أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ناصر بن رجب - كتاب صُنِع في الجحيم(7)















المزيد.....


كتاب صُنِع في الجحيم(7)


ناصر بن رجب

الحوار المتمدن-العدد: 7155 - 2022 / 2 / 7 - 01:48
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    



محنة سبينوزا ونشأة العَصر العَلماني

الفصل الرّابع

آلهة وأنبياء

في أواسط القرن السّابع عشر، يبدو أنّ الحروب الدّينيّة التي عصفت بأوروبا على إثر الإصلاح الدّيني كانت قد وضعت أوزارها، على الأقلّ إذا اقتصرنا على المعاهدات المبرَمة والإتّفاقيات السوسيو-سياسيّة المختلفة. في الواقع، ظلّت تداعياتها ملومسة طيلة عقود عديدة. اختلافات دينيّة كانت تؤجِّج تناحرات سياسيّة بين القوى العظمي في تلك الفترة، وبالخصوص فرنسا، وانكلترا، وإسبانيا والأراضي المنخفضة، وبارتداد عكسي كانت هذه البلدان تُهيِّج الخلافات اللّاهوتيّة. إنّ نقطة الاتّفاق الوحيدة بين الكاثوليك، والإنجليكان، واللّوثريّين، والكلفانيّين كانت تتمثّل في تشخيص الخطر الحقيقي على المجتمع وعلى أرواح أعضاء هذه الكنائس في أعمالٍ "كافِرة" على غرار رسالة سبينوزا في اللّاهوت والسّياسة وكتاب اللّيفياثان لتوماس هوبز.
كان سبينوزا يعتقد أنّه يمتلك الجواب الفلسفي المقنِع على الإتّهام الذي وُجِّه له باعتباره رجلا معاديا للدّين وملحدا غايته تقويض التّقوى والأخلاق. الرّسالة، مثل كتاب الأخلاق، هي دفاع عمّا كان سبينوزا يعتبره "الدّين الحقّ"، والذي يعرِّفه، كما سنرى لاحقا، على أنّه مجموعة مبادئ بسيطة تحدّد السّلوك الأخلاقي مصحوبة بمعرفةِ ما يمثّل أفضل شروط العيش لكائن بشريّ والوسيلة التي تؤدّي إلى بلوغها. فعِوَض أن يحدِّد الأسباب المعرفيّة والأخلاقيّة للتّقوى الحقيقيّة (محبّة الرّب) من خلال البرهَنة الهندسيّة الصّارمة كما فعل ذلك في كتاب الأخلاق، تعرّض سبينوزا لهذه المسألة في الرّسالة بواسطة تحليل نقديّ لما كان معاصروه يسمّونه "الدّين". فهو يركِّز اهتمامه بالخصوص على التّقاليد الدّينيّة الكبرى المُنظَّمة التي يبدو أنّها لم تكن مصدرا للسّلام والسّعادة بل بالأحرى مَعيناً لا يَنضَب للصّراعات والبؤس على مسار التّاريخ (بالخصوص في أوروبا بداية العصر الحديث). وبناء على ذلك، تبدو الرّسالة، أكثر بكثير من كتاب الأخلاق، عبارة على عمل جداليّ يناقش الأسس التّاريخيّة، والبسيكولوجيّة، النصيّة والسّياسيّة للدّين التّقليدي أو الشّعبي.
