أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حكمت الحاج - وحدك في هذه الصحراء..















المزيد.....

وحدك في هذه الصحراء..


حكمت الحاج

الحوار المتمدن-العدد: 7375 - 2022 / 9 / 18 - 20:36
المحور: الادب والفن
    


(مقال في التجربة الشعرية لمحمد تركي النصار)
.. "إن على الناقد حين يبرر وجوده، أن يسعى ويعمل لضبط نفسه من أية أهواء قد تعرض له، وأن يحل خلافاته مع أكبر عدد ممكن من زملائه حتى يصلوا في البحث المشترك الى الحكم العادل الصحيح".
هذا ما قاله الشاعر الناقد والمعلم "ت. س. أليوت"، في معرض حديثه عن القصيدة ونقدها ووضعها في سياقها الأدبي والتاريخي فيما يخص مشكلات النوع الشعري وتعالقه بالأجناس الأدبية الأخرى.
فهل من واجبنا الوصول الى حكم عادل وصحيح في قضية شائكة مثل قضية الشعر العراقي الراهن؟
قد نتباين في الإجابات، ونذهب اتجاهات شتى. فقد نقول تارة بالحكم، حكم القيمة، وقد نقول تارة بالوصف، وترانا في الحالين لا نقول شيئا. وربما سنسأل عن طبيعة وضرورة ما نطرحه من أسئلة، فلا أقله أن ندرك نوعية المقروء، وفاعلية المقروئية ونجاعتها.
وبعودة ثانية الى السيد أليوت نقول، إننا نقدم كلاما على كلام لنحل فيه خلافاتنا، ونصل عبره الى تجاوب معين مع العمل الأدبي، نستطيع أن نخرج منه بتذوق ما، أو بحس مشترك ما، نلمسه ونعيشه. هذا الحس هو الذي يصنع العمل الأدبي، ويسهل من جهة أخرى، بل ويحقق، مهمة الناقد.
وما نحن بنقاد بالمعنى المدرسي، وما نحن بحكام عدل وحقيقة، بل نحن قارئ من جملة القارئين، فضيلتنا الوحيدة أننا أبحنا لأنفسنا حقا انتزعناه من غيرنا، هو أن نسهل ونمکن أي قارئ آخر من الدخول والاقتراب من العالم الشعري والفضاء الكلامي لشاعرنا الشاب محمد تركي النصار، والمناسبة هي صدور كتابيه الشعريين، الأول هو بعنوان "السائر من الأيام"، صدر ضمن سلسلة منشورات مجلة "أسفار" الشعرية، والثاني بعنوان "تنافسني على الصحراء" ضمن سلسلة جائزة دار الشؤون الثقافية ببغداد.
ولا بأس عزيزي القارئ أن نأخذك قليلا لنطأ أرضا تم الخلاف عليها، وقامت على حدودها الفتن والاضطرابات والمشاكل، ولم نسمع بحلول لها بعد، ولم تهدأ الزوابع عليها بعد، فنقول: إن مسيرة الشعر العربي كانت منذ الجاهلية تمشي كقافلة وئيدة، وبين الفينة والفينة، يتخلف البعض ويتساقط البعض ويخرج عن خط السير البعض، ولكن القافلة كانت تسير، وكانت التحولات والتبدلات تصيب القصيدة في متنها ومضمونها، ولذا ما جاز لنا القول إن القصيدة العربية هي حال واحدة من الجاهلية حتى حصول الثورة الشعرية في العصر الحديث، بل كانت التغيرات تنالها، بل وكانت في أحيان كثيرة تستجيب الى روح العصر وتقدم مساهمات كثيرة فيما يخص إشكاليات المساءلة والجواب كثنائية ذات تحقق فلسفي واجتماعي في الحاضنة الحضارية الكبرى للأمة. فمثلا، قصيدة لجميل صدقي الزهاوي لا علاقة لها بأخرى لابن هاني الأندلسي، كما هذه بالنسبة لقصيدة للشنفرى، إلا من حيث إن جميعها تنتظم في بناء عروضي وأسلوبي واحد، وليعذرني علماء العروض إذ ربما لا يكون حتى هذا البناء واحدا.
