أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ناصر بن رجب - كتاب صُنِع في الجحيم(10)















المزيد.....


كتاب صُنِع في الجحيم(10)


ناصر بن رجب

الحوار المتمدن-العدد: 7164 - 2022 / 2 / 16 - 00:50
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


محنة سبينوزا ونشأة العَصر العَلماني



المعجزات

عندما عُيِّن يوهان هاينريش مولّر (Jahann Heinrich Müller) أستاذا للفلسفة الطّبيعيّة والرّياضيات في جامعة آلتدورف، عنوَن درسَه الإفتتاحي "المعجزات" (De Miraculis)؛ وعرَّف فيه المعجزة كما يلي:
"[...] هي عمليّة مّا غير عاديّة [...] تُحدِث أثَراً يستحيل تفسير عِلَّته (ratio) بأيّ حال من الأحوال بواسطة القوانين العاديّة للطّبيعة، وهذا الأثر يكون حتّى مخالفا لها على الإطلاق ويستلزِم جرّاء ذلك أن تكون هذه القوانين بالضّرورة مُعطَّلة بعض الوقت لتحلّ محلّها قوانين أخرى"(1).
ويواصل مولّر درسه باحثا عن تحديد ما إذا كانت المعجزات ممكِنة من خلال هذا التّعريف الذي أوردناه أعلاه، ويهتمّ خاصّة بالكيفيّة التي يمكن بها لقوانين الحَرَكة أن تتعطّل. ثمّ يخرج في نهاية الأمر بنتيجة مفادها أنّ مثل هذا التّعطيل "ليس مستحيلا أبداً"، وذلك بما أنّ قوانين الطّبيعة هي نفسها وضعها الرّب وفرضها بصفة حرّة، وأنّها هي نفسها ضروريّة لِنُورِ قدرةِ الرّب المطلَقة، ناهيك عن الحديث عن حرّية الرّب وحكمته. وهو يؤكِّد أنّه "لا يمكن لأحد أن تُخالجه شكوك بخصوص امكانيّة حدوث المعجزات"(2). أَيُّ شخص! باستثناء سبينوزا، حيث يصفه بأنّه "أشهَر مُصلِحٍ ومروِّجٍ للأسطورة التي مفادها أنّ الرّب ليس مفصولا عن الكون"، وأنّه صاحب "فرضيّة فظيعة" في موضوع المعجزات"(3).
هناك العديد من الأقوال الموجودة في "رسالة سبينوزا في اللّاهوت والسّياسة" كانت قد صَدمَت المشاعر الدّينيّة في عصره، ولكن ليس هناك ما هو أشدّ منها وقعاً من حيث تداعياته العميقة في عيون معاصريه، وأيضا في خُبثِة وأذاه (من وجهة نظر دينيّة)، أكثر من دراسته للمعجزات التي يتناولها في الفصل السّادس من كتابه. وكما لاحظ المؤرِّخ جوناثان إسرائيل: "لا يوجد أيّ عنصر آخر في فلسفة سبينوزا كان قد أثار مثل ذلك الإستياء والسّخط في عصره أكثر من إنكاره الرّاديكالي للمعجزات والماورائي"(4). فبما أنّه لم تحدث أيّة معجزة على الإطلاق، كما يدّعي سبينوزا، تُفهم على أنّها تدخّلات إلهيّة في مجرى الطّبيعة والتّاريخ البشري، فهذا من شأنه أن يُقوِّض أسُس مقولة العناية الإلهيّة نفسها، وأمّا القصص التي تروي الأحداث المُعجِزة في الكتب المقدّسة فهي ليست سوى حكايات خرافيّة. فعندما يصرِّح توماس هوبز، بعد أن قرأ الرّسالة، بأنّ كاتِب هذا العمل "كان قد ذهب أبعد منه بأشواط كبيرة لأنّه [أي هوبز] لم يتجرّأ على الكتابة بكلّ هذه الجرأة"، فإنّ ما أذهل أكثر هذا الأنكليزي الذي عادة ما يكون هادئا لا يتزعزع له بال، هو بالتّأكيد التّفسير الذي كان سبينوزا قد قدّمه عن المعجزات.
