أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد الوجاني - صناعة القرار السياسي في الدولة السلطانية .















المزيد.....



صناعة القرار السياسي في الدولة السلطانية .


سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر

(Oujjani Said)


الحوار المتمدن-العدد: 7296 - 2022 / 7 / 1 - 19:32
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


صياغة القرار في الدولة السلطانية
--- مقدمة لا بد منها :
ان التساؤل عن كيفية صنع القرار السياسي ، والقرار الاقتصادي ، والقرار الاجتماعي في الدولة المغربية ، لا يختلف عن التساؤل عن منْ يحكمه . وإذا كان هذا التساؤل ، وبهذه الدرجة في الطرح ينم عن بلادة ، لأن صاحبه يكون غير مدرك بحقيقة الوضع ، فانه مع ذلك ، قد يعني نوعا من الكياسة ، في صياغة وطرح الأسئلة المحرجة ، للأجوبة الشافية ، وهو ما يعني استعمال الحدس للكشف عن المستور الذي لا ينطق به الدستور ، والمنظم بعقد البيعة الغير مكتوب ، او على الأقل إمكانية الوصول اليه . ويبقى المنال من هذا ، ابراز الحقيقة الجلية للعيان ، لإبعاد النوايا السيئة ، وابعاد تفسيرات بعض الجماعات المتربصة التي تنتظر الفراغ في ساحة الحكم .
ان التساؤل يبقى في جوهره ذا دلالات سياسوية ، لا تتعدى نطاق المعرفة التي يمثلها الواقع الحي والمعاش ، لكل التفاعلات السياسية المختلفة ، خلال الأيام العادية التي قليلا ما تكون شبه حرجة ، او شبه استثنائية . لذا فان من يحكم ، او الحاكم الفعلي الذي يسير دفة السلطة بمفهومها العام والخاص ، هو من يمسك حقيقة زمام المبادرة في كيفية صنع القرار في الدولة . وهذا يعني ان الطرف القوي ، هو من يختار ويحدد املاءاته ، طبقا لمصالحه عند صياغة القرار شكلا ومضمونا . لكن مع ذلك ، لا يمكن الجزم بان الأمور تكون في جميع الحالات بهذه السهولة والبساطة لأولياء الأمور . ان الطبيعة لا تقبل الفراغ ، وإذا لم يكن المقصود هنا غياب السلطان الذي يملئ وحده ونظامه هذا الفراغ ، فان المقصود هنا ذاك التأثير لدى بعض الموجات الداخلية والخارجية في كيفية صنع القرار ، وإن كانت في أحيان كثيرة لا تحظى برضاء السلطان ، او موافقته . وهناك امثلة كثيرة نسوقها في هذا الباب مثل التراجع عن الزيادة في ثمن الخبز بعد انتفاضة 9 يونيو 1981 ، مثل اخراج ابراهام السرفاتي من السجن ، وتسفيره الى البرازيل بدعوى انه يحمل الجنسية البرازيلية ، وعودته الى المغرب ، دون ان ننسى من كان وراء قرار تعيين عبدالرحمان اليوسفي وزيرا أولا ، لتنزيل برنامج الملك ، وليس برنامج اليوسفي الذي لم يكن له أصلا برنامج انتخابي ، وجهة قرار ابعاد اليوسفي عن مواصلة ما انجزه ، عندما اشرف على تمرير مرور المُلك من ملك الى ملك آخر .. الخ ، وان كان هذا التأثير يبدو محدودا في اغلب الحالات . كما ان النظام يتعامل مع هذه المستجدات ، من منطلق الالتفاف والتحنيط ، حتى لا ينفلت زمام المبادرة من بين يديه .
لكن السؤال . هل يحتكر الملك بمفرده صناعة صنع القرار السياسي ، في المجالات التي تدخل في نطاق السيادة داخل الدولة ، ام انه يستعين في ذلك بمجموعة من القنوات ، التي تختلف من حيث الأهمية والقوة ، وتسهل له اتخاذ القرار في المجالات ذات الحساسية المفرطة ، كالاعتراف بالجمهورية الصحراوية ، وبالحدود الموروثة عن الاستعمار في يناير 2017 . وقبلها طرح حل الحكم الذاتي دون استشارة الرعايا بواسطة الاستفتاء ، او اخراج العلاقات مع الدولة الصهيونية الى العلن .. الخ .. وهي القنوات التي يصطلح على تسميتها بقوى الظل ، الفاعل الحقيقي عند اتخاد الملك القرار في الحقل السياسي الاستراتيجي . ويتكون هؤلاء من بعض المستشارين للملك ، وأعضاء ومدراء الدواوين الملكية ، وبعض الوزراء الممتازين كوزير الداخلية ادريس البصري ، ومدراء الأجهزة البوليسية ، التي تواكب التحولات الحاصلة داخل المجتمع ، في جميع المجالات والميادين ، خاصة الأمنية ، والاقتصادية ، والاجتماعية ، ومجلس الوزراء الذي يرأسه الملك ، واللجان البرلمانية ، ومجلس النواب ، ومجلس المستشارين .. هذا دون ان نغفل التقارير التي ترفعها مختلف مصالح الاستعلامات ، و اقسام الشؤون الداخلية بالعمالات والاقاليم ، عن الأوضاع اليومية في مجالات توجهات الرأي العام ، وردود الفعل إزاء جميع الظواهر التي تسترعي باهتمام الرعايا . إضافة الى الاهتمام بالوضع الاقتصادي والاجتماعي داخل الدولة . أي ان الملك قبل ان يتخذ قراره السياسي ، او الاقتصادي ، او الاجتماعي ، يكون قد اضطلع على مجموعة من الدراسات ، والأبحاث ، والتقارير التي ترشده الى اتخاذ القرار الذي يراه صائبا ، ويخدم مصلحته قبل غيرها من المصالح الأخرى باسم Les raisons d’Etat ..
وقبل ان نعالج الموضوع ، نشير على اننا سنبحث عملية صنع القرار ، والجهة التي تقف وراءه من خلال المقاربة بين ( عهدين ) صناعة القرار زمن الحسن الثاني ، وصناعة القرار زمن محمد السادس ، بشيء من الايجاز، لان بحث ماكينة صنع القرار في المغرب ، تحتاج مجلدات ، وتستحق ان تكون عنوان بحث دكتوراه ، لما للقرارات الاستراتيجية من تثير على الدولة ، وعلى الرعايا ، وعلى النظام نفسه ، لان بعض القرارات قد تسبب في سقوط ضحايا بالمئات ، كما حصل في انتفاضة 9 يونيو 1981 ، وفي انتفاضة يناير 1984 ... وقبلهما انتفاضة مارس 1965 ..
