أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ناصر بن رجب - كتاب صُنِع في الجحيم(5)















المزيد.....


كتاب صُنِع في الجحيم(5)


ناصر بن رجب

الحوار المتمدن-العدد: 7149 - 2022 / 1 / 30 - 02:00
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


محنة سبينوزا ونشأة العَصر العَلماني


الفصل الثالث

رسفيّيس [Rasphaïs]

في القرون الوسطى، كان جزء من سور آمستردام الخارجي تُحيط به قناة، أُطلِق عليها اسم "سينغل" [Singel]، أي الحزام، كانت عبارة على خندق عريض يحمي المدينة من الغرب، والجنوب والشّرق. في أواسط القرن السّابع عشر، أهّلت البلديّة مناطق المستنقعات المحيطة بالمدينة حتّى يمكن لها توطين سكّان ما انفكّ عددهم يتزايد باستمرار؛ وبهذا تكون قناة سينغل أوّل قناة من عدّة قنوات دائريّة متتالية مشكِّلة سلسلة طويلة من الأحزمة المائيّة حول الأحياء الغنيّة.
تنطلق قناة سينغل من خليج نهر هاي، وهي تجري اليوم على امتداد نصف دائرة مارّة بمحاذاة سوق الزّهور في آمستردام والحيّ الأحمر الشّهير. قبل أن تجتاز حيّ مونتبليْن بقليل والارتماء في نهر آمستيل، تمرّ على طول شارع ضيّق يُسمّى هايليغويع (Heiligeweg). هذا الشّارع، من سنة 1596 إلى منتصف القرن التّاسع عشر، عرف نوعا مّا بعضا من الشهرة من حيث أنّه كان يَأوي إصلاحيّة آمستردام (سجن الأحداث). هذه الإصلاحيّة، التي حلّت محلّ الدِّير القديم لراهبات أخوات كلاريس الفقيرة الذي طهَّره الكلفانيّون، المعادون للأيقونات في القرن السّادس عشر من كلّ آثار الكاثوليكيّة، وهو عبارة على مبنى كبير ومستطيل له باحة داخليّة كانت تشرِف على كلّ المنازل المحيطة به، هذا إذا صدّقنا ما تُظهِره خرائط تلك الفترة.
للوصول إلى الباحة الدّاخليّة لهذا السّجن كان من الضّروري العبور من مدخليْن. المدخل الخارجي كان مغطّى بنقوش من القرن السّادس عشر نحتها الفنّان هيندريك كيزر الذي كان يُكنّى بـ"ميكيل-أنجيلو آمستردام"، وهذه النّقوش كانت تمثّل سائق عربة ممتلئة بالحطب شاهرا سوطه على أُسود وحيوانات برّية أخرى كانت تجرّ المَوكِب. نُحِتَت على الرّخام فوق هذه اللّوحة عبارة للفيلسوف لوكيوس سينيكا (Seneca) باللّغة اللاّتينيّة: "جوهر الفضيلة هو ترويض تلك الأشياء التي يخافها الجميع" (Virtutis est domare quae cuncti pavent). في نهاية القرن السّابع عشر وفوق هذه العبارة وُضِع مجموع ضخم من النّحوت يمثِّل "عذراء آمستردام" حاملة درعها المزخرف بشعار المدينة وهي تكبح جماح سجينيْن مُكَبّليْن بالسّلاسل، وتحتها مباشرة كُتِب الشّار "عقوبة تأديبيّة" (Castigatio).