****
لقد كان الفلاسفة ذوو المنحى التّقدّمي في القرن السّابع عشر منخرطين في علْم الطّبيعة الجديد. فتفسيرات الظّواهر الطّبيعيّة في ميدان الفيزياء كانت بالنّسبة لمفكّرين أمثال غاليلي، ديكارت، هويغنس، بويلي، نيوتن وغيرهم، يُفتَرَض فيها أن تُصاغ فقط من حيث تحرّك المادّة. لقد تركوا وراء ظهورهم القدرات "الخفيّة" التي كان يعتمدها المنهج السكولاستي الأرسطي في العصر الوسيط والذي كان يفسِّر الظّواهر بالّلجوء إلى أشكال أو صفات غير مادّية تسكُن أجساما أو تحرّكها، وهي، كـ"أرواح صغيرة" (كما يقول ديكارت، وهو ناقد قاسٍ للنّظام السكولاستي)، كان من المفروض أنّها تحرِّك هذه الأجسام مثلها مثل الرّوح البشريّة التي يُفتَرض فيها أنّها تحرّك الجسم البشري وتسيِّره. من منظور الفلسفة الجديدة [الفلسفة الآليّة]، كلّ شيء يجب تفسيره في إطار الآليّات [قوانين السّببيّة]: إذ تتصادَم أجزاء المادّة، وتتجمّع، ثمّ تنفصل حسب قوانين الطّبيعة الثّابتة.
في عالَم الفلسفة الآليّة المعاصِر لم تعد تفسيرات الظّواهر حتّى العاديّة جدّا منها تستدعي وجود عِلَّة عقلانيّة تكون هي التي تُسيِّرها قَصْدِيّاً وبصورة محدَّدة، متَّبعة في ذلك غاية مّا. غير أنّ ذلك لا يعني، من ناحية أخرى، أنّ الظّواهر هي نتيجة تَولُّدات تنشأ من عدم. بالنّسبة للفيلسوف "الآلي"، على الأقلّ من حيث أنّه يكرّس نفسه للعلم، لا يوجد في الطّبيعة شيء عشوائي أو خاضع لأيّة غاية مهما كانت طبيعتها. بل بالعكس، كلّ ما يحدث يتمّ بسبب عِلَلٍ سابقة تتضمّن داخلها نتائجَها بالضّرورة. فالطّبيعة، بالنّسبة لأنصار هذا العلْم الحديث، تتصرّف حسب طرائق وإجراءات مماثلة للقوانين: وسيروراتها هذه تُختَزَل في سلاسِل سببيّة تكون حلقاتها عبارة على مجرّد مادّة إمّا متحرِّكة أو ساكنة. وكانوا يعتقدون أنّ هذه البِنيَة، من جهة أنّه بالإمكان تناولها بدقّة رياضيّة، كانت تسمح بصياغة نظريّات واضحة ومفيدة حول الظّواهر الطّبيعيّة، نظريات لها قدرة تفسيريّة حقيقيّة وفائدة من حيث أنّ لها قدرة عل توقّع ما يمكن أن يحدث.