وهذا طبعا يدفع بنا الى طرح السؤال الرئيسي : من يحكم في المغرب ؟ وما هي اهم المتغيرات التي كانت تتحكم في عملية صناعة القرار ؟ ومن هي القوى السياسية المساندة ، او المعارضة لقرارات الدولة في الزمنين معا ، زمن الحسن الثاني ، وزمن محمد السادس ؟
--- تعريف صنع القرار :
يعرف " ريتشارد سنايدر " ، عملية صنع القرار السياسي ، او الاقتصادي ، او الاجتماعي .. بانها " العملية الاجتماعية التي تتم من خلالها اختيار مشكلة ، لتكون موضعا لقرار ما ، وينتج عن ذلك الاختيار ، ظهور عدد محدود من البدائل يتم اختيار احدها لوضعه موضع التنفيذ والتطبيق " .
ويرى الأستاذ حامد ربيع ، انّ أيّ " قرار ، هو نوع من الاستجابة لمُنبّه خضع له الجسد الاجتماعي ، فإذا به يصيبه نوع من الاختلال في التوازن ، ومن ثم يسعى من خلال تلك الاستجابة الى إعادة التوازن " .
فالقرار السياسي إذن نستطع ان نعرفه ، بانه نوع من عقد العزم من جانب السلطة ، على اختيار أسلوب معين من أساليب التخلص من حالة من حالات التوتر التي تفرضها الممارسة السياسية . وعلى هذا فان عملية صنع القرار السياسي ، والاقتصادي ، والاجتماعي ، تعني أولا مواجهة مشكلة معينة . والمهم في هذه المرحلة ، ضرورة التعرف على كيفية ادراك وفهم القرار السياسي ، لأبعاد المشكلة موضع القرار . وبعبارة أخرى . كيف يدرك صانع القرار حقيقة المشكلة ، والمتغيرات المتعلقة بها . وهنا تظهر الجوانب الخاصة بشخصية صانع القرار السياسي . أي الملك .
لقد اهتم علماء علم السياسة ، وعلم الاجتماع السياسي بدراسة هذا المسألة بتدقيق . فالدكتور الأستاذ " هارولد لاسويل " أشار الى ان الباحث السياسي بحاجة الى فحص الشخصية السياسية ل، صانع القرار السياسي . لذلك اهتم الأستاذ " لاسويل " بدراسة خصائص الشخصية ، واثرها على محتوى القرار . وقد أوضحت بعض الدراسات التي جرت بعد ذلك ، ان ثمة تأثيرا واضحا لشخصية صانع القرار ، على محتوى قراراته . ( صدام والحرب مع ايران .. صدام وغزو الكويت ) ، ( هتلر والحرب العالمية الثانية ) ، ( موسوليني الفاشي والحرب ) ، ( محمد السادس والاعتراف بالجمهورية الصحراوية وبالحدود الموروثة عن الاستعمار في يناير 2017 ، ونشر الاعتراف هذا بالجريدة الرسمية للدولة العلوية عدد : 6539 ، وقبل هذا الاعتراف تقدمه طرح حل الحكم الذاتي في 11 ابريل 2007 ، دون استشارة الرعايا باستفتاء ) ... الخ
تزداد أهمية هذا الجانب ، اذا ما ادركنا ان دلالة اصطلاح صنع القرار في سياقها الغربي الديمقراطي ، تختلف عن دلالتها في السياق المجتمعي المغربي . فبينما تنطوي هذه العبارة في الغرب ، على ان عملية اتخاذ القرار تمثل صيرورة معقدة ، يشارك فيها اكثر من طرف ، خاصة مراكز البحث العلمي المتخصصة ، وكبريات الجامعات ، والشركات الوطنية العابرة للقارات ، والمثقفين ، والكتاب ، والفنانين ، والمخابرات المدنية الداخلية والخارجية ، والجيش ... الخ ، وانْ كان يعبر عنها في النهاية طرف واحد مسؤول تجوز محاسبته ومراجعته .. فان دلالتها في السياق المجتمعي المغربي التقليدي ، الذي تسيطر عليه التقاليد المرعية ، تشير الى ( النخبة ) الحاكمة ، او السلطة الآمرة التي تستبد لوحدها بالأمر ، وتنأى عن المسائلة والمحاسبة ، وانْ سمحت بالحد الأدنى منها ، فان ذلك ينصرف الى شكليات قشرية ، وفي داخل هذه ( النخبة ) الحاكمة ، تتركز سلطة اتخاذ القرار ، او اصدار الأوامر في كل المسائل الكبرى في شخص واحد ، هو الملك السلطان " امير المؤمنين " .
وقبل التعديل اللاّتعديل الذي أُدخل على دستور الملك في سنة 2011 ، فان جميع الكتابات التي كانت تصدر لتحليل بنية النظام السياسي المغربي ، تكاد تجمع على ان السمة الرئيسية لبناء القوة في المجتمع ، هو ما كان ينص عليه الفصل التاسع عشر ( ف 19 ) من الدستور : " الملك امير المؤمنين ، والممثل الاسمى للامة ، ورمز وحدتها ، وضامن دوام الدولة واستمرارها ، وهو حامي حمى الدين ، والساهر على احترام الدستور ، وله صيانة حقوق وحريات المواطنين ، والجماعات والهيئات ، وهو الضامن لاستقلال البلاد ، وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة " .
ان هذا الفصل ، دفع ببعض المحللين الى القول ، بان الدستور المغربي يجب فهمه على ضوء هذا الفصل . كما ان يعضهم ذهب الى القول ، بان الفصل 19 من الدستور ، هو بمثابة دستور قائم الذات ، لأنه يركز الدولة في يد الملك ، ويلغي كافة الصلاحيات المخصصة ، لمختلف المؤسسات الدستورية الأخرى ..