في الواقع، لم تكن الإصلاحيّة قد صُمِّمت في الأصل كسجن تُطبَّق فيه العقوبات التّأديبيّة ولكن كمأوى للإصلاح الأخلاقي وتربية روحانيّة ثانية. فالوثيقة التّأسيسيّة لهذه المُنشَأة تنصّ على أنّ الغاية هي: "عدم تسليط عقاب مؤلِم ولكن تحسين وضعيّة أولئك الذين لا يفهمون فائدة مثل هذا التّحوّل ويسعون لتفاديه، وإعادة تأهيلهم". كان القصد من ذلك تلقين الفضيلة للحَضَريّين الذين يحيدون عن الصّراط المستقيم وبالخصوص منهم: "الشّباب الذين يختارون طريق الضّلال ويمدّون رقابهم لحبل المشنقة، وذلك لإنقاذهم والسّير بهم نحو عمل شريف، ممارسين مهنتهم في كنف خشية الرّب". في أواسط القرن السّابع عشر، تغيّر الوضع وأصبحت الإصلاحيّة صراحة مجرّد سجن مخصّص للمجرمين والمنحرفين من جميع الأصناف المحكوم عليهم بالأشغال الشاقّة. فقد حُشِر بين جدرانها اللّصوص، والشحّاذون، ومدمِنو الكحول، والأزواج العنيفون والقَتَلة. لم تكن إدارة السّجن تفرّق أبدا بين أعمار المحكوم عليهم ولا بين طبيعة الجرم الذي اقترفوه. في عام 1650 كان السّجن يحتوي على أكثر من مائة سجين، نجد من بينهم المجرمين العنيفين إلى جانب آخرين غير عنيفين، ولصوصا نشّالين من الأطفال والشّباب وأيضا أشخاصا لم يسدّدوا ديونهم، وبعض هؤلاء السّجناء لم يتجاوزوا سنّ العاشرة. النّساء فقط (بما فيهنّ البغايا) لم يشملهنّ هذا السّجن، فقد خُصِّصت لهنّ إصلاحيّة مُنفرِدة.
كان أهل آمستردام وعديد السيّاح الأجانب (لأنّ الإصلاحيّة كانت معْلَما يجذب الزوَّار)، يعرفون هذا المبنى تحت اسم "رسفيّيس [Rasphaïs]"، وهي كُنيَة مستقاة من إحدى المهامّ الرّئيسيّة الموكولة للمساجين التي تتمثّل في بَشْرِ (Raspen) جذور البِرنَمبوكا أو خشب البرازيل للحصول على النِّشارة. وكان ذلك عملا مرهِقا يتمّ بواسطة منشار ثقيل متعدِّد الأنصال.
غير أنّ السّجن لم يتخلَّ عن هدفه الأصلي في البناء والإنشاء: لقد كان العمل اليدويّ يُعتَبَر نافعا لروح المجرِم، إذ أنّنا نجد على الباب الدّاخلي المفضي إلى السّاحة نحتا بالحجْم الحقيقي يمثّل سَجينيْن أنصاف عرايا يبشُران الخشب. (أمّا سجن النّساء فقد كان يُعرف تحت اسم spinnen، بمعنى "غَزَلَ"، فغزل الصّوف كان يُفتَرَض أنّه يُحدِث تأثيرا إيجابيّا في شخصيّة السّجينات). وكان أيضا للعمل الشّاق، الذي يقوم به سجناء الإصلاحيّة، فضيلة أخرى من نوع اقتصاديّ، لأنّ مدينة آمستردام كانت قد فوَّضت للمؤسَّسة السِّجنيّة احتكار مسحوق البرنمبوكا الذي كان يُستَعمَل لإنتاج الأصباغ الملوَّنة المرصودة لصناعة النّسيج.
لم يكن بَشْر الخشب إلاّ واحدة من مختلف الأشغال الشّاقّة المسلّطة على المساجين. فإدارة الإصلاحيّة لم تكن تتورّع عن تطبيق وسائل أكثر قساوة مثل حرمانهم من الطّعام، واللّجوء إلى العقوبات الجسديّة (بالخصوص الجَلْد بالسّياط)، وحتّى استخدام التّعذيب المتواصِل.
