أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ناصر بن رجب - كتاب صُنِع في الجحيم(19)















المزيد.....


كتاب صُنِع في الجحيم(19)


ناصر بن رجب

الحوار المتمدن-العدد: 7217 - 2022 / 4 / 13 - 22:55
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


محنة سبينوزا ونشأة العَصر العَلماني

الفصل السّادس
الكُتُب المقدَّسة
(نهاية الفصل)


على غرار ما يقوم به علم الطّبيعة، " فإنّ "علْم" تأويل البيْبل يبدأ بتجميع المعطيات والموادّ. والمعطيات الأكثر أهميّة بالنّسبة لدراسة البيْبل هي الأقوال نفسها: مثلا، ما يؤكِّده كاتِبٌ بيْبلي حول الرّب الذي يمكن أن نجده في الكتب والأسفار التي يكون قد ألّفها؛ وكذلك ما يقوله كاتِب آخر حول العناية الإلهيّة؛ وأخيرا، وهو الأهمّ من كلّ هذا، ما كان عند مختلف الكتّاب ما يقولونه حول المسائل الأخلاقيّة، وبخصوص ما هو حقّ وخير. وما إن يقع تجميع كلّ هذه الموادّ يجب ترتيبها بالشّكل المناسب وتصنيفها حسب المؤلِّف وحسب الموضوع؛ إذ يقول سبينوزا في هذا الصّدد: "يجب على تاريخ الكتب المقدّسة تجميع آيات كلّ سفْر واختزالها في عديد قليل من الموضوعات الرّئيسيّة حتّى يتسنّى لنا من الوهلة الأولى معاينة معتَقد الكتب المقدّسة بخصوص كلّ مادّة [موادّ البيْبل]"(1). وفي ذات الوقت، يجب على المفسِّر، الذي يتحتّم عليه امتلاك معرفة جيّد بالّلغة العبريّة القديمة، وذلك لأنّ "كلّ مؤلِّفي العهديْن القديم والجديد هم عبرانيّون"، أن يأخذ بعين الاعتبار كلّ الأقوال المتشابِهة منها والغامضة ("بحسب ما إذا كان المعنى عَصيَّا عن الفهم أم سهلا على العقل وذلك استنادا على نصّ ذلك الخطاب نفسه")، الحاضرة في المقاطع البيْبليّة التي جمعها، وأيضا الاختلافات والتّناقضات التي يمكن العثور عليها في الموادّ التي تخصّ مؤلِّفاً بعينه أو مؤلِّفين مختلفين.
بالإضافة إلى هذه المعطيات النّصيّة، يجب على المفسِّر أن يُجمِّع كلّ الأخبار الممكِنة فيما يتعلّق بكتّاب البيْبل من حيث دراسة خلفيّة السّيرة الذّاتية وكذلك الخلفيّة التّاريخيّة والسّياسيّة والبسيكولوجيّة لكلّ مؤلِّف سفر من الأسفار. يجب على تاريخ الكتب المقدّسة:
"أن يدلّنا على مختلف الإرهاصات التي يمكن أن تكون قد تعرّضت لها كتب الأنبياء، والتي حفظتها لنا الذّاكرة، أعني بذلك سيرة مُؤلِّف كلِّ كتاب، وأخلاقه، والغاية التي كان يَرمي إليها، ومَن هو، وفي أيَّةِ مُناسبة كتَب كتابه، وفي أيِّ وقتٍ ولِمن وبأيَّةِ لُغة كتبه. كما يجِب أن يُقدِّم هذا الفحص [التّاريخي] الظّروف الخاصَّة بكلِّ كتابٍ على حدة: كيف جُمِع أوَّلًا، وما الأيدي التي تناوَلَتْه، وكم نُسخة مُختلِفة معروفة عن النصّ، ومَن الذين قرَّروا إدراجه في الكتاب المُقدس، وأخيرًا كيف جُمِعت جميع الكتُب المُقنَّنة في مجموعة واحدة؟ أقول: إنَّ الفحص التّاريخي يجِب أن يتضمَّن كلَّ هذا؛ إذ إنه لكي نعلَمَ أيَّ القضايا قد نُودِي بها في صيغة قوانين وأيُّها أصبحت تعاليم خلقية، فمن الواجِب أن نعرِف سِيرَ المُؤلِّفين وأخلاقهم والهدَف الذي كانوا يَرمون إليه. هذا بالإضافة إلى أنَّنا نستطيع أن نُفسِّر بسهولةٍ أكثر أقوال مؤلِّفٍ مّا إذا زادَتْ مَعرِفَتُنا بعبقريَّتِه الخاصَّة وطبيعة تكوينه الذهني"(2)