هكذا نجد ان جميع الدساتير التي عرفها المغرب ، دستور 62 و 70 و 72 و 92 و 96 ، كفلت بمقتضى الفصل 19 من الدستور ، سلطات واسعة للسلطان كأمير للمؤمنين في النظام السياسي المغربي .. بل ان التعديل اللاّتعديل الذي أُدخل على الدستور في سنة 2011 ، والذي يعتقد الكثيرون انه الغى الفصل 19 الذي تضمنته جميع الدساتير السابقة .. قام بتفتيت الفصل هذا على العديد من الفصول ولم يلغيه ، لان القوة الضاربة في الدستور ، ظلت هي السلطان الذي يختزل الدولة في شخصه مباشرة ، لا في غيره من المؤسسات الفارغة من كل مضمون . لأنه أداة بيد السلطان للتحكم في الدولة ، ولتدبيرها حسب المزاج ، لا حسب القوانين التي تبقى في غالبيتها في واد ، وما ينطق به الواقع في واد آخر .. ولنا ان نتساءل :
-- هل الوزير الأول ، او الحكومة ، من يتولى اختيار المدراء العامون للإدارات الاستراتيجية ، كالمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني ، والمديرية العامة للأمن الوطني ، والإدارة العامة للدراسات والمستندات ؟
-- هل الوزير الأول والحكومة ، من يتولى اختيار وتعيين الولاة والعمال ، والسفراء ، مدراء الإدارات الاستراتيجية كالمكتب ( الشريف ) للفوسفاط ، المكتب الوطني للسكك الحديدية ، الخطوط الجوية الملكية ، مدراء الابناك الرئيسية ، والي بنك المغرب .. الخ .
ان دور الوزارة الأولى في هذه التعيينات ، هو فقط دور غرفة عمليات ، للموافقة على اختيار وتعيين القصر لهذه المناصب ، التي لا علاقة لها بما يسمى بالتعديل الذي عرفه دستور الملك الممنوح في سنة 2011 .. لذا فان عملية صنع القرار بالطريقة والشكل المشاهد ، والذي اعترف به عبد الاله بنكيران كوزير اول ، وحتى عندما خرج من الحكومة مرات عديدة " الملك وحده من يحكم " .. يعني ان الجوانب المتعلقة بشخصية صانع القرار في المغرب ، تؤثر بطريقة او بأخرى ، على عملية صنع القرار . وهذا مع عدم اغفال العوامل الأخرى التي قد تؤثر في هذه العملية عند أي تحليل لعملية صنع القرار بالمغرب ..
ومن الأهمية بمكان ان نشير، الى ان ادراك صانع القرار للمشكلة موضع القرار ، يتأثر كذلك بالمعلومات التي تصل اليه عن المشكلة ، من خلال قنوات المعلومات المختلفة المتاحة بالنسبة اليه . وفي هذا الصدد ، لا بد من التركيز الى ان المعلومة المتعلقة بموضوع قرار ما ، تمثل اللبنة الأولى التي يتعرف من خلالها صانع القرار ، على طبيعة موضوع القرار ، ومن هنا يجب الاهتمام بالعناصر المتعلقة بطريقة عرض ، وصياغة هذه المعلومات ، ومدى ثقة صانع القرار في مصدر المعلومات ، مما قد تتعرض له هذه المعلومات من تشويه سواء بالنقص او بالزيادة ، حتى وصولها الى صانع القرار . فمثل هذه الأمور التي تُبْرع فيها مصالح البوليس السياسي ، ووزارة الداخلية كجهاز سلطوي ، قد تؤثر على فهم او ادراك صانع القرار ، خاصة القرار السياسي ، والمتغيرات المتعلقة به .. وفي هذا الباب مثلا نتساءل عن القنوات التي أنجزت الأبحاث / الأكاذيب التي دفعت بالحسن الثاني ، الى ان يلقي خطابا يلتزم فيه امام الرعايا ، بتشغيل 25 الف معطل في العام . كما نتساءل عن نوع الأبحاث ، والجهة مصدر هذه الأبحاث التي جعلت محمد السادس يعلن عن وجود بترول من النوع الجيد ، وبكميات كبيرة في المغرب . ثم من هي الجهة الواقفة وراء مهزلة قرار الدخول الى جزيرة ليلى ، التي انتهت باعتقال الجنود المغاربة الستة ، وابعادهم بشكل مهين نحو الحدود المصطنعة ..
وتفاديا للتقارير الكاذبة الملغومة ، فان عملية صنع القرار السياسي ، تعني بعد مواجهة المشكلة الفارضة نفسها ، وضع البدائل المتاحة لحل هذه المشكلة . وهنا تظهر إشكالية أخرى ، تتمثل في كيفية فهم وادراك صانع القرار ، لمحتوى واهمية البديل من هذا البدائل . ويترتب على ذلك وضع تسلسل للبدائل ، لاختيار البديل الذي يرى صانع القرار ، انه أنسبها لمعالجة المشكلة موضع القرار .
وفي هذه العملية من مراحل صنع القرار السياسي ، تظهر عملية الصراع بين أصحاب النفود ، واللوبيات المختلفة ذات المصالح الخاصة داخل الدولة ، كما تظهر عملية الصراع بين القوى السياسية المختلفة ، صاحبة المصلحة في موضع القرار . فقد تختلف هذه القوى في تصوراتها لأهمية البدائل المقترحة ، ومن ثم فقد تحاول كل منها فرض بديل معين ، يحقق اكبر قدر ممكن من مصالحها . وهذا النوع من الصراعات حول المصالح ، كان تعرفه لجنة الداخلية بمجلس النواب ، وبمجلس المستشارين ، كما كانت تعرفه قبة البرلمان بين الأغلبية والمعارضة . ومع ذلك يبقى في النهاية ان صاحب الاختيار الأخير ، هو صانع القرار السياسي المنوط به دستوريا هذا الحق . أي السلطان الملك الذي على رأس الدولة التي هي دولته .
--- تعامل السلطان صانع القرار مع قنوات المعلومات :
نشير في هذا الباب الى ان نوعا من التغيير حصل في كيفية التعامل مع المعلومات ، وفي نوع القنوات المختصة بجلب المعلومة . وهنا سنفرق بين زمن الحسن الثاني ، وبين زمن محمد السادس .
ان هذا الاختلاف ، فرضته طبيعة المتغيرات التي طرأت في الساحة ، خاصة بعد تحويل زمن محمد السادس ، ادريس البصري كشماعة او منذيلا ، تم فيه مسح اوساخ الحسن الثاني .. في حين ان ادريس البصري كان فقط ينفد الأوامر والتعليمات الفوقية ، مع الاجتهاد طبعا في جعل التعليمات تخدم مصالح ادريس البصري ، لتقزيم اللوبي المعارض له في حكومة الملك كوزير الخارجية الفيلالي ( تعيين قناصل من وزارة الداخلية رفضهم وزير الخارجية ) ، وممارسة الشطط عندما يفسر التعليمات الفوقية ضد أحزاب المعارضة البرلمانية ، كالاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية . فاجتهاد ادريس البصري في فهم وتنزيل التعليمات ، التي لم يكن يعترض على طريقة تنزيلها الحسن الثاني ، لأنه كانت له ثقة عمياء بوزيره ، كان يجعل منه المصدر المفضل لجمع المعطيات والمعلومات ، قبل اصدار القرار لامتصاص حالة ، او تنظيم وضع ، او السبق لمواجهة آفة ، او مشكلة قادمة .. وهو ما نسميه بالقرارات الاستباقية التي من المفروض ان تكون وراءها الأجهزة البوليسية المختلفة ..