****
في سبتمبر/أيلول 1668، نجد من بين المسجونين الأسوأ حظّا القابعين في زنزانات الإصلاحيّة، أدريان كورباخ (Adriaan Koerbagh) المحامي والطّبيب البالغ من العمر خمسة وثلاثين عاما والذي كان يسكن شارع Oude Nieuwstraat. كان كورباخ، المنحدر من عائلة محترَمة وميسورة الحال نوعا مّا (اشتغل أبوه في تجارة الحبوب)، ينتمي، على الأقلّ اسميًّا، للكنيسة النييرلنديّة الإصلاحيّة(1). لقد تلقّى كورباخ عقوبة قاسية بشكل خاص وذلك جرّاء دخوله في نزاع مع السُّلط الدّينيّة والمدنيّة. فلم يسعفه الحظّ لكي يعيش طويلا حتّى يُقضِّي أكثر من عُشُر العقوبة المحكوم بها عليه، وذلك لأنّه من ناحية لم يكن معتادا على ظروف السّجن الصّعبة جدّا ومن ناحية أخرى من المرجّح أنّه كان مصابا بمرض مّا عند التّصريح بالحكم.
قبل ذلك بعاميْن، كان أدريان وأخوه الأصغر يوحنِّس، الواعظ في الكنيسة الإصلاحيّة، قد خضعا لاستنطاق من طرف مجلس آمستردام الكَنَسيّ؛ إذ كان يُنسَب بحقّ ليوحنّس أراء خارجة عن التّقليد بل هي من الزّندقة، في حين رُمِي أخوه أدريان بالكفر والفجور وبحياة ماجنة لا سيما وأنّه أنجب طفلا خارج الزّواج. استجوب أعضاء المجلس الكنسي يوحنِّس دون كلل أو ملل بخصوص معتقداته الدّينيّة وحثّوا أدريان على التخلّي عن سلوكه اللّاأخلاقي. ومع ذلك، لم يتّخذ المجلس أيّ إجراء ضدّ الأخويْن مع أنّهما ظلّا محلّ ريبة وشكّ. في فيفري/شباط 1668، وفي نفس الفترة التي استُدعيَ فيها مرّة أخرى يوحنّْس للوقوف أمام أعلى مراتب رجال الكنيسة للتّحقيق معه حول أفكاره المضادّة لعقيدة التّثليث، كان أدريان يواصل انحداره نحو الهاوية وذلك بنشره كتابا بعنوان "حديقة الزّهور ذات المفاتن المتعدِّدة" (Een Bloemhof van Allerley lieflijkheyd). إنّ مؤلِّف الكتاب، وهو ربّما أكثر الأخويْن التزاما على المستوى السياسيّ (وكذلك الأكثر انفعالا ومغالاة)، كان مولعا بالتّاريخ واستعمال اللّغة النييرلنديّة؛ حيث نراه في هذا الكتاب يُطلِق العنان لتصوّراته المعادية للإكليروس تحت غطاءِ مُعجَم مُصطلَحيّ يهدف من ورائه توضيح مفردات أعجميّة كانت قد اندسَّت في المصطلحات القانونيّة، والطبيّة، والدينيّة وفي اللّغة النييرلنديّة الدّارجة. كانت غايته تهدف بوضوح إلى نَقْد كلّ الدّيانات المنظَّمَة تقريبا، وحتى الاستهزاء منها، بما في ذلك الكنيسة الإصلاحيّة، كما أنّ لهجة الكتاب كانت تراوِح بين السُّخريَة والإزدراء. كان أدريان يجد لَذّة خاصّة في التهكُّم على ما كان يسمّيه شعوذات الدّيانة الكاثوليكيّة، الشيّء الذي لم يكن من شأنه أن يُغضِب الكلفانيّين ويثير استياءهم؛ فهو يكتب مثلا في مادّة "مذبح" ما يلي:
"مذْبَح (Altar): مكان يتمّ فيه الذّبح. عند الرّوم الكاثوليك تُعتَبر هذه الأماكن مقدَّسةً، ففيها يحتَفِل القساوِسة كلّ يوم بالقُدّاس الإلهي. ولكن لم تعد هذه الأماكن مرصودة لذبح الحيوانات كما هو الحال عند اليهود أو الوثنيّين، ولكن لشيء أكثر روعة متمثّل في خلق كائن بشريّ. ذلك أنّهم قادرون على ما لا يقدر على فعله حتّى الرّب نفسه، بل أيضا في كلّ ساعة من ساعات اليوم: خَلقُ كائن بشريّ من قطعة خبز صغيرة، قطعة خبز تظلّ هي ذاتها مثلما كانت من قبل لا تتغيّر، غير أنّهم يقدِّمونها للأكل قائلين أنّها إنسان، وليس هو كَسائِر النّاس، بل هو الرّب-الإنسان. فيا له من هراء!"(2)
على امتداد كتابات كورباخ، وتحت ستار من السّخرية، نجد لاهوتا ميتافيزيقيّا جادّا، وفلسفة حول الدّين يتقاسمها مع شخوص راديكاليّين آخرين كانوا معاصرين له. كان كورباخ ينفي من بين ما ينفي المصدر الإلهي للبيْبل مؤكِّدا أنّه عمل أدبيّ خلقه البشر، وأنّ عزرا [الكاهن-الكاتب] هو الذي أنتجه بتجميع خليط من كتاباتِ مؤلِّفين مختلفين ومن مصادر متباينة. أفضل منهجيّة لتأويل مدلولات الكتب المقدّسة كان، على غرار أيّ كتاب آخر، من صنف المنهج الطّبيعي يرتكز أساسا على دراسة اللّغة والسّياق التّاريخي للمؤلِّفين وللنّصوص أيضا. من جهة أخرى، لا يوجد أيّ شيء ضروريّ لفهم "حقيقة" محتوى هذه الكتب المقدّسة ضرورة العقل البشريّ:
"بيْبل: [...] هي كلمة إغريقيّة هجينة تعني عامّة "كتاب"، أيَّ كتاب كان حتّى حكايات الثّعلب رينارد [...]. ليس بإمكاننا معرفة مَن هم مؤلِّفو الكتابات اليهوديّة. هناك من بعض اللّاهوتيّين المشهورين مَن يعتقد أنّ شخصا يُدعى عزرا كان قد جمّعها معتمدا على نصوص يهوديّة أخرى [...]. ومهما كان من أمر، هناك في الكتب المقدّسة شيء مؤكَّد ومتَّفق مع العقل [أي كلّ ما لا يتنافى مع العقل]، وهو الشّيء الوحيد الذي أَعترفُ بأنّه فعلا كتابة، ويكون قد استُخدِم لتأليف كتب أخرى. أمّا ما عدا ذلك فهو بالنّسبة لنا عبث في عبث لا طائل من ورائه، ويمكن دحضه دحضا قاطعا والتخلّي عنه"(3).
سواء كان في كتاب "حديقة الزّهور" أو في كتاب آخر كُتِب في وقت لاحق من نفس تلك السّنة ولم يُنشر على الاطلاق وعنوانه "نور تَألَّقَ في أماكن مظلمة" (Een Ligt schijnende in duystere plaatsen)، يهاجِم كورباخ لاعقلانيّة معظم الدّيانات، بشعائرها، وطقوسها، ومعتقداتها الخرافيّة. بالنّسبة له، التعليم الحقيقي للرّب، أي "الدّين الحقّ"، هو ببساطة معرفة وطاعة كلمته وحُبّ الجار. كان كورباخ ينفي ربوبيّة يسوع، غير مبال في ذلك أن يُتَّهَم باتّباع العقيدة التجديدية السوسنية (socinianism)، وهي حركة لا تعترف بالتّثليث، كانت قد عَرَفت في بدايتها شعبيّة كبيرة في بولندة لتَشهَد فيما بعد توسّعا بطيئا عبر أوروبا. فالرّب، بالنّسبة له، واحد لا غير بحكم أنّه الماهية الأزليّة للكون. من منظور كورباخ، يكون الرّب إذاً مطابقا للطّبيعة تُفهَم على أنّها نظام ضروريّ وقطْعيّ. وبناء على ذلك، فإنّ المعجزات، بصفتها خروجا عن قوانين الطّبيعة بمشيئة من الرّب، تكون مستحيلة، والعناية الإلهيّة ليست إلاّ مجرّد المسار العادي للطّبيعة.