وبإطلالة العرب على العصر الحديث، وبانفتاح طبيعي على معطيات التمدن والحضارة في الغرب، أخذ الشعر العربي يتحول باضطراد، وأيضا بالطريقة السلمية إياها، من حيث إن التبدل والتحول يطال المتن دوما: الرؤية والموقف من العالم وزاوية النظر الى الأشياء والعلاقة بين اللغة والتراث والعصر. وبدأت القصيدة العربية تتنوع وتسير باتجاهات واضحة من حيث الدلالة والموقف، فنشأت حركات التجديد في المهجر، وتكونت جماعة أبوللو في مصر وتمحورت حول مجلتها الرائدة بالاسم نفسه، ثم جماعة الديوان، وظهر الاتجاه الرومنطيقي في الشعر، يجاوره الاتجاه السوريالي والرمزي والبرناسي. ظهر سعيد عقل، وصلاح لبكي، وبشر فارس، وخليل مطران، وأبو القاسم الشابي، و بدوي الجبل، الخ...
إذن، كان الشعر العربي يسير متأبطا تاريخه باتجاه التقدم نحو العصر ومركزه الحضاري.
ولكن، ما الذي حدث فجأة في هذه الفترة بالتحديد، أي نهاية الأربعينات بالذات، مما أدى الى انحراف في مسيرة القافلة؟
ومن جهة أخرى، ومن منظور آخر نعتمد فيه التاريخ الاجتماعي هذه المرة، نستطيع أن نلاحظ أن القطع الذي حصل في البنية الشعرية له ما يناظره على مستوى البنيتين، الاجتماعية والسياسية. ففي الوقت الذي كانت فيه البورجوازية العربية تضع اللبنات الأساسية لليبراليتها وبرنامجها الاقتصادي متمثلا في التجربة البرلمانية والتعددية الحزبية والانفتاح على الغرب ونقل الخبرات العلمية في مجال الصناعة والإدارة والمال، وفي الوقت الذي كانت فيه البورجوازية العربية تقود حركة الإحياء والنهضة، والسيد طلعت حرب، الذي أنشأ بنك مصر، يبني دارا للأوبرا ومسرحا ومعهدا للتمثيل وبعض مشاريع تتعلق ببعثات الى أوروبا لدراسة الفنون والآداب، إذا بكل هذا يجهض دفعة واحدة، وينتهي الدور التاريخي للبورجوازية العربية والليبرالية العربية كطبقة مستنيرة لها دورها الفاعل في بناء النهضة وفي التمهيد للتحول الاجتماعي المقبل متمثلا بالثورة الشاملة.
لقد كان التحول مفاجئا، مما يتيح لنا أن نسميه كسرا أو خروجا أو قطيعة، بالمفهوم الابستمولوجي، إذ إنه قد منع أي تطور لاحق يمتلك سمة الإيجاب، وعمد الى كل ما يغذي صيغة السلب. وهذا القطع ظهر في صعود قوى جديدة إلى واجهة الصراع، وهم في طلائعهم، فيما يختص بالجانب السياسي، الانقلابيون العسكريون ومن جاء بعدهم من الضباط الذين قادوا انقلابات عسكرية جاءت لتجهض دور البورجوازية العربية ولتوقف مشروع النهضة الشاملة، وذلك بصعود عسكريتاريا فلاحية الجذور، شعارها الرئيسي هو الأصالة والمعاصرة، وكان هذا في بنيته التاريخية اللاواعية، تتويجا لمسيرة التوفيق/ التلفيق، التي بدأت مع المعلم الثاني أبي نصر الفارابي في كتابه "الجمع بين رأي الحكيمين"، ومفتتحا لمسيرة توفيق/ تلفيق جديدة ابتدأت بهذه الثنائية التي تجمع بين الغرب من جهة، وبين العروبة والإسلام، من جهة ثانية.