لذا فبعد ان كان وزير الداخلية هو العيْن التي لا تنام ، ومصدر معطيات يبني عليها السلطان سلطة اصدرا القرار السياسي .. سيتراجع نفود وزير الداخلية حين قزم السلطان محمد السادس من سلطوية الوزير ، ومن سلطوية الوزارة التي كانت تسمى ب " أمّ الوزارات " .. وسمّوْها كذاك ب " الحزب السري " المتغلغل في جميع الأوساط ، والشرائح السياسية ، والنقابية ، والجمعوية ، والشعبية ..
ان الاختلاف ، او الفرق بين قوة وزارة الداخلية زمن الحسن الثاني ، وقوتها زمن محمد السادس ، يكمن في درجة ثقة السلطان في وزيره ، وهي ثقة شخصية .. ويكمن في درجة اقتراب الوزير من شخص السلطان ، ومن درجة التأثير عليه .. كما يكمن في نوع العلاقة التي تنسجها الوزارة كمرفق عام ، ومن خلال قوة الوزير ، مع الأجهزة الأمنية المختلفة التي مرة تكون خاضعة للوزير شخصيا ولديوانه ، وليس للوزارة كمرفق ، أيْ علاقة إدارية تسلسلية سلطوية ، وليس فقط علاقة قانونية . وهناك فرق بين العلاقتين ..
ففي زمن وزارة الداخلية زمن الحسن الثاني ، كان لوزير الداخلية كسلطة ، وكمصدر معلومة ، ومصدر لجمع المعطيات ، مكانة خاصة لدا السلطان ، الذي كان يعتمد على هذه القناة ، قبل إصداره القرار ، رغم وجود قنوات أخرى كالمستشارين الذين كانوا من مستوى عالي ومرموق .. فالسلطان كان يفضل تقارير وزير الداخلية بالأساس ، لتكوين نظرة شمولية . وبعد الفصح والتحليل ، تصبح النظرة واقعا لا مراد له في اتخاد القرار الصائب ، لمعالجة مشكلة ، او التحضير لمنع وقوع آفة ، او انتفاضة ، او التنبؤ باحتمال القوة السياسية التي ستفوز في انتخابات الملك ، والإجراءات التي يتعين اتخاذها لرسم خريطة برلمان الملك ، للتحكم في السير العام للبرلمان ، بما ينزل البرنامج الملكي الغير مصوت عليه من احد .. فرغم هذه الحقيقة ، فالملك كان ينزعج من خطابات بعض برلماني المعارضة في البرلمان ، لأنها تفيق الشعب الذي قد يلعب دورا حاسما ، في تحديد نوع القوة السياسية المرشحة بالفوز الانتخابي في الانتخابات المقبلة .. فالتنافس ليس حول البرنامج ، بل التنافس حول من يحظى بشرف تنزيل برنامج الملك السلطان الذي نزل من فوق مثل Le père Noel ..
اذن وزير الداخلية كشخص ، وطاقمه ، وديوانه زمن الحسن الثاني ، كان الجهة المفضلة لتبني معطياتها ، وابحاثها كمصدر في اصدار القرار .. لكن زمن محمد السادس ، سيتغير الحال بما أضعف من قوة وزارة الداخلية التي أصبحت قوتها دون مستوها زمن ادريس البصري ، وزمن الحسن الثاني .. لقد قضى ادريس البصري اكثر من خمسة وعشرين سنة ( 25 سنة ) على رأس الوزارة ، وكان حقا وزيرا قويا ، لأنه كان يستمد قوته من قوة السلطان الحسن الثاني . اما هو في الحقيقة ، ولو لا الحسن الثاني ، فهو شخص ضعيف كعش العنكبوت .. فكان بحق اقدم وزير ، ولم يكن ابدا اقوى وزير ..
ان ما جعل العديد من الفرقاء السياسيين ، والمهتمين بالشأن العام يطلقون على الوزارة اسم " أمّ الوزارات " ، واسم " الحزب السري " ، هو القوة التي كان يبدو انها قوة الوزارة كمرفق ، في حين ان الوزارة كوزارة عادية كغيرها من الوزارات التي تتشكل منها حكومة الملك ، هي بريئة كل البراءة مما كان يلصق بها من اتهامات ، كانت تبعد إشارة الاصبع عن الجهة الحقيقية المسؤولة عن سلطة التحكم السلطوي الناعم ، في المجتمع المغربي بكل شرائحه السياسية ، والجمعوية ، والنقابية المختلفة .. وهذا ما غاب عن هذه التفسيرات ، لوصف قوة الوزارة زمن محمد السادس ، الذي ارجع الوزارة الى دورها ووضعها العادي كباقي الوزارات ، تقوم بالمهام المحددة لها طبقا للقانون .. وهذا ما جعل الوزارة تفقد دورها كمصدر وحيد للمعلومة ، ولتجميع المعطيات المختلفة ، وبعثها الى الديوان الملكي التي يبني عليها الملك في اصدار قراره ..
بالرجوع الى زمن الحسن الثاني الذي كان يعول ويعتمد على بحوث ، ومعطيات ، وتقارير الوزارة عند إصداره للقرار السلطاني .. فالذي كان يتولى التسيير الحقيقي للمجتمع ، وكان يلعب عيون الملك المبثوثة في كل المغرب .. لم يكن وزارة الداخلية كمرفق عادي لا يختلف عن غيره من الوزارات . ان الجهاز الذي كان يمارس السلطوية الناعمة ، هو ما اسسه وبطريق سلسل وزير الداخلية ، وكان يشكل القوة الضاربة التي يستعملها الوزير ، في تنفيد المخططات ، وفي السبق للحصول على المعلومة ، وفي جمع المعطيات التي كانت تتصف بالاحترافية العالية .. هو ما اسميته في دراسة نشرتها سنة 1995 ب " مؤسسة وزير الدولة وزير الداخلية " ، وهي كجهاز موازي لوزارة الداخلية المرفق العادي ، هو من يقف وراء الاحداث العادية ، والاستثنائية التي حصلت زمن الحسن الثاني ..
