أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طارق حربي - الجندي في حديقة التوليب!















المزيد.....

الجندي في حديقة التوليب!


طارق حربي

الحوار المتمدن-العدد: 7256 - 2022 / 5 / 22 - 01:28
المحور: الادب والفن
    


كورونا وأخواتها
(28)
الجندي في حديقة التوليب!
لا يحلو لجندي الحروب الخاسرة إِلّا الجلوس في الحديقة العامة المشمسة في قلب المدينة النابض بالحب، يُطيل التأمل في حقل من ورد التوليب الملون، ومنه الجمال والحب والزنبق الواحد وأحلام اليقظة والأمير الأرجواني والمشتعل بورسيما وغيرها!
صَفَنَ طويلاً ثم قال في نفسه..
- يا للطبيعة العظيمة كيف لبصيلات صغيرة زرعتها العاملات النرويجيات في مطلع الربيع، وسَقيْنَ تربتها في انتظام، أن تتبرعم وتنبثق خلال عشرة أيام، من لون التراب الكابي مكتسية بألوان جذابة؟ كما لو أنها طُليتْ بالشمع الملون في أحد أعياد الهندوس الدينية؟!
واظبَ على مراقبة النموّ يومياً منذ مرحلة الإنبات حتى ظهور البراعم التي عبثتْ بها العصافير، وبدتْ في مرحلة الحداثة كأنها مغمضة العينين مثل صغار القطط، ثم اشرأبتْ بأعناقها في بلوغها وتفتُّحِ أكمامِها، ولم تخرجها الطبيعة إلّا بعدما زيَّنَتْها بالألوان من أبيض وكحلي وأرجواني وبنفسجي وبرتقالي، ورفعتها على سيقان طويلة، كأنما تريد أن تطال السماء الموشّاة بقطعان من الغيوم في موسم هجرة جديدة. وأوتْ العصافير إلى الأشجار خلف ظهر الجندي السارح في أفكاره وبنتْ بهندسة رائعة أعشاشاً، بعد ذوبان الثلوج في شهر شباط، في مدينة عصرية محروسة بآلهة (النوردن) وخيرات البترول وصيد الحيتان.
على مصطبة خشبية يجلس جندي الحروب الخاسرة، الذي لا يكره شيئاً مثلما يكره العنف والقتل والدمار وتشريد الشعوب، متأملاً في جديد المكان وتعاقب الزمان والأحداث، ويلمحُ من بعيد كبار السنِّ الماشين بوئيد الخطى إلى مركز المدينة، حيث تورق أشجار الساكورا في كل عام بمهابة اللون الوردي واحتفاليته، ويسجل في هاتفه المحمول أن الأطفال والرجال والنساء تخلَّوا عن مستلزمات الجائحة، الكمّامات وسوائل التطهير التي تحرص النساء أكثر من الرجال على حملها في حقائب اليد، لتمسح بها الأكُفَّ الناعمةَ بعد التلامس خلال عملية الشراء خاصة، انتهتِ الجائحة في النرويج وتخففتْ في شتى بلدان العالم، بعدما أفنتْ خلقاً كثيراً بلغ أكثر من ستِّ ملايين إنسانا، وأصابتْ أكثر من نصف مليار حتى كتابة هذه السطور!
بين قوسي روعة الحياة وجهامة وجه الموت في الكوكب المترنح بضربات الفيروس ومدافع الحروب، تشبه التربة التي زُرعَ فيها ورد التوليب، تراب القبر الذي شاهده الجندي الناجي من الحروب الخاسرة، في مقبرة المسلمين في ضواحي أوسلو قبل عشرة أعوام! وكان ضغط الجاذبية ساوى التراب بأديم الأرض خلال أسبوع أو عشرة أيام من الدفن وإلقاء نظرة الوداع الأخيرة على من رحل، أو هكذا بدا للمحارب القديم الجالس على مصطبة خشبية أمام الحقل الملون البهيج، فيما حروب العراق العبثية والحصار وإبادة الشعب أفلام بالأسود والأبيض، تُعرضُ أمام عينيه حتى وهو يتأمل جمال الورد في حديقة عامة!
أخذ الناتو منذ سنوات ينبح على الحدود الغربية لروسيا، طالباً الحرب محرّضاً على الدمار متحرقاً إلى تجربة أسلحة جديدة، كأنّي به يستعجل نهاية كورونا ليشعل حرباً جديدة! بعد حوالي شهرين من نشوب الحرب احتلتْ روسيا أجزاءً واسعة من شمال أوكرانيا وشرقيَّها، وقدمتْ كلٌ من فنلندا والسويد طلب انضمامهما إلى الناتو دفاعاً عن النفس أمام الدب الروسي، وبدأ التدريب العسكري منذ فترة في كلا البلدين! وخُيِّل للخارج من حروب لا ناقة له فيها ولا بغل، الجالس في الحديقة المشمسة أمام حقل التوليب الملون أن المسافة بين شرق البصرة، عندما ذوتْ زهرة شبابه جندياً في ساحات حرب طويلة ومجنونة في ثمانينيات القرن الماضي، وما يزال حتى اليوم يشتمُّ رائحة بارودها ويرى في أحلامه الأشلاء المتطايرة، وشرق النرويج حيث يقيم فيها منذ ثلاثين عاماً في بحبوحة من العيش الرغيد، هي فاصلة وقدر عجيب في حياته لا يستوعبها عقل ولا تحلها خوارزمية!
وردَّد في سرّه
- اللعنة!
يبدو أن الحرب لحقتْ بي حتى وأنا في أقصى شمال العالم؟!
ذروة المأساة أن يجلس من ذاق ويلات الحروب في حديقة عامة ويفكر في الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وتستعد لخوضها الجيوش في شرقيّ فنلندا والسويد، وليست النرويج ببعيدة عن قرع الطبول! لكنه استبعد الفكرة بوحي من أن العالم المتحضر بديمقراطيته وعقلنته لا يمكن إلّا أن يُقدِّر سوء عواقب الحرب، سيَّما وأن خيار السلاح النووي قائم لحسم الحروب إذا طالتْ، كما حصل في الحرب العالمية الثانية!
يجلس الذي تسرح من الجيش وما تزال الأحلام السوداء تقضُّ مضجعَهُ، وتملأ قلبه الغصَّة مبتسماً لزقزقة العصافير، همس العشاق خلف ظهره وحوله رنين الضحكات، تذكّرُهُ كل حركة ونأمة وخفق جناح عصفور وتمايل وردة توليب، بخمائل ورد الجوري في مدينته البعيدة وتشابك أغصان الأشجار وأمواج البحيرة الساكنة، كلما مرتْ بها النسمات الفراتية الهيِّنة وحبه الأول!
قال لها ذات مساء وهما جالسان على مصطبة اسمنتية في حديقة عامة، بعدما وضعتْ رأسها على كتفه وانسدل شعرها الأسود الفاحم على بياض قميصه
- لا بد أن يأتي اليوم الذي أغادر فيه العراق نهائياً!
إذا كانت المرأة المكيَّة مستعدة لأن تخسر كل ما لديها إلّا مكحلة عينيها كما أخبرنا الرحّالة ابن بطوطة، والتركية كل أموالها مقابل أن تغرز وردة توليب في شعرها كما يقول الأثر، والرجل في عمامته لذلك سميت وردة التوليب بوردة العمائم في تركيا، فإن المنزل النرويجي لا يكاد يخلو من قطة أو كلب والعديد من أصص الزهور، وتبتسم المرأة النرويجية للورد كما يبتسم الإنسان للرغيف الساخن، منحنية على حقله في العام الماضي والكمّامة تغطي أنفها، وبعدما تحررتْ منها هذا العام تماهى جمال شفتيها الورديتين مع رقة الورد وشذاه، وهي تنحني عليه مرة ثانية وعلى محياها ابتسامة وتصوره بهاتفها النقال.
ثلاثة شغلته وهو جالس على المصطبة في الحديقة المشمسة، همس العشاق في المقهى خلف ظهره، وزقزقة العصافير على الأشجار فوق رأسه، وكؤوس التوليب المقلوبة المُشعَّة المبهجة أمام ناظريه.
وثلاثة أحزنته هي أوضاع العراق المتدهورة يوماً بعد يوم، وعاميَّ الجائحة اللذين أعتبرَهُما عبثيين، لأن فيروساً لا يُرى بالعين المجردة شلَّ الحياة على الأرض، والحرب الروسية الأوكرانية التي لا أحد يعلم متى تضع أوزارها سوى الساسة والقوى الخفية؟! وما عدا ذلك هينٌ في مملكة الحريَّة والعدل والمساواة.
21 مايو 2022 النرويج
www.tarikharbi.com