على صعيد الثقافة والإبداع، حدث ما يماثل هذا تماما، إذ صعد رهط من الشعراء ليأخذوا أماكن لهم جديدة في مسيرة الشعر العربي، في حركة انقلاب عسكري شعري إن صح التشبيه، كان من نتائجه المباشرة الإجهاز على منجزات الشعرية العربية وتطوراتها المضمونية، والعودة بالقصيدة العربية الى نظامها العمودي في المتن/ الداخل، بالاستعانة بالشكل العنقودي المستعار من الغرب، وهذا الشكل العنقودي الذي شكل ثورة/ انقلابا في الهندسة البنائية للقصيدة العربية، لم يكن إلا عمود الشعر الإنكليزي، وتقليديته السائدة. وهكذا تمت بعثرة الكلمات على بياض الورقة، وكان هذا أيضا توفيقا/ تلفيقا بين الغرب والعرب تحت شعار الأصالة والمعاصرة.
وفي غمرة هذا الاحتفال على الخرائط، وباعتماد المقترب السياسي كرائز من روائز التصنيف، نستطيع أن نؤشر للشعر العربي المعاصر ثلاثة اتجاهات:
أولا: اتجاه أصحاب اليمين، وهم أصحاب الرؤية الثبوتية واليقينية في الشعر. كلاسيكيون وإن تحدثوا، سلفيون وإن تقدموا، يجلسون تحت عمود الخيمة، إذ لم يعد لهم مكان بعد الآن في الثورة والتغير.
ثانيا: اتجاه أهل اليسار، وهم أصحاب الرؤية الشكوكية، غير المتيقنة في الشعر. ثوريون رافضون لما سبق، يقطعون مع كل التراثات يكتبون تحت لواء الحداثة ما يسمونه قصائد نثر، أو قصائد مختلة الوزن، والموقف الأخلاقي. يتطاولون على كل شيء ولا يعبؤون بالتاريخ الأدبي.
ثالثا: أهل الوسط، وهم الكثرة الغالبة. محافظون إصلاحيون . جالسون في "الـما-بين". عمدوا إلى شعر التفعيلة والشعر الحر. يلفقون أيضا أو يوفقون بين اليمين واليسار، بشعر محافظ يأخذ من القديم -اليمين- عموديته، قاموسیته، جزالته وبلاغته، ومن الجديد -اليسار- قدرة النثر على التركيز، الشك، الافتراق عن القاموس والتطاول على المألوف، ويهضمون كل هذا في شعر نصطلح على تسميته الآن ودائما، بالشعر العربي الحديث.
وإلى هذا التيار بالذات، ينتمي شعر شاعرنا محمد تركي النصار.
ضمن لعبة تصنعها الأقدار والإرادات، فيها من الثقافة قدر ما فيها من السياسة، تقرر اصطلاح "الأجيال" في الأدب العراقي. وهكذا نشأت لدينا خرافة أو أسطورة اسمها "الجيل"، وهي في واقعها تشبه فندقا بالمجان، القيمون عليه يقبلون ويطردون رواده بما يشاؤون من الشعر واللاشعر، وقد يظلمون وقد يعدلون، وقد يصبح الخارج منه أهم من الداخل إليه. هذا الفندق- الخرافة اسمه الآن "جيل الثمانينات الشعري". وهو لا شك مكان واسع عريض يسمح لأكبر عدد ممكن من المواهب وما شاكلها أن ترتاد جنباته. وإلى هذا الجيل ينتمي شاعرنا محمد تركي النصار، نصا وشخصا. فهكذا قد صنفه مجايلوه، وهكذا قد قبل هو هذا التصنيف، مع إن واقع الحال يقول غير هذا تماما.
فصحيح إن أي شاعر قد يبدأ رحلته مع آخرين معه، ولكنه سرعان ما يفارقهم بخطوه المتفرد. فما الذي يجمع بين النصار وغيره من أبناء جيله المفترض كي نضعهم في سلة واحدة؟ الجواب يكمن في ذلك النوع الشعري المسمى بقصيدة النثر، ويكمن في مفهوم القطيعة مع التاريخ السائد للشعر في العراق.
