أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ناصر بن رجب - كتاب صُنِع في الجحيم(8)















المزيد.....

كتاب صُنِع في الجحيم(8)


ناصر بن رجب

الحوار المتمدن-العدد: 7156 - 2022 / 2 / 8 - 22:40
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


كتاب صُنِع في الجحيم
محنة سبينوزا ونشأة العَصر العَلماني


الفصل الرّابع (تتمّة 1)

آلهة وأنبياء

إنّ الأديان المنظَّمة التي تسبّبت، في نظر سبينوزا، في الكثير من النّزاعات على مستوى المجتمَع وصيّرت العقول البشريّة إلى حالة من العبوديّة، هي أيضا مبنيّة على رؤية متفرِّدة حول أصل المعرفة الدّينيّة والطّريقة التي يتمّ بها إيصال الحقائق الإلهيّة إلى البشر. ففي قلب كلّ الأديان والتّقاليد الإبراهيميّة نجد "النّبوّة"، بمعنى آخر فكرةٌ مفادها أنّ بعض الأشخاص يتمتّعون بموهبة خاصّة يستطيعون بها تلقّي كلام الرّب وتبليغه للنّاس. وعلى غرار القدرة التي كانت تُنسَب في العصر الوثني ما قبل التّاريخ للكهَنَة والعرّافين فإنّ هذه المَلَكة تُقدَّم عامّة على أنّها القدرة على النّفاذ إلى معلومات ليست في متناول الآخرين وغير متاحة لهم ولا يمكن الحصول عليها بالوسائل العاديّة. فالنّبيّ إمّا أن يكون ذاك المُتلقِّي للوحي الإلهي مباشرة أو عبر وساطة ملائكيّة، أو أن يكن مجرّد مُترجِمٍ مُلْهَمٍ للآيات التي بعث بها الرّب إلى الجنس البشري. يمكن أن يكون له كذلك علْم حقيقي بالغيب أو يمتلك المؤهِّلات، وهي أقلّ عِصمَة ولكنّها مع ذلك تبقى جديرة بالثّقة، ليتكهّن بما ستتمخّض عنه أحداث المستقبل، مستندا ربّما على قدرة خاصّة على قراءة وتفسير معنى ظواهر ووقائع ماضية وحاضرة. يمكن اعتبار القدرة النبويّة في بعض الجوانب بمثابة هِبَة خارقة للطّبيعة أو كنيتجة لمدارِك طبيعيّة(1). يمكن أن تصل الأخبار إلى النبيّ عبر رؤى أو أحلام أو، وهو شيء نادر، نتيجةَ لقاء مباشر مع الرّب نفسه.
من بين أنبياء الدّين اليهودي، نجد أنّ موسى هو النبيّ الوحيد الذي يُفتَرَض أنّه كلّم الرّب مباشرة، وجها لوجه؛ أمّا الآخرون فقد تلقّوا نبوءاتهم من خلال رؤى أو أحلام، عبر صُوَر أو أصوات. ويقول لنا المأثور الإسلامي إنّ أوّل الوحي نزل على محمّد بواسطة الملاك جبريل. في المسيحيّة، تُعتَبر قدرات يسوع النبويّة على أنّها قدرات فريدة من نوعها على الإطلاق، إذ يجب أن يكون، بصفته كإنسان، متماهيا مع الرّب. فموسى، وعيسى، ومحمّد كان كلّ واحد منهم مكلَّفا بإيصال شريعة الرّب السّامية للشّعب، في حين أوكِلت لأنبياء آخرين مهمّة تفسير هذه الشّريعة، يُبشِّرون أولئك الذين يؤمنون بها ويتّبعونها بثواب ونِعَم الآخرة، وينذِرون الكافرين بها مغبّة عقاب يوم عظيم.
ولنا مثل على ذلك، عندما تكلّم حزقيال باسم الرّب مُعلِناً أنّ مملكة يهوذا "المتمرِّدة" سينالها العذاب بسبب "القبائح العظيمة" التي ترتكبها، وبالخصوص عبادة الأصنام التي كان شعبها ما انفكّ يمارسها حسب عادة آبائه وأجداده. وهو يتنبَّأ بسقوط أورشليم الحتميّ وإجلاء بني إسرائيل من أرضهم، وهما الشّيئان اللّذان قام بهما البابليّون عام 586 قبل الميلاد:
"هكذا قال السَّيِّد الرّب: أتكونون تتنجّسون في طريق آبائكم وتزْنَوْن بالسَّير وراء أقْذارِكم، وبتقديم عطاياكم وتَمْريِر أَبْنائِكم في النّار؟ [...]
وأُمرِّركم تحت العصا، وأُدْخِلكم في رباط العهْد، وأَفرِز عنكم المتمرِّدين والعاصين عليّ وأخرِجهم من أرض غربتهم، لكنّهم لا يدخلون أرضَ إسرائيل، فتعلَمون أنِّي أنا الرّب" (حزقيال، 20، 30-31، 37-38).
يُعلِن النبيّ حزقيال للشّعب غضب الرّب والعقاب الشّديد الذي يوشِك أن يسلِّطه عليه:
"وقُلْ لأرضِ إسرائيلَ: هكذا قال الرّب: هاءَنَذا عليْكِ فأُجرِّد سيفي من غمده وأَقرِضُ منكِ البارَّ الشِّرِّير. لأنّه لأَقرِضَ منكِ البارَّ والشِّرِّيرَ يَتجرَّدُ سيفي من غمده على كلِّ بَشَر مِنَ النَّقَبِ إلى الشَّمال. فَيَعْلَم كلُّ بَشَرٍ أَنِّي أنا الرّبُّ قد جرَّدْتُ سيفي من غمده فلا يعود إليه. وأنتَ يا ابن الإنسان تَأَوَّهْ، بظهْرٍ مقصوم وبمَرارَةٍ تأوَّهْ أمام عيونِهم". (حزقيال، 21، 8-11).
ومع ذلك، فإنّ حزقيال يذكِّر بني إسرائيل أنّ الرّبَّ رَحيمٌ ويُوفي بعهْدَه. فيُبشِّرهم بعودتهم إلى أرض الميعاد، وبإعادة ترميم أورشليم وإعادة بناء الهيكل.
وهكذا نرى أنّ النبيّ يمتلك نوعا من الحكمة. فهو على علْم بأشياء مهمّة لا تُحصى ومُفيدة لانتعاش أولئك الذين يتحدّث إليهم؛ أمّا أولئك الذين يفضِّلون تجاهُلَه فهم يُعرِّضون أنفسهم لهلاك جسيم. ومصداقيّة أقواله ووجاهتها تفرضان أن يُعيرَها النّاس اهتماما أكبر. ولكن، ما هي بالضّبط طبيعة هذه الحكمة؟ فهل يكون النبيّ عبارة على فيلسوف؟ هل يمتلك معرفة لاهوتيّة عن طبيعة الرّب؟ أم لديه إدراك علميّ للكون وعالَم الطّبيعة؟ هل يمثّل سلطة قائمة بالنّسبة للطّبيعة البشريّة، والسّياسة والتّاريخ؟ باختصار شديد، ما هي نوعيّة الحقائق، إن وُجِدت عنده بطبيعة الحال، التي يُمرِّرها في نبوءاته؟
هذه هي بالضّبط الأسئلة التي يطرحها سبينوزا في الفصول الأولى من مبْحثه. وبالرّغم من أنّ هذه المواضيع كانت قد دُرِست من طرف عدّة مفكِّرين في العصور الوسطى والعصرالحديث، نرى فيلسوفا يتبوَّأ بصفة خاصّة مكانة مهمّة للغاية في التأمّلات التي يكرّسها سبينوزا للنّبوَّة، إذ أنّه صاغ تحليلاته بوضوح في شكل نقد مباشر لأفكار موسى بن ميمون، رابي وطبيب القرن الثّاني عشر ميلادي، ومؤلِّف "دليل الحائرين" الذي يُعدّ بلا أدنى شكّ أهمّ كتاب في الفلسفة اليهوديّة. يبدو أنّ سبينوزا كان بدون منازع متأثِّرا بابن ميمون، ويظهر هذا على عدّة أصعِدة: فمنحاه الميتافيزيقي، ولاهوته الفلسفي وفلسفته الأخلاقيّة تعكس كلّها قراءة متأنّية لدليل الحائرين وكتابات ميمونيّة أخرى. إنّ كلّ ما يستطيع سبينوزا قولَه، في الرّسالة، على سبيل المثال، بخصوص العلاقة بين الفضيلة، والعقل، والسّعادة أو فيما