يبدو أنّ كورباخ لم يكن رجلا متديّنا بصفة خاصّة. لقد كان بالأحرى عقلانيّا مُلتَزِما، وكان مقتنِعا بأنّ نَماء الإنسان وازدهاره يتحقّق من خلال ممارسة العقل الطّبيعي. أمّا مفهومه للسّعادة فقد كان اختزاليّا نوعا مّا بالرّغم من أنّ كورباخ أبقاه في علاقة مع الرّب. فقد كان يحتجّ بأنّ الغبطة تكمن في معرفة الرّب. ولكنّ هذا الفهم لما هو إلهي لم يكن مع ذلك بالنّسبة له نوعا من الشّعور الباطني بوجود كائن مفارق للطّبيعة، بل بالأحرى هو الادراك الذّهني والعقليّ لهذه الحقيقة الأزليّة والثّابتة المتمثّلة في الطّبيعة نفسها. فعلى هذا الأساس كان كورباخ يجادل ضدّ اللّاهوت اللّاعقلاني، وضدّ الممارسات الدّينيّة المُشبَعة بالخرافة، وضدّ اضطهاد الكنيسة: إذ يؤكِّد بكلّ قوّة أنّ الدّين الحقّ هو قضيّة حميميّة وشخصيّة.
كان أدريان كورباخ، في المجال السّياسي، ديمقراطيّا راديكاليّا ولائكيّا أصيلا. فقد كان إيمانه عميقا في فضائل الجمهوريّة المتسامِحة واللّيبراليّة، وكان يُحذِّر من مغبَّة تدخُّل الكنيسة في سلطة الدّولة ومخاطره. كما نلاحظ، داخل الجماعة السّياسيّة المثاليّة عند كورباخ، وجود خطّ فاصل شديد الوضوح يفرِق بين الفضاء العامّ والفضاء الخاصّ، بين الدّين والسّياسة اللّذيْن يجب بالضّرورة أن يظلّا متباعِديْن أحدهما عن الآخر. لقد كان يدعو أيضا لبناء دولة لامركزيّة. في كتاب نشره عام 1664، كان كورباخ يعارِض (على غرار فان دان هوف قبله) تجميع السّلطة السّياسيّة في المقاطعات المتّحدة بين يَديْ الستهاودِر (stathouder)، وكان من أنصار بناء فيديراليّة المقاطعات المتّحدة المستقلّة وذات سيادة، ويتمنّى أن تكون السّلطة الكنسيّة خاضعة للسّلطة المدنيّة(4).
لم يَرُق لقادة كنيسة آمستردام الإصلاحيّة أيُّ شيء مِن كلّ ما كان يفكِّر فيه كورباخ ويُصرِّح به. في العادة، لم يكن بوسع هؤلاء ما يفعلونه سوى التشكّي لدى السّلطات المدنيّة (وهذا النّوع من الشكوى لا يجد في الغالب آذانا صاغية)، وذلك لأنّهم لا يملكون قرار سِجْن أيّ كان مهما كانت صفته؛ ثمّ أنّ أدريان، خلافا لأخيه يوحنِّس، لم يكن عضوا في الإكليروس الذي كان بإمكانه ربّما توبيخه وحثّه على العودة إلى الطّريق السّويّ. لقد كان حكّام آمستردام يُبدون عدم الرّغبة بعض الشّيء في معاقبة المواطنين بسبب آرائهم السّياسيّة والدّينيّة وذلك لأنّهم كانوا متيقِّنين من المزايا الإقتصاديّة التي تجنيها المدينة بفضل الطّابع الكوسموبوليتي الّليبرالي والمتسامح السّائد فيها؛ ولذك نراهم في الغالب الأعمّ لا يتّفقون مع أكثر المحافظين من قادة المجمَع الكنسيّ. لقد كان ردّهم المألوف أنّ الزّنادقة لا يمكن معاقبتهم إذا لم ينشروا أفكارهم أو لم يعلِنوها على عين الملأ. فقضاة المدينة كانوا يقولون: "في بلدنا، وفي غياب تجَمهرات عموميّة أو كتابات منشورة، فإنّنا لا نأبَه بآراء النّاس تُجاه الكنيسة"(5).