في اصطراع الأجيال هذا، وكما أرى إليه من منظور تاريخي، لا يبدو لي الشاعر النصار ورفاقه، ثائرين على من سبقهم من جيل السبعينات، بل هم امتداد لتراث مرحلة الستينات التحريضي ولمناخ مرحلة الخمسينات التأسيسي. وضمن هذه الثنائية التوفيقية التلفيقية مرة أخرى، تنتظم القصيدة الجديدة في نشاط هذا الجيل حول "جملة شعرية" واحدة تعمل عمل البيت في القصيدة القديمة، يتم تكرارها وتكرارها حتى الأخير، مولدين منها ما يشاؤون من الجمل في كتابة تقرب أن تكون كتابة أوتوماتيكية، كما هي عند السورياليين، وإن لم يكن مناخهم العام سورياليا كله، بل هو واقعي في معظم الأحيان.
هذه الجملة الشعرية الواحدة المولدة داخل البنية النصية، هي في المماثلة التاريخية، جملة تلفيق وتوفيق تسير في عين الطريق الذي اختطه الفكر العربي المعاصر لنفسه بعد إجهاض النهضة، وهذه الجملة هي في الحقيقة نتاج "تعشيق دلالي" بين جملتين منفصلتين، أولاهما: جملة محمولها هو تأمل/ رؤيا/ حكمة/ ذهن، وثانيهما جملة محمولها حياة يومية/ ذكريات/ جسد/ حياة / موت /إنجاب.
وبشكل أوضح نقول: إن "التعشيق" هو المعادل الفني "للتلفيق"، حيث يتم بين جملة تنتمي الى الفن وجملة تنتمي الى الطبيعة. بين جملة تنتمي في حقلها الخطابي الى الحكمة/ التدوين وأخرى تنتمي في حقلها الخطابي الى السيرة الذاتية/ المشافهة. وبعبارة فلسفية، يعمل تكنيك "التعشيق" على المواءمة ما بين العام والخاص، والخاص والعام. بين الذات والموضوع. وعلى مقدار التوازن والتجانس والتنافر في الجمل "المعشقة" يتوقف مقدار نجاح الشاعر في تبليغنا خطابه، وكذلك في تركيب عوالمه وفتح فضاء الدلالة الى حقل أكبر من أجل خلق استقبال أمثل لدى القارئ، خالق الدلالة في الأخير.
يقول رالف والدو أمرسون: إن الشاعر هو الإنسان القوال أكثر منه الإنسان العارف أو الإنسان الفاعل. إنه يمثل الإنسان الكامل بين البشر الجزئيين. الشاعر هنا لا يتحدث عن ثروته الخاصة بل عن الثروة المشتركة، والشاعر الحق يعرف بأنه يعلن لنا ما لم يقله أحد من قبل. فالتكلف أو التصنع لا يميز الشاعر بل الطبيعة هي التي تحدد من هو. وليس الوزن هو ما يصنع القصيدة بل هي الحجة الموزونة التي تقنع متلقي القصيدة، وهي فكرة بالغة الحيوية والإتقان، لها معمار خاص بها وتزين القصيدة بشيء جديد. والشكل المنظوم هنا ليس شيئا ذا بال في هذا التصور. هذا الموقف من الشعر كان أمرسون وآخرون غيره يقولون به منذ أمد طويل، والآن جاء محمد تركي النصار وعبر ديوانه الأول "تنافسني على الصحراء"، وديوانه الثاني "السائر من الأيام"، ليعيده لنا فنا وشعرا.
إن الكلمات وحدها هي التي تحمل عبء القصيدة، وهي التي ترفعها الى مصاف الشعر. ولست أدري إن كان النصار قد قرأ السورياليين جيدا أو تأثر بهم أم لا، ولكن الواضح في شأنه أنه كلما أطلق العنان لخياله اقترب من السوريالية أكثر وأكثر إلى الحد الذي يتيح لنا أن نصف أعماله الشعرية في "السائر من الأيام" خاصة بــ «السوريالية، مع أخذنا بنظر الاعتبار فعالية التباين بين الشرق والغرب في فهمهما لفلسفة السوريالية.
في قصيدة النصار، وعبر ديوانيه المشار إليهما أعلاه، نواجه باعترافين مهمين:
الأول: هو إن النصار قد فقد إيمانه بالشكل الشعري.