ومع ذلك فنحن في القرن السّابع عشر، تلك الفترة التي كانت فيها الاّمم المسيحيّة في حربٍ الواحدة ضدّ الأخرى بسبب الخلافات الدّينيّة؛ فترة كان يُزَجُ النّاس فيها في غياهب السّجون (وأحيانا يُحرَّقون وهم أحياء)، بتهمة الهرطقة أو لاقترافهم كُتَباً ومؤلَّفات حُكِم عليها بأنّها غير مطابقة للمعتقدات الدّينيّة، ووضعوها في سِجلّ الكنيسة الكاثوليكيّة الذي كان يُحصي الكتب الممنوعة (Index librorum prohibitorum). لا توجد فلسفة للطّبيعة، مهما كانت الدّرجة التي بلغتها من التطوّر، تستطيع أن تستغني كلّية عمّا هو إلهيّ. فالطّبيعة بإمكانها أن تعمل من خلال عِلَل ماديّة وبالضّرورة الإسميّة(5) (nomological necessity)، ولكنّ الأمر يتعلّق دائما بمشيئة الرّب. والعالَم لم يكن عبارة عن نظام مستقلّ وذاتيّ الوجود متشكِّل من عِلَل آليّة تعمل خارج رقابة المشيئة الإلهيّة وإشرافها. إذ يمكن ألاّ تُوجَد أشكال أو ماهيات، على غرار الأذهان، لتُسيِّر مجرى الأحداث في رحِم الطّبيعة، إلاّ أنّ فلاسفة وعلماء بداية العصر الحديث لم يعودوا مستعدِّين لتبنّي الأنموذج الآبيقوري المتمثّل في عالَم تُنتِجه وتحكُمه الضّرورة العمياء بمفردها.
ففي كتابه "مقال عن المنهج"، كان ديكارت يُصرِّح أنّ قوانين الفيزياء العامّة التي تنظِّم الظّواهر الطّبيعيّة كانت هي بذاتها قد وضَعها الرّب عندما خلق الكون. ولهذا فإنّنا نكون غير قادرين على النّفاذ نفوذا تامّا للحكمة الإلهيّة وعلى فهم سبب تنظيم الرّب الأشياءَ حالة بحالة مثل ما فعل؛ غير أنّ ديكارت لم يكن على استعداد لإنكار أنّ مثل هذه التّرتيبات كانت تشهد على المشيئة والرّعاية الإلهيّتيْن(6). وعلى نفس المنوال، نرى أنّ العلاّمة الألماني غوتفريد فيلهالم لايبنيتز، وهو أحد أكبر العقول النيِّرة في عصره وفيزيائي من الطّراز الأوّل، ويندرِج ضمن التّقليد الآلي، كان يدافِع على أنّ وجود العالَم نفسه لا يمكن تفسيره إلاّ باختيار صائب يُحدِّده الرّب على أنّه أفضل عالَم مُمكِن الوجود، في حين انّ نيوتن كان يدعم مسألة أنّ الطّريقة التي تتصرّف بها الأجسام حسب القوانين الطّبيعيّة هي أفضل دليل على هيمنة الرّب. وبالفعل، كان نيوتن يؤكِّد على أنّه لا يوجد أيّ مثال على العناية الخارقة للطّبيعة أفضل من عمليّة القوّة الجاذبيّة التي يمكن وصفها رياضيّا. وهكذا نرى أنّه وحتّى في عصر العقل، كان الرّب له دور أكبر من أيّ وقت مضى في السّير المنتظِم للطّبيعة.
إذا كان الحديث عن خلق العالَم من طرف الرّب والتّيسير الإلهي في شؤونه مُمكِناً، كان تناول موضوع تدخُّلِه المُعجِز قضيّةً مختلفة تماما، على الأقل لدى معظم فلاسفة ذلك العصر: لا يجب على التأمّلات بخصوص القدرة الإلهيّة والعناية الإلهيّة أن تقيم أيّ فارِق مهمّ في الطّريقة التي يتَمّ بها العلْم(7).
كما قال لايبنيتز، مهما كانت أهميّة هذه المسائل الميتافيزيقيّة في بناء أسُس الفيزياء، فإنّها على وجه الدّقة لا تشكّل جزءًا من الفيزياء. ولكن بمجرّد الإقرار بإمكانيّة حدوث المعجزات فإنّ ضرورة الطّبيعة تصبح مهدّدة وانتظامها حسب قوانين معيّنة (على الأقل من حيث المبدأ) يصبح خاضعا لحالات إستثنائيّة. وبالعكس، فإنّ ضرورة الطّبيعة المفتَرَضة تقوِّض كلّ امكانيّة حدوث استثناءات مُعجِزة في ما تقوم به من أعمال. ولهذا نرى أنّ توتُّرا خطيرا يظلّ ماكثا في قلب مذهب الآليّة المعاصرة خصوصا بالنّسبة لأنصارها الأكثر تحمُّسا.
