أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ناصر بن رجب - كتاب صُنِع في الجحيم(15)















المزيد.....

كتاب صُنِع في الجحيم(15)


ناصر بن رجب

الحوار المتمدن-العدد: 7185 - 2022 / 3 / 9 - 23:11
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


محنة سبينوزا ونشأة العَصر العَلماني


الفصل السّادس
الكُتُب المقدَّسة
(قسم 2)


كان سبينوزا يعي جيّدا خطورة الموقف الذي يتّخذه في رسالة اللّاهوت والسّياسة:
"[...] سأبدأ بالأحكام المُسبَقَة المُتعلِّقة بمن قاموا بتدوين الكُتُب المُقدَّسة، وسأبدأ أولًا بمَن قام بتدوين الأسفار الخمسة. لقد ظنَّ الجميع تقريبًا أنّ هذا الكاتِب هو موسى، بل إنَّ الفِرّيسيِّين(1) أيَّدوا هذا الرأي بإصرارٍ شديد، حتى أنَّهم عدُّوا مَن يَظنُّ خِلافَ ذلك من المارقين"(2).
ولكن مع ذلك، كان مهمّا بالنّسبة لمشروعه اللّاهوتي-السّياسي أن يُحلِّل هذه العقيدة ويشرحها. فقد كان يُساوِر سبينوزا قلق كبير من توسّع سلطة الآكليروس في المقاطعات المتّحدة، وبالخصوص تدخّل القساوسة الكلفانيّين في الشّؤون العامّة وفي حياة المواطنين؛ كما كان أيضا يُدرِك تمام الإدراك أنّ أحد أسلحتهم النّاجِعة لتبرير تَحيُّلاتهم للإستيلاء على كلّ تلك السّلطة هو البيْبل نفسه. فقد كان الوعّاظ يُجاهِرون بأنّ أفعالهم تستند إلى كلام الرّب معتبرين أنّ البيْبل هو مصدر سلطتهم الأخلاقيّة، والإجتماعيّة، بل حتّى السّياسيّة؛ ومن جهة أخرى، فهم يُنَصِّبون أنفسهم المفسِّرين الشّرعيّين الوحيدين للكتابات المقدّسة الذين يقدِّمون عنها قراءة منسجِمةً مع مقاصدهم وأهوائهم. فقد كتب سبينوزا في هذا السّياق ما يلي:
"ما انفكّ رجال الدّين يردّدون بأنَّ الكتابات المُقدّسة هي كلام الرّب، وأنّها تُعلِّم الناس السعادة الروحية الحقَّة أو طريق الخلاص، غير أنَّ سلوك الناس يكشف عمَّا يُغاير ذلك تمامًا؛ لأنَّ العامَّة لا يحرصون أبدًا على أن يعيشوا وفقًا لتعاليم الكتابات المُقدّسة، وما يقدِّمه رجال الدّين على أنّه كلام الرّب ما هو في الغالب إلاّ مجرّد أوهام سخيفة، وتراهم يبذُلون قصارى جهودهم، باسم شغفهم بالدّين والذبّ عنه، من أجل إرغام الآخرين على أن يُفكِّروا مِثلهم. أقول: إنَّنا نرى عبر التّاريخ كلّه أنّ شُغْل اللاّهوتيّين الشّاغل هو التعسُّف على الكتب المقدّسة وتذليلها حتّى تؤكِّد خزعبلاتهم ونُظُمهم وتُماشيها، وبالتّالي وضْعُها تحت غطاء السّلطة الإلهية"(3).
إنّ رفع البيْبل والتّلويح به كان ولا يزال دائما وسيلة قويّة لإقناع الجماهير، ناهيك عن النّخب الحاكِمة، بأنّ الطّريق التي يسلكها الوعّاظ، المتعصّبون، واللّامتسامحون والمحافظون (حسب القاموس السّياسي النييرلندي)، هي بالفعل طريق الرّب.