باختصار، يقول سبينوزا إنّه، في حالات عدّة، لا يمكننا معرفة ما يحاول شخص مّا قولَه، اللّهم إلاّ إذا لم نكن نعرف مَن هو هذا الشّخص، وما هي اهتماماته ومصالحه، ولماذا يكتُب، ولمَن يتوجّه: "ولذلك، وحتّى نفسِّر مؤلَّفات تحتوي على أشياء غامضة وغير مفهومة، يكون من الضّروري بصورة خاصّة أن نعرف مَن هم كتّاب هذه النّصوص"(3). وهذا ينسحب على أنبياء البيْبل مثلما ينسحب على مؤلِّف "أوليفر تويست"، فكلّهم يكرّسون أنفسهم لخلقِ أدَبٍ خياليّ حامِلٍ لرسالة أخلاقيّة واجتماعيّة، حتّى وإن كان ذلك داخل أنماط أدبيّة مختلفة وموجّه لجماهير مختلفة. وهذه قاعدة مهمّة بشكل خاصّ لفهم الأنبياء الذين عاشوا منذ قرون متعدّدة في ظروف تاريخيّة وثقافيّة بعيدة كلّ البعد عن تلك التي عاش فيها بُرجوازي هولندي من القرن السّابع عشر.
التّجميع الأخير لأهمّ المعطيات يتعلّق بتاريخ نقل النّصوص البيْبليّة وتداولها، وهو عنصر أساسيّ إذا أردنا أن نحدّد مدى صحّتها واكتشاف، عندما يكون ذلك ممكنا، ما يمكن أن يكون قد اعتراها من "تشويهات" على مرّ القرون. فالمفسِّر يجب أن يعرف "ما إذا كانت هناك أخطاء قد انزلقت فيها، وإذا ما كانت التّصاحيح الملائمة لهذه الأخطاء كانت قد تمّت على أيدي رجال أكفاء وموثوق فيهم"(4).
إذا توفّر المفسِّر على كلّ هذه الأدوات، فإنّه يستطيع الآن، على غرار العالِم، أن يشرع في الكشف عن المبادئ العامّة التي تتحكّم في الظّواهر؛ ويكون مستعدّا، على أرضيّة المعطيات الأدبيّة، التي هي موضوع الحال هنا، لكي يتعرّف على تلك المعتقدات التي يُفصِح عنها المؤلِّفون على امتداد الكتابات النبويّة. فإذا كان عالِم الطّبيعة يبحث عن قوانين الطّبيعة، فإنّ المختصّ في البيْبل، من جهته، يبحث على "كلّ ما هو أكثر شموليّة، وهو الشّيء الذي يشكّل أساس كلّ الأمور الأخرى، وهو كذلك ما يُعبِّر عن العقيدة التي علَّمها الأنبياء لتأمين المصالح الأبديّة لكلّ الجنس البشري"(5).
يتّفِق سبينوزا على أنّ مثل هذه المبادئ الكونيّة الشّاملة مُعبَّر عنها في كلّ مكان من الكتب المقدّسة، وذلك مهما كان مؤلِّف السّفر محلّ النّظر: وهي مبادئ مثل الرّب موجود، والرّب واحد، وأنّه يجب أن يُعْبَد، وأنّ الرّب رؤوف رحيم بكّل عباده وهو يحبّ بالخصوص كلّ أولئك الذين يعبدونه ويُحبّون لأقاربهم ما يحبّونه أنفسهم. فهذه هي الرّسالة الأساسيّة لكلّ البيْبل. ومن هنا، نرى سبينوزا متّفقا، وهو أمر يبدو غريبا لا يُصدَّق، على أنّ كلّ هذه التّعاليم تظهر جليّة في عدد كبير من مقاطع النّصوص المقدّسة بحيث ليس هناك من جدوى للقيام بعمل تفسيريّ كبير للعثور عليها: "هذه التعاليم وما شابَهَها موجودة في كلِّ مَوضعٍ في الكتاب بقدْرٍ من الوضوح والصراحة لم يستطع معه أيُّ شخصٍ أن يَشُكَّ في معناها"(6).