تُفهَم المعجزة عموما على أنّها حدث تكون علَّتُه قوّةً إلهيّة تخالِف به، أو على الأقل تتجاوز به، النّظام الطّبيعي. فمثل هذ الحدث الخارِق يمكنه أن يكون انتهاكا صارخا لقوانين الطّبيعة كما هو الحال مثلا مع جسم يُحرّكه الرّب بطريقة معاكسة لقوانين الفيزياء، أو يتحوّل فجأة وكليّة إلى مادّة أخرى مغايرة تماما. فالكتب المقدّسة تروي لنا كيف أنّ الرّب شقّ البحر الأحمر أمام بني إسرائيل أثناء خروجهم من مصر، وكيف تحوّلت عصا هارون إلى أفعى (خروج، 7، 8-11)، وكيف أنّ الشّمس توقّفت عن الحركة في السّماء حتّى يتسنّى ليشوع مزيدٌ من الوقت ليثأَر من أعداء إسرائيل ("فوَقفت الشّمسُ في كَبِد السّماء، وأَبْطَأَت عن الغُروبِ نحو يومٍ كاملٍ"، يشوع 10: 12-15). أو ربّما تكون المعجِزة، إذا استخدمنا التّمييز الذي أقامه بعض مفكِّري العصر الوسيط، إمّا حدثا يقع خارج النّظام الطّبيعي للأشياء بالرّغم من أنّه ليس في حدّ ذاته مخالفا لقوانين الطّبيعة (قدّم توما الأكويني مثالا على ذلك في كائن بشريّ يحيى من جديد بعد موته)، وإمّا حدثا خارقا للعادة ونادرا، وربّما تكون الطّبيعة قادرة على تفسيره، ولكن في الحقيقة هو ظاهرة لا تتسبّب فيها عمليّة العِلل الطّبيعيّة ولكن يكون سببه الرّب (وكمثل على ذلك خروج دانيال سالما من جُبِّ الأسود)، وإمّا أيضا حدثا عاديّا جدّا تقوم به الطّبيعة بصورة معتادة (مثل شفاء المرضى)، ولكن، في حالات نادرة، لا يمكن تفسير هذا الحدث إلاّ بالقوّة الإلهيّة وحدها(8).
لم تكن النّقاشات الفلسفيّة في العصر الوسيط بخصوص المعجزات تتعلّق فقط بتعريف ماهية المعجِزة، ولكن أيضا حول الطّريقة التي يُحدِث بها الرّب هذه المعجزات. فقد كان هناك القليل من المفكّرين الذين كانوا يرون أن دور الرّب السّببي يتمثّل، في مثل هذه الحوادث، في تدخّلات متعدِّدة خاصّة بكلّ حدث، وتتكيَّف مع وضعيّات معيَّنة حيث يقوم الرّب في الّلحظة المناسبة بإدخال تغيير مؤقَّت في نظام الطّبيعة. ربّما نجد هنا التصّور الذي كان قد وسَم الخيال الشّعبي، ولكنّه كان يبدو في نظر العديد من فلاسفة العصر الوسيط خياليّا جدّا وتجسيميّا (وربّما كذلك بعيدا جدّا عن كلّ ما هو قبْل عِلْمي)، وبمثابة تصوّر لا يتماشى مع بساطة الحكمة الإلهيّة الكليّةِ المعرفة. وفي المقابل، كان الفلاسفة اليهود، والمسيحيّين، والمسلمين في هذه الفترة الطّويلة أكثر ميولا لاعتبار أنّ المعجزات كانت مُدرَجة في مجرى الأحداث منذ لحظة الخلق. والرّب يعرف بالضّبط، بما أنّه