|
أكتب لكم من الجنوب
علي فضيل العربي
الحوار المتمدن-العدد: 7408 - 2022 / 10 / 21 - 23:26
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
أكتب لكم من الجنوب ، من إفريقيا السمراء ، و من قرنها الذي يشبه قرون ثيرانها الراتعة في أدغال البريّة السافرة ، المستظلة تحت سماء عطشى ، أكتب لكم من الصومال الرائعة ، الأرض الرائعة ، المنهكة الروح و الجسد ، الضائعة في غياهب النسيان و الجحود و النكران . يا أهل الشمال الملتحفون بنور العلم و الحضارة ، البعيدون ، كل البعد ، عن روائح عذابات الجوع و العطش و المرض و الأرق . باديء ، ذي بدء ، أعذروني ، لو تأخّر وصول رسالتي إليكم ، سأرسلها مع طائر مهاجر . بحثت عن حمامة زاجلة ، فلم أجد لها ظلاّ . لقد هجر الحمام أرضنا ، و انقرض ، وحدها الغربان ، مازالت تحوم في الفضاء ، تترقّبنا حين نمسي جثثا مهملة . لا لتعلّم الناجين منّا ، كيف يواروننا التراب ، كما فعل ، غراب هابيل و قابيل . نحن لسنا مثلكم ، نحن متخلّفون جدا ، و متأخّرون جدّا مئات السنين ، أو – ربّما - آلاف السنين . نحن مرميّون وسط الموت ، أكوام من البشر ، يشبهون البشر – يكادون ينسون أنّهم بشر – في بقعة قاحلة ، لا نملك بيوتا ، و لا سقوفا ، و لا ظلالا ، ولا مراحيض ، ولماذا المرحاض ؟ نحن لسنا في حاجة إليها ، لأن بطوننا فارغة على الدوام من الفضلات . بيوتنا – عفوا بل بقعنا الترابيّة - سقفها السماء ، و جدرانها الفراغ ، و أرضيتها الأشواك و الغبار . عذرا يا سادتي في الشمال ، يا من رفعتم شعارات الحرية و المساواة و الأخوّة و حقوق الإنسان و حقوق الحيوان . لكنّكم قتلتم إنسان الجنوب – في زمن مضى ، لم يطوه النسيان بعد - استعبدتموه ، و سلبتم حقوقه الفطريّة ، و سلّطتم عليه ألوان العذاب و القهر ، و اليوم تطعمون كلابكم ، و نحن نتضوّر جوعا . تتباكون على طائر نفق في البريّة ، و تغضّون الطرف عنّا مآسينا . نحن بين أنياب الردى ، نحن نموت و نموت و نموت .. لا أملك هاتفا محمولا و لا موضوعا ، و لا أملك جهاز كومبيوتر ثابتا و لا متنقّلا ، و لا خط أنترنت و يا سادتي الكرام في الشمال ، يا من شغلتكم الحرب القذرة ، و أهدرتم فيها تريليونات من الدولارات و الأوروات . نحن هنا ، في الجنوب ، نعاني من قسوة الجوع و غاراته علينا في كلّ حين ، و من سطوة الجفاف و العطش . و ها هو الموت يتهادى بيننا و يختال ، و يخطف منّا بسمة الحياة . يا سادتي ، في الشمال ، متى تضع حربكم أوزارها ؟ متى تعود عقولكم إلى معاقلها ؟ متى تصفو النفوس من الحقد و الكراهيّة و البغضاء ؟ متى تستيقظ فيكم الرحمة و الإنسانيّة ؟ آه منكم ، و من أفعالكم ، و من جنونكم و رعونتكم ؟ ألم تبلغكم أنّات الشيوخ و صرخات النساء و عويل الأطفال ؟ هناك في كييف و ضواحيها ، و في خيرسون و خاركيف و أوديسا و دينبرو و دونيتسك وزاباروجيا و ميكولايف و ماريوبول ، و في مدن أوكرنيا قاطبة . دموع و دماء و آلام و رعب و موت فظيع . أيعقل ، يا أبناء الحضارة الأوروبيّة ، أن تمارسوا ( سادية ) الانتحار البطيء و السريع ، و قد بلغتم ذروة العلم و التكنولوجيّا . ألا ، تبّا لعقولكم التي فتنتها ألاعيب السياسة المفلسة ، و نزوات الشيطان الرجيم ، و زيّنت لكم سبل الجحيم . حربكم المجنونة - يا أهل الشمال - لا غالب فيها سوى الموت و الدمار و الجنون . رفقا بالأبرياء ، و بالنساء و الأطفال . أنا على يقين ، أنّكم ستندمون يوم لا ينفع الندم . ستجمعون أشلاء قتلاكم ، و تشيّدون لهم مقابر الأسمنت و الرخام . و ستكتبون على قبورهم أسماءهم و ألقابهم و تاريخ ميلادهم و تاريخ مقتلهم . و ستنثرون على قبورهم أكاليل الورود ، و سيتلو عليهم الكاهن كلمات من الكتاب المقدس . ثم ، لا شيء بعد ذلك غير أحزان الأمّهات و الآباء و الإخوة و الأخوات و البنات و الأبناء و الزوجات و الحبيبات و العشيقات . أمّا نحن ، في الجنوب ، فإنّنا قابضون على الحياة بالنواجذ . متشبثون بها حتى أخر رمق . لقد بنى الموت في أرضنا أبراجا عاليّة ، و شيّد مدنا للدود تحت التراب . كان الأحرى بكم أن تدفعوا عنّا الجوع و العطش و المرض و التخلّف . آه ، رَوْا ، ببصيرتكم ، لا بأبصاركم ، جوع أطفالنا و عطشهم ، و أجسادهم ، بل هياكلهم ، التي فقدت صورة الأجساد . إنّهم يموتون ، و أنتم غارقون في حرب خاسرة . إنّهم بلا خبز ، بلا ماء ، بلا دفء ، بلا نوم ، بلا أحلام معسولة ، بلا أمن ، بلا طمأنينة ، بلا حياة .. أمّا أنتم ، فتهدرون آلاف الملايير بلا طائل . هل سألتم أنفسكم : كم يطعم و يسقي و يعالج ثمن صاروخ واحد طويل المدى أو قصيره ، من الجوعى و العطشى و المرضى في جنوبنا ؟ عودوا إلى رشدكم ، أيّها المتحاربون ، و أطفئوا هذه الحرب الملعونة ، كي يعيش العالم في مودّة و سلام و إخاء ، بعيدا عن النار و الدخان و الرعب و الترهيب .
#علي_فضيل_العربي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ليلة إلقاء فاطمة بيدار في نهر السين
-
حديث عن أم ريفيّة ( 5 )
-
موسم الهجرة نحو الجنوب
-
متى تعتذر فرنسا عن تاريخها الأسود في الجزائر ؟
-
جوع في الجنوب و حرب في الشمال
-
ظاهرة العنوسة في المجتمعات العربيّة ... تلك القنبلة الموقوتة
...
-
حديث عن أم ريفيّة ( 4 )
-
حديث عن أم ريفيّة ( 3 )
-
العقل قبل كل شيء
-
حديث عن أم ريفيّة ( 2 )
-
حديث عن أم ريفيّة
-
الكتاب الورقيّ في عصر الرقمنة.. ما محلّه من الإعراب ؟
-
الحرب النظيفة و الحرب القذرة
-
أزمة الذكورة و الأنوثة في المجتمع العربي ؟ أين الخلل ؟
-
تثقيف السياسة
-
هل سيندلع الشتاء الأوربي ؟
-
الفلسفة و الحرب و السلم
-
قوارب بلا تأشيرة
-
على هامش الصيف
-
ماذا بعد الحرب الروسية الأوكرانيّة ؟
المزيد.....
-
المشاط يعرب عن تضامن الشعب اليمني وحكومته مع إيران
-
روسيا تجهز لإطلاق قمر صناعي للحصول على بيانات رقمية عن الموا
...
-
مقتل 27 فلسطينيا في غارة جوية إسرائيلية وسط غزة
-
الديوان الملكي السعودي يعلن إصابة الملك سلمان بالتهاب في الر
...
-
سفارة روسيا لدى طهران: موسكو مستعدة لمساعدة إيران بعد -الهبو
...
-
لقطات توثق الوضع الجوي في منطقة حادث مروحية الرئيس الإيراني
...
-
أزمة دبلوماسية بعد تصريحات خطيرة من رئيس الأرجنتين عن زوجة ر
...
-
خبير بريطاني: الأوكرانيون متخوفون من سيطرة روسيا على مدينة ز
...
-
بأمر من بوتين.. طائرات روسية متطورة وفرق إنقاذ تصل لإيران لل
...
-
إيران.. قائد الحرس الثوري يتوجه إلى منطقة حادث مروحية رئيس ا
...
المزيد.....
-
الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة
...
/ ماري سيغارا
-
الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي
/ رسلان جادالله عامر
-
7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة
/ زهير الصباغ
-
العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني
/ حميد الكفائي
-
جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023
/ حزب الكادحين
-
قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية
/ جدو جبريل
المزيد.....
|