ولكن، كلّ ما هو موجود في الكتب المقدّسة ليس واضحا تماما ولا يحتمل إلاّ معنى واحدا. فسبينوزا يدحض الأطروحة التي يدعمها العديد من معاصريه البروتستانت والقائلة بأنّ دلالة البيْبل بأكملها كانت واضحة وضوح الشّمس إلى درجة لا تستدعي أيّ تفسير إضافيّ. (مثلا، يعتقد اللّاهوتي البروتستانتي الفرنسي-الهولندي سمويل ديماريه Samuel Desmarets أو Maresius، أنّ النّصوص البيْبليّة شفّافة إلى درجة أنّ مجرّد تفسير حرفيّ حسب الإستعمال الشّائع للألفاظ ومعناها المنطوق والعادي، يكفي للكشف عن معناها الحقيقي والوحيد(7). إنّه من الضّروري القيام بعمل تفسيريّ متين حول المعطيات حتّى يتمّ تحديد ما يقوله كلّ مؤلِّف بأكثر ما يمكن من الدقّة فيما يتعلّق بهذه المسائل الميتافيزيقيّة واللّاهوتية، منها على سبيل المثال، ما هو الرّب، وما هي طريقته في تحقيق عنايته، أو ما هي طبيعة المعجزات. هذه هي المبادئ الأقلّ عموميّة المتطابقة مع القوانين الأكثر جزئيّة التي يصوغها عالِم الطّبيعة. وهذه المبادئ تختلف عن القوانين الشّاملة من حيث أنّها لا تُلاقي أيّ اتّفاق من طرف مختلف المؤلِّفين البيْبليّين. إضافة إلى أنّ هذه المبادئ الأقلّ شموليّة، بالرّغم من أنّها "تتعلّق بالممارسة اليوميّة"، أي بخصوصيّات السّلوك الأخلاقي وكلّ الأفعال المؤسِّسة للعدل والمحبّة التي يأمر بها كلّ نبيّ، هي مصدر جزء كبير من الغموض، والتّناقض والإبهام. ومع أنّ هذه المبادئ يُفترَض فيها أن تكون "نابعة من العقيدة الشّموليّة للكتب المقدّسة مثلما تنبع الجداول من معين مشترك"، إلاّ أنّ أصلها يمكنه أن يبدو من غير السّهل علينا تحديده. فعلى المفسِّر، من بين الأشياء الأخرى التي يجب عليه أن يقوم بها، أن يأخذ بعين الاعتبار الحقبة التي كُتِب فيها المقطع والجمهور الذي يتوجّه إليه ويخاطِبه.