ان هذه المؤسسة تتكون من جهاز الولاة والعمال ، من مدراء الأجهزة الأمنية ، كمديرية مراقبة التراب الوطني DST التي ستصبح زمن محمد السادس DGST ، والإدارة العامة للأمن الوطني قبل ان تصبح المديرية العامة للأمن الوطني DGSN ، والمفتشية العامة للقوات المساعدة ، والمفتشية العامة للوقاية المدنية ، عمداء وأساتذة الجامعات ، الفنانون ، جمعيات الجاليات المغربية بالخارج ، بعض شخصيات الظل التي تعيش داخل المغرب وتعيش خارجه .. العلاقات الثنائية الضيقة مع بعض الأجهزة كمنظمة التحرير الفلسطينية التي كانت تقدم التقارير من جماعة ياسر عرفات ..... الخ .
فهذه المؤسسة التي تتحكم في كل شيء من الصغير الى الكبير ، هي من كان يتولى بتقاريرها التي شملت حتى الجيش ، قيادة وتوجيه الحسن الثاني قبل حسمه في اتخاد القرار الذي يكون له تأثير سياسي ، او اجتماعي ، او اقتصادي ، كزيادة عشر سنتيمات في ثمن الخبز في سنة 1981 ... وهي من كان يتولى مفاوضات جميع الأحزاب التي كانت تلبي نداءها مسرعة ، وهي في غبطة وسرور .. ونظرا لشخص الوزير والمؤسسة المذكورة ، كم كانت جلسات البرلمان تكون مملوءة عن اخرها ، عندما كان الجميع متأكدا من حضور الوزير ادريس البصري ، وطاقم الوزارة الذي كانت به اطر عليا من مستوى جد عالي .. فالجميع يهرول لحضور جلسة البرلمان ، حتى يسرق نظرة او التفاتة من الوزير ، ومن الطاقم المرافق له ، لحصولهم على رضى الوزير الذي هو طبعا رضى الملك السلطان ..
لقد تغير هذا الحال زمن محمد السادس ، حين تم اقبار مؤسسة وزير الدولة وزير الداخلية ، وتم الاحتفاظ بوزارة الداخلية كمرفق من مرافق الوزارات التي تتكون منها حكومة الملك .. وكم تعداد العديد من الأشخاص الذين مروا كوزراء على رأسها ، لم يبلغوا درجة وقوة الوزير ادريس البصري .. وتم انزال الوزارة الى الحضيض ، عندما تم تعيين احد التلاميذ النجباء لإدريس البصري وزيرا للداخلية وهو مْحمد العنصر .
ان اول ضربة ستوجه للقوة التي كانت بيد وزير الداخلية " مؤسسة وزير الدولة وزير الداخلية " ، هي حين تم الفصل المادي وليس القانوني الشكلي ، بين وزارة الداخلية ، وبين مديرية مراقبة التراب الوطني DST ، التي ستصبح La DGST زمن محمد السادس ، وسيعين مديرعام لها من قبل القصر الملكي ، وليس من قبل وزير الداخلية كما كان الامر سابقا .. وبعد تفجيرات / انقلاب 16 مايو 2003 بالدارالبيضاء ، سيعين القصر الجنرال حميدو لعنيگري مديرا عاما ل DGSN ، وسيعين هو احد خدامه احمد حراري مديرا عاما ل DGST ، وسيعين احد عملاءه وخدامه الذي كان نابئا له عندما كان على رأس DGST الوالي نورالدين بن إبراهيم ، عاملا مديرا لمديرية الشؤون العامة بوزارة الداخلية . أي إعادة حقبة ادريس البصري بالسيطرة المطلقة على مصدر المعلومة ، ومنه السيطرة على الملك محمد السادس .. لكن المخطط الذي افتضح ، انتهى بإبعاد الجنرال حميدو لعنگري كمفتش عام للمفتشية العامة للقوات المساعدة ، وبعد مدة تم تدبير نزاع مفتعل بين افراد من القوات المساعدة ، بعضهم ضد بعض ، ورُكب على هذا الحادث المصطنع لتقزيم نفود الجنرال ، وقس جناحيه عندما تم تعييه مفتشا عاما للقوات المساعدة جهة الجنوب ، وتعيين جنرالا اخرا لنفس القوات بالمنطقة الشمالية ، واستمرت حرب المكائد حتى قِيل ان الجنرال المفتش العام للقوات الجنوبية للقوات المساعدة ، تعرض لحادثة سير كالحادثة التي تعرض لها الجنرال احمد الدليمي في سنة 1982 ..
إضافة الى هذا التقزيم ، ستتطور العلاقة بين وزارة الداخلية ، وبين DGST ، و DGSN ، و FA القوات المساعدة ، لتتحول من علاقة إدارية تحكمية ، الى علاقة عادية ، وليست تحكمية .. ففي زمن الحسن الثاني ووزيره ادريس البصري ، كانت DGST ، و DGSN ، و FA ، مثل هيئة الولاة والعمال تخضع لسلطة الوزير المباشرة . ومدراء هذه المؤسسات كان رئيسهم الفعلي والمباشر هو وزير الدولة في الداخلية ادريس البصري .. فكان يمنع على هؤلاء المدراء التصرف حتى في الأشياء البسيطة قبل مراجعة رئيسهم الوزير ، الذي يتولى شخصيا التوقيع على ما يتخذونه من قرارات . بل ان ترقية اطر مديرية مراقبة التراب الوطني ، واطر الإدارة العامة للآمن الوطني ، لم يكن مسموحا به دون موافقة الوزير، وموافقة طاقمه الذي كان يتكون من حفيظ بنهاشم العامل رئيس الكتابة الخاصة ، الذي سيصبح بدوره مديرا عاما للإدارة العامة للآمن ، والوالي حسين بنحربيط صهر الحسن الثاني ، ومدير ديوان وزير الداخلية ادريس البصري . وهذين الشخصين ينتميان الى مؤسسة وزير الدولة وزير الداخلية ، اكثر من انتماءهم الى وزارة الداخلية التي يسيرون امورها باسم المؤسسة الأولى .. ومن مكر الزمن انه عندما اصبح المدير السابق لمديرية مراقبة التراب الوطني المجرم عبدالعزيز علابوش ، عاملا مديرا لمديرية الشؤون العام DAG ، سيتصرف بنفس الأسلوب السلطوي مع المدير العام للآمن الوطني حفيظ بنهاشم ، عندما رفضوا لائحة ترقيات اجراءها دون الرجوع الى الوزير ، والى طاقمه الذي اصبح منهم عبدالعزيز علابوش الامّي L’ignorant .. ..
