أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ناصر بن رجب - كتاب صُنِع في الجحيم(17)















المزيد.....


كتاب صُنِع في الجحيم(17)


ناصر بن رجب

الحوار المتمدن-العدد: 7194 - 2022 / 3 / 18 - 21:07
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


محنة سبينوزا ونشأة العَصر العَلماني


الفصل السّادس
الكُتُب المقدَّسة
(قسم 4)


عندما ظهر عرض سبينوزا لفلسفة ديكارت "مبادئ فلسفة ريني ديكارت، الباب الأوّل والثّاني" كان الكتاب مصحوبا بتصدير كتبه أحد أعزّ أصدقائه لودفيك مايِرْ. لقد كان ماير، الذي يكبر سبينوزا بقليل، لُوثيرِيّاً ولو أنّ ورعه كان بالتّأكيد محدودا. وقد كان يكرِّس معظم طاقته لمسائل الفكر والفُنون. وكان حائزا على ديبلوم في الفلسفة والطّب من جامعة ليدن، ونشر في بداية الستّينات من ذلك القرن العديد من مقاطع شعريّة ومسرحيّات من تأليفه. سيُصبِح بين عاميْ 1665 و1669 مديرا للمسرح البلدي لآمستردام ومؤسِّسا لشركة الدّراما والأدب التي أُطَلق عليها اسم (Nil Volentibus Arduun)، بمعنى "لا شيء يَصعُب على مَن لهم إرادة"، أو [الإرادة تُذلِّل الصّعاب].
ومع هذا، وفي عام 1663، لم يكن ماير إلاّ مجرّد واحد من أطبّاء آمستردام يُنمّي اهتمامه بعض الشّيء بالفلسفة. وقد كتب تصديرا لأوّل كتاب نشره سبينوزا وذلك بهدف لَفْت انتباه الجمهور لطبيعة غاية صديقه المحدَّدة، والتي تتمثّل في تقديم المبادئ الميتافيزيقيّة والإبستيمولوجيّة الجوهريّة لفكر ديكارت، وتحذير القارئ بألاّ يخلط بين محتوى هذا الكتاب وفلسفة المؤلِّف نفسه [أي سبينوزا]:
"أريد الإشارة قبل كلّ شيء إلى أنّ رغبة مؤلِّفنا لا تتعدّى في كامل مؤلَّفه [...] التّنصيص على أفكار ديكارت وبراهينها كما هي موجودة في كتاباته أو كما يمكن استنباطها بإحكام من مبادئ مسلَّمٍ بها [...]، فلا تظنّوا إذن أنّه يصدع هنا بأفكاره الشّخصيّة أو بأفكار يُسلِّم بها"(1).
يبدو أنّ سبينوزا كان ينوي تخصيص عرض مبادئه الخاصّة به لكتابه الأخلاق الذي كان يشتغل فيه، تزامنا مع تأليفه لهذا البيان الدّيكارتي، والذي لن يُنشَر إلاّ بعد وفاته، وبالتّزامن أيضا مع كتابة الرّسالة في اللّاهوت والسّياسة (غير أنّ ماير لم يكن باستطاعته معرفة ذلك).
ومع ذلك، لم تكن نيّة ماير تقتصر فقط على إعداد أفكار سبينوزا للنّشر، إذا كان يمتلك مفاهيمه الفلسفيّة الخاصّة به التي كان الكثير من نقّاد تلك الفترة يعتبرونها قابلة للنّقاش بعض الشّيء. بعد ثلاث سنوات من كتابته تصدير كتاب سبينوزا، نشر ماير في آمستردام كتابا بعنوان "الفلسفة، تأويل الكتب المقدّسة" (Philosophia S. Sciptures)، والتي ستظهر نسختها النييرلنديّة في السّنة اللّاحقة؛ وهو يقدّم فيه اقتراحا راديكاليّا يقضي بأن تكون الفلسفة، أو العقل، حجر الزّاوية في تأويل البيْبل. فالفلسفة، في نظر ماير، ليست خادمة الدّين، المُجبَرة على مواءمة استنتاجاتها لكي تتطابق مع العقيدة اللّاهوتيّة والكلام الحرفيّ للبيْبل؛ بالعكس، يجب بالأحرى على الكتب المقدّسة أن تَخضَع للفلسفة وتُلبّي احتياجاتها. بالفعل، الحقائق المُعلَنة في الكتب المقدّسة يتمّ إدراكها فقط بالعقل البشري دون الحاجة للّجوء إلى أيّ فعل آخر من أفعال الوحي الرّبّاني.