إلاّ أنّ كورباخ كان قد ارتكب خطأ قاتلا. فهو لم يكتَف فقط بنشر عمله التّجديفي بالّلغة النييرلنديّة ممّا يجعله في متناول الجمهور الواسع (وهو جمهور يمكن التّأثير عليه بسهولة)، بل نَشَره مع ترك اسمه فوق غلاف الكتاب، الشّيء الذي جعل السّلط المدنيّة في موقف حرج ولم تعد قادرة على تجاهل الأمر. هذه المرّة، لم يدّخر مجمع الكنيسة أيّ جهد ووضع كلّ قواه في الميزان للإيقاع بكورباخ. وبما أنّ مجلس بلديّة آمستردام أبدى كعادته تلكُّأه في التّدخُّل حقيقة في مسائل لاهوتيّة، أمَر المجلس الكنسي بمصادرة كلّ نسخ الكتاب، غير أنّه ترك لقاضي المدينة كورنيليس ويتسن (Cornelis Witsen) المسؤول عن هذه القضايا أن يتكفَّل بالتّتبّعات القانونيّة. تمّ إيقاف يوحنّس، شقيق أدريان، بتهمة المشاركة في كتابة "حديقة الزّهور" و"نور تألّق"، ثمّ أُفرِج عنه عندما خلص القضاة إلى نتيجة مفادها أنّ المتّهَم لم يشارك في الكتابة، حتّى وإن لم يتبرّأ من تصوّراته بل ربّما بقي دائما متّفقا مع الأفكار الواردة في الكتابيْن. في غضون ذلك، استطاع أدريان الهرب والاختفاء في مدينة ليدن (كان على ما يبدو متنكِّرا بباروكة من الشّعر الأسود)، أين تمّ الغدر به من طرف "صديق" حانِق من تهجُّماته على الدّين (وأيضا تحت إغراء المكافأة التي كانت تقدّر بألف وخمس مائة فلوربن). في جويلية/يوليو من نفس السّنة، عاد أدريان إلى آمستردام، ولكن هذه المرّة مكبّلا بالأغلال وتحت حراسة مشدّدة.
أثناء التّحقيقات التي خضع لها، اعترف كورباخ ليس فقط بأنّه المؤلِّف الوحيد للكتابيْن الّلذيْن تمّ تجريمهما، ولكنّه بالإضافة إلى ذلك أنكر ألوهيّة يسوع وبَتُوليّة مريم:
"نحن لا نعرف في الحقيقة مَن هو والِد المُخلِّص (يسوع). وهذا ما يفسِّر لماذا اعتَقد بعض المُغفَّلين الجَهلَة اعتقادا راسخا أنّه الرّب، ربّ الأبديّة، وفي نفس الوقت أنّه ابن ربّ الأبديّة، وأنّه وُلِد من عذراء دون تدخّل بشريّ. غير أنّ هذه الأطروحات هي كذلك غريبة عن الكتابات المقدّسة ومخالفة للحقيقة"(6).
أصدر قضاة البلديّة حكمهم وعاقبوا أدريان كورباخ بالسّجن عشرة أعوام وبعشرة أعوام أخرى بالنّفي خارج آمستردام، بالإضافة إلى غرامة ماليّة تقدّر بأربعة آلاف فلورين(7). لقد كانت هذه العقوبة في الواقع عقوبة أكثر حِلْماً من العقوبة التي اقترحها القاضي كورنيليس ويتسن الذي كانت أمنيَّته أن يرى كورباخ وهو يُعذَّب في السّاحة العامّة وقد قُطِع إبهامُه الأيمن وثُقِب لسانُه بحديد متوهِّج، ثمّ يُزجّ به بعد ذلك في السّجن مدّة ثلاثين عاما.