يتعلّق بالعلاقة بين المعرفة والخلود، يبدو أحيانا كامتداد منطقي، إن لم يكن امتدادا راديكاليّا لأطروحات ابن ميمون العقلانيّة(2). وبالمقابل نرى سبينوزا في مناسبات أخرى يقلِب آراء ابن ميمون رأسا على عقب لكي يهاجِم سلَفه العقلاني اليهودي والمواقف الفلسفيّة التّقليديّة (عندما تكون غير دينيّة) التي يتبنّاها. وهذا هو الحال في البحث الذي يقوم به سبينوزا في الرّسالة بخصوص النبوّة.
بالفعل، يؤكِّد ابن ميمون، في دليل الحائرين، على وجوب تحقّق شروط عدّة قبل أن يستطيع أيّ شخص مّا أن يُصبِح نبيّاً(3). إذ يجب عليه أن يكون "ذاك الشّخص الفاضل الكامل في نطقيّاته وخُلقِيّاته، [و]إذا كانت قوَّتُه المتخَيِّلَة على أكمل ما تكون وتَهيَّأَ التّهيُّؤ [الكامل]، فإنّه يتَنبَّأُ ضرورةً". فالنبوّة، هي إذاً "كمالٌ مّا في طبيعة الإنسان"، وهو "كمال لا يحصل للشّخص من النّاس إلاّ بعد ارتياضٍ يُخرِج ما في قوّة النّوع للفعل"، وذلك "إن لم يَعُق عن ذلك عائق مِزاجي، أو سبب مّا من الخارج"، أوَّلا، لأنّ الجسم غير الكامل والمزاج المُخْتَلّ قد يسبّبان اضطرابا كبيرا في حياة العقل، ثمّ، ثانيا، لأنّ القوّة المُتخيِّلة، التي هي أساسيّة للنبوّة عند ابن ميمون، تمثّل جزءًا من الجسد (أي الدّماغ، العضو الحامل لتلك القوّة)، وثالثا، يجب على المُتهَيِّئ للنّبوّة أن يكون قد بلغ درجة رفيعة من الفضيلة: فالشّخص إذا كان شرّيرا، أو جاهلا، أو لم ينَل الفضيلة كاملة، لا يمكنه بأيّ حال من الأحوال أن يتنبَّأَ، إذ يجب أن يكون قدوة حسَنة يستطيع أن يقود الآخرين نحو الخير. ولهذا لا يجب: "[أن] يكون قد تعطَّل فِكرُه وبطُل تشوّقُه للأمور البهيميّة، أعني إيثار لذّة الأكل والشّرب والنّكاح". ويلخِّص ابن ميمون رؤيته للنبوّة في أغراض ثلاثة: "كمال القوَّة النّاطِقة بالتَّعلُّم، وكمال القوّة المُتخيِّلة بالجِبِلَّة، وكمال الخُلق بتعطيل الفكرة في جميع الّلذّات البدنيّة وإزالة الشّوق لأنواع التّعظيمات الجاهليّة الشرّيرة".
غير أنّ هذه الأغراض الثّلاثة لا تكفي وحدها لكي يُصبِح شخص مّا نبيّاً. فلو كان الحال كذلك لكان اكتساب النبوّة سهلا ولأصبَحت جرّاء ذلك ظاهرة عاديّة شائعة. لذا، يجب لبلوغ مرتبة النبوّة توفّر شَرطيْن ضروريّيْن:
"اعْلَم أنّ حقيقة النبوّة وماهيّتها هو فيْض من الله عزّ وجلّ بوساطة العقل الفعّال على القوّة النّاطقة أوّلا، ثمّ على القوّة المتخيِّلة بعد ذلك، وهذه هي أعلى مرتبة الإنسان وغاية الكمال الذي يُمْكن أن يُوجَد لنوْعِه. وتلك الحالة هي غاية كمال القوّة المتخيِّلة. وهذا أمر لا يمكن في كلّ إنسان بوجه، ولا هو أمر يصِل إليه بالكمال في العلوم النّظريّة، وتحسين الأخلاق حتّى تكون كلّها على أحسن ما يكون وأجمَلِه دون أن يضاف لذلك كمال القوّة المتخيِّلة في أصل الجِبلَّة على غاية ما يمكن".