يُفرِّق ماير في كتابه هذا بين "المعنى البسيط" لجملَة مّا (أي، ما تعنيه حرفيّا وبالضّبط عندما تُقرَأ ألفاظها حسب الاستعمال الشّائع)، و"معناها الحقيقي" (بمعنى، ما ينوي كاتب الجملة تبليغه)، وبين "الحقيقة ذاتها" (أي، مدى مطابقة معنى الجملة مع الواقع). فالكتّاب غالبا ما يُفصحون عن أفكارهم باستخدام ألفاظ بالمعنى المجازي، وفي مثل هذه الحالات فإنّ "المعنى الحرفي" سيختلف عن "المعنى الحقيقي"، بمعنى أنّها ستكون مختلفة عن "الأفكار والمفاهيم الحاضرة في ذهن ذاك الذي صاغ هذه الجملة". وليس لأنّ مؤلِّفاً مّا بمجرّد أنه يقول (أو يريد أن يقول) أنّ هذا الشيء يعني كذا أو كذا، يكون ذلك بالضّرورة صحيحا، وأنّ هذه الجملة التي يقولها عن ذاك الشيء "هي مطابقة للحقائق كما هي موجودة في واقعٍ مستقلٍّ عن فَهْم المُرسِل"(2). فالمعنى الحرفي للجملة "اللّه ربّ العالمين" يمكن أن يكون مختلفا تماما عن المعنى الذي كان مُرسِله يريد تبليغه (الله قويّ عزيز). أمّا معرفة إمكانيّة تحديد ما إذا كانت الجملة صحيحة أم لا، فهذا بطبيعة الحال شأن آخر.
هذا التّمييز الثّلاثي الأطراف [أي بين "المعنى البسيط" و"المعنى الحقيقي" و"الحقيقة ذاتها"] ينسحب على كلّ أقوال البشر وعلى كلّ الأعمال المكتوبة تقريبا ... إلاّ البيْبل. فالمعنى الحقيقي لكلّ جملة، في حالة البيْبل، يكون بالضّرورة مطابقا للواقع، وذلك لأنّ مؤلِّف الكتب المقدّسة هو كائن عَلِيمٌ [كُلِّيّ العِلْم]، وقَدِيرٌ [كُلّيّ القدْرة]، وحَكيمٌ، وهو الحقُّ في ماهيته: بمعنى، الرّبّ "الذي لا يُمكِنه أن يَخْدَعَ، ولا يمكنه أن يَنْخَدِعَ". وعليه فإنّه من غير المعقول ألّا يكون قولٌ بلّغه الرّب من خلال جملةٍ مّا الحقيقة المطلَقة:
"مؤلِّف الكتب المقدّسة هو الرّب بنفسه، الذي يستعين بالكَتَبة آحِذا بأيديهم، إن صحّ التّعبير، ليقودهم على طريق الحقيقة، و"الرّوح الحقّ" كان دوما حاضرا في هؤلاء الكَتَبة، ولذلك فهم معصومون، لا يمكن أن يحوم حولهم ولو أدنى شكّ في التّزييف والخطأ. وبالتّالي، من المؤكَّد مطلقا أنّ كلّ ما هو مدوَّن في الكتب المقدّسة لا يحتوي على أيّ شيء آخر سوى الحقيقة المحض، الخالية تماما من أيّ تدنيس للتّزييف والخطأ. وبناء على ذلك، فإنّ الدّلالات الحقيقيّة للأقوال الإلهيّة تكون دائما وأبدا في تناسق مع الحقيقة(3).