عندما يُؤكِّد سبينوزا، بسخرية واستهزاء، أنّ البيْبل في حقيقة الأمر ليس من عمَل ربٍّ مفارقٍ للطّبيعة-"عبارة على رسالة كتبها الرّب في عليائه وأنزلها على البشر" - بل هو حقيقة وثيقة بشريّة، طبيعيّة جدّا، وأنّ كاتب التّوراة ليس موسى، وأنّ الكتب العبرانيّة التي صُمِّمَت كمجموع موحَّدٍ ليست إلاّ تجميعاً لكتابات ناجمة عن ظروف تاريخيّة وسياسيّة ألّفها أفراد غير معصومين من الخطأ وغير متعلِّمين، وأنّ هذه النّصوص في معظمها وقع تناقلها من جيل إلى جيل إلى أن رتّبها في نهاية المطاف قائد سياسيّ أو ديني في فترة لاحقة وأعطاها شكلها النّهائي؛ باختصار، من خلال "تَطبيع" التّوراة وبقيّة كتب البيْبل، واعتبارها مجرّد كتب عاديّة (حتّى وإن كانت ذات قيمة أخلاقيّة فائقة)، كان سبينوزا يأمل في تقويض تأثير الدّين في السّياسة، وفي ميادين أخرى أيضا، والحدّ من مخاطر التعصّب الذي تواجهه جمهوريّتُه الحبيبة. "بالنّسبة لنا نحن، فإذا أردنا القَطْع مع هذه الحُشود المسعورة من اللّاهوتيّين المبتَذَلين، ونُخلِّص أنفسنا من أحكامهم المسبَقة التي لا طائل من ورائها، ومن تعريض عقولنا لخطر الخلط بين أراء بشريّة موغِلة في بشريّتها وبين التّعاليم الإلهيّة"، يكون من الضّروري لنا، كما يؤكِّد على ذلك سبينوزا مرارا وتكرارا، أن نفهَم ما هي بالضّبط الكتب المقدّسة، وأيّ "منهجيّة صحيحة" يمكنها أن تسمح بقراءتها وتأويلها، منهجيّة "بدونها تكون بالطّبع كلّ معرفة مؤكَّدَة لفكر الرّوح القدس مستحيلة"(4).
يبدأ سبينوزا من النّقطة التي يعتَقد أنّ سَلَفه القروسطي الشّهير ابن عزرا كان قد توقّف عندها. باستناده على الرّسالة الدّقيقة لابن عزرا يُجمِّع الفيلسوف سبينوزا براهين أخرى ليُبيِّن أنّ كاتب الأسفار الخمسة الأولى للبيْبل العبري لم يكن موسى، بل شخص آخر يكون قد عاش بعده بعدّة أجيال. وهو يشير إلى أنّ مُؤلِّف هذه الكتب يتحدّث عن موسى دائما بضمير الغائب، ويُقارِنه بأنبياء جاؤوا من بعده (مثلا عندما يقول "لم يُعرَف في إسرائيل نَبيّ يشبه موسى")، ويروي وقائع حدثت بعد وفاته ("وأكَل بنو إسرائيلَ المَنَّ أرْبعينَ سنة، إلى أن وصلُوا إلى أرضٍ عامِرةٍ، أكلوا المَنَّ إلى حين وصلوا إلى حدود أرض كَنْعان"، [خروج 16، 35]، أي، كما يُلاحظ ذلك سبينوزا، فعلوا ذلك حتّى اللّحظة التي يتحدّث عنها سفر يشوع 5، 12 "فانقطَع المنُّ مِنَ الغَدِ، منذ أَكَلوا مِن غلَّة الأرض، فَلَم يَكُن لِبَني إسرائيل مَنٌّ بعد ذلك، وأَكَلوا مِن غَلَّة أرضِ كَنْعان في تلك السَّنة")، كما يشير إلى أماكِن بأسماء لم تكن تحملها زمن موسى ولكنّها حمَلتها في زمن متأخِّر جدّا (على سبيل المثال، نرى في المقطع الذي يقول فيه البيْبل أنّ أَبرام (لم يُصبِح اسمه "أبراهيم" بعد) "جَدَّ في إِثْرِهِم حَتَّى دان" [تكوين 14]، يُعلِّق سبينوزا على ذلك قائلا "وهو اسم لم تأخُذه المدينة التي تحمِله إلَّا بعد موت يشوع بمدة طويلة"). إنّ استنتاج سبينوزا، مهما كان الأمر، هو استنتاج قاطع أكثر ممّا كان عليه استنتاج ابن عزرا، أو أيٍّ كان في ذلك الوقت، كان قد أكّده صراحَة ً أو حتّى بشكل ضمنيّ: "من هذه المُلاحظات كلّها يبدو واضحًا وضوح النهار أنَّ موسى لم يكتُب الأسفار الخمسة، بل كتَبَها شخصٌ عاش بعد موسى بقرونٍ عديدة"(5).