يتصرّف وفق مخطّط أُعِدّ سلفا، ماذا ومتى يجب أن يحدث الشّيء إمّا متّفِقاً مع قوانين الطّبيعة أو متضاربا معها. فهو يقدِّر الأشياء هكذا منذ البداية بطريقة يتسنّى معها حدوث المعجزات أو الاستثناءات لهذه القوانين في اللّحظة المناسبة. ويمكن أنّ يتمّ ذلك إمّا لأنّ الرّب خلق طبيعة شيء مّا (مثل عصا هارون)، حتّى تأخذ، في لحظة معيّنة وبفضل هذه الطّبيعة، شكلا جديدا ومُبتَكَراً (شكل أفعى)، وإمّا لأنّ الرّب يُدخِل في مجرى الطّبيعة المُعَدِّ سلفا، وبالرّغم عن طبيعة الأشياء، استثناءات مؤقَّتة لهذه الطّبيعة وتعطيلات للقوانين وعمليّات الطّبيعة ذاتها. في كلا الحالتيْن، تولد المعجزة بمثابة عنصر منظَّم في رحم سلسلة من الأحداث تتعاقب على امتداد الزّمن. يصف فيلسوف من العصر الوسيط هذا التصوّر على النّحو التّالي:
"[...] كلّ المعجزات التي تنحرف عن المجرى الطّبيعي للأحداث، سواء كانت قد حدثت بالفعل، أو ستحدث في المستقبل حسب ما هو مقدَّر، تمّ ترتيبها مسبقا بواسطة إرادة الرّب خلال أيّام الخلق السّتة، حيث كانت الطّبيعة مكوَّنة بصفة تجعل المعجزات، التي يجب لها أن تحدث، تحدث بالفعل بعد ذلك. وهكذا، عندما تقع حادثة في الوقت المحدّد لها، يمكن أن نظنّ أنّها ابتداع مطلق في حين أنّها ليس بدعة بل حقيقة"(9).
فالمعجزة، بحكم كونها مقدَّرة من الرّب، فهي إذاً تحدث بالضّرورة، غير أنّ ضرورة الطّبيعة، كما تضبطها قوانينها الخاصّة بها، فإنّها بحكم مشيئة الرّب تتوقّف وينقطع فعلها مؤقّتا.
إنّ هذا النّقاش حول طبيعة نشاط الرّب وإحداث المعجزات امتدّ طيلة القرن السّابع عشر وشغل عددا كبيرا من معاصري سبينوزا. إنّ المفكِّر الفرنسي بيار بايلي (Pierre Bayle)، وهو لاجئ كالفيني انتهى بالاستقرار في روتردام، ربّما كان واحدا من بين القلائل في تلك الفترة الذين كانوا يعتقدون بأنّه إذا كانت المعجزات موجودة حقّا (بالرّغم من أنّه يُضعِف هذا الإحتمال)، فإنّ الأمر يتعلّق بتدخّلات إلهيّة مخصّصة للغرض، مرصودة لزعزعة نظام الطّبيعة في حالات خاصّة جدّا. بالنّسبة للابنيتز، العالَم الذي يجب على الرّب أن يُدخِل فيه باستمرار المعجزات يكون عالَماً يفتَقِر بعض الشّيء للكمال، ويتطلّب تعديلات على الدّوام وهو ما لا يندرج تماما في اختيار الرّب. فالمعجزات، في نظره، هي جزء مفروض إلاهيّا ومبرمَج في نظام الطّبيعة العامّ وليس هو انقطاع لهذا النّظام وذلك بالرّغم من أنّ هذه الأحداث الخارقة تتجاوز القدرات الطّبيعيّة للكائنات المخلوقة.