بالنّسبة للكتب المقدّسة، كلّ معنى حقيقي يكون بالضّرورة حقيقةً. من جهة أخرى، وبما أنّ الرّب لامتناهي من حيث العقل والقدرة، وعاجز عن المكر والخداع، فليس هناك أيّ موجِب لكي تكون كلّ جملة من جُمَل الكتب المقدّسة أُحاديّة المعنى ولا تحتوي إلاّ معنى حقيقي وحيد. وكلّ الحقائق المعبَّر عنها بمثل هذا الإتقان في كلّ مقطع من البيْبل يجب احتسابها من بين دلالاته الحقيقيّة والمقصودة. فالرّب قادر على أن يجمَع في جملة واحدة كلّ ما يشاء من الحقائق، وكلّها ستكون وسائل فعّالة ومشروعة لتأويل تلك الجملة:
"فبما أنّ القارئ أو السّامِع لا يجد في الكتب المقدّسة حقائق لم يقرِّر عقل الرّب أن يجدها فيها، وهذه هي بالفعل ما أراده الرّب، وبما أنّ القارئ أو السّامِع يمكنه أن يلتقي بكلّ هذه الحقائق، ينتج عن ذلك أنّ الرّب كان قد أراد لها كلّها عن قصد أن تكون موجودة في هذا المقطع من البيْبل، وبالتّالي فهي تحتوي أيضا على دلالات حقيقيّة"(4).
يستخلص ماير من هذا التّفسير لمؤلِّف الكتب المقدّسة وطبيعتها أنّ الفلسفة هي "المعيار والقاعدة لتأويل الكتابات المقدّسة والحكم عليها"(5). فلكي نُثبِّت المعنى الحقيقي لمقطعٍ مّا من هذه الكتابات، يجب علينا أن نُحدِّد ما هو المعنى الحقيقي المُبَرهَن من بين المعاني الممكِنة، وكذلك أنّ تحديد هذا المعنى الحقيقي والمبرْهَن هو بالضّبط مهمّة الفلسفة. ومفهوم "فلسفة" عند ماير ليس هو النّظام الفلسفي الخاصّ بهذا المفكِّر أو ذاك، سواء كان أفلاطون، أو أرسطو، أو حتّى ديكارت، بل هو العقل نفسه، أي ملَكَتنا العقليّة على اكتشاف ما هو حقيقيّ وما هو مزيَّف وذلك من خلال برهنات صارمة. الرّب هو صانِع الكتب المقدّسة وهو أيضا صانع العقل البشري؛ وبالتّالي، فإنّ ما تقوله الأولى وما يقوله الثّاني يجب أن يكون حقيقيّا ومتجانسا عند كلا الطّرفيْن. يعتقد ماير، مثل الكثير مِمّن سبقه من الفلاسفة، أنّ "الحقيقة يستحيل عليها أن تكون نقيضة نفسها".
وعلى هذا النحو، تكون الفلسفة، في رأي ماير، هي "المعيار المؤكَّد والمضمون سواء لتأويل الكتب المقدّسة أو لتحليل مختلف تفسيراتها"(6). فكلّ تفسير للكتب المقدّسة الذي نقترح القيام به يجب أن يمرّ على محكّ العقل الموضوعي والمستقلّ والخضوع له. فإذا كان لدينا تفسير، مهما كانت صلابة استناده إلى النّص، لا يتّفق مع ما يمليه علينا العقل بكلّ وثوق، بمعنى آخر لا يتلاءم مع الحقيقة الفلسفيّة، حينئذ يجب علينا أن نرفض هذا التّفسير وندحضه. على سبيل المثال، العقل يقول لنا أنّ الرّب يستحيل عليه أن "ينْفَعِلَ" بفعل الأهواء والأحاسيس البشريّة، لأنّ ذلك سيكون متعارضا مع طبيعة كائن كامل ولامتناهي. وبالتّالي، فكلّ جملة في البيْبل تصف لنا ربّا غاضبا، أو حزينا، أو مُحْبَطا لا يجب علينا قراءتها قراءة حرفيّة: فالمعنى "البسيط" لا يمكن أن يكون هو "المعنى الحقيقي" للمَقطَع. في هذه الحالة بالذّات، لا يمكن اعتماد إلاّ التّأويل المجازي أو الاستعاري الذي من شأنه أن يسمح لنا أن نقرأ الجملة بطريقة لا تجعلنا نُطْلِق على الرّب إلاّ الصّفات التي يقبلها العقل على أنّها مطابقة للطّبيعة الإلهيّة. وعلى نحو مماثل، فإنّ الفلسفة أثبتت أنّ "لا شيء يأتي من لا شيء". وبناء عليه، فإنّ قصّة البيْبل عن خلق الرّب للعالَم مِن عدم لا يمكن أن نفهمها فهما حرفيّا. إذن، تتمثّل نظريّة ماير في أنّه "يجب تفسير أصعب نصوص الكتب المقدّسة من خلال الاستعانة بالفلسفة".