الآن لم تعد العلاقة بين DGST ، و DGSN ، و FA كما كانت زمن الحسن الثاني ، وزمن ادريس البصري رغم حمل إرساليات هذه المؤسسات عنوان وزارة الداخلية .. بل ان هذه المؤسسات ترسل الاخبار المهمة والخطيرة ، وحتى العادية الى الديوان الملكي . أي مباشرة الى شخص ، وصديق ، ومستشار السلطان فؤاد الهمة ، الرئيس الفعلي وباسم السلطان ، للبوليس السياسي ، وللجهاز السلطوي لوزارة الداخلية .. ونفس الشيء بالنسبة للتقارير التي ترسلها المفتشية العامة للقوات المساعدة ، التي ترسل نسخة الى إدارة الدفاع لأنها جزء منها ، ونسخة عادية الى وزارة الداخلية ، ونسخة الى الديوان الملكي .. والشيء الجميل حين يعيد الجيش ارسال نفس النسخة التي بعثت له بها المفتشية العامة للقوات المساعدة الى الديوان الملكي ..
اما ارساليات DGST ، و DGSN ، و FA التي ترسل الى وزارة الداخلية ، فهي تشمل موضوعات عادية . اما المواضيع الاستثنائية الخطيرة ، فترسل مباشرة الى صديق ومستشار السلطان بالديوان الملكي فؤاد الهمة ..
وهو نفس الشيء تقوم به الإدارة العامة للدراسات المستندات DGED ، حين تبرق ارسالياتها الى الديوان الملكي في شخص مستشار وصديق السلطان فؤاد الهمة ، وتبرق الى إدارة الدفاع الوطني .. بل وفي العديد من الحالات ، فهي حين ترسل بعض المواضيع لوزارة الداخلية ، فهي ترسل ذلك بعد فوات الاون بشهور .. لأنها تبرق ارسالياتها مباشرة الى الديوان الملكي ، والى القيادة العليا للجيش ... ونفس الشيء عن ارساليات الدرك الملكي الى وزارة الداخلية ، والى الديوان الملكي ..
فحرب الحصول على المعلومة ، وحرب السبق في ايصالها الى الديوان الملكي .. وصلت في الشهور الأولى لتولي محمد السادس المُلْك ، حد طرد الدرك الملكي من أبواب القصور الملكية ، وتعويضهم بالبوليس ، وبالقوات المساعدة ، ووصلت الى حد طرد الدرك الملكي من امام أبواب الإدارة العامة للدراسات والمستندات DGED ، وتعويضهم بالبوليس الذي اصبح يراقب مؤسسة تابعة للجيش ، بدل الدرك الذي هو الجيش .. فالصراع دار ويدور بين فؤاد الهمة مستشار وصديق الملك ، وهو رئيس المستشارين الى جانب André Azoulay وبين ياسين المنصوري المدير العام ل DGED . أي بين DGST و DGSN و FA وهيئة الولاة والعمال وهذه المؤسسات تابعة لفؤاد عالي الهمة ، وبين DGED ذات المهام العسكرية ومديرها ياسين .. وهناك تفوق لفؤاد الهمة على ياسين المنصوري ، لان التقارير التي يبعث بها المنصوري ، والقيادة العليا للجيش الى الديوان الملكي تسقط بيد الغربال فؤاد الهمة ، وهي حالة ستعرف تغييرا عند مجيء الملك السلطان الحسن الثالث . فأكيد ستبدأ فلسفة الانتقام المغربية العلوية ( ان رؤوسا قد اينعت فحان قطافها ) .
اذن هنا نفهم لماذا كان ادريس البصري الذي رفعه الحسن الثاني الى مرتبة المقدسات ، حين كان يوجه خطاباته ، كان يستعمل " النّحن " Le nous ، ولم يسكن يستعمل " الأنا " Le moi .. فعند استعمال Le nous ، فهو كان يحرص على انتسابه الى دار المخزن . وحين كان يستعمل Le moi ، وكان يستعمله نادرا ، فهو كان يخاطب غرماءه من الوزراء ، كوزير الخارجية عبداللطيف الفيلالي ، والوزير الأول احمد عصمان ، والوزير الأول كريم العمراني ، والوزير الأول عبدالرحمان اليوسفي .. ففرق بين ان تكون عضوا من دار المخزن ، وبين ان تكون خادمها ، لكن من خارجها ... كما حال عبدالرحمان اليوسفي .. ( السّاقْطة والباب ) ..
اذا كان مصدر جلب المعلومات ، وتجميع المعطيات التي كان يبني عليها الحسن الثاني كل مجهوده ، قبل إصداره القرار السياسي ، او الاجتماعي ، او الاقتصادي ، معروف . أي وزارة الداخلية ، وهي في الحقيقة مؤسسة وزير الدولة وزير الداخلية .. فان حصول تغيير في قنوات جلب المعلومات ، وفي كيفية التعامل معها قبل اصدار السلطان لقراره .. جعل أكثرية المتتبعين يضيع رأس الخيط في الوصول الى معرفة هذه القنوات ، والمجاري المختلفة زمن محمد السادس . وهذا سببه من جهة ، التغيير الجذري الذي طرأ في الساحة ، باضمحلال الأحزاب والنقابات التي كانت تحظى بنصيب الأسد في التتبع والمراقبة ، وتحول الجميع الى صدفيات فارغة يتسابق من تبقى منها لتقديم فروض الطاعة والولاء على أبواب القصر . عباد العجل . ومن جهة لشخص محمد السادس الذي اهتم بالجانب المالي ، ومراكمة الثروة ، واهمال الجانب السياسي . ومن جهة لحصر مصدر المعلومة التي قد تكون صحيحة ، وقد تكون كاذبة ، ومتآمرة في شخص صديق ومستشار السلطان فؤاد عالي الهمة ، الذي اضحى لوحده الكل في الكل . فهو يلعب غربال تصفية التقارير ذات الحساسية التي تأتي حتى من الإدارة العامة للدراسات والمستندات DGED ، التي على رأسها منافسا له هو ياسين المنصوري مديرها العام .
ومع كل هذا يمكن ان نحدد بعض القنوات في تصريف المعلومات قبل التفكير في اصدار القرار السياسي ، او الاقتصادي ، او الاجتماعي كالتعليم مثلا .. وبشكل طبيعي وكما كان الحال زمن الحسن الثاني ، فالملك محمد السادس وفي الغالب يتلقى كل يوم أربعة ملفات أساسية يدور حولها نشاطه اليومي – هذا المفروض -- .
-- هناك ملف وزارة الخارجية ، وهو يحوي اهم البرقيات الشفرية ، والتقارير الواردة من السفراء المعتمدين بالخارج ، ومن القناصل العامين ، والجالية المغربية .. والمعارضة التي تنشط بتلك الدول .. كما يشمل التقرير العلاقة مع الحلفاء ، والأصدقاء ، والإجراءات المتبعة عند مواجهة وقفات البوليساريو ، وما يقوم به الجزائريون رسميون او مواطنون مساندون لأطروحة انفصال الصحراء ... الخ .