إنّ أشدّ المفكّرين، الأكثر تقدُّميّة، وَلاءً لتفسيرات الفلسفة الآليّة في حقل العلم ومقولة الطّبيعة المحكومة بقوانين والضّرورة السّببيّة، كلّ هذا لم يكن ليحُدّ من حماستهم لتوفير مكان للمعجزات في تصوّراتهم. بالفعل، منذ العصر القديم، كان الفلاسفة النّاطقون بالعبريّة، أو بالعربيّة، أو باللاّتينيّة، يعتبرون عامّة كلّ فلسفة للطّبيعة تُنكِر المعجزات نكرانا باتّا على أنّها فلسفة ناقصة. والضّرورة ليست هي نفسها دائما، وهناك عدّة ضرورات تتغيّر من حيث طبيعتها. فنظام الطّبيعة عند أرسطو تحكُمه ضرورة سببيّة، ولكنّها تبدو، في نظر مُنتقِديه المتأخِّرين، مُشْطَّة إلى درجة يستحيل معها حدوث المعجزات. إذ نجد عنده أنّ المُحرِّك الأزلي الذي لا يتحرّك، لا يتدخّل ولا يستطيع أن يتدخّل في الطّبيعة(10). لقد كان كثير من المفكِّرين الدّينيّين، بمن فيهم أولئك الذين كانوا على العموم من أنصار مذهب أرسطو، يرفضون هذا المنحى الخاصّ للفلسفة المَشّائيّة (peripatetic)، ويأسفون لكون عقيدة أرسطو المتمثّلة في أزليّة العالَم غير المخلوقة وما ينجرّ عنها من ضرورة وجوده (أي العالَم) ووجود كلّ ما يشتمل عليه، لا تترك أيّ مجال للتّغيّرات المعجِزة في نظام الأشياء، وهي بذلك تشكّل خطرا على مشيئة الرّب في خليقته.
الفلاسفة القروسطيّون والمعاصرون، كلّهم تقريبا، لم تكن الإحتماليّة الميتافيزيقيّة للمعجزات بالنّسبة لهم محلّ نقاش. فأسلاف سبنوزا ومعاصروه، سواء منهم أولئك الذين كانوا مؤمنين صادقين في إيمانهم أو أولئك الذين كانت تحرّكهم الرّغبة في عدم الدّخول في صراع مع جامعات اللّاهوت، لم يكونوا على استعداد، على الأقلّ من حيث المبدأ، على استبعاد فكرة وجود حالات ممكنة، من أصل إلهي، يتعطّل فيها السّير المنتظِم للطّبيعة. فالرّب قادِرٌ على ألاّ يكونَ قادراً على فعْل ما هو غير مُمكِن منطقيًّا، فهو لا يستطيع أن يُحوِّل المربَّع إلى دائرة، ولكنّه قادر، بكلّ تأكيد ويقين، أن يفعل شيئا يكون طبيعيّا غير مُمكِن. وهو قادر على ذلك من جهة أنّ حدود ما هو مُمكِن طبيعيّا، أي قوانين الطّبيعة، هي حدود رسَمَها هو بنفسه.
إذا كانت مشكلة تعريف المعجزات وكيفيّة حدوثها مسألة هامّة، فإنّ مسألة معرفة ما هو الغرض منها هي مسألة تضاهيها في أهميّتها. وفي هذه النّقطة بالذّات نجد كذلك إجماعا بين التّقاليد الدّينيّة والتّقاليد الفلسفيّة. فنحن نجد فلاسفةً مسيحيّين، ويهودا، ومسلمين، أرسطيِّين كانوا أم أفلاطونيّين، أم ديكارتيّين، أو عقلانيّين، تجريبيّين، أو إرادَوِيّين، كلّهم كانوا يعتقدون أنّ المعجزات كانت في خدمةِ غاية معيّنة، حتّى وإن كانت هذه الغاية لا يدركها بالضّرورة الفكر البشري. ومهما كانت الطّريقة التي فهموا بها طبيعة المعجزات، سواء على أنّها تدخّلات ماورائيّة لغرض معيّن أو بمثابة تعطيلات لانتظام الطّبيعة برمجها الرّب مسبَقا، فكلّهم كانوا متّفقين في شيء أنّ الرّب لا يتصرّف عن هوى. فالمعجزات هي أحداث إلهيّة تحتوي في باطنها على معنى ديني وأخلاقي.
