحرك بتثاقل داخل السخون.يترنح على أرضية الحمام الصقيلة الرمادية المخضبة بالمياه العكرة الممزوجة بالعرق وبقايا مواد التنظيف.منتفخ الأوداج تسبقه بطنه الأماميةُ.متثاقل الخطى، يميل يمينا يسارا،يكاد يسقط من فرط ضخامة الهيكل الكركداني الذي تنوء بحمله رجلاه المكتنزتان القصيرتان.يرفع يديه إلى الأعلى تارة يبسطهما مُمدا إياهما عرضيا كمَنْ يرقص على حبل دقيق جدا مشرف على هوة سحيقة.يضبط توازنه بصعوبة.رغم ذلك،ظل مبتسما يرد على تحيات الحضور بتحريك رأسه من أسفل لأعلى.رآه الحرطاني،فترك الذي بين يديه بلهفة، وأقبل مهللا مرحبا آخذا بيديه كي لا يسقط...

_عنداااك آسِيدي تزلق .. غير بشويا .. من هنا تفضل سِيدي..مَنّـهْنَا عنداااك..بللاّتي..

يحرص قبل أن يُجلسه في المكان الذي آختاره له بعناية فائقة،على تنظيفه من جديد.يجثُو على ركبتيه مرة أخرى.يهرق ماء يمسح أوساخا وهمية بكلتا يديه.تخرج الكلمات متقطعة متوترة من فمه المشدوه.يكشر عن أسنان مزلزلة منخورة.يضحك في وجه اليقق مرحبا لاهثا..يمسح ينظف...

_مَـرْ .. حْبَا .. آهْـ .. لااان .. الله .. يا سِيــ .. دي... عَااا.. يَنْ .. مَـرْ .. حْبَا..

يرشح عرقا.يَلْهَثُ.يخرج لسانه ما بين شفتيه الشنفريتين..ينظف..يرحب..كل ذلك مخلوط ممزوج بشكل غريب،مما جعل بعض المستحمين يتابعون المشهد بفضول، ومنهم مَنْ لم يُعِرِ الأمر آهتماما، ومنهم مَنْ وجده عاديا جدا..نظرتُ إلى صديقي في المحن مبديا حركات الامتعاض والقرف.طلبتُ منه دون أن أنبس بكلمة تفسيرا لهذا المشهد.أجابني بآبتسامة فهمتُ منها ما فهمت..الحرطاني المهووس بالنظافة لا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بالمدعو"نظافة".إنه لم يكن ليفعل كل مل فعله وبتلك الطريقة المثيرة لولا حضور اليقق، بل لم يكن ليحضر الحمام مطلقا لولا سيده المنتفخ...

_مَـنْ هو ؟؟

_سألتُ مرافقي بعدما دخلنا غرفة أقل حرارة وآختناقا

_إنه سَقْف قيعان البلدة..آه أُسْقُفُها ههه عُمْدَتُها..مُدير ورئيس كذا وكذا...

سَرَدَ أشياءً كثيرةً بإمكانها مجتمعة أو منفردة أنْ تجعل صاحبها في أعلى عليين بقدرة أقدار خارقة تتصرف في كل شيء...

_وما معنى أن يكون كذلك ؟؟

_إنه يشغل مناااصب سامية عديدة في الوقت نفسه..

_مادام كذلك، فهو في غنى عن آرتياد حَمام بَلْدي مثل هذا...

_إنه متواضع

_حقاااا ؟

_يريد أن يرسم لنفسه صورة الانسان الشعبي الذي يعيش وسط الناس...

_ماذا يربح من ذلك ؟؟

_حبهم..عطفهم..و..ودهم..صاحب الحمام مثلا آقترح عليه مرارا أن يخصص له جميع الغرف بما فيها صالة الاستقبال الخارجية وقاعة الاستراحة أين يمكن له أنْ ينام..كل شيء يكون رهن إشارته الخاصة لوحده منفردا اذا أرادت حضرته، فرفض...

_وبهذه الطريقة تزداد شعبيته بين الناس..لكن هل يصل الأمر إلى درجة حبهم له؟؟

_الحب والتعاطف وأشياء مثل هذه شكلية فقط،يريدها زَوَاقا لعلاقاته بالمحيطين به،لكن حقيقة هذه الروابط ومدى عمقها هو شيء آخر...

في هذا الوقت، كانت مجموعة من المستحمين تتسابق لتحيته تباعا،وهناك مَنْ يعرض نفسه لخدمته لكنه يصرفهم بلطف وبشاشة.ينحنون يركعون يقبلون يديه وهو يسحبها متواضعا مربتا على رؤوسهم وأكتافهم..وآسترسل صديقي في المحن...