يقدّم لنا سبينوزا مثالا على ذلك ما قاله موسى الذي يؤكِّد في التّوراة أنّ "الرّبَّ هو نارٌ آكِلَةٌ، وإلهٌ غَيُّور" (التّثنية 4، 24). لكي نُفسِّر هذه القول، وبالأخصّ تحديد ما إذا من الواجب أن نقرأه بالمعنى الحرفيّ أو المجازي، لا حاجة لنا إطلاقا أن نعرف ما إذا كان تفسير حرفيّ مّا أو غير حرفيّ هو التّفسير الذي يتماشى مع الحقائق الفلسفيّة المبَرهَنة المتعلّقة بالرّب. بل الأمر يجب أن يتعلّق بتحليل المقاطع المهمّة على ضوء المبادئ الجوهريّة للكتب المقدّسة التي كان قد تمّ استخلاصها من المعطيات ومجابهتها بتأكيدات أخرى لموسى وبالظّروف التي تفوّهَ بها فيها. وبما أنّ موسى يُعلِن في أماكن أخرى من البيْبل بصورة واضحة وجليّة أنّ الرّب ليس له أيّ شبه بالاشياء المرئيّة، لذا يكون من الواجب علينا أن نقرأ الجملة التي يقول فيها أنّ الرّب نارٌ قراءةً مجازيّة: "فلِكَي نعرِف إنْ كان موسى قد اعتقد حقّاً بأنَّ لله نارٌ أم لا، يجِب أن نَستنتِج ذلك من الكلام الآخر الذي قاله موسى، لا مِن اتِّفاق هذا الرأي مع العقل أو مُناقَضَتِه له"(8). إنّ لفظ "نار" بالعبريّة يمكن أن يقع استعمالها للدّلالة على الغضب، وقائد مثل موسى يمكن أن يكون بالتّأكيد قد اعتبر أنّ جملة استعاريّة قادرة أكثر على إحداث تأثير قويّ على شعب إسرائيل لحثّه على طاعة الرّب، وهو ما يحدونا إلى الخروج بنتيجة مفادها أنّ موسى لم يكن في نيّته التّأكيد على أنّ الرّب كان نارا آكِلة بالمعنى الحرفي للجملة. ومثلما قال سبينوزا لفان بليينبرغ قبل بضع سنوات في رسالة مؤرَّخة سنة 1665 أنّ مؤلِّفي البيْبل عدّلوا أحيانا لغتهم حتّى يفهمهم العامّة: "بالنّسبة للنّقطة الأولى، جوابي هو أنّ الكتاب المقدّس يستعمِل باستمرار لغة تشبيهيّة تتناسب مع العامّة؛ إذ هي موجَّهة لهم؛ فالإنسان العامّي يعجز عن إدراك الحقائق الرّاقية"(9).
من جهة أخرى، بما أنّ موسى لا يؤكِّد في أيّ مقطع من البيْبل أنّ الرّب ليست له انفعالات، فإنّ ذلك يسمح لنا بقراءة الجملة التي يُصرِّح فيها أنّ الرّب "إلهٌ غَيُّور" قراءة حرفيّة. وبالرّغم من أنّ تفسيرا مثل هذا يتنافى مع العقل، على الأقلّ ما يؤكِّده في كتاب الأخلاق، فإنّه لا يتنافى مع التّعاليم الشّاملة للكتاب المقدّس ("الرّب واحد"، إلخ)، ولا مع مبادئ جزئيّة أخرى دعمها موسى نفسه(10).
وعلى هذا النّسق، يقول يسوع في إنجيل متّى: "إذا ضربكَ أحدُهم على خدِّك الأيمَن، فأَدِر له خدَّك الأيْسَر". إذا فهمنا هذه الجملة فهما حرفيّا من حيث أنّها أمر موجّه للقضاة والمشرِّعين، فإنّ مثل هذا التّغاضي عن الظّلم ومثل هذا الانصياع للشرّ يكونان منافيَيْن لشريعة موسى التي تأمر بمعاقبة الجريمة بمثلها ("العيْنُ بالعيْن والسِنُّ بالسِنّ"):
"فيَجِب إذن أن نبحَثَ عمَّن قال هذا ولِمَن قاله وفي أيِّ وقتٍ قاله؟ إنَّ قائل هذه العبارة هو المسيح، الذي لم يَضَعْ قوانين كما يفعلُ المُشرِّع، بل أعطى تعاليم كما يفعَلُ المُعلِّم لأنَّهُ لم يكن يُريد أن يُصلِح الأفعال الخارجية، بل استعدادات النفس الداخلية [...] لقد قال هذه العبارة لأنُاسٍ مُضطهدِين، كانوا يعيشون في دولةٍ فاسدة لا تعرِف العدالة مُطلقًا، وتبدو مُهدَّدة بالانهيار الوشيك"(11).