لا يمكن إذاً أن يُصِبح الإنسان نبيّاً إلاّ إذا كان يتمتّع بكمال القوّة البدنيّة وكمال الأخلاق وذلك بنفس درجة تمتّعه بكمال القوّة النّاطِقة (أي الذّكاء الوقّاد) وكمال القوّة المتخيِّلة: أي باختصار ذلك الإنسان الذي "تَعلَّمَ وتحكَّمَ"، بمعنى أتقن إتقانا جيّدا العِلْم والفلسفة.
ومتى خرج هذا الشّخص من القوَّة إلى الفِعل "وصار له عقل إنسانيّ على كماله وتمامه"، فإنّه يدخل في علاقة مع الفَيْض العقْلي الذي ينبع ويفيض من الله، الذي هو الفيض الأسمى، فيَنعَم به. وهكذا فإنّ هذا الفيض الذي هو من عند الخالِق ينفذ إلى مدارِك هذا الشّخص العقليّة [القوّة النّاطقة]. ولكن، إذا توقّف ذلك عند هذا الحدّ، أي بمعنى آخر، إذا "كان [الفيض الإلهي] فائضا على القوّة النّاطقة فقط، ولا يفيض منه شيء على القوّة المتخيِّلة"، فإنّ الشّخص، وهو في كمال عقله، يكون مِن "صِنْف العُلَماءِ أهْلِ النّظَر"، أي فيلسوفاً.
امّا إذا كان نفس الشّخص قد تلقّى "الفيْض على القوّتيْن جميعا، أعْني النّاطِقة والمتخيِّلة كما بيّنّا [...]، وكانت المتخيّلة على غاية كمالها الجِبِلّي"، فهو يكون من "صِنْف الأنبياء". والوحي إنّما يأتي عند " سُكون الحواسّ وتعطَّلها عن فعلها"، وعند سكون فيض الأخبار المتأتّية من العالَم الخارجي؛ وهو ما يسمح للمُتخيّلة أن تتلقّى الفيض الذي يصلها عبر القوّة النّاطقة "فتَكمُل وتَفعَل فعلها"، أي تحفظ المحسوسات [محتوى هذا الفيض] وتُعيد تركيبها ومن ثمّة ترجمتها إلى صور. فتكون النّتيجة حدوث "المَنامَات الصّادقة" التي تشكِّلها الإدراكات النّظريّة التي تفيض من العقل الفاعِل:
"فالشّخص الذي هذه صِفَتُه لا شكّ أنّه عندما تفعل قوّته المتخيِّلة التي هي على أكمل ما يكون، ويفيض عليها من العقل، بحسب كماله النّظري، فإنّه لا يُدرِك إلاّ أمورا إلاهيّة غريبة جدّا. ولا يرى غير الله وملائكته ولا يشعر ولا يحصُل له علْم إلاّ بأمور هي آراء صحيحة وتدبيرات عامّة لصلاح النّاس بعضهم ببعض".
بعبارة أخرى، النبيّ هو شخص يعرف كلّ ما يعرفه الفيلسوف، ولكنّ معرفتَه تتمّ بواسطة صُوَرٍ وتجسيمات حسيّة. (الاستثناء الوحيد عن هذه القاعدة هو موسى الذي خاطب الله مباشرة وليس من خلال صُوَر). والنبيّ له أيضا مَلَكة تبليغِ علمِه للآخرين بشكل ميَسَّر عبر قصص وأمثال، عوض الخوض في نظريّات مجرّدة:
"فلِتَعْلَم أنّ هذا الفيض العقليّ، إذا كان فائضا على القوّة النّاطقة فقط، ولا يفيض منها شيئ على القوّة المتخيّلة، إمّا لقلّة الشّيء الفائض أو لنقص كان في المخيّلة في أصل الجبلّة فلا يمكنها قبول فيض العقل. فإنّ هذا هو صنف العلماء أهل النّظر. وإذا كان ذلك الفيض على القوّتيْن جميعا، أعني النّاطقة والمتخيّلة كما بيّنّا وبيّن غيرنا من الفلاسفة، وكانت المتخيّلة على غاية كمالها الجِبِلّي فإنّ هذا هو صنف الأنبياء".