_إنها شكليات بسيطة لا يخسر فيها شيئا.يُنفذها بذكاء ويجني منها الكثير..كل ذلك يزيد من إعلاء شخصه الكريم مول الجاه العالي يغدو في نظر الجميع...

_الجميع ؟؟؟

_إننا في بلدة صغيرة،ومناصب مثل التي يشغلها من شأنها أنْ تزلزل الناس وتخيفهم

_الخَوْف؟؟؟

_إنهم لا يحبونه..هذا أكيد رغم كل ما ترى..هو يعلم ذلك جيدا لكنه مضطر من حين لآخر إلى الضرب على أوتار مختلفة تؤدي جميعها النغم نفسه..لكن يظل الخوف الوتر المهم من بين كل تلك الأوتار والذي يحرص دوما على الإمساك به بقوة...

_الخُوووفْ!!؟؟

_إنه يرعبهم..الناس في البلدة جلهم فقراء فلاحون بسطاء ذوو ظروف اجتماعية هشة تتحكم فيهم متغيرات الطبيعة..ظروف معيشتهم صعبة جدا..يَقَعُون بسرعة وسهولة تحت رحمة رجل في مثل منصبه وسلطته...

_إنه يسيطر على كل شيء

_إن الأهالي مثل هذا المسكين _ وأشارَ بحاجبيه إلى خادم السيد الغارق هناك في مهمته التي لا تنتهي _ مضطرون لمثل هذه الأعمال التي قد تبدو لنا مهينة..إنها لا شيء إذا قيست بحجم فواجعهم اليومية أو بما ينتظرهم إنْ هم خرجوا عن طوعه.. إن البدوَ هنا يُقَدمون للسيد إيتاوات على شكل هدايا وهبات..

تساءلتُ مستغبا:

_هباااات ؟؟؟

أجابني بنبرة عادية جدا:

_تصورْ..هِبَااااات ومكرومات في أكثر المواسم جدبا..إن الفَلاح يجد نفسه مرغما على دفع"المعروف"وإلاّ...

يصمت..فأسألُ:

_وإلا ماذا ؟؟؟

يجيبني بإشارة من رأسه إلى الحرطاني الذي يخرج من الغرفة الحامية مهرولا إلى ركن في مكان بجانبنا ينظفه يغسله يهرق الماء الحار ثم البارد فالحار مرة أخرى يفرك بيديه..الطقوس السابقة نفسها تُعادُ من جديد...

قال صديقي في المحن...

_اُنْظُرْ إليه

قلت:

_ يثير الشفقة

_بل قُل يثير القرف

يُصَفف الدلاء الملونة حول المكان الذي أعاد وأعاد تنظيفه جيدا.يسكب في دلو ماء ساخنا وفي آخر باردا ويخصص الثالث للمزج بينهما..ولما تأكد من أن كل شيء على ما يرام، عاد أدراجه إلى سيده آخذا بيديه يدلف به المكان الجديد. يمشي رويدا على رؤوس أصابع قدمه مقاربا الخطو حَذَرَ السقوط كراقص باليه محترف(ضحكت في قرارتي لهذه الصورة وأنا أتصور هذا الزوغبي يرقص باليه..)..بينما كان سيده تسحق الأرضية بدبيب قوي قدماه الكركديتان شابكا يديه بذراع الخادم المطيع...

_إنه ليس حَمّاميا أو كسالا ولا يشتغل في أي حمام،هو تابعه فقط..لَوْ رمى السيد نفسه في النار لسبقه إليها

يُجْلِسُ الحرطانيُّ اليققَ بتُـؤَدَة :

_ غيرْ بشويااا آسيدي

اليَقِقُ يتمطى يتمدد في جلسته.الحرطانيُّ يُمَدد له يديه ورجليه.يمسدهما.يدلكهما. يجعل ذراعيه المنتفختين القصيرتين خلف رأسه شابكا أصابع يديه القصيرتين خلف رقبته الغليظة،فيلمع خاتم ذهبي مستقر في خنصر يده اليمنى البيضاء.الحرطاني يفرك عينيه.يمسح الرشح المتصبب من جبهته الدكناء.يضع مقدمة ركبته الناتئة وسط العمود الفقري للسيد ثم يضغط إلى الوراء بيديه جارا إليه الذراعيْن المكتنزتيْن دافعا في الوقت نفسه ظهره بركبته إلى الأمام..وفي كل ذلك كان الحرطاني يَزُمُّ شفتيه مُصْدِرا أصواتا معينة يسمعُ صداها في أرجاء الحمام كله...