إنّ منهج سبينوزا في التّفسير لا يمثّل قراءة ذاتيّة ولا حتّى قراءة نسبيّة للكتب المقدّسة؛ فهناك معنى موضوعي يجب استخلاصه من النصّ باستحدام الأدوات الملائمة. وما يقترحه سبينوزا هو عبارة على قراءة سياقيّة تتعاطى مع النّصوص المقدّسة كما هي: وثيقة بشريّة موغلة في بشريّتها، وقع تحريرها في ظرف زمنيّ معيَّن، وذلك لغايات بشريّة بحتة.
وكما يعترف سبينوزا نفسه بذلك، فإنّ تسليط الضّوء على المعنى الحقيقي للبيْبل تخترقه عوائق عديدة. فإذا كان من الهيِّن نسبيّا أن نفهم الرّسالة الأخلاقيّة العامّة للبيْبل - "نستطيع أن ندرك بكلّ يقين معنى النّصوص المقدّسة فيما يتعلّق بالغبطة والخلاص" – فإنّه من العسير جدّا إدراك مبادئها وتعاليمها الأقلّ شموليّة وتوضيح أغلبيّة آراء الأنبياء. إذ لا يكون في وسعنا في أغلب الأحيان إلاّ مجرّد تخمين ما يحاول مؤلِّف نبويّ أن يقوله.
وهذا الأمر مرتبط بعدد مّا من العوامل، وفي مقدّمتها معرفتنا الهزيلة بلغات البيْبل، أو ما يسمّيه سبينوزا "غياب تاريخ كامل للّغة العبريّة". فهناك العديد من المعطيات اللّعويّة التي ضاعت واندثرت عبر آلاف السّنين، بما في ذلك بعض القواعد النّحويّة والالفاظ الشّائعة بحيث أنّنا نجد أنفسنا اليوم، وفي أحسن الحالات، لا نمتلك إلاّ معرفة متشظّية للّغة العبريّة: "لم يترُك علماء اللغة العبرية القُدَماء للخَلَف أيَّ شيءٍ بشأن الأسُس والمبادئ التي تقوم عليها هذه اللغة، أو على أقلِّ تقديرٍ لا يُوجَد لدَينا أيُّ شيءٍ تركوه لنا: فلا يُوجَد قاموس أو كتاب في النحو أو في الخطابة". فمع انقراض النّاطقين الأصليّين بالعبريّة والآراميّة القديمة اضمحلّ الكثير من المعلومات التي يمتلكها عادة المستخدمون لهذه اللّغة في حياتهم اليوميّة: "لقد ضاعت تقريبًا جميع أسماء الفاكهة والطيور والأسماء وأسماء أخرى كثيرة على مَرِّ الزمان، كما أنَّ معاني كثيرة من الأسماء والأفعال التي نُصادفها في التوراة، إما مفقودة أو على الأقلِّ مُختلَفٌ عليها. فنحن إذن نفتقر إلى هذه المعاني، كما نفتقِر، بدرجةٍ أشد، إلى معرفة التراكيب الخاصَّة في هذه اللغة، فقد محا الزمان، الذي يلتهِمُ كلَّ شيء، كلَّ العبارات والأساليب الخاصَّة التي استعملها العبرانيون تقريبًا من ذاكرة الناس، فلن نستطيع إذن أنْ نبحَثَ لكلِّ نص، كما نَودّ، عن جميع المعاني المقبولة وفقًا للاستعمال الجاري في هذه اللغة، وسنجِد نصوصًا كثيرة تتضمَّن كلماتٍ معروفة تمامًا ولكن معناها غامِض للغاية، لا يُمكن إدراكه على الإطلاق، وفضلًا عن أنَّنا لا نستطيع أن نحصل على معرفةٍ تامَّة بالعبرية، فهناك تكوين هذه اللغة نفسه وطبيعتها؛ إذ يُوجَد فيها من المُتشابِهات الكثيرة ما يستحيل معه العثور على منهج يسمح لنا بأن نُحدِّد عن يقينٍ معاني جميع نصوص الكتاب(12). وحتّى عندما نكون ملِمّين بمعنى ألفاظ خاصّة فإنّه تنقصنا معرفة اللّهجة ومعرفة اللّغة المنطوقة لكي يتسنّى لنا فكّ طلاسم المقاطع الغامضة.