ولكنّ التوراة، حسب سبينوزا، تحتوي مع ذلك على نواة موسويّة حقيقيّة. بالفعل، فهو يرى، بشهادة البيْبل نفسه، أنّ موسى كتب فيه ثلاثة أشياء: قصّة الحرب ضدّ العَمَالِيق (Amalek) وعَرْضاً عن غزوات بني إسرائيل يُسمّى "سفر حُرُوب الرَّبّ"، وتقديما مختصرا لأقوال الرّب وشرائعه يُسمّى "سفر العهد"، وشرحا أكثر تفصيلا لوصايا الرّبّ والعهد بينه وبين شعبه المختار الذي يُطلَق عليه "سفر توراة الرّبّ". فُقِدت، بطبيعة الحال، كلّ هذه الكتب وليس بالإمكان أيضا التعرُّف عليها في التّوراة نفسها. بصورة أدقّ، يكون مؤلِّف الأسفار الخمسة قد استطاع الحصول، على أقل تقدير، على "سفر توراة الرّبّ" وأدخَله في كتابه لاحقا (6).
وعلى نفس المنوال من البَرهَنة ولأسباب مماثلة، نرى سبينوزا يؤكّد على أنّ يشوع لم يكن هو واضِع السّفر الذي يحمل اسمَه: "إذ نجد في هذا السّفر روايةً لوقائع مختلفة حدثت بعد موت يشوع"، بل أنّ هذا السّفر "كان قد كُتِب بعد قرون عديدة من موته"؛ ثمّ يضيف، بخصوص سِفْر آخر: "أما سفر القُضاة فلا أظنُّ أنَّ شخصًا سليم العقل يعتقد أنَّ القُضاة أنفسهم قد كتبوه"، وكذلك الشّأن بالنّسبة لأسفار صموئيل: "لأنّ القصّة التي ترد فيها تَمتدّ إلى ما بعد حياة هذا النبيّ"، وهذا ينسحب على أسفار الملوك التي لم يَكتُبها الملوك الموجودون فيها، ولكنّها في الحقيقة أُخِذَت من العديد من الأخبار القديمة. ثم يختم سبينوزا حجاجه كالتّالي: "وبذلك ننتهي إلى أنَّ كلَّ الأسفار التي عرَضْنا لها حتى الآن قد كتَبَها مُؤلِّفون آخرون غير الذين تَحمِل هذه الأسفار أسماءهم، وأنَّ الرّوايات التي تتضمَّنُها تقصُّ علينا حوادث قديمة"(7).
فمَن كان إذن واضِعُ الكتابات العبرانيّة المقدّسة، أو على الأقلّ المسؤول عن الجزء الأكبر من العمل التّحريريّ فيها؟ ليس لدى سبينوزا أدنى شكّ في أنّ الأمر يتعلّق بـ"مُؤرِّخٍ واحدٍ أراد أن يروي التّواريخ اليهوديّة القديمة منذ الأزمان الغابرة حتّى زمَن الهَدْم الأوّل لأورشليم". ويشير سبينوزا إلى أنّ أسفار التّوراة ونصوص أخرى، بالرّغم من مصادرها المتنوِّعة والمنفصلة بعضها عن البعض الآخر، نجدها مترابطة فيما بينها تِيمِيّاً [أي بالتّسلسل من خلال المواضيع] ومرتّبة بمهارة في سرديّة منظَّمة ومستمرّة (مع وجود بعض التّرقيعات الظّاهرة) حيث تكون فيها الانتقالات من فترة تاريخيّة إلى أخرى أو من نظام سياسيّ إلى آخر انقالات سلسة نسبيّا؛ كلّ ذلك، يقول سبينوزا، من شأنه أن يُثبِت لنا أن هذا العمل قام به "مُؤرِّخ واحد"، كان يشتغل بعد عدّة أجيال من الأحداث التي يرويها ضمن "مُخطَّط موحَّد" لهذه الأسفار. ومن هذه السّرديّة نفسها يتّضح لنا بكلّ وضوح غرض هذا المؤرِّخ المتمثّل في: "التّعريف باقوال موسى ووصاياه، والبَرْهَنة على صدقها وتميُّزها بواسطة سردٍ للأحداث"(8).