في الواقع، يذهب ماير إلى أبعد من ذلك، حيث يقول أنّ الكتب المقدّسة ليست ضروريّة، على وجه التّحديد، للكشف عن الحقائق الدّينيّة. بالفعل، بما أنّ الدّلالات الحقيقيّة للكتب المقدّسة هي حقائق واضحة وبسيطة، لذا فإنّ كلّ إنسان عاقِل يسطيع، من حيث المبدأ، اكتشافها كلَّها من تلقاء نفسِها دون أن يكون قد قرأها على الإطلاق. الكتب المقدّسة تُعلِّم الحقيقة بشكل جيّد، ولكن توجد وسائل أخرى للوصول إليها بشكل جيّد أيضا. إنّ وظيفة الكتب المقدّسة:
"تتمثّل فقط في إيقاظ قارئيها وحثّهم على التّمعُّن في المسائل التي تطرحها، إلى تحليلها وتحديد ما إذا كانت الوقائع [التّاريخيّة] مطابقة للرّوايات التي تعرضها عنها الكتب المقدّسة [...]. وظيفتها هي توفير الفرصة والموادّ اللّازمة التي تجعلنا نفكِّر في أشياء ربّما لولاها لما كنّا قد فكّرنا فيها على الإطلاق"(7).
يمكن للبيْبل أن يكون وسيلة فعّالة لكي يقودنا إلى أن نتفكّر، وأن نُصيغ تأمُّلات حقيقيّة حول الرّب، ولكنّ الفلسفة يمكنها هي أيضا أن تقوم بنفس هذا العمل الجيّد بذاتها، أي بدون اللّجوء إلى البيْبل.
ليس إذن من الغرابة في شيء أن يكون ماير قد أُدين بشدّة بسبب "بِدَعِه"، و"هرطقاته" التي عرضها في كتابه "الكافِر" و"الفاسِق". عام 1666، مباشرة بعد نشر الكتاب، ندّد مجمع الكنيسة الإصلاحيّة في هارليم بهذا العمل المحشُوّ "كُفْراً وتجديفاً"، في حين أنّنا نجد هذا الكتاب (philosophiam esse S. -script-urae interpretem) أي "الفلسفة كمُفسِّر للكتب المقدّسة"، من بين الأعمال التي أدانها صراحة عميد جامعة ليدن عام 1676. كان ماير على وعي تامّ بردّة الفعل التي سيُثيرها كتابه بدليل أنّه نشره دون أن يضع اسمه عليه. ستظهر عام 1674 طبعة لهذا العمل في مجلَّد واحد إلى جانب رسالة سبينوزا؛ ولمدّة طويلة سيعتَقد البعض أنّ سبينوزا هو المؤلِّف الحقيقي للكتابيْن. ونتيجة لذلك، ستظلّ هويّة الكاتب لغزا إلى غاية وفاة ماير سنة 1681.