يوجد في البيْبل أيضا، وسبينوزا يؤكِّك على ذلك، متشابهات مصدرها بعض حصوصيّات العبريّة القديمة، على غرار الدّلالات المتعدِّدة للألفاظ، ومن بينها بالخصوص الحروف والظّروف (مثلا حرف "الواو" يمكنه أن يكون أداة وصل أو فصل)، وكذلك وجود حروف تتشابه في رسومها (مثل حرف "الرّاء" و"الدّال")، وغياب نظام واضح ودقيق لأزمنة الأفعال. والأخطر من ذلك، النصّ العبري الأصلي لم يكن يشتمل لا على حركات ولا على تنقيط (لقد أضيفت العلامات الصّوتيّة في القرون الوسطى من طرف الماسوريّين، أولئك الذين يسمّيهم سبينوزا "رجال من زمن متأخِّر لا يجب أن يكون لسلطتهم أيّ قيمة في نظرنا"، وذلك بحكم أنّ إضافاتهم لا تعكس إلاّ تأويلاتهم الشّخصيّة للنّصوص المقدّسة").
بالأخير، تبقى الصّعوبة الأكبر المتمثّلة في إعادة بناء بكلّ دقّة الظّروف التي أحاطت بهذه الكتابات القديمة. فنحن لا نعرف شيئا أو بعض المعلومات الجزئيّة والمشكوك فيها بخصوص معظم مؤلِّفي النّصوص المقدّسة. فمنزلتهم الإجتماعيّة، وآراؤهم السيّاسيّة وكذلك جمهورهم، كلّ هذا لا يمكن استشفافه إلاّ على أرضيّةٍ قائمة على قرائن هزيلة. أمّا بسيكولوجيّتهم فهي غريبة عنّا تماما، ولا مندوحة لنا إلا أن نقوم بتخمينات بخصوص الأسباب التي دفعت بهم إلى الكتابة.
يختم سبينوزا بالقول أنّ كلّ هذه العوائق والصّعوبات هي "كبيرة إلى درجة أنّني أجرؤ على التّأكيد على أنّه من الضّروري معرفة كيفيّة تجاهُل المعنى الحقيقي لكمّ هائل من مقاطع النّصوص المقدّسة، وذلك إذا ما أردنا أن نتجنّب اللّجوء إلى التّخمينات الباطلة"(13).
****
إنّ مسار "تطبيع" الكتب المقدّسة الذي انخرط فيه سبينوزا وكذلك مقاربته التّاريخيّة لتفسير البيْبل، بالرّغم من أنّهما بقدر مّا يُخفِّضان من قيمة البيْبل، إلاّ أنّهما لا يقترحان تجريده من كلّ سلطته. بل بالعكس، فسبينوزا يرى أنّ من يحتكِر البيْبل هم أولئك الذين يركّزون جهودهم أكثر ممّا ينبغي على أقوال الكتب المقدّسة وليس على رسالاتها. فالدّيانات الطّائفيّة، وهي تحمل راية أسطورة الأصول ما فوق طبيعيّة للبيْبل، عزَّزت عبادة الألفاظ المُحَبَّرة على الورق عوضا عن التّعاليم الأخلاقيّة التي كان مؤلِّفوها يأملون تبليغها. وهذا، حسب سبينوزا، هو ضرب من الوثنيّة: "فعوض أن يعبد النّاس كلام الله، فإنّهم سينصرفون إلى عبادة الأوهام، والصُّور [والأيقونات]، أو الحِبْر والورق"(13).
في الواقع، إنّ السّلطة الحقيقيّة للكتب المقدّسة، ناهيك عن ألوهيّتها نفسها، تكمن فقط في محتواها الأخلاقي:
"لم تتبقَّ لنا إذا إلاّ وسيلة واحدة لمعرفة الطّبيعة الألهيّة للكتب المقدّسة وهي التي تتمثّل في إظهار أنّها تُعلِّم الفضيلة الحقيقيّة. وأنّ الكتابات المقدّسة قادرة لوحدها على أن توفِّر لنا الأدلّة في هذا الصّدد، وإذا لم تكن قادرة على ذلك فإنّها سوف تفقد حقّها في الحصول على ثقتنا، ولن تكون ألوهيّتها إلاّ مجرّد أحكام مُسبَقة"(14).