قبل كلّ شيء، يصبّ سبينوزا اهتمامه ويركِّزه على اليهوديّة والمسيحيّة، أي ديانتيّن من بين التّقاليد الإبراهيميّة الثّلاث الكُبرى. فمنذ الطّرد النّهائي للمسلمين من إسبانيا في القرن الخامس عشر، والدّين المسيحي هو الذي يحكم الحياة الرّوحيّة (ناهيك عن حكمِه للحياة الدّنيا) في أوروبا الغربيّة. بالرّغم من أنّ اليهود لا زالوا رسميّا، خلال الجزء الأكبر من القرن السّابع عشر، منبوذين من عدّة دول أوروبيّة كإنكلترا وفرنسا وإسبانيا، فإنّنا نجد مجموعات يهوديّة هامّة كانت تقطن في إيطاليا والأراضي المنخفضة ومختلف المناطق الجرمانيّة وكذلك في عدّة جهات من أوروبا الوسطى والشّرقيّة. في مقدّمة الرّسالة، التي يبسط فيها لمحة عن التّاريخ الطّبيعي للدّين، يُعرِّف سبينوزا التّقاليد الثّلاثة الكبرى على أنّها جوهريّا ليست إلّا أشكالا من الخرافات المنظَّمة لا غير لا ترتكز على العقل بل على الجهل والإنفعلات وبالخصوص الرّجاء والخوف(1).
هناك بُعْد خاصّ في حياة الكائنات البشريّة في هذا العالَم شغل على الدّوام الفلاسفة والشّعراء منذ ما قبل التّاريخ ألا وهو الدّور الذي يلعبه القدَر (القسمة والنّصيب) في سعادتنا. فنحن لا نملك إلاّ سيطرَة محدودة على ظروف وجودنا وبصفة خاصّة على ما يُصيبُنا من خيْر وشرّ على امتداد مسيرتنا على وجه البسيطة. كما أنّنا لا نملك على العموم القدرة على معرفة المدّة التي سنسعَد فيها بصحبة أشخاص تربطنا بهم علاقة وطيدة، وأيضا إلى أيّ مدى سننعَم بالأشياء التي نتمتّع بها. فالموت يمكن أن يحرمنا في لحظة خاطفة من شخص نحبّه، كما أنّ الثّروة أو التّشريفات يمكنها أن تزول في يوم أو آخر. من جانب آخر، نرى أنّ الأهداف التي نرسمها ونطمح إلى بلوغها تكون في الغالب الأعمّ تحت رحمة الظّروف التي تطرأ في حياتنا. باختصار، يضع العالَم أمام تحقيق سعادتنا صعوبات جمّة وغالبا ما تكون غير متوقَّعة؛ كما يكون سعينا لتحقيق السّعادة والعيش الكريم مرهونا بحسْن أو بسوء الطّالِع. فمهما أسعفنا الحظّ لبلوغ درجة مّا من الرِّضى والغبطة فلا شيء يضمَن لنا دوام هذا الرّضى وهذه الغبطة. لقد سبق وأن أدرك كبار التراجيديّين الإغريق هذه المسألة: نِعمَة الإنسان مرتبطة إلى حدّ بعيد بالحظّ.
يعتقد سبينوزا أنّ الخرافة هي ردّة فعلنا الطّبيعيّة في وجه "مَقاليع الدَّهرِ وسِهامه"(2) [The slings and arrows of outrageous fortune]. فما دامت الأشياء تسير بصورة جيّدة فإنّنا نقتصر على الاعتماد على قوانا الذّاتيّة، والشّخص الرّاضي بنصيبه لا يستنجد على العموم بالماورائي ولا حتّى بمساعدة بشر مثله معرَّض للفناء: "فلو استطاع النّاس تنظيم شؤون حياتهم وفقًا لخُطَّةٍ مرسومة، أو كان الحظُّ مؤاتيًا لهم على الدّوام، لَما وقَعوا فريسةً للخُرافة"(3).
ولكن عندما تنكسر آمالنا أو تتجسّد مخاوفنا، عندما نجد أنفسنا "في وضعيّة حرجة"، عندما نصبح عاجزين عن "اتِّخاذ أيّ قرار عقلاني"، حينئذ نلجأ مباشرة إلى أنماط محدَّدة من السّلوك بغية عكْس مجرى الأحداث وتطويع الأشياء لمشيئتنا:
"لا يُوجَد شخصٌ واحد عاش بين الناس إلَّا لاحظَ أنَّ مُعظمَهم، حتى أقلهم خِبرة، يُفيضون في أيام الرَّخاء حكمة، حتى إنّ مُجرَّد توجيه النُّصح لهم يُعدُّ إهانة، أمَّا في وقت الشدَّة فيتغيَّر كلُّ شيء إذ لا يعرفون مِمَّن يطلبون النُّصح وهم يَلتمِسونه من كلِّ من يُصادفهم، ويعملون بأشدِّ النصائح بُطلانًا وتناقُضًا وزيفًا"(4).