يمكن أن نجد، بين المفكّرين، بعض الاختلافات في التّفاصيل فيما يتعلّق بالعلاقات التي تربط المعجزات بالغايات السّماويّة للرّب. فبعضهم يرى أنّ المعجزات مهمّتها هي الشّهادة على وجود الرّب وقدرته؛ والبعض الآخر يعتبر أنّها تُستَخدَم لتبليغ رسائل أو تحذيرات مهمّة. حيث يُقال غالبا إنّ المعجزات هي تصديق لصحّة رسالة هذا النبيّ أو ذلك (فكلّ شخص يمكنه إدِّعاء النّبوّة، غيرَ أنّ النبيّ الحقيقي هو ذاك الذي يقيم الدّليل على قدراته من خلال الإتيان بمعجِزة)، ثمّ وفي بعض الأحيان كانت المعجزات تُعتَبَر على أنّها عوامِل مساعدة لتقدّم مشيئة الرّب عبر التّاريخ وذلك عندما يتسبّب عناد البشر ومكابَرتهم في عرقلتها. فكلّ المعجزات الواردة في البيْبل لها، بطبيعة الحال، نفس هذه الوظائف، والإختلاف غالبا ما ينحَصْر في التّفسير الذي يُعطى للقصّة المعجِزة: هل يجب تفسيرها حرفيّا أم مجازيّا؟ هل يجب اعتبار المعجزة بمثابة تبليغ لحقيقة مّا، أم على أنّها مجرّد وسيلة عمليّة تسمح بتحريك الأشياء لتمضي قُدُماً؟
حتّى أكثر الفلاسفة عقلانيّة كانوا يأخذون هذه المسائل على محمل الجدّ. ربّما يكون الصّراع بين التّقليد الدّيني والتأمّلات النّظريّة للفلسفة، كما لاحظ بعض الباحثين، كان أكثر حدّة حول مسألة المعجزات هذه، وبالخصوص لأنّ المعجزات كانت تمثّل عائقا للفهم العقلاني للعالَم(11). فحسب المصادر التي يُفضّل الاعتماد عليها فيلسوف مّا والتّقليد الدّيني الذي ينتمي إليه (إن كان بالاسم أو عن إيمان حقيقي)، فإنّه يميل نحو هذا الحلّ أو ذاك. ومع هذا، فإنّ الجدالات والمناظرات المتعلّقة بالطّبيعة وبالتدخّل المعجِز والخارق للرّب في العالَم تكتسي صفة داخليّة، وكلّ هؤلاء الفلاسفة كانوا متّفقين ضمنيّا على أنّ مثل هذا التّدخّل يمكنه أن يحدث وأنّه حدث فعلا على الأقلّ في فترة مّا من فترات التّاريخ.

(يتبع)
-------------------
هوامش
(1) أنظر:
Müller, Johann Heinrich. 1714. Dissertatio Inauguralis Philosophica de Miraculis, Altdorf (Pitts Theological Library, Emory University, Atlanta), p. 3.
(2) نفس المصدر، ص 8.
(3) نفس المصدر، ص 13.
(4) أنظر:
Israel, Jonathan. 2001a. Radical Enlightenment: Philosophy and the Making of Modernity 1650–1750. Oxford: Oxford University Press, p. 2018.
(5) الإسميّة (nomology) هي دراسة القوانين، علم القوانين والشّرائع.
(6) يذهب ديكارت إلى حدّ القول بأنّه "يجب أن نعرف بأنّ كلّ شيء تُسيِّره العناية الإلهيّة، وقرارها الأزلي هو في غاية العصمة والثّبات حتّى أنّه باستثناء الأشياء التي أراد هذا القرار نفسه أن تتوقَّف على حرّية اختيارنا علينا أن نفكّر بأنّه لا شيء يحصل بالنّسبة لنا دون أن يكون ضروريّا وكقدَر لا مفرّ منه، حتّى أنّنا لا يمكننا، دون الوقوع في الخطأ، أن نرغَب في أن يقع بطريقة أخرى"، انفعالات النّفس"، ترجمة جورج زيناتي، دار المنتخَب العربي، بيروت، لبنان، 1993، ص 89. ونحن لا نعرِف ما إذا كان ديكارت يُمجِّد الإيمان ظاهريّا فقط أم كان بالفعل يعتقِد مخلِصا فيما يكتُب، ولكن هذه قضيّة أخرى تبقى مطروحة.