ما يجعل شيئا مّا إلاهيّا ليس أصله المزعوم على أنّه عمل من أعمال الرّب (وهذا برهان سبينوزي بامتياز إذ أنّ تماهي الرّب مع الطّبيعة الطّابعة يعني أنّ الرّب هو علّة كلّ شيء).
في الحقيقة، لا يكون شيء مّا إلاهيّا إلاّ فقط عندما يحثّ الكائنات البشريّة نحو العمل وفق العدل والعطف، إلاّ عندما يقود العباد إلى محبّة الرّب ومحبّة الآخرين من أمثالهم، إذ: "يُطلَق لفظ (مقدّس) ولفظ "إلهي) على كل ما يؤدّي إلى التّقوى وإلى الدّين، ولا يظلُّ الشيء مُقدّسًا إلَّا إذا استمرَّ النّاس في استخدامه على نحوٍ دينيّ"(15). وبالتّالي، فإنّ إلاهيّة الكتابات المقدّسة لا يجب أن تُقام إلاّ لأنّه "تُعلِّم الفضيلة الحقيقيّة". إنّ سبينوزا يعتقد حقّا أنّ البيْبل يقدِّم، في هذا الصدد، شيئا مّا خاصّا به. فالبيْبل، بحكم تفوّقه الأخلاقي وموهبة الخيال التي يتمتّع بها مؤلِّفوه الأنبياء، وإذا ما قرئ بشكل صحيح، هو حقيقة بلا منازع سيّد الفضيلة والتّقوى.
بهذه الطّريقة يُنسِّب سبينوزا كلّ ما هو مقدّس في البيْبل. ليس هناك أيّ شيء مقدَّس أو إلهي "في ذاته" في معنى مطلق، ولكن فقط "في علاقته بالرّوح". فكتابٌ مّا، في حدّ ذاته، هو مجرّد كتاب لا غير. فإذا فقدت الكتب المقدّسة فاعليّتها الأخلاقيّة لقيادة النّاس نحو اخلاصهم في عبادة الرّب، ونحو محبّة أقربائهم، فإنّها لن تكون حينئذ إلاّ كتبا كأي كتب أخرى: "مجرّد حبْر وورق [...] مُدنّس تُرِك لتعبث به أيادي التّحريف والفساد"(16). (وبالمقابل، فإنّ قراءة البيْبل، مثلها في ذلك مثل المعرفة البسيطة بالكتب المقدّسة بدون أيّ فهم لرسالتها الأخلاقيّة التي هي غير كافية لكي يبلغ النّاس الغِبطة، ليست ضروريّة لكي يدرك النّاس درجة التّقوى والفضيلة الدّينيّة التي يمكن لأيّ أحد التوصّل إليهما بدون أن يكون قد سمع بهما من قبل: "كلّ مَن لم يعرف الكتب المقدّسة بأيّ شكل من الأشكال، ولكن كان عقله مليئا بالمعتقدات السّليمة ويكون سلوكه محكوما بالعقل، فإنّ هذا الشّخص هو حقيقة شخص نال الغبطة"(17).
ولهذا السّبب، يُلِحّ سبينوزا، في حجّة من حججه الأكثر جرأة التي أجّجت ولا شكّ غضب ناقديه، على أنّ كلّ كتاب يمكن أن يُعتَر كتابا إلاهيّا ما دامت رسالته صحيحة وبُلِّغت بكلّ نجاعة: "[...] كلّ الكتب التي تحتوي على قصص وتعاليم ذات أخلاق جيّدة، ومهما كانت اللّغة التي كُتِبت فيها، ومهما كانت الأمم التي نجدها عندها، هي أيضا كتب مقدَّسة"(18). وهكذا، فإنّه من الصّحيح دائما، وبمعنى من المعاني، اعتبار الرّب بمثابة "مؤلِّف البيْبل: وذلك بطبيعة الحال لأنّه يُعلِّم الدّين الحقيقي"(19). غير أنّ كلام الرّب، من حيث المبدأ على الأقلّ، يمكن أن نعثر عليه في كتب عديدة. فلا يوجد إذن أيّ داعٍ لكي يحتكِر كتابٌ أدبيّ بعينه، كتبه العبرانيّون منذ آلاف السّنين، تَعليمَ الدّين الحقيقي.