بالنّسبة لأولئك الذين لا يسعفهم الحظّ أو الذين يعيشون في الخوف ممّا ينتظرهم، فإنّ الأحداث حتّى أبسطها تبدو لهم بمثابة نذير خير أو شرّ، في حين أنّهم يُؤوِّلون الظّواهر غير العاديّة على أنّها آيات لرحمة الآلهة أو لغضبها، فهم: "يريدون أن تشاركهم الطّبيعةُ بأكملها هذيانَهم، فهم يختلقون خرافات سخيفة يفسّرون بها الطّبيعة بطُرق عجيبة لا تحصى ولا تعدّ"(5). كما يبدو لهم أنّهم، بجهد قليل، قادرون على تغيير مسار الأحداث التي تتحكّم فيها قوى خفيّة، ويعتبرون أنّ قيامهم بذلك إنّما هو تقوى وورع. ولذلك تجدهم يقدِّمون القرابين لتفادي كارثة على وشك الوقوع، وتراهم رافعين أيديهم يبتهلون عسى أن يُردَّ إليهم ما فقدوه من ممتلكات. وكما يقول سبينوزا: "السّبب الحقيقي للخرافة، والذي يحافظ عليها ويرعاها [...] إنّما هو الخوف"، هذا الخوف الذي هو مصدر "خشوع دينيّ زائف لا طائل من ورائه".
إلاّ أنّ الرّجاء والخوف هما انفعالان غير مستقريّْن تماما، والخرافات التي يستندان إليها هي بالنّتيجة متقلِّبة ومتحوِّرة لا تستقرّ على حال. وما إن تبدأ الأشياء في السّير نحو الاتّجاه الذي يردّه النّاس لأنفسهم، نراهم سرعان ما يكفّون عن هذه الممارسات التي حسب اعتقادهم تجعل الظّروف أكثر ملاءمة. وكلّ أولئك المستفيدين من استمرار مثل هذه الممارسات الخرافيّة، مِن كَهنة وعرّافين وقساوسة ورهبان، يحرصون شديد الحرص على جعلها شعائر مستقرّة ودائمة. وهم يفعلون ذلك من خلال المبالغة في أهميّة هذه الممارسات وإحاطتها بطقوس ومراسِم مشحونة بهالة من القداسة. وهذا من شأنه أن يجعلهم يطمئنّون على أنّ النّاس، حتّى عندما تسير الأمور على ما يرام، سيواصلون إيلاء الاحترام الواجب للآلهة وبالخصوص، وهو الأهمّ، الاحترام الواجب لممثِّليه على الأرض، وهؤلاء هم بشر بأتّم معنى الكلمة. نتيجة كلّ ذلك قيام دين طائفيّ منظَّم:
هذا التقلّب [في الممارسات الخرافيّة] كان سببا في العديد من القلاقل والحروب الطّاحنة. ذلك لأنّ الخُرافة هي أكثر الوسائل فاعِليَّةً لحُكم العامَّة. ولذلك كان من السّهل، باسم الدِّين، دفْع العامَّة تارةً إلى عبادة الملوك كأنهم آلِهة، ودفْعِهم تارةً أخرى إلى كراهيَّتِهم ومُعاملتِهم وكأنهم طامَّة كُبرى على الجنس البشري. وتجنُّبًا لهذا الشرِّ اتجَّهت العناية، بحِرصٍ شديد، إلى تجميل الدّين، حقّاً كان أو باطلًا، بالشعائر والمراسم التي تزيد من أهمّيته وتضمن له احترامًا دائمًا بين المؤمنين. (ولم تنجَحْ هذه الإجراءات في أيِّ مكانٍ بقدر ما نجَحَت عند المُسلمين، حيث تُعدُّ المُناقشة اليسيرة كفرًا وحيث تطغى الأحكام السّابقة على الحُكم الصّحيح، وحيث لا يُمكن للعقل السّليم أن يُدلي برأيٍ أو أن يُبدي مُجرَّد شكٍّ بسيط)"(6).