هذا الدّور الذي تلعبه المُخيَّلة يمنح، في حقيقة الأمر، النّبيَّ مزيَّة يتفوّق بها على الفيلسوف: فلأنّ النّبي يتلقّى محتوى الفيض العقلي بوسائط مرتبطة بالمخيّلة، من خلال أحلام ورؤى، فإنّه يُدرِك أشياء لا يقدر على التعرُّف عليها حتّى ذاك الفيلسوف الضّالع في المعرفة النّظريّة المجرّدة، "لأنّ ذلك الفيض بعينه الذي فاض على القوّة الخياليّة حتّى كمَّلَها إلى أن حصل من فِعْلِها أن تُخْبِر بما سيكون، وتدرِكه كأنّها أمور قد أَحَسَّت بها الحواسّ". فالمخيّلة تسمح للنّبيّ أن يدرِك الرّوابط بين الأشياء والتي يمكنها أن تَخْفى على الفيلسوف "لأنّ الأشياء كلَّها تشهَد بعضها لبعض، وتدلّ بعضها على بعض"، وذلك دون أن تُدرَك تلك الأشياء دائما بشكل ظاهر ومباشر من طرف شخص يعتمد فقط على مجرّد العقل والمدركات النّظريّة، فهو "إدراكُ ما لم تُدرِكه بمقدِّمات وتنْتِيج وفِكْر".
فالنّبيّ، عند ابن ميمون، هو مُبلِّغ للحقائق كما هو حال الفيلسوف، منها حقائق أخلاقيّة من أمر ونهي أو حضٍّ على خُلُق كريم، وأيضا حقائق "العلوم النّظريّة"، وحقائق ميتافيزيقيّة، ولاهوتيّة وعلمِيّة، كلّها مسخَّرة لكمال عقولنا. فهو يبلِّغنا في آن واحد القوانين النّافعة لسعادتنا الشّخصيّة والإجتماعيّة وكذلك "العِلَل الصّحيحة" المُبَرهَن عليها فلسفيّا. والنّبيّ هو ذلك الذي يٌعلِّمنا كيف نتصرّف في حياتنا اليوميّة، وأيضا ما يجب أن نَعتقِد به بخصوص الله، والكون وأنفسنا.
بالإضافة إلى ذلك، وعلى غرار حِكمَة الفيلسوف، فإنّ النّبوّة هي نتاج طبيعي لما تبلغه مدارك النّبيّ الغريزيّة فيه من كمال، أو كما يقول ابن ميمون الذي يعطي هذه الظّاهرة صفة طبيعيّة، حيث يقول بـ"أنّ النبوّة[هي] كمالٌ مّا في طبيعة الإنسان". ولهذا فإنّ الله لا يختار شخصا لتحمّل أعباء النّبوّة بصورة اعتباطيّة. فلا وجود لفعل خارِق للطّبيعة، عشوائيٍّ كان أم غير ذلك، يعطي به الله النبوّة لفرد مّا: "وبحسب هذا الرّأي لا يمكن أن يتنبَّأ الجاهِل ولا يكون الإنسان يُمْسِئُ غير نبيّ ويُصبِح نبيّا كمن يَجد وجْدَةً". وابن ميمون يرفض رفضا قاطعا الرّأي القائل بـ"أنّ الله تعالى يختار مَن يشاءُ من النّاس فيُنبِّيَه ويَبْعَثه"، سواء كان ذلك الشّخص قد تهيّأ لذلك أم لا. بالنّسبة لابن ميمون، لا يصبح شخص مّا نبيّا إلاّ بعد أن يبذل كلّ ما استطاع من جهد لترويض مداركه البديّة والعقليّة، "في نُطْقيّاته وخُلقيّاته" التي منحتها إياه الطّبيعة، فعندها يكون قد تهيّأ التّهيؤ الكامل فـ"يتنبَّأُ ضرورةً".
(يتبع)
-------------------
هوامش
(1) كما يقول آلتمان Altmann، (1978، ص 1): "إنّ مسألة معرفة ما إذا كانت النبوّة عبارة عن ظاهرة طبيعيّة أم هي هِبة إلهيّة تعود إلى العصر القديم الكلاسيكي".
Altmann, Alexander. 1978. “Maimonides and Thomas Aquinas: Natural´-or-Divine Prophecy?” Association for Jewish Studies Review 3:1–19.
(2) حول سبينوزا وابن ميمون، يُنظَر:
Wolfson 1934, Harvey 1981, Levy 1989, Ravven 2001, Nadler 2002, and Fraenkel 2006.
(3) كلّ الاقتباسات اللّاحقة مستمدَّة من دليل الحائرين، ج 2، فصل 32 وما بعده في حديث ابن ميمون عن النبوّة.