-- هناك ملف وزار الداخلية ، وهو عبارة عن تقرير يعكس حالة الامن في البلاد بمفهومه العام والخاص ، وبما فيه الامن الاقتصادي والاجتماعي الذي يشرف عليه القسم الاقتصادي والاجتماعي بالوزارة ، ونفس القسم بالعمالات والاقاليم . وهو ملف من الخطورة بمكان ، لأنه يرصد التحولات الكبيرة والصغيرة ، وظاهرة استقرار وارتفاع الاثمان . وندرة بعض المواد الاستهلاكية التي يعتمد عليها الرعايا .. الخ .
-- وهناك ملف ثالث يتوصل به الديوان الملكي من الاستخبارات المختلفة ، بعد انفصالها المادي عن وزارة الداخلية التي كانت تنوب عنهم في هذه الارساليات ، لاحتكار سلطة التقرب من الملك . فالتقرير الذي يتوصل به الديوان الملكي من أجهزة الاستعلامات DGST ، و DGSN، والموقع عليه من قبل المدير العام الذي اصبح مستقلا عن وزير الداخلية ، والتقرير الذي يصل الى الديوان الملكي من قبل DGED ، والقيادة العليا للجيش ، يتناول الامن الداخلي والامن الخارجي ، كما يشمل الوضع بالصحراء ، والوضع بالحدود خاصة الحدود الموريتانية ، والحدود الجزائرية ..الخ .
-- اما الملف الرابع فيأتي من وزارة المالية والاقتصاد ، ويشمل أرقاما عن الأحوال المالية والاقتصادية بما فيها حالة الاحتياط من العملة الصعبة التي يهتم بها الملك كثيرا ، هذا دون ان ننسى التقرير اليومي الذي يضم كل المعلومات المتاحة عن أوضاع الاستهلاك ، والاسعار ، والمخزون السلعي من كل المواد الأساسية . ان هذا الملف قد تعالجه وزارة الداخلية في تقريرها اليومي ، كما قد تعالجه وزارة الاقتصاد والمالية ..
واضافة الى هذه الملفات ذات الحساسية ، هناك ملفات أخرى ترد الى الديوان الملكي ، ويتولاها صديق ومستشار الملك فؤاد الهمة من خلال الطاقم الذي يشتغل معه ، ومن خلال باقي المستشارين باعتباره رئيسهم ، تتناول أحوال الإنتاج الزراعي ، والصناعي ، والتخطيط لرسم تصورات لخطى اية مرحلة مقبلة ، الى جانب ان مجموعة الوزارات التي يتصل عملها بنشاط وفود ذاهبة من المغرب ، ووفود قادمة اليه ، تبعث الى الديوان الملكي بما لديها من تقديرات ومعلومات خصوصا اذا كان على الملك ان يشارك ، او يعطي الإشارة لمرؤ وسيه فيما تجريه من مفاوضات ..
واضح اذن ان هناك عدة قنوات تقوم بإيصال المعلومات الى صانع القرار السياسي . أي الملك . وهنا لا يجب ان ننسى أجهزة استخبارات اجنبية وعربية ، كالفرنسية بالخصوص ، والاسبانية ، والأمريكية ، والفلسطينية ، الأردن ، والمملكة العربية السعودية ...
هناك ملاحظة يجب الإشارة اليها ، وهي فارضة لنفسها بحكم الواقع المعبر عنها ، هي ان دار المخزن الدولة السلطانية ، أضحت اليوم اكثر قوة ، واكثر صلابة حين تغلبت على جميع اعداءها ومنافسيها ، ووجدت نفسها في الساحة تفعل فيها ما تشاء ، ومن دون حسيب ولا رقيب . فالملك السلطان محمد السادس الذي اصبح محور الدولة حتى وهو مريض ، عندما وجد امامه فراغ كبير ملئه بمفرده ، بعد موت الأحزاب التي طالبت بالحكم ، وطالبت باقتسام الحكم ، وانتهت تطالب فقط بالمشاركة كأعضاء في حكومة الملك ، لتنزيل برنامج الملك الذي لم يتقدم الى الانتخابات ، ولم يصوت عليه ، ورمت في القمامة بكل إرادة واختيار ، برنامجها الذي تقدمت على أساسه الى الانتخابات التشريعية الملكية . فالملك محمد السادس وعكس الحسن الثاني لم يكن له أنداد . بل الجميع تحوط به ، واصبح يستشهد به ، ورفعه درجة الاله المعصوم من الخطأ . في حين ان الفرق بين الملك الحالي محمد السادس ، وبين الملك الحسن الثاني كانت تظهر كصورة في القرار المتخذ . فقراءة قرارات الحسن الثاني كانت تبدو فيها بصمته . في حين ان القرارات في عهد محمد السادس لم يكن هو صاحبها . بل كانت تملى عليه من قبل الفريق البوليسي ، وهو يتولى قراءتها في خطبه المتتالية .. وهذا راجع للاختلاف في التكوين ، وفي الثقافة بين ملكين . ففرق شاسع بينهما ..
ورغم ذلك فهذه السلبية التي عرف بها محمد السادس ، ضعف في التكوين ، جعلت الجميع يدعمه ويلتصق به . فمن الجيش والدرك ، ومن البوليس ، والقوات المساعدة ، وهيئة رجال السلطة ، هيئة العمال والولاة ، المجالس العلمية ، اعيان القبائل العروبية والبربرية ، جميع الأحزاب ومن دون استثناء ، النقابات ، المدينة ، البادية .. الخ . أي اغلبية الرعايا معه . وهنا نطرح السؤال . لماذا لم تنزل انتفاضات شعبية على شاكلة انتفاضة 23 مارس 1965 ، و انتفاضة 9 يونيو 1981 ، و انتفاضة يناير 1984 ، و انتفاضة 1990 .. لو لم تكن الأغلبية معه .. في يونيو 1981 خرج الناس للتظاهر والاحتجاج على زيادة عشرة سنتيم في الخبز .. الأن اثمنة الگزوال وصلت الى 16 درهما للتر الواحد ، واثمنة البنزين وصلت الى 15 درهما للتر الواحد .. والارتفاعات في الطريق لتصل 20 درهما للتر الواحد واكثر .. ناهيك عن الارتفاع الصارخ ، والغلاء الفاحش . ناهيك عن الاذلال الذي تعرضت له الرعية اثناء موسم الوحش كورونا .. .. والمغاربة يرفعون شعارهم " عاش سيدنا " " عاش الملك " .. بل يرفعون هذه الشعارات حتى وهراوة بوليس " سيدنا " ، وجدرمة " سيدنا " ، و مْخازنية " سيدنا " تنزل على ظهورهم بدون رحمة .. بل وحتى عندما تكون أجهزة قمع " سيدنا " ، تدمر فوق رؤوسهم بيوتهم القصديرية ، وتتركهم مع ابناءهم عرضة للخلاء في اعز فصل الشتاء القارص ... ولا أزال أتذكر كيف ان ابراهام السرفاتي مؤسس المنظمة الماركسية " الى الامام " عندما عاد من فرنسا ، حمد الله على وجود الفصل 19 في الدستور الذي كان يركز كل الدولة في شخص الملك لا في غيره ...