كان قادة الكنيسة الإصلاحيّة قد غضبوا غضبا شديدا وذلك بالخصوص لشعورهم بأنّ حجَج ماير وبراهينه مَسَّت اعتقادهم بأنّ الكتاب المقدّس هو أساسُ مُبرِّرِ وجودهم ذاته (sola -script-ura)، وهي حجج وبراهين تفضَح مركز القوّة الذي يحتلّونه على أنّه غير منطقي ويمكن الطّعن فيه بكلّ سهولة. بالنّسب لرجال الدّين هؤلاء، كانت فكرة الاضطرار إلى اللّجوء إلى خارج الكتب المقدّسة للحصول على معيار مستقلّ للحقيقة، وبالخصوص معيار الفلسفة أو العقل العَلماني، فكرة لا تُطاق بنفس درجة الفكرة التي تقول بأنّ أيّ مقطع من هذه الكتابات ربّما يكون قد احتمل عدّة قراءات وكلّها مشروعة ولها ما يبرّرها، وبعضها كان عبارة على قراءات حرفيّة في حين كان بعضها الآخر يحتوي على معنى مجازي أو استعاري. لقد كانت الفكرة الشّائعة في تلك الفترة بين لاهوتيّي الإصلاح هي أنّ النّصوص المقدّسة لا تحتمل إلاّ معنى واحدا لا غير، أي المعنى الحرفي ("المعنى البسيط"، الذي يقول به ماير). فحتّى لوثر نفسه كان يؤكِّد على حقيقة أنّ "المعنى الحقيقي الرّئيسي، الذي توفِّره الألفاظ والحروف، هو وحده الكفيل بإفراز لاهوتيِّين جَيِّدين". وربّما يكون التّحليل النصّي، واللّغوي، والتّاريخي الهامّ ضروريّا لإخراج هذا المعنى "الرّئيسي" إلى النّور؛ أو، كما يرى كالفين، أنّ التّفسير الحرفي الصّحيح للنّصوص المقدّسة يمكنه أن يتطلَّب إلهاماً خاصّا من لدن "الرّوح القدس"؛ وهذا مفهوم كان ماير قد هاجمه أيضا وسَخِر منه. لكنّ لوثر كان على الأقلّ واضحا إذ يعتبِر أنّ "الأشياء المكتوبة في النّصوص المقدّسة حتّى وإن كانت تقصد معنى آخر إضافيّا، فهذا لا يعني مع ذلك أنّه يجب عليها أن تحمل معنى مُزدَوَجاً. بل بالعكس، يجب الإحتفاظ فقط بالمعنى الوحيد الذي تُحيل إليه الألفاظ [...]. إذ أنّنا نحصل على المزيد من اليقين والاطمئنان عندما نقتصِر على الألفاظ والمعنى البسيط ونتوقَّف عند حدودها"(8).
النظريّة التي اقترحها ماير لم تكن لا مُبْتَكَرة ولا مُجَدِّدة. على سبيل المثال، كان غاليليو يؤكِّد على هذه البراهين وهو يدافع على فكرة أنّ الثّورة الكوبيرنيكيّة لم تكن متضارِبة مع الكتب المقدّسة(9).وربّما يكون سبينوزا نفسه قد دافع بالفعل على هذا المفهوم في وقت مّا...في كتاب كان ماير قد كتب مقدِّمته! ففي كتابه "أفكار ميتافيزيقيّة"، الذي ظهر قبل بضع سنوات فقط من نشر كتاب ماير والذي قدّم فيه سبينوزا بعض الشّذرات من مفاهيمه الميتافيزيقيّة واللّاهوتيّة الخاصّة، فهو يلاحظ أنّ "الكتب المقدّسة لا تُعلِّم شيئا مُنافياً للنّور الطّبيعي"، ثمّ يلتمِس هذا المبدأ كقاعدة لتفسير البيْبل:
"ويكفي أن نحدِّد هذه الأشياء ببداهة تامّة حتّى نتبيَّن أنّ الكتب المقدّسة إنّما تُلقِّنها هي بالذّات؛ ذلك أنّ الحقيقة لا تُناقِض الحقيقة، ولا يمكن للكتب المقدّسة أن تُلقِّن حماقات كتلك التي تتصوّرها العامّة، إذ لو وجدناها متضمِّنة لبعض الأمور المناقضة للنّور الطّبيعي، لأمكننا رفضها بنفس الحريّة التي بها نرفض القرآن والتّلمود. لكنّنا ننأى بأنفسنا عن التّفكير في إمكان احتواء الكتب المقدّسة على أمور مناقضة للنّور الطّبيعي"(10).