(7) هذه الاعتبارات كان بإمكانها أن تلعب دورا برنامجيّا للعلْم. فمثلا نرى مالبرانش (Malebranche)، ولإنّه يعتنق مذهب العِليّة، يعتقد أنّ دور العالِم لا يقطن في البحث عن القوى السّببيّة (وكلّها موجودة في الرّب وحده)، ولكن يجب دراسة انتظام الطّبيعة (مثلا، تداعيات النّشاط الإلهي) ومن ثمّة صياغة القوانين التي تصفها. وأيضا يمكن أن يكون لمفاهيمَ ميتافيزيقيّة تأثيرٌ على ما يتوصّل إليه العلْم من استنتاجات. لايبنيتز، من جهته، كان يعتبر أنّ ديكارت ومالبرانش قد انقادا إلى تصوّر خاطئ عن بعض أبسط قوانين الحركة والاصطدام وذلك لأنّهما أساءا فهم الفرق من حيث الطّبيعة بين الحركة والسّكون في نشاط الرّب.
(8) أنظر على سبيل المثال الفصل 101 من كتاب Summa contra Gentiles (الخلاصة اللّاهوتيّة)، الذي يفرِّق فيه توما الأكويني بين ثلاث درجات من المعجزات بحسب ما إذا كان الحدث، من حيث المبدأ، في قدرة الطّبيعة أم لا.
(9) ابن ميمون، توراة مشناه، الفصل 8، في التّرجمة الإنكليزيّة لعام 1972، ص 383، والتّرجمة هذه من عندنا في انتظار العثور على النصّ الأصلي إن وُجِد، لأنّنا تعوّدنا على هذا النّقص الفادح في المصادر والمراجع المترجَمة إلى العربيّة.
(10) أرسطو، ما وراء الطّبيعة (أو الميتافيزيقا)، في التّرجمة الإنكليزيّة (Metaphysics, XII.6–7.)؛ التّرجمة العربيّة، التي أصدرتها في اللّاذقيّة دار ذو الفقار، سنة ،2008 الطّبعة الأولى، لا تحمل اسم المترجِم، وهي تبدأ بعبارة "باسم الله الرحمن الرّحيم" [كذا]، وتنتهي بعبارة "وهنا انقضى القول في هذه المقالة، ولواهب العقل والحكْمة الحمد الكثير، بحمد الله تعالى"؛ والأغرب في كلّ هذا أنّ المترجِم حذف الفصليْن الأخيريْن 12 و13 من الكتاب، والفصل 12 هو الذي يشرح قضيّة "المحرِّك الأزليّ الذي لا يتحرَّك". [المترجِم].
(11) أنظر، Ackerman 2009.



#ناصر_بن_رجب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كتاب صُنِع في الجحيم(9)
- كتاب صُنِع في الجحيم(8)
- كتاب صُنِع في الجحيم(7)
- كتاب صُنِع في الجحيم(6)
- كتاب صُنِع في الجحيم(5)
- كتاب صُنِع في الجحيم(4)
- كتاب صُنِع في الجحيم (3)
- كتاب صُنِع في الجحيم (2)
- كتاب صُنِع في الجحيم (1)
- رَبُّ القَبائل، إسلام محمّد
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (14)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (13)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (12)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (11)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (10)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (9)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (8)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (7)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (6)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (5)


المزيد.....




- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...
- لبنان: المقاومة الإسلامية تستهدف ثكنة ‏زبدين في مزارع شبعا ...
- تزامنًا مع اقتحامات باحات المسجد الأقصى.. آلاف اليهود يؤدون ...
- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...
- شاهد..المستوطنين يقتحمون الأقصى في ثالث أيام عيد -الفصح اليه ...
- الأردن يدين سماح شرطة الاحتلال الإسرائيلي للمستوطنين باقتحام ...
- طلاب يهود بجامعة كولومبيا: مظاهرات دعم فلسطين ليست معادية لل ...
- مصادر فلسطينية: أكثر من 900 مستعمر اقتحموا المسجد الأقصى في ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ناصر بن رجب - كتاب صُنِع في الجحيم(10)