_إنه يؤدي المهمة بإتقان وتفان

_نعم..بكل تفان

قلتُ لصديقي مؤكدا كلامه ونحن خارجون من"السخون"إلى باحة الاستقبال حيث لفحنا هواء منعش بارد آصطدم بأنفاسنا المختنقة فخلف في جسمينا رعشة خفيفة ولذيذة ...

///////////////////

_ماذا يحدث لو أن أحدهم تحت ظرف معين لم يستطع دفع ما عليه من "معروف"؟

_المسألة بسيطة جدا

_كيف ذلك ؟

_سَيؤول أمره إلى مثل حالة الحرطاني

_في بادئ الأمر خِلتُ المسكين ينظف المكان بتلك الطريقة الهموووسة حفاظا على صحته الشخصية

_إنها رقبته يذوذ عنها كي لا يختنق وتختنق معها أنفاس عياله

تنفستُ بعمق متابعا حركات صديقي في المحن الذي بدا متعودا على مثل هذه الحالات..قلتُ..

_لقد وقع بين فكيْ كماشة لا ترحم

قال ضاحكا شابكا يديه على رقبته مقلدا شخصا يختنق...

_كماشة عملاقة متينة تعذب قبل أن تقتل

_مقصلة؟؟

_أكثر..السيد وتابعه..مسألة عادية جدا

كررتُ:

_ السيد وتابعه

اِستدركَ...

_بل وأتباعه..فهناك الكثيرون تحنطهم عباءة مول الجاه العالي،ولكل واحد مهمته.. هذا الشقي مثلا مسؤول عن نظافته، وهناك شقي آخر مسؤول على تشذيب أشجار حدائق السيد وآخر بتهييئ وجباته وآخر يوصله بالسيارة السوداء الرسمية إلى الأمكنة التي يؤمها للصيد والاستجمام..وآخر وآخر...

كرررها مرارا وصمت.سكتُ أنا الآخر. جلسنا نسترد أنفاسنا بعدما آرتدينا ملابسنا.بدأ الشهيق والزفير يأخذان مسارهما العادي ودقات القلب تنتظم في نبضات متمهلة. شرعتُ أتملى الثريا المدلاة من السقف وسط الباحة الشاسعة بمصابيحها الباهتة وقد عَلَتْها سُخْمَةٌ من جراء تبرز الحشرات الدقيقة وغير الدقيقة.تابعتُ سربا من الكائنات الصغيرة تحوم حول الضوء دون كلل أو عياء بينما آستقرتْ بعض الصراصير في زوايا السقف مطمئنة آمنة.وفي الأعلى، صُفّتْ على الجدران الأربعة مجموعة من النوافذ الصغيرة ينفذ من خلال ثناياها هواء منعش يخترق المسام بهدوء ودعة ملطفا الصهد الخانق في الأرجاء. اِسترخيتُ ساكنا في جِلسة تثير إغماءً لذيذا كما في الأحلام،وتسلل شيء خفي مثل السِّنَةِ يداعب الأجفان ويسدلهما...

ماذا لو أن الشقي توقف فجأة عن شقاوة المهانة الغارق فيها؟ماذا لو حملق مليا في وجه الكركدان الأمعط الذي سيتستغرب الموقف ويتعجب له،لكنه لن يفعل شيئا في أول الأمر، مجرد إبداء آستغراب..وماذا لو أن الحرطاني لم يقف عند هذا الحد، وآسترسل محدجا بتحد في عينيْ سيده؟في هذه الحال،قد يصرخ اليقق آمِرا مزمجرا معنفا مهددا كما هي عاداته عندما يثير أحدٌ حفيظته ويخرجه عن طوره..بيد أن الحرطاني لن يؤثر فيه رد الفعل هذا،بل سيظل متمسكا بنظرته الثاقبة المتحدية.. بل وسيتكلم في وجه سيده المطاع ناظرا إلى عينيه مباشرة دون أن ينكس رأسه كما آعتاد أن يفعل، وسينطق بصوت واضح، وستخرج الكلمات من فمه بلا تردد ولا آضطراب...

_أنا حُررررٌّ، أنْظُرُ إلى أي أحد بالطريقة التي أشاء ..