عند أتباع هذه الخرافات المقنَّنة تصبح الحياة حالة من "العبوديّة"، أي عبارة على طاعة قسريّة يستجيب لها الجسد والرّوح معًا. ويصبح هؤلاء الأتباع يعيشون في حالة من "الخِداع" ويقع منعهم، أحيانا بالقوّة، من إصدار حكمهم بحريّة. فالتّقوى الحقيقيّة تُعَوَّض بالتّملُّق للرّب، والسّعي وراء المعرفة يحلّ محلّه الخنوع للعقيدة الزّائفة، وتُستَبدَل حريّة التّفكير والفعل باضطهاد المخالفين للتّقليد وغير المؤمنين: "يا للعجب! لقد أصبحتِ التقوى وأصبح الدين أسرارًا مُمتنِعة، وأصبح أصحاب النور الإلهي لا يُعرَفون إلَّا بِشدَّة احتقارهم للعقل وبِحَطِّهم من شأن الذِّهن ونفورهم منه وقولهم إنه فاسد بالطبع"(7). ويختم سبينوزا قائلا: "والحقُّ أنهم لو كان لدَيهم قَبَسٌ طفيف فحسْب من هذا النور لَمَا تفاخروا [بغرورهم الأحمق هذا]، ولتعلَّموا عبادة لله بطريقةٍ أحكم، ولكسَبوا الآخرين بالحبّ، لا بالحقد كما يفعلون الآن"(8).
معاصرو سبينوزا، الذين كانوا على علم بالتّعريف الذي يعطيه هوبز لأصول الدّين في اللّيفياثان، لن يتفاجؤوا بالطّرح المعروض في رسالة اللّاهوت والسّياسة (وهو ما يفسِّر ولا شكّ لماذا تلقّى هذان الكِتابان في الغالب نفس الإدانة من طرف السّلط الكنسيّة). فعلى ما فعله سبينوزا، نرى هوبز يفسّر لنا الدّافع الذي يحثّ شخصا مّا إلى التّقوى الدّينيّة من خلال لاعقلانيّة الانفعالات البشريّة-وفي المقام الأوّل "القلق" أو الخوف والرّجاء في مجابهة ما يخبّؤه المستقبل-وكذلك الجهل بالأسباب الحقيقيّة اللأشياء. إنّ المعتقدات والممارسات الخرافيّة التي تفرزها هذه الانفعلات يقع التّلاعب بها بسهولة من طرف القادة العِلْمانيّين والدّينيين في محاولة لـ"إبقاء النّاس في حالة خنوع ومُسالمة". بالفعل، إنّ سذاجة الدّهماء، في تصوّر هوبز، تبدو مفيدة للغاية للحكّام السّياسيّين الذين يحبِّذون أن يكون رعاياهم منشغلين بأداء الفرائض الدّينيّة. فهذا من شأنه أن يصرِفهم عن متابعة الشّؤون السّياسيّة ويصدّهم عن القيام بتحليل دقيق ومُتأنٍّ لطريقة حكم الدّولة وتسييرها. فقدماء الرّومان، مثلا، كانوا يدركون جيّدا أنّه "بواسطة هذه الوسائل [الشّعائر، والصّلوات، والقرابين والاحتفالات التي من خلالها كانوا يعتقدّون أنّهم قادرون على تهدئة غضب الآلة]، ومؤسّسات أخرى من نفس الطّراز"، كان باستطاعة الحكّام التأكّد من أنّ "النّاس العاديّين عندما تصيبهم محنة من المِحَن فهم يُعزون ذلك إمّا لإهمالهم الطّقوس [الدّينيّة] أو لأخطاء ارتكبوها في تأديّة هذه الطّقوس، أو لمخالفتهم القوانين؛ وانهماكهم في مثل هذه الأشياء يجعلهم أقلّ استعداد للثّورة ضدّ الحكّام. ثمّ إنّ النّاس بانغماسهم في اللّهو والتّسلية في ألعاب ومهرجانات جماعيّة تُقام تكريما للآلهة، لا يرغبون في حاجة أخرى غير الخبز لكي يكفّوا عن ابداء سخطهم وتذمّرهم وغليانهم ضدّ الدّولة"(9).