إذا كان سبينوزا يطرح هنا "أفكاره" الخاصّة، يمكن أن يستهوينا القول بأنّ ماير كان قد استمدّ من سبينوزا تعاليمه في التّفسير قبل أن يغيّر هذا الأخير تغييرا كاملا رأيه في هذا الموضوع.
من المرجَّح أن يكون كتاب ماير قد أحدث تأثيرا عميقا في نفوس معاصريه، وذلك بالرّغم من أنّ الفيلسوف الكبير ابن ميمون ظلّ هو المدافِع الأبرز لهذا الصّنف من المقاربة العقلانيّة لتفسير الكتب المقدّسة، والذي كانت وجهة نظره قد أثارت، في القرون الوسطى، هجومات مريرة من قِبَل رابيّين ونقّاد من غير اليهود.
ففي كتابه "دليل الحائرين" يبذل ابن ميمون قصارى جهده لمحاربة التوجُّهات التجسيميّة للرّب التي يميل إليها النّاس العاديون، بل وحتّى العلماء. فالكائن اللّامتناهي، والأزلي يستحيل عليه أن يُشبِه أصلا في شيء المخلوقات المتناهية؛ ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال إقامة تماثل بين الكائنات البشريّة والرّب، كما أنّه يستحيل علينا أن نعرف الطّبيعة الإلهيّة انطلاقا من تصوّرات عن الطّبيعة البشريّة. وهذا ينسحب بطبيعة الحال على الجسم، ونجد العديد من فصول "دليل الحائرين" مخصّصة لنفي المفهوم القائل بأنّ الرّب يتمتّع بصفات جسديّة (أصابع، وجه، رِجْلان، إلخ). ثمّ إنّ ابن ميمون يرى كذلك أنّ الإدراك الحقيقي للرّب، كما ينبغي أن ندركه، يجب أن يُقصي عن الرّب الصّفات البسيكولوجيّة للنّفْس البشريّة كالغضب، والغيرة، والحسد أو أيّة حالات أخرى ذهنيّة كنّا قد استنبطناها فصارت عاديّة بالنّسبة لنا.
ومع هذا، نرى البيْبل، في عدّة مناسبات، يتحدّث عن الرّب من خلال عبارات مشحونة بدلالات بسيكولوجيّة وجسديّة. فهو يُخبِر القارئ بغضب الرّب، ونَدَمه وعفوِه، هذا الرّب الذي يجلس، ويستوي قائما، ويذهب ويجيء، بل هو أيضا يُبْصِر، ويسمع. فإذا اعتمدنا قراءة حرفيّة فإنّ هذه المقاطع ستُشجِّعنا، بل ستفرض علينا رؤيةً تجسيميّة للرّب. وكتاب "الدّليل" مرصود بالضّبط إلى معالجة هذا الصّنف من "الحيرة" التي يُولِّدها التّناقض الظّاهر بين العقل والإيمان.