ولكن في نهاية الأمر، يكون كورباخ قد قضّى أقلّ من شهريْن في زنزانات رسفييس في خريف سنة 1668. ربّما يكون قد عُزِل في "الجناح الخاصّ" المخصّص لأبناء العائلات المحترَمة وأولئك الذين ارتكبوا جرائم إيديولوجيّة وسياسيّة. وبالرّغم من أنّ هؤلاء السّجناء كانوا مُعْفون من القيام بأشدّ الأشغال الشّاقّة قساوة، إلّا أنّ هذه الحياة لم يكن باستطاعة كورباخ أن يتحمّلها طويلا. وقع نَقْلُ كورباخ وقد تدهورت حالته الصحيّة إلى سجن آخر من سجون المدينة كان يُوفِّر شروط عيش أكثر رأفَة ويحتوي على غرفة تمريض. غير أنّ صحّة كورباخ لم تتحسّن. ففي الخامس من أكتوبر/تشرين الأوّل، فقط بعد أيام قليلة من تلقّيه زيارة قِسّ حريص عن خلاص روحه في الآخرة، لفَظَ كورباخ أنفاسه الأخيرة في السّجن، ودُفِن في كنيسة نِيوا كيرك (Nieuwe Kerk).
(يتبع)
-------------------
هوامش
(1) للمزيد من الاطّلاع على سيرة حياة كورباخ وقصّة محنته، أنظر:
Meinsma, K. O. 1983. Spinoza et son cercle. Ed. Henri Méchoulan and Pierre-François Moreau. Paris: Vrin, 2006 (1983), p. 240-277.
(2) أنظر:
Jongeneelen, Gerrit H. 1987. “An Unknown Pamphlet of Adriaan Koerbagh.” Studia Spinozana 78, p. 248.
(3) نفس المصدر، ص 9-10.
(4) نفس المصدر
(5) Meinsma, 2006, p. 269.
(6) نفس المصدر، ص 266.
(7) لمزيد الاطّلاع على نصّ الإتّهام، يمكن الرّجوع إلى:
Die Lebensgeschichte Spinozas. Zweite, stark erweiterte und vollständig neu kommentierte Auflage der Ausgabe von Jakob Freudenthal. 2 vols. Ed. Jakob Freudenthal and Manfred Walther. Stuttgart: Frommann-Holzboog, 2006, p. 286.



#ناصر_بن_رجب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كتاب صُنِع في الجحيم(4)
- كتاب صُنِع في الجحيم (3)
- كتاب صُنِع في الجحيم (2)
- كتاب صُنِع في الجحيم (1)
- رَبُّ القَبائل، إسلام محمّد
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (14)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (13)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (12)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (11)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (10)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (9)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (8)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (7)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (6)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (5)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (4)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (3)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (2)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (1)
- سورة الفيل والتّفسير المستحيل!


المزيد.....




- ” نزليهم كلهم وارتاحي من زن العيال” تردد قنوات الأطفال قناة ...
- الشرطة الأسترالية تعتبر هجوم الكنيسة -عملا إرهابيا-  
- إيهود باراك: وزراء يدفعون نتنياهو لتصعيد الصراع بغية تعجيل ظ ...
- الشرطة الأسترالية: هجوم الكنيسة في سيدني إرهابي
- مصر.. عالم أزهري يعلق على حديث أمين الفتوى عن -وزن الروح-
- شاهد: هكذا بدت كاتدرائية نوتردام في باريس بعد خمس سنوات على ...
- موندويس: الجالية اليهودية الليبرالية بأميركا بدأت في التشقق ...
- إيهود أولمرت: إيران -هُزمت- ولا حاجة للرد عليها
- يهود أفريقيا وإعادة تشكيل المواقف نحو إسرائيل
- إيهود باراك يعلق على الهجوم الإيراني على إسرائيل وتوقيت الرد ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ناصر بن رجب - كتاب صُنِع في الجحيم(5)