إنّ ملاحظات هوبز الأكثر نقديّة هي بالتّأكيد مخصَّصة للكاثوليكيّة الرّومانيّة التي يُحلّل بُناها في الجزء الرّابع من اللّفياثان تحت عنوان "مملكة الظّلام"، غير أنّ الفيلسوف الإنكليزي، بصفة إجماليّة، لا يكنّ احتراما أكبر ممّا يكنّه سبينوزا للدّين المنظَّم(10).
****
يرى سبينوزا أنّنا نجد خلف الأديان الكبرى المنظَّمة تصوُّرا عن الرّب يبدو مناسبا في ظاهره، غير أنّه في نهاية المطاف سرعان ما يتكشَّف لنا عن رؤية كافرة ومُضِرّة. فالشّعائر الخرافيّة والاحتفالات الدّينيّة في اليهوديّة والمسيحيّة، والتي هي ثمرة حساب يُراد به الحصول على حظوة الرّب وتجنّب غضبه، مبنيّة على فرضيّة واهية وخاطئة مفادها أنّ الرّب هو كائن عقلاني، يحظى مثلنا تماما بحياة بسيكولوجيّة وصفات أخلاقيّة. بمعنى آخر، يُفتَرض في الرّب أن يكون عبارة عن شخص ذي ذكاء، ومشيئة، ورغبة وقادر حتّى على التّعبير على انفعالاته. فالألوهيّة اليهوديّة-المسيحيّة هي ربّ حكيم وعدْلٌ، وهو كائن سماويّ مفارِق له غاياته وانتظاراته، يأمُر ويحكُم، ربٌّ رحيم ولكنّه أيضا شديدُ العقاب.
هذه بالضّبط هي الصّورة التّقليديّة عن الرّب التي يرفضها سبينوزا رفضا قاطعا ويعتبرها تجسيما أبْلَه. إذ نراه في كتاب الأخلاق يستشيط غضبا ضدّ أولئك الذين يتصوّرون "الرّب في غالب الأحيان على صورة الإنسان، يتكوّن من جسم ونفس، وأنّه خاضع للأهواء. وتبيِّن البراهين السّابقة، بما فيه الكفاية، أنّ أصحاب هذا الرّأي بعيدون كلّ البعد عن المعرفة الصّحيحة للرّب"(11). بعد أن أثبت أنّ الطّبيعة الطّابعة لا تقبل التّجزئة، وهي لامتناية، لا علَّة لها، وهي جوهر كلّي، وفي الحقيقة هي الجوهر الكلّي الأوحد، ولا يوجد شيء خارج عنها وكلّ ما هو موجود هو جزء منها وموجود بفعلها وفيها بالضّرورة المطلقة التي تمليها قوانينها، يختم سبينوزا برهنته على أنّ الرّب والطّبيعة الطّابعة، أي العلّة الضّروريّة لكلّ الأشياء، الجوهر، الواحدة، الموحَّدة، الفاعلة، اللّامتانهيّة القدرة، هما شيء واحد لا غير.