ماذا سيفعل السيد حينئذ؟؟إنّ المتمردَ يكون قد وضع مسبقا في حسابه أسوء الاحتمالات، فهو لن يُقْبِلَ على مثل هذا التصرف إلا بعد أن يكون قد أدرك جيدا العواقب الوخيمة المتربة عن ذلك،والتي ستكون في آنتظاره..سيُطْرَدُ من الخدمة، ولن يبقى تحت الرعاية السامية التي شرفه بها سيده.ستضيق الكماشة. سيختنق وتختنق بآختناقه أنفاس العيال، وقد يُحبَسُ لمُدد لا يعلم بها الا الله.يُقْصَى بعدها من البلدة عائدا إلى بلدته الأولى،وهناك سيجد السيد قد رتب كل شيء مسبقا،فالأرض التي ظنها لا زالت ملكه قد صُودرتْ منه بطريقة أو بأخرى،فسذاجته وغفلته جعلانه يبصم في وقت من الأوقات على أوراق بملكية الأرض لسيده دون أن يفطن لذلك.. وسوف يجد نفسه بلا ماشية يتمعش بها،فقد نفقت الدواب وسقط أغلبها من الجرف الشديدة الانحدار كما سيخبره بذلك مَنْ أمنه عليها..إنها عادة البدو أنْ يفعلوا ويقولوا ذلك، فالأمر ليس جديدا على أية حال..وحتى البيت الذي كان يسكنه ذات يوم أمسى خرابا ولا حق له فيه بموجب تلك العقود المبصومة نفسها..ماذا سيفعل بعد ذلك.. ستخمد ثورته.سيتقهقر تحديه تحت ضغط الحاجة وصراخ الأفواه المفتوحة وزبانية الآفة التي لا ترحم..لو كان وحده لهان الأمر،لكن عياله،فراخه..هنا تكمن المشكلة..إذاً سيجد نفسه أمام طريق وحيدة مشرعة في وجهه،هي الطريق المؤدية إلى باب السيد، وعليه أن يستغل الفرصة جيدا،فالباب لن يبقى مشرعا دائما،عليه أن يتصرف بسرعة ويحسن الترصف قبل فوات الأوان...

_أنا مزاااوك آآسِيدي .. اِعطف على العيال وشوووفْ مَنْ حالهم..

عندما يبلغ الأمر هذا الحد، يتأكد السيد أن عِقابه قد أدى النتائج المتوخاة،فالتابع عاد من جديد تابعا راكعا ساجدا بين فكيْ الكماشة،وهذه المرة سيضغط المتبوعُ على يديها بقوة كي لا يفلت منها..سيضغط سيضغط يضغط...


أتوقفُ عن تدعياتي متفقدا رقبتي.أتحسسها.أتنفس بعمق.أنظرُ إلى صاحبي.ينظر إليَّ.يستغرب ما يقع...

قلتُ :

_ما هذااا؟؟؟

قال :

_لا أدري

قال أحدهم :

_إنها جَلَبَةٌ داخل رحبة السْخُون

صرخ شاب واقف بالباب المؤدية إلى الداخل...

_لقد ضربه

وأخذ بسخرية يستحث الحضورَ على القدوم لمتابعة المشهد.استسلمنا للفضول. قصدنا المكان..لقد كانت صفعةً مدويةً سقطت كشفرة مقصلة على خد الحرطاني...


_إن السيد يؤدب خادمه

_ماذا فعل؟؟

_ مانعرف

الحرطاني منتكس الهامة تحت وابل من السباب والشتائم يكيلها له اليقق.يتفل في مؤخرة قفاه المزغبة بزغب كالأشواك.لُعابه يتطاير على الحاضرين الذين أحاطوا به ولم يجرؤوا على الاقتراب أكثر، ويبدو أنه لم يعرهم آهتماما.يُغرق وجهَهُ الحرطانيُّ الحالكُ في ظهر وبطن يد اليقق اليُمنى يقبلها معتذرا.ينهره الأمعطُ دافعا إياه إلى الوراء فيسقط المتوسلُ على مؤخرته ماسحا بيديْه المعروقتيْن الدمَ السائلَ من أنفه ثم يسرع إلى قدمي سيده يقبلهما...

_ أنا مزاااااوك(١)

لكن أسقف البلدة الكبير يركله برجله اليمنى السمينة ويرطن لاعنا ساخطا جادفا...

_والله إيما شْويّا حتى آنْفَغّجْ عليكْ لَخْلاَيَق..لكنْ بلاتي على بَبَاكْ نوصلو للدّاغْ نْوَغِيكْ..ياللهْ زيدْ أُودّامي البْهِيمَا...(٢)

اِغرورقتْ عينا الحرطاني بفيضان من الدموع، لكنه لم يقوَ على البكاء.لم تسلْ منهما إلا دمعة وحيدة شريدة صامتة قاتمة حائرة آختلطت بعرقه المالح وببخار المكان وصهده سرعان ما مسحها ببطن راحته تحت تقريع السيد وتوبيخه المتزايد..