#طارق_حربي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العيد الوطني والبيرة الهولندية ونهاية الجائحة!
- ناصرية مكسيك (الفصل الرابع) قتل الإناث وإزالة الغابات!
- ناصرية مكسيك (الجزء الثالث)
- ناصرية مكسيك (الجزء الثاني)
- غزوة أوميكرون!
- كورونا وأخواتها .. (25) عينا الشرطيّة الزرقاوان!
- لمناسبة صدور كتاب (في سجن الأحكام الخاصة) لأحمد عبد الستار
- جوع
- فيلم (قتلوا أبي أولا) إخراج إنجيلا جولي أطفال المعسكرات في ك ...
- فيلم (رينو في القارة السوداء) جمال المغامرات في الصحراء وصعو ...
- تخفيف القيود وعودة المتسوّلين!
- فيلم الجحيم -El Infierno- كوميديا سوداء عن صراع عصابات المخد ...
- دلتا ولامبادا ونعيق النوارس!
- الإنسان ليس سعيداً في الناصرية! (الجزء الثالث)
- لمناسبة جريمة احراقه وقتل المرضى الأبرياء فيه .. مستشفى الحس ...
- ناصرية مكسيك (الجزء الأول)
- الإنسان ليس سعيداً في الناصرية! - المرأة نموذجاً
- عن جيمس بوند وشاه إيران ومنزل بائعات الهوى!
- مقبرة جماعية*
- أسلمة أفلام ناسا الفضائية لا يضرُّ العلمَ شيئا!


المزيد.....




- السفارة الروسية في بكين تشهد إزاحة الستار عن تمثالي الكاتبين ...
- الخارجية الروسية: القوات المسلحة الأوكرانية تستخدم المنشآت ا ...
- تولى التأليف والإخراج والإنتاج والتصوير.. هل نجح زاك سنايدر ...
- كيف تحمي أعمالك الفنية من الذكاء الاصطناعي
- المخرج الأمريكي كوبولا يطمح إلى الظفر بسعفة ذهبية ثالثة عبر ...
- دور النشر العربية بالمهجر.. حضور ثقافي وحضاري في العالم
- شاومينج بيغشش .. تسريب امتحان اللغة العربية الصف الثالث الاع ...
- مترو موسكو يقيم حفل باليه بمناسبة الذكرى الـ89 لتأسيسه (فيدي ...
- وفاة المخرج السوري عبد اللطيف عبد الحميد عن 70 عاما
- بسررعة.. شاومينج ينشر إجابة امتحان اللغة العربية الشهادة الا ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طارق حربي - الجندي في حديقة التوليب!