استخلص سبينوزا النّتائج المترتّبة عن هذا اللّاهوت الميتافيزيقي في الفرضيّات اللّاحقة في كتابه الأخلاق، فيكون بذلك قد جعل من مبدئه "الرّب أو الطّبيعة" (Deus sive Natura) غير متلائم على الاطلاق مع الدّور الذي يُوكِله له عادة اللّاهوت اليهودي المسيحي. فبحكم الضّرورة الكامنة في الطّبيعة الطّابعة لا يوجد أيّ هدف للكون أو داخله خارج الأهداف التي يستطيع البشر تحديدها لأنفسهم: فالرّب أو الطّبيعة الطّابعة لا يعملان من أجل غاية مّا، وكلّ الأشياء الموجودة في الطّبيعة الطّابعة لم تُخلَق لأيّة غاية مهما كانت. إنّ نظام الأشياء ينبثق بكلّ بساطة وبالضّرورة من صفات الرّب (الطّبيعة الطّابعة). وعليه، فكلّ ما يمكن أن نقوله عن تطلّعات الرّب، وعن اختياراته أو غاياته ما هو في الواقع إلاّ محض هراء:
"ولقد حرِصت، فضلا عن ذلك، في كلّ مناسبة، على استبعاد الأحكام المسبَقة التي تحول دون فهم البراهين التي قدَّمْت. وبما أنّ العديد منها ما فتِئت تعوق النّاس إلى أقصى حدّ عن إدراك ترابط الأشياء بالطّريقة التي ذَكرتُ، فقد رأيت من المفيد أن أفحص هذه الأحكام على ضوء العقل وكلّ الأحكام التي أتعهّد بالإشارة إليها هاهنا متأتِّية من حكم مسبَق واحد، وهو أنّ النّاس يفترضون عموما أنّ كلّ الأشياء الطّبيعيّة تتصرّف مثلهم من أجل غاية، بل إنّهم على يقين تامّ من أنّ الرّب نفسه يوجِّه هذه الأشياء في اتّجاه غاية معيّنة، ويرون أنّه قد سخّر كلّ ما عليها للإنسان، وأنّه خلق الإنسان ليَعبُده"(12).
إنّ الرّب لا يخطِّط أهدافا مُسبَقة حتّى يحكُم على النّتائج بحسب مدى تطابقها مع هذه الأهداف. كلّ شيء لا يحدث إلاّ بالطّبيعة الطّابعة وقوانينها: "فهي [الطبيعة الطّابعة] لا تقترح على نفسها هدفاً معيّناً من وراء أعمالها [...] كلّ الأشياء تحدث وتتعاقب بالضّرورة الأزليّة والكمال الأسمى للطّبيعة". خلافُ هذا الفهم هو ما يقود بالضّبط لتلك الخرافات التي يتلاعب بها بكلّ سهولة القساوسة والرّابيّون:
"وبما أنّهم [النّاس] يجدون، فضلا عن ذلك، في ذواتهم وخارج ذواتهم، عددا كبيرا من الوسائل التي تساعدهم جدّا على الفوز بما ينفعهم، من ذلك مثلا أنّ لديهم عيوناً بها يُبصِرون، وأسنانا بها يمضغون، وأعشاباً وحيوانات بها يتغذّون، وشمساً بها يستضيؤون، وبحراً لتغذية الأسماك... إلخ، فإنّهم قد اعتبروا كلّ الأشياء الموجودة في الطّبيعة أدوات في خدمتهم. وبما أنّهم يعلمون، من جهة أخرى، أنّ هذه الأدوات ليست من صنعهم الخاصّ، بل عثروا عليها عثورا، فقد رأوا في ذلك باعثاً للإعتقاد في وجود شخص مدَّهم بها كي يسخِّروها لأنفسهم.وبعد أن نظروا إلى الأشياء على أنّها وسائل في خدمتهم، لم يعتقدوا بأنّها قد صَنًعت نفسها بنفسها، بل استنتجوا، بالنّظر إلى الوسائل التي تعوّدوا تدبيرها لأنفسهم، أنّه يوجد مدبِّر أو كثير من المدبِّرين للطّبيعة يتمتّعون بحريّة كحرّية الإنسان، وأنّهم حرصوا على تسخير كلّ الأشياء لخدمة البشريّة وسدّ حاجاتها. وبما أنّهم عجزوا على معرفة أيّ شيء عن طبيعة هذه القوى، فقد حكموا عليها بالمقارنة مع طبعهم الشّخصي؛ ومن هنا ذهب بهم الاعتقاد بأنّ الآلهة لا تسخِّر جميع الأشياء لصالح البشر إلاّ لكي يتعلّقوا بها وتنال منهم أعظم تمجيد. وبالتّالي فقد ابتكر كلّ واحد، وفقا لطبعه ومزاجه طُرقاً مختلفةً لعبادة الرّب واستعطافه أكثر من غيره، كي يسخِّر الطبيعة كلّها لخدمة رغباته العمياء وجشعه الذي لا يشبع. وبهذه الصّورة تحوّل هذا الحُكم المسبَق إلى مُعتَقد زائف تجذّر في أعماق النّفوس، ممّا جعل النّاس يبذلون قصارى جهدهم لمعرفة العِلل الغائيّة لجميع الأشياء وتفسيرها"(13).