يعتقد ابن ميمون أنّ التّفسير الحرفي لكتُب الأنبياء العبرانيّين يتطابق مع القراءة الأوّلية أو، إن صحّ القول، مع القراءة التّقليديّة. فإذا "نبا ذهن [المرء] عن فهم تأويل النّصوص" يجب علينا أن نختار له تفسيرًا مباشرًا وبسيطًا، كأن نقول له مثلا "هذا النصّ يَفهم تأويله أهل العِلْم"، أمّا أنت فيكفيك أن "تَعْلَم أنّ الله عزّ وجلّ ليس بجسم، ولا ينفعِل، لأنّ الإنفعالَ تَغَيُّرٌ، وهو تعالى لا يلحقه تغيُّرٌ...إلخ، ويُوقَفُ معه عند هذا القَدْر". ومع ذلك، فإذا كان مثل هذا التفسير ينتج عنه معنى لا يتوافق مع حقيقةٍ فلسفيّةٍ يمكن إثباتها، فيجب حينئذ اعتماد تأويل مجازي أو استعاري. وهكذا، فإنّ العقل يُخبرنا أنّ الرّب لا يمكن أن يكون له جسم. إنّ مبدأ "الرّب واحد" هو أهمّ مبدأ في الدّيانة اليهوديّة، بل هو حقيقة لاهوتيّة أساسيّة لكلّ عقيدة توحيديّة. وبإمكاننا أن نبرهِن بطريقة عقلانيّة ويقين مطلَق على أنّ الكائن الذي هو جوهريّا واحد، وهو وِحْدةٌ بسيطة، لا يمكن أن يكون جَسَداً: "[...] لأنّه لا تَوحيدَ إلاّ برفع الجسمانيّة، إذ الجسم ليس بواحد، بل مركَّب من مادّة وصورة، اثنيْن بالحدّ، وهو أيضا منقسٍم، قابل للتّجزئة"(11). فالقراءة لمقطع من النّصوص المقدّسة عندما تَنعَتُ الرّب بـ"لاحِقٍ من لواحِق الأجسام"، فهي تصطدم مع حقيقة فلسفيّة مُبرْهَنة، وبالتّالي، ولهذا السّبب، يجب رفضها رفضا باتّا. فكلّ إشارة لـ"عيْن" الرّب ينبغي قراءتها على أنّها إحالة على "سهره"، و"عنايته"، أو على "إدراكه العقلي"؛ وعندما يتكلّم حديث الأنبياء عن "قلْب" الرّب، يجب أن يُفهَم ذلك كإشارة لفكره أو رأيه (علماً أنّ ما يمثّل فكر الرّب ورأيه لا يمكن استقراؤه قياسا على الآراء والأفكار البشريّة.
من جهة أخرى، يجب علينا أن نقبل القراءة الحرفيّة لمقطَع مّا، حتّى ولو بدا ذلك غريبا، طالما أنّها لا تناقِض حقيقةً مُبَرْهَنةً. فمثلا، يرى ابن ميمون أنّه بالرّغم من اعتقاد بعض الفلاسفة (بمَن فيهم أرسطو) اعتقادا راسخا بقِدَم العالَم على جهة اللّزوم، فلا أحد، حتّى أرسطو نفسه (وابن ميمون يلحّ على ذلك)، قدّم لنا إلى الآن برهانا مُقنِعا على ذلك. ولهذا، فإنّ قراءة القصّة البيْبليّة عن الخلق قراءة مجازيّة ليس لها بالنّتيجة أيّ مبرّر لها:
"إنّ كون الإله ليس بجسم تَبَرْهَن، فيَلْزَم بالضّرورة أن يُتَأَوَّل كلُّ ما يُخالِف ظاهِرُه البرهانَ، ويُعلَم أنّ له تأويلاً ضرورةً. [لكنّ] قِدَم العالَم لم يتبَرْهَن، فلا ينبغي أن تُدْفَع النّصوص [يقع التّعسّف عليها] وتُتَأوَّل من أجل ترجيح رأي يمكن أن يُرَجَّح نقيضُه بضروب من التّرجيحات"(12).