والثاني: إنه قد بدأ يكتشف إن معركته التي خاضها مع أبناء جيله من الثمانينيين منذ أول كلمة كتبها، ضد اللغة، هي معركة غير متكافئة، إن لم تكن خاسرة أساسا.
ومشكلة هذا الجيل مع اللغة (ولا إخالها إلا سببا من أسباب الصمت أو مغادرة الشعر أو التحول عنه، التي ستطال بعض أبناء هذا الجيل) تستحق وقفة تأمل. فوسط الحماسات متعددة الأشكال لجيل السبعينات التي تخلفت اللغة تحت وطأتها في أعمال كثيرة حتى باتت زخرفا لغويا لا أكثر في معظم الأحوال) يبدو اهتمام النصار وجيله باللغة أمرا صحيحا، وسط مرض شامل ابتلي به الأدب العراقي عموما، والشعر منه بخاصة، وذلك عند هذا الجيل مصدر قوة وضعف في الوقت نفسه. فهو مصدر قوة من حيث أن تحررهم من ربقة القيود والضوابط والأعراف الفنية التي تميز القصيدة القديمة، يزود المخيلة وأداتها وهي الكلمات، يزودها بقدر من الحرية مفروض فيه أن لا يحد إلا بحدود القوانين الذاتية الداخلية، والشعراء الجدد يمارسون تلك الحرية بالفعل، ولكنهم سرعان ما يتعثرون عند نقطة ما، ولسبب ما (قد يكون ناجما عن عدم الترابط المنطقي العقلاني الظاهري) ولا يعودون من ذلك إلا بعد اكتشافاتهم التي تكون قد أوشكت أن تقودهم إليها تلك الحرية الكاملة. وهنا مصدر الضعف.
وهكذا تماما يتذبذب العمل الشعري عند الشاعر النصار ولا يستقر أبدا. القصيدة عنده تفسد دائما بالسرد الذي يعمى الشاعر عنه نتيجة لتأرجحه بين الاستسلام النشوان لانبثاقة اللاوعي أو الانطلاق الحر الذي لا يعوقه عمل المخيلة، وبين الجهد الواعي المتصبب عرقا بإصرار مستميت إلى تحويل الانكشاف بالغ الحدة الذي قادت إليه مخيلة الشاعر، من إطلالة سوريالية على مدخل الجحيم، إلى غناء أغنيات ذاتية مستأنسة. أي بكلام آخر، من البحث عن المطلق والمجهول والمدهش، إلى التمرغ في غنائيات عن الجنس والجوع والسياسة.
إن الشعرية بتنوعاتها التي لا تحصى في تشكيل الخطاب، تشترك في شيئين أساسيين:
أولا، إن القصيدة، وبغير تعمد، "تقتنص العالم فتضعه في حقيبة الكلمات".
وثانيا، إن القصيدة لا تنطوي إلا على أقل قدر ممكن من القصدية والتفكير السبقي الماقبلي.
فمن الخطأ الادعاء أو التصور إن المخيلة، في هذا النوع من الكتابة الشعرية، تكون قد ألمت بالعلاقات بين واقعين قائمين. فالخيال في هذا النوع من الشعر لا يكون قد أمسك بأي شيء بطريقة واعية. كل ما في الأمر إن نوعا من التقارب العفوي يتحقق بشكل ما، بين قطبين متنافرين، فينبثق ضوء ما هو ضوء "الاستعارة"، ويتوقف جمال تلك "الاستعارة"، كما تتوقف قيمتها الفنية، على هذه الشرارة التي يحدثها ذلك التقارب اللغوي.
ذلك هو الإشكال الحقيقي لقصيدة محمد تركي النصار: التناقض بين الاستسلام للغة أحيانا، والصراع مع اللغة نفسها أحيانا أخرى. إنه تناقض يوصله إلى انکشافات/ كشوف شعرية نستطيع بحق أن نقول "إنها تقتنص العالم فتضعه في حقيبة الكلمات"، كما يقول أندريه بريتون في "بيانات السوريالية".