في رسالة إلى أحد مراسليه، وهو تاجرُ حبوب ذو ميول تَقَويّة يدعى فيلام فان بلاينبورغ (Willem van Blijenburgh)، أكّد سبينوزا على عبثيّة مثل هذا التصوّر للرّب. إذ يقول في رسالته أنّ لغة اللّاهوت التّقليدي تُصوِّر الرّب "على أنّه إنسان كامل" وتدّعي أنّ "الرّب له أهواء، وأنّ أعمال الأشرار تُحزِنه وأمّا أعمال الخيِّرين من البشر فهي تُبهِجه وتسرّه". ولكن من وجهة نظر فلسفيّة صارمة "فقد رأينا بوضوح أنّه من غير المقبول إطلاقا أن نضفي على الرّب مثل تلك الصّفات التي يمكنها أن تجعل الإنسان كاملا كما أنّه من غير المقبول أن نضفي على الإنسان صفات خاصّة بفيل أو أتان". في سنوات لاحقة، وفي رسالة أخرى موجّهة هذه المرّة إلى هوغو بوكسال (Hugo Boxel)، موظَّف مدينة غوركوم، نرى سبينوزا يستعمل لهجة ساخرة للتّعبير عن وجهة نظره:
"أنت تقول [...] إنّني أرفض الاعتراف بأنّ الرّؤية، والسّمع، والإنتباه والإرادة، ... إلخ، هي صفات الرّب بامتياز، وإنّك لا تعرف مَن هو ربّي؛ وهذا ما يقودني إلى الشّك انّ بالنّسبة لك لا يوجد كمال أكبر من الكمال الذي يتجسّد من خلال هثل هذه الصّفات. ولكنّ هذا لا يُدهِشني، لأنّني أعتقد أنّ المثّلث، لو كان ينطِق، لقال أنّ الرّب مثلَّث بامتياز، والدّائرة أيضا لقالت أنّ طبيعة الرّب هي دائريّة بامتياز"(14).
إنّ الرّب الذي يقضي، الرّب الذي له أهداف ويتصرّف لغاية مّا، هو ربّ يجب أن يُطاعَ وتُهدَّأ أعصابه. أمّا ريّ سبينوزا فهو مجرَّد من هذه التجسيمات الوهميّة التي هي، كما يؤكّد سبينوزا نفسه، لا تليق بطبيعة كائن مثل الرّب: "هذه العقيدة [التي تريد أن يتصرّف الرّب كما يتصرّف البشر] هي عقيدة تحطّ من كمال الرّب وتدمِّره"(15) وربّ سبينوزا لا يُواسي ولا يُجير: فهو ليس كائنا نستجيره عند الشّدائد أو نستغيثه ليحقِّق آمالنا أو ليُبدِّد عنّا مخاوفنا.
هذا الرّب هو على الأقل هو ذاك الذي نجده في كتاب الأخلاق. لا أحد من أوائل قرّاء الرّسالة في اللّاهوت والسّياسة كان قد قرأ كتاب الأخلاق (لم تكن هناك أيّة وسيلة لفعل ذلك حتّى عام 1678، عندما تمّ نشر الكتاب بعد موت سبينوزا مع كتابات أخرى له)(16). غير أنّ سبينوزا ظهر، في الرّسالة، أكثر حذرا في عرضه لرؤاه الفلسفيّة للرّب. فهو يبدو مستعدّا للحديث فيها عن القدرة والمشيئة الإلهيّتيْن، عن هذا الرّب الذي يخلق الأشياء، الذي يملك أفكارا ومخطَّطات وخيارات. وكما سنرى أحيانا، فإنّ هذه الطّريقة في الحديث يمكن ان تُفهَم في معنى سبينوزي بحت. فمفهوم الربّ في رسالة اللّاهوت، الذي يعتبره سبينوزا على أنّه المفهوم الحقيقي للرّب، يطبع الرّسالة بالفعل وبدون شكّ بأشكال مهمّة متعدِّدة. وسبينوزا كان في الغالب يُشْعِر قارئه بذلك حتّى وإن بدا متردِّدا في إظهار أفكاره بطريقة سافرة مراعاة لمشاعر جمهوره المسيحي.