يعترف سبينوزا باستحالة تحديد هويّة هذا المؤرِّخ تحديدا مؤكّدا، ولكن، حسب اعتقاده وكما اقترح آخرون من قبله، كلّ المؤشِّرات تنحو نحو اعتبار عزرا هو هذا المؤرِّخ الذي دوّن هذه الأسفار. فالنصّ يسمح بكلّ وضوح اعتبار أنّ المؤلِّف لم يعِش قبل النّصف الأوّل من القرن السّادِس قبل الميلاد، بدليل أنّه يتحدّث عن تحرير يُواكِين، ملك يهودا، من الأسر البابلي وهو حَدثٌ وقع تقريبا عام 560 قبل الميلاد. بالإضافة إلى ذلك، كما يلاحظ سبينوزا، فإنّ الكتابات المقدّسة نفسها تقول: "لم يكن هناك في تلك الحقبة شخص آخر سوى عزرا (أنظر سفر عزرا 7، 10) كان قد وجَّه قلبَه بحماس لدراسة شريعة الرّبّ، وكان كاتِباً ماهِراً في شريعة موسى (عزرا، 7، 6)، لا يضاهيه في ذلك أيٌّ من رجالِ زمانه". ثم يخلص سبينوزا إلى النّتيجة التّالية: "وإذن فنحنُ لا نجِد شخصًا آخر سوى عزرا يُمكن الاشتباه في أن يكون هو مُؤلِّف هذه الأسفار"(9). ويكون عزرا قد أعطى اسم الأسفار الخمسة تكريما لموسى حيث أنّ سيرة حياته تمثّل النّواة الرّئيسيّة لها. ولنفس السّبب سمّى الأسفار التّالية تكريما ليشوع، وقضاة بني إسرائيل، وراعوث، وصموائيل والملوك.
بطبيعة الحال، لم يَنظُم عزرا كلّ الأسفار من لا شيء، كما لم يكن باستطاعته أن يتمّ المشروع لوحده. لقد جمع سرديّات مختلفة من مؤلِّفين عبرانيّين من عصر ما قبل التّاريخ، أحيانا بمجرّد النّقل عنهم حرفيّا بقصد العودة إليها ومراجعتها لاحقا حتّى يتمكّن من سَبكِها في منظومة قصصيّة واحدة محكَمة التّرتيب والصّياغة. فالموادّ المتأتّية من موسى، ويشوع، وأشعيا وغيرهم "كُتِبت بصورة عشوائيّة ودون ترتيب [...] الشّيء الذي يدلّ على أنّ المؤلِّف لم يظفر بالوقت الكافي لكي يرتِّب ويُهذِّب بشكل منتظم [هذه الموادّ]"(10). وبناء على ذلك، يفتَرِض سبينوزا أنّ عزرا وافته المنيّة قبل أن يتمكَّن من إدخال آخر التّعديلات على عمله. فعمليّة انتقاء بعض النّصوص لتُشكِّل منظومة الكُتُب القانونيّة، وكذلك ردّ نصوص آخرى قديمة ورفضها هي أيضا، كانت قد تمّت، من وجهة نظر سبينوزا، بعد عدّة أجيال من وفاة عزرا، ليس على الأرجح قبل فترة المكّابيّين (حوالي القرن الثّاني قبل الميلاد)، وربّما بعد ذلك بزمن أكبر. والمرشَّحون الأكثر احتمالا للإضطلاع بمهمّة الفرز والإنتقاء هذه هم الفرّيسيّون باعتبار أنّ قراراتهم، دائما حسب سبينوزا، كانت مبنيّة على الدّفاع عن تقليدهم وموقفهم من شريعة موسى ضدّ خصومهم الصَدّوقيّين: "[...] ومن ذلك نرى بوضوحٍ تامٍّ أن علماء الشريعة كانوا قد اجتمعوا ليُقرِّروا أي الأسفار يجِب وضعُها بين الكتُب المقدَّسة، وأيُّها يجِب استبعادها"(11). باختصار، وبعبارة أخرى، نكون هنا بصدد سيرورة إنسانيّة بأتمّ معنى الكلمة كانت دوافعها سياسيّة محضة.
والنّتيجة، كما تبدو لنا من خلال الحالة الرّاهنة لنصّ الكتابات العبرانيّة بتكراراته الجمّة، وسهْوِه المتعدِّد، وقصصه غير المكتَملَة، ومشاكله مع التّسلسل الكرونولوجي، وتضارباته الصّارخة، هي في نهاية المطاف عبارة على إضْمامَة من النّصوص "المبتورة"، والنّاقصة والتي لم تقع مراجعتها بما يكفي. فعندنا مثلا قصّتان لخلْق العالَم، وهما تختلفان في عدّة نقاط مهمّة لا يمكن التّوفيق بينها؛ إذ نجد مثلا جيوش الفَلِسْطينيِّين تتعرّض في رواية سفر صموئيل الأوّل، إلى هزيمة شنعاء على يد بني إسرائيل إلى درجة