وقبل ان نصل الى الخلاصة نطرح بعض التساؤل عن السبب او الأسباب التي جعلت الملك الحسن الثاني رغم انه كان له مستشارون من طينة رفيعة ، فهو كان يستعملهم كديكور فقط ، لان مصدر جلب المعلومة ، ومصدر جمع المعطيات المختلفة من سياسية ، واقتصادية ، واجتماعية كانت هي مؤسسة وزير الدولة وزير الداخلية ، ولم تكن وزارة الداخلية كمرفق يقوم بالأشغال الاعتيادية كغيرها من وزارات حكومة السلطان ... فهل انقلاب الجيش في سنة 1971 ، وانقلابه في سنة 1972 ، ومحاولة الجنرال احمد الدليمي في سنة 1982 ، ونزاع الصحراء الغربية التي كانت حربا ضروسا ، وهو ملف كان يتولاه الملك من خلال وزير الدولة في الداخلية ادريس البصري .. إضافة الى الجماعات التي رفعت السلاح ضد النظام الحسن الثاني ، والجماعات التي اشتغلت على نظام الجمهورية .. والانتفاضات الشعبية التي عرفها المغرب ، وكانت ترفع في مسيراتها التي تم قمعها بالقوة شعار يسقط النظام .. والعلاقة مع الجزائر .. هو من جعل الحسن الثاني يعتمد على مؤسسة ادريس البصري العيْن التي لم تكن تنام ، للحفاظ على استقرار النظام كي لا يسقط ، ولا يهمها وحدة المغرب البلد عند بتر تراب الصحراء الشرقية ، واعتراف النظام بجزائريتها ..
قبل وفاة الحسن الثاني بيوم او يومين ، صرح للمجلة الفرنسية Le Nouvel Observateur الفرنسية ، عندما سأله الصحافي قائلا : هل ندمت على شيء في حياتك ؟ وكان جوابه : ان الشيء الذي ندمت عليه ، اني كنت اثق كثيرا .. أي كان " بُو وْدينَة " .. وهو هنا كان يشير الى البوليس السياسي ، والى الجهاز السلطوي وزارة الداخلية ، والى المخابرات الخارجية التابعة لجيش ..
مات الحسن الثاني بقرحة الثقة ، ومحمد السادس اذا خرج من الغيبوبة ، أكيد سيكرر نفس الندم . لكن هيهات نفد الوقت . فلابد من الاستعداد والتحضير لمحاكمة كل مسؤول عن المعطيات الكاذبة ، والأبحاث المُدلسة ، والمحاضر البوليسية المزورة ، والاعتداء على الناس ، وعلى الشعب ، وعلى المغرب بجرائم أصبحت جنائية ، عندما استعملوا أجهزة الدولة في الاعتداء ، وتحقيق مكبوتاتهم الاجرامية المرضية .. لا بد من المحاكمات . ولا انصاف ، ولا صلح ، ولا جبر للضرر قبل المحاكمات ، وصدور الاحكام المناسبة للجرائم المقترفة .. دون اغفال السؤال : من اين لك هذا ؟ .



#سعيد_الوجاني (هاشتاغ)       Oujjani_Said#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ماذا نقصد بالبطريركية والرعوية السياسية ، في الامبراطورية ال ...
- نزاع الصحراء الغربية بين الحكم الذاتي ، وتقرير المصير ..
- هل تم استبدال منتدى - كرانس مونتانا - الفاشل بمدينة الداخلة ...
- آخر ملك
- قضية زكرياء المومني ، وقضية فريد بوكاس
- خطاب احياء العقل ، وخطاب قتل العقل / الفرق بين العقل الفلسفي ...
- المدير العام للبوليس السياسي عبداللطيف الحموشي يزور واشنطن
- هل سينزل رعايا السلطان ، ضد السلطان ، الى الشارع في 17 يوليو ...
- بيدرو سانشيز اليتيم .
- النظام الجزائري يخوض حرب وجود ضد النظام المغربي وبالمكشوف .
- النظام الجزائري يهدد بالاعتراف بالجمهورية الريفية . النظام ا ...
- ماذا ينتظر نزاع الصحراء الغربية المغربية خلال السنتين القادم ...
- من له مصلحة في اشعال الحرب بالمنطقة ؟
- موت ثقافة التغيير .. لا مثقف جماهري ولا مثقف نخبوي
- ويستمر نظام السلطان في الكذب على الرعايا . هل حقاً انّ الجمه ...
- مجلس النواب الاسباني
- هل يُحضّر النظام السلطاني المغربي ، لتنزيل الحكم الذاتي من ج ...
- الصراع داخل القصر السلطاني المغربي .
- قصيدة بعنوان : اضطهاد
- تصريحات كاذبة . تصريحات مفندة . وتصريحات مضادة . هل تخطت الص ...


المزيد.....




- رئيس الوزراء الأسترالي يصف إيلون ماسك بـ -الملياردير المتغطر ...
- إسبانيا تستأنف التحقيق في التجسس على ساستها ببرنامج إسرائيلي ...
- مصر ترد على تقرير أمريكي عن مناقشتها مع إسرائيل خططا عن اجتي ...
- بعد 200 يوم من الحرب على غزة.. كيف كسرت حماس هيبة الجيش الإس ...
- مقتل 4 أشخاص في هجوم أوكراني على مقاطعة زابوروجيه الروسية
- السفارة الروسية لدى لندن: المساعدات العسكرية البريطانية الجد ...
- الرئيس التونسي يستضيف نظيره الجزائري ورئيس المجلس الرئاسي ال ...
- إطلاق صافرات الإنذار في 5 مقاطعات أوكرانية
- ليبرمان منتقدا المسؤولين الإسرائيليين: إنه ليس عيد الحرية إن ...
- أمير قطر يصل إلى نيبال


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد الوجاني - صناعة القرار السياسي في الدولة السلطانية .