ثمة إشكال آخر يتجلى واضحا في قصديته كشاعر وتفكيره المسبق في أن يضع أو يصب تلك الكشوفات في خطاب يقول شيئا ذا معنى، في نظام قولي (خطاب) محدد ومتجه، بالمعنى التقليدي للإخبار عن شيء ما أو فكره ما. وتلك أيضا مشكلة جيل كامل من الشعراء الشباب الذين يمارسون التجديد. ولنتابع في هذا السياق ما يقوله أبو السوريالية أيضا فلعلنا نجد عنده تفسيرا أوضح لهذه المشكلة المهلكة. يقول بريتون: "يجب أن تكون للشاعر حقوق الصراحة المطلقة حيث لا تنازلات ولا مصالحات ولا رحمة مع العالم أو مع ما هو كائن. إن كل من أراد أن يصل إلى الغاية الأسمى للروح عليه السير على الطريق التي توصله إلى مكاشفات النبوة. عليه أن يحرر ذهنه تماما من كل ما هو مبتذل ودارج وسوقي، وأن يطهر روحه من كل مرض أو ضعف أو هزال أو مكر، أو أي عيب من تلك العيوب المتاحة للبشر. كما يجب عليه أن يطلق ذهنه من إسار كل حالة من حالات الذهن تتعارض مع الغاية التي يسعى وينطلق إليها كشاعر" .
دعوني أثبت هذه الخلاصة: إن كل عمل أدبي يجب أن يحتوي في داخله على كل ما هو مطلوب منه لفهمه وتحليله. وقصائد النصار تقترب من هذا التصور الذي أنادي به، إذ إنها تقدم عناصر تأويلها من داخلها. فالكتابة تستمد معناها لا من علاقتها بالتفصيلات التي هي في داخل الكتابة نفسها، بل بانعكاس وهم تلك التفصيلات على الواقع. ورغم أن تركي النصار قد ظل في قصائده يدور في إطار النمط الذي بدأ به ولم يخرج من إساره أبدا، أقصد نمط التذبذب الشديد التوتر ما بين اللحظة الشعرية المكثفة وبين لحظة السرد الدارجة، في محاولات جسورة للمزاوجة بينهما من خلال التحايل على اللغة، فإنه يكون قد حقق أفضل إنجازاته الشعرية عبر قصائده الطويلة في ديوانه "تنافسني على الصحراء" من حيث إنها أقل إخفاقا وأقربها إلى تكامل العمل الفني عندما يأتي في شكل قصيدة نثر تحديدا.
أخيرا، دعوني أوجه تحية إلى جيل الثمانينات الشعري في العراق، ممثلا بالشاعر النصار، الذي نأمله أن لا يكون وحيدا في صحراء الكلمات.
هامش ضروري:/
نشر هذا المقال في جريدة "القادسية" ببغداد في عدد يوم السبت الموافق التاسع من شهر أكتوبر عام 1993. وسيظهر قريبا في كتابي النقدي الماثل للطبع بعنوان "محاولات"، بعد أن استطعت الحصول عليه بعد كل تلك السنوات، بعون الأصدقاء الخلص الجميلين.



#حكمت_الحاج (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إيمان محمد: تحولات العنف وهروب الذاكرة خلف أظهر الأشجار..
- سفينة الحيارى..
- نعيمة شهبون بين تُفّاحَة الشعر وكُمَّثْراه..
- سجلماسة..
- إنها ليلة عيد الميلاد أو الديجور هي الليلة..
- اهتماماً بالورق المسرحيّ وَرَدَّاً للاعتبار إليه..
- المتشابهون
- مشاعل الرابع عشر..
- عن -أصوات- الجنون ومغامرات اللامعقول في بلاد لا باب لها..
- سلمان رشدي والواقعية السحرية الجديدة
- حينما النافذة أضيق من مدى..
- م: آخر فصل الميم
- العشق والحكمة لا يلتقيان
- العائدة من بين الشرفات تفتح الأموج على بحر سوسة.
- -نرد النص- أم -نص النرد-: عندما يذهب الشعر إلى أقاصيه ..
- عيد العمال..
- شوكولاتة..
- اكتب اكتب اكتب، حتى الموت..
- في فن الشعر..
- واحد وتلاثين آذار..


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حكمت الحاج - وحدك في هذه الصحراء..