(يتبع)
-------------------
هوامش
(1) وعلى هذا المنوال، وفي رسالة له إلى آلبرت بورغ، يُسمّي سبينوزا اليهوديّة، والمسيحيّة، والإسلام "خرافات" (رسالة 76)، أنظر أيضا الرّسالة 73 موجّهة لأولدنبيرغ يقول فيها سبينوزا أنّ "بين الدّين والخرافة لا أعترف بفارق أساسي بينهما إلّا أنّ الأوّل يرتكز على الجهل، أمّا الثّانية فهي ترتكز على الحِكمَة"
(2) هذه العبارة هي من عند شكسبير نجدها في مونولوغ هملت الشّهير في المسرحيّة بنفس العنوان، في الفصل الثّالث، المشهد الأوّل. وقد اكتفيت مسرورا بنقل ترجمة جبرا إبراهيم جبرا لهذا المقطع لما فيها من حسّ مُرهِف وشاعريّة عالية. [المترجم]
(3) الرّسالة، حنفي، ص 117.
(4) نفس المصدر السّابق.
(5) نفس المصدر بتصرّف، ص 118.
(6) نفس المصدر، ص 119.
(7) نفس المصدر، ص 122.
(8) نفس المصدر.
(9) الّلفياثان، ج 1، باب "في الدّين"، التّرجمة من عندي. [المترجم]
(10) إنّ العلاقة بين هوبز وسبينوزا (بالخصوص بين الّلفياثان ورسالة في الّلاهوت والسّياسة) حول هذا الموضوع ومسائل أخرى بَحثَ فيها عديد الدّارسين مثل Curley (1992), Malcolm (2002), Verbeck (2003)…
(11) كتاب الأخلاق، ج 1، القضيّة 15، حاشية 1.
(12) كتاب الأخلاق، ترجمة جلال الدّين سعيد، ص 71-72.
(13) نفس المصدر، ص 73-74.
(14) رسائل سبينوزا، 56.
(15) الأخلاق، ص 75.
(16) باستثناء أصدقاء سبينوزا الذين اطّلعوا على الأخلاق منذ أواسط سنوات 1660 في نسخته المخطوطة التي تداولوها فيما بينهم.



#ناصر_بن_رجب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كتاب صُنِع في الجحيم(6)
- كتاب صُنِع في الجحيم(5)
- كتاب صُنِع في الجحيم(4)
- كتاب صُنِع في الجحيم (3)
- كتاب صُنِع في الجحيم (2)
- كتاب صُنِع في الجحيم (1)
- رَبُّ القَبائل، إسلام محمّد
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (14)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (13)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (12)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (11)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (10)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (9)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (8)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (7)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (6)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (5)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (4)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (3)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (2)


المزيد.....




- العجل الذهبي و-سفر الخروج- من الصهيونية.. هل تكتب نعومي كلاي ...
- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...
- لبنان: المقاومة الإسلامية تستهدف ثكنة ‏زبدين في مزارع شبعا ...
- تزامنًا مع اقتحامات باحات المسجد الأقصى.. آلاف اليهود يؤدون ...
- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...
- شاهد..المستوطنين يقتحمون الأقصى في ثالث أيام عيد -الفصح اليه ...
- الأردن يدين سماح شرطة الاحتلال الإسرائيلي للمستوطنين باقتحام ...
- طلاب يهود بجامعة كولومبيا: مظاهرات دعم فلسطين ليست معادية لل ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ناصر بن رجب - كتاب صُنِع في الجحيم(7)