يتمسّك ابن ميمون بهذا المبدأ العقلاني في التّأويل لأنّه، كما رأينا ذلك سابقا، كان يعتقد أنّ النبوّة، بيْبليّة كانت أم لا، هي في جوهرها إخبارٌ في شكل ملموس ومتخَيَّل لحقائق علميّة، وميتافيزيقيّة، وأخلاقيّة. فالنّبي هو كالحكيم [الفيلسوف] من حيث أنّ محتوى ما يصرِّح به يصل إليه في هيئة "فيْض عقْلي" أو من "فيْض إلهي". وبمعنى مّا، فإنّ أقوال الأنبياء هي من نفس الطّبيعة، وتنبَع من نفس المصادر وتمتلك نفس القيمة المعرفيّة مثلها في ذلك مثل الأقوال الفلسفيّة أو العقليّة. فالنّبيّ، كالفيلسوف، يَبْلُغ كمال مداركه النّظريّة أو العقليّة (الفرق بين الإثنيْن هو أنّ النّبيّ يبلغ أيضا الكمال في ملكته المُتخيِّلَة). ونتيجة كلّ هذا أنّ ما يُخبِر به النّبيّ هو، في جوهره، المعرفة العقليّة، وهكذا يكون العقل هو المفتاح لتأويل الكتب النبويّة.
(يتبع)
-------------------
هوامش
(1) مبادئ فلسفة ديكارت، مرجع سابق، ص 15.
(2) أنظر: (التّرجمة من هذا المصدر كلّها من عندنا)
Meyer, Lodewijk. 2005. Philosophy as the Interpreter of Holy -script-ure. Trans. Samuel Shirley. Milwaukee, WI: Marquette University Press, p. 44-45.
(3) ماير، المرجع السّابق، ص 93.
(4) نفس المرجع السّابق، ص 97.
(5) نفس المصدر، ص 105.
(6) نفس المصدر، ص 113.
(7) نفس المصدر، ص 238-239.
(8) أنظر:
Luther, Martin. 1989. Basic Theological Writings. Ed. Timothy F. Will. Minneapolis: Fortress, p. 78-79.
(9) أنظر الرّسالة التي بعث بها غاليليو إلى كريستين دي لورين، الدّوقة الكبرى لمقاطعة توسكانا:
Galileo Galilei. 1989. The Galileo Affair: A Documentary History, ed. Maurice A. Finocchiaro. Berkeley and Los Angeles: University of California Press, p. 89-93.
(10) أفكار ميتافيزيقيّة، مرجع سابق، بتصرّف، ص 159.
(11) دليل الحائرين، مرجع سابق، ج 1، فصل 35، ص 83.
(12) نفس المصدر، ج 2، فصل 25، ص 350.



#ناصر_بن_رجب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كتاب صُنِع في الجحيم(16)
- كتاب صُنِع في الجحيم(15)
- كتاب صُنِع في الجحيم(14)
- كتاب صُنِع في الجحيم(13)
- كتاب صُنِع في الجحيم(12)
- كتاب صُنِع في الجحيم(11)
- كتاب صُنِع في الجحيم(10)
- كتاب صُنِع في الجحيم(9)
- كتاب صُنِع في الجحيم(8)
- كتاب صُنِع في الجحيم(7)
- كتاب صُنِع في الجحيم(6)
- كتاب صُنِع في الجحيم(5)
- كتاب صُنِع في الجحيم(4)
- كتاب صُنِع في الجحيم (3)
- كتاب صُنِع في الجحيم (2)
- كتاب صُنِع في الجحيم (1)
- رَبُّ القَبائل، إسلام محمّد
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (14)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (13)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (12)


المزيد.....




- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...
- شاهد..المستوطنين يقتحمون الأقصى في ثالث أيام عيد -الفصح اليه ...
- الأردن يدين سماح شرطة الاحتلال الإسرائيلي للمستوطنين باقتحام ...
- طلاب يهود بجامعة كولومبيا: مظاهرات دعم فلسطين ليست معادية لل ...
- مصادر فلسطينية: أكثر من 900 مستعمر اقتحموا المسجد الأقصى في ...
- مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى تحت حراسة إسرائيلية مش ...
- سيبدأ تطبيقه اليوم.. الإفتاء المصرية تحسم الجدل حول التوقيت ...
- مئات المستوطنين يقتحمون باحات الأقصى في ثالث أيام عيد الفصح ...
- أوكرانيا: السلطات تتهم رجل دين رفيع المستوى بالتجسس لصالح مو ...
- “خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ناصر بن رجب - كتاب صُنِع في الجحيم(17)