أنّه قيل عنهم أنّهم لن يعودوا قادرين أبدا على اجتياح أرض إسرائيل من جديد؛ هذا في حين أنّنا نجد نفس هؤلاء الفَلِسطينيّين يظهرون بعد ذلك بقليل، في سفر صموئيل الأول، 13، وهم يشنُّون هجوماً جديدأً "وكان هناك ثلاثون ألْفَ مركبَةٍ وستَّةُ آلافٍ من الفرسان وشعْبٌ مِثْل الرّمْل الذي على ساحِل البحر كَثْرةً"؛ كما نجد في هذه النّصوص ملوكاً تكون فتراتُ حكمهم غيرَ دقيقة، وأخرين تتداخل فترات مُلكِهم، وتواريخ خياليّة وبعيدة الاحتمال؛ "يذكُر الإصحاح 6 من سفر الملوك الأول أنَّ سُليمان بنى المعبد بعد الخروج من مصر بأربعمائة وثمانين عامًا، مع أنَّنا طبقًا للرّوايات نفسها نجِدُ عددًا من السِّنين أكبر بكثير"(12). فحتّى القارئ العَابِر للبيْبل لا يمكنه إلاّ أن يُصاب بالدّهشة من هذه الاهمالات البارزة في التّنظيم: "فيجِب إذن أن نُسلِّم بأنَّ هذه الروايات مجموعة من القصص مُستمَدَّة من مُؤلِّفين عديدين، ثُم جُمِعت دون نقْدٍ أوترتيب"(13).
وممّا يزيد الطّينَ بلّة، يقول لنا سبينوزا، هناك العديد من الأخطاء في النَّسْخ وتنويعات كثيرة مختلفة انزَلَقت داخل النصّ كلّما وقع نسخ المخطوط الأصلي مراراً وتكراراً وتناقله عبر الأجيال المتلاحقة. لقد كان سبينوزا، شأنه شأن معظم أطفالِ جيله الذين وُلدوا في الجالية اليهوديّة البرتغاليّة المقيمة في آمستردام (وليس ذاك بالضّرورة هو حال آبائهم الذين نشأوا في شبه الجزيرة الإيبيريّة)، يُتْقِن العبريّة اتقاناً جيّدا، فقد ألّف لأصدقائه من غير اليهود كتابا في قواعد نحو هذه اللّغة في نهاية ستّينات ذلك القرن، كما كان قارِئاً نبيهاً للتّوراة. فاستنتاجاته ترتكز على تحليل دقيق للنصّ وعلى أسُسٍ لسانيّة تِقنيّة، نذكر من بينها "القراءات المُريبة" النّاجمة عن كلمات ناقصة أو خاطئة، والأخطاء في رسم الحروف في حالات يكون فيها تشابه بين الحروف (مثلا كان من السّهل جدّا أن يخلِط النسّاخ بين حرف "ر" و حرف "د")، والاختيارات المتاحة المتعدِّدة في التّصويتات:
"حتّى نتأكّد من أنّ نصّ صموئيل الأول 13، 1، هو بالفعل نصّ ناقِص، يكفينا ألاّ نتغافَل عن القواعد البسيطة الأولى للّغة العبريّة. هاكُم ما قاله النصّ المقدّس: "وكانَ شاوُلَ ابنَ ... حينَ صارَ ملِكاً، ومَلَكَ عامَيْن على إسرائيل". مَن منّا لا يلاحِظ هنا أنّ عمُر شاوُل حين بدأ حُكْمَه وقع حذْفه في المقطَع؟ يتبقّى لنا إذن أن نُثْبِت فقط، من خلال قصّة شاوُل نفسها، أنّه مَلَك أكثر بكثير مِن عاميْن. هذا في حين أنّ الإصحاح 27، الآية 7 من السفر نفسه نجد أنَّ داود مكث سنةً وأربعة أشهُر عند الفلسطينيّين هربًا من غضب شاوُل. وطبقًا لهذا الحساب كان من الضّروريّ أن يكون باقي حُكْم شاوُل لم يَدُم إلاّ مدة ثمانية أشهر، وهذا غير منطقي ولا يُصدِّقه أحد، وذلك على الأقلّ حسب يوسوفوس الذي يُصلِح نصّ السّفر المقدّس كالتّالي في نهاية الفصل 6 من كتابه "عاديات اليهود" (Antiquitates Judaicae) [تواريخ اليهود القديم]: "مَلَك شاوُل ثمانيّة عشر عاما في حياة صموئيل وعاميْن بعد وفاته"(14).