_زييييدْ أودّاااامي

يخرج اليقق.يسبقه ظله التابع بخطوات مترددة خائفة فاسحا له الطريق إلى صالة الاستقبال...

/////////////////////

لحظة، توقف فيها النفَسُ وبدت عوالم مليئة بالأقبية والرصاص والأوار وصديد قيح ودم يغليان ثم يتبخران مشكلان رسوما لضباب هلامي غريب اللون والتكوين، تتلاعب به أنفاسُ المستحمين في كل آتجاه.ينطادُ إلى فوق.يصطدم بالسقف.ينحسر إلى الأسفل،إلى أرضية المستحم.ينساب بين الأرجل ليخرج من الباب الأول ثم الثاني فالثالث ليصعد إلى أعلى مرة أخرى تحت ضغط هواء جديد، فيجد نفسه خارج السخون.لا يخرج من ثنايا النوافذ العالية.يدوخ مع الحشرات الصغيرة حول الثريا الكابية،ثم يَعْرُجُ إلى أعلى مرة أخرى،ليلفيَ نفسه عبارة عن قطرات مالحة معلقة بالسقف كخفافيش مقرفة أو كحبات عنب كامدة لا يسأل عنها أحدٌ، ما تلبث تحت رَفسات صراصير تالفة تهوي على رؤوس مُستحمين يطمسونها بمناشفهم متذمرين غير مبالين بشيء...

قلتُ..

_إنها النتيجة نفسها

قال..

_ماذا ؟؟؟

قلتُ..

_لا شيء ، مسألة بسيطة..طبيعية..

أردفتُ...

_ وعادية جدا

وخرجنا من الحَمّام




_تمت
فاس صيف 04 يوليوز 1995

_إشارات:
١_أنا مزاوك: أتوسل إليك

٢_والله إيما شْويّا حتى آنْفَغّجْ عليكْ لَخْلاَيَق:سأجعلك فرجة للناس
_ بلاتي على بَبَاكْ نوصلو للدّاغْ نْوَغِيكْ:سأنال منك فور وصولنا المنزل
_ياللهْ زيدْ أُودّامي البْهِيمَا:تحرك أمامي يا حيوان



#عبد_الله_خطوري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عْمَارَةْ لَبْلَادْ
- اَلْقَمَرُ آلدَّامِي
- طَيْفُهَا
- مُجَرَّدُ غَفْوَةٍ لَا غَيْر
- رَبيعُ آلْهَفَوَاتِ
- غُولِيك
- صَوْلَجَان
- مَصَائر
- اَلْمَكَانُ الْمُعَيَّنُ
- سَتَجْأَرُ آلذئابُ ذاتَ نهار
- كَطَائر-طَابَ-
- صَدَى أَزِيزِ آلْجَنَادِبِ طُوفَان
- رُحْمَاكَ
- في عُمْقِ آلشَّهْقَةِ بَابٌ
- جَنَازَةُ آلْأَحْدَاقِ
- سَلَامٌ لِلشَّبِيبَةِ وَآلتَّصَابِي،مقاربة لِ:داليةٍ للشاعر ...
- بُويَبْلَانْ
- ضِرْسُ آلفرزدقِ
- الصعاليكُ الثلاثة
- أُورْفيُوس نَايْتْ وَرَايَنْ


المزيد.....




- السويد.. سفينة -حنظلة- ترسو في مالمو عشية الاحتجاج على مشارك ...
- تابعها من بيتك بالمجان.. موعد عرض مسلسل المؤسس عثمان الحلقة ...
- ليبيا.. إطلاق فعاليات بنغازي -عاصمة الثقافة الإسلامية- عام 2 ...
- حقق إيرادات عالية… مشاهدة فيلم السرب 2024 كامل بطولة أحمد ال ...
- بالكوفية.. مغن سويدي يتحدى قوانين أشهر مسابقة غناء
- الحكم بالسجن على المخرج الإيراني محمد رسولوف
- نقيب صحفيي مصر: حرية الصحافة هي المخرج من الأزمة التي نعيشها ...
- “مش هتقدر تغمض عينيك” .. تردد قناة روتانا سينما الجديد 1445 ...
- قناة أطفال مضمونة.. تردد قناة نيمو كيدز الجديد Nemo kids 202 ...
- تضارب الروايات حول إعادة فتح معبر كرم أبو سالم أمام دخول الش ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله خطوري - اَلْحَرْطَانِي