#ناصر_بن_رجب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كتاب صُنِع في الجحيم(7)
- كتاب صُنِع في الجحيم(6)
- كتاب صُنِع في الجحيم(5)
- كتاب صُنِع في الجحيم(4)
- كتاب صُنِع في الجحيم (3)
- كتاب صُنِع في الجحيم (2)
- كتاب صُنِع في الجحيم (1)
- رَبُّ القَبائل، إسلام محمّد
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (14)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (13)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (12)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (11)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (10)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (9)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (8)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (7)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (6)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (5)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (4)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (3)


المزيد.....




- “العيال الفرحة مش سايعاهم” .. تردد قناة طيور الجنة الجديد بج ...
- الأوقاف الإسلامية في فلسطين: 219 مستوطنا اقتحموا المسجد الأق ...
- أول أيام -الفصح اليهودي-.. القدس ثكنة عسكرية ومستوطنون يقتحم ...
- رغم تملقها اللوبي اليهودي.. رئيسة جامعة كولومبيا مطالبة بالا ...
- مستوطنون يقتحمون باحات الأقصى بأول أيام عيد الفصح اليهودي
- مصادر فلسطينية: مستعمرون يقتحمون المسجد الأقصى في أول أيام ع ...
- ماذا نعرف عن كتيبة نيتسح يهودا العسكرية الإسرائيلية المُهددة ...
- تهريب بالأكياس.. محاولات محمومة لذبح -قربان الفصح- اليهودي ب ...
- ماما جابت بيبي أجمل أغاني قناة طيور الجنة اضبطها الآن على تر ...
- اسلامي: المراكز النووية في البلاد محصنة امنيا مائة بالمائة


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ناصر بن رجب - كتاب صُنِع في الجحيم(8)