(يتبع)
-------------------
هوامش
(1) يستعمِل سبينوزة لفظة "فرّيسيّون" للإشارة أيضا إلى اليهود المحدثين.
(2) الرّسالة، حنفي، بتصرّف، ص 274.
(3) الرّسالة، حنفي، بتصرّف، ص 249.
(4) الرّسالة، مرجع سابق، الفصل السّابع "تفسير الكتاب"، التّرجمة من عندنا.
(5) الرّسالة، حنفي، ص 278، 279.
(6) الرّسالة، حنفي، ص 281.
(7) الرّسالة، حنفي، ص 284.
(8) نفس المصدر، بتصرّف، ص 286.
(9) نفس المصدر، ص 286.
(10) نفس المصدر، حنفي، بتصرّف، ص 296.
(11) نفس المصدر، حنفي، ص 233-234.
(12) الرّسالة، حنفي، 297-298.
(13) الرّسالة، حنفي، بتصرّف، ص 303.
(14) الرّسالة، حنفي، بتصرّف، ص 302.



#ناصر_بن_رجب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كتاب صُنِع في الجحيم(14)
- كتاب صُنِع في الجحيم(13)
- كتاب صُنِع في الجحيم(12)
- كتاب صُنِع في الجحيم(11)
- كتاب صُنِع في الجحيم(10)
- كتاب صُنِع في الجحيم(9)
- كتاب صُنِع في الجحيم(8)
- كتاب صُنِع في الجحيم(7)
- كتاب صُنِع في الجحيم(6)
- كتاب صُنِع في الجحيم(5)
- كتاب صُنِع في الجحيم(4)
- كتاب صُنِع في الجحيم (3)
- كتاب صُنِع في الجحيم (2)
- كتاب صُنِع في الجحيم (1)
- رَبُّ القَبائل، إسلام محمّد
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (14)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (13)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (12)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (11)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (10)


المزيد.....




- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...
- أول رد من سيف الإسلام القذافي على بيان الزنتان حول ترشحه لرئ ...
- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...
- صالة رياضية -وفق الشريعة- في بريطانيا.. القصة الحقيقية
- تمهيدا لبناء الهيكل المزعوم.. خطة إسرائيلية لتغيير الواقع با ...
- السلطات الفرنسية تتعهد بالتصدي للحروب الدينية في المدارس
- -الإسلام انتشر في روسيا بجهود الصحابة-.. معرض روسي مصري في د ...
- منظمة يهودية تستخدم تصنيف -معاداة السامية- للضغط على الجامعا ...
- بسبب التحيز لإسرائيل.. محرر يهودي يستقيل من عمله في الإذاعة ...
- بسبب التحيز لإسرائيل.. محرر يهودي يستقيل من عمله في الإذاعة ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ناصر بن رجب - كتاب صُنِع في الجحيم(15)