(يتبع)
-------------------
هوامش
(1) الرّسالة، مرجع سابق، حنفي، ص 252.
(2) نفس المصدر، حنفي، بتصرّف، ص 255.
(3) نفس المصدر، حنفي، بتصرّف، ص 254.
(4) نفس المصدر، حنفي، بتصرّف، ص 254.
(5) نفس المصدر، التّرجمة من عندنا.
(6) نفس المصدر، ص 255.
(7) أنظر:
Disputationes Theologiae prior refutatoria libelli de philosophia Interprete -script-urae (1667), III, p. 11 Preus, J. Samuel. 2001. Spinoza and the Irrelevance of Biblical Authority. Cambridge: Cambridge University Press, p. 94-98.
بطبيعة الحال كان ماريسيوس يكتب ضدّ رأي ماير في الموضوع.
(8) الرّسالة، حنفي، ص 253.
(9) رسالة 19، ص 270؛ مرجع سابق.
(10) الرّسالة، حنفي، ص 253.
(11) نفس المصدر السّابق، حنفي، ص 256.
(12) نفس المصدر السّابق، التّرجمة من عندنا. حسن حنفي يلخّص هذه الفكرة المهمّة تلخيصا يكاد يُشوِّهها، ص 264. ولذلك فضّلنا أن نعيد لها قدر المستطاع بعضا من دقّتها.
(13) نفس المصدر، الترجمة من عندنا. عند حنفي، ص 346.
(14) نفس الصدر، التّرجمة من عندنا.
(15) المصدر السّابق، حنفي، ص 347.
(16) نفس المصدر، التّرجمة من عندنا.
(17) نفس المرجع، التّرجمة من عندنا.
(18) نفس المصدر، التّرجمة من عندنا.
(19) نفس المصدر، التّرجمة من عندنا.



#ناصر_بن_رجب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كتاب صُنِع في الجحيم(18)
- كتاب صُنِع في الجحيم(17)
- كتاب صُنِع في الجحيم(16)
- كتاب صُنِع في الجحيم(15)
- كتاب صُنِع في الجحيم(14)
- كتاب صُنِع في الجحيم(13)
- كتاب صُنِع في الجحيم(12)
- كتاب صُنِع في الجحيم(11)
- كتاب صُنِع في الجحيم(10)
- كتاب صُنِع في الجحيم(9)
- كتاب صُنِع في الجحيم(8)
- كتاب صُنِع في الجحيم(7)
- كتاب صُنِع في الجحيم(6)
- كتاب صُنِع في الجحيم(5)
- كتاب صُنِع في الجحيم(4)
- كتاب صُنِع في الجحيم (3)
- كتاب صُنِع في الجحيم (2)
- كتاب صُنِع في الجحيم (1)
- رَبُّ القَبائل، إسلام محمّد
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (14)


المزيد.....




- “خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم ...
- فيديو خاص عيد الفصح العبري واقتحامات اليهود للمسجد الأقصى
- “ثبتها الآن” تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah لمشاهدة ...
- بعد اقتحامات الأقصى بسببه.. ماذا نعرف عن عيد الفصح اليهودي ا ...
- ما جدية واشنطن في معاقبة كتيبة -نيتسح يهودا- الإسرائيلية؟
- بالفيديو.. مستوطنون يقتحمون الأقصى بثاني أيام الفصح اليهودي ...
- مصر.. شائعة تتسبب في معركة دامية وحرق منازل للأقباط والأمن ي ...
- مسئول فلسطيني: القوات الإسرائيلية تغلق الحرم الإبراهيمي بحجة ...
- بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري ...
- أسعدي ودلعي طفلك بأغاني البيبي..تردد قناة طيور الجنة بيبي عل ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ناصر بن رجب - كتاب صُنِع في الجحيم(19)