أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ناصر بن رجب - كتاب صُنِع في الجحيم(14)















المزيد.....

كتاب صُنِع في الجحيم(14)


ناصر بن رجب

الحوار المتمدن-العدد: 7182 - 2022 / 3 / 6 - 01:41
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


محنة سبينوزا ونشأة العَصر العَلماني


الفصل السّادس
الكُتُب المقدَّسة
(قسم 1)

عند وفاته في 21 فبراير 1677، كان سبينوزا يعيش في منزل على ضفّة قناة بافيليونسغرافت في لاهاي. كان يسكن في غرفة في الطّابق الأوّل من عمارة يملكها الرسّام Hendrick van der Spyck. ولكي يستطيع تسديد بعض ديون سبينوزا ويستعيد بعض مصاريفه، قرّر سبايك بيع بعضٍ من ثياب الفيلسوف، وأثاثه وأمتعته الشّخصيّة في المزاد العلَني. ففي مارس من نفس السّنة قام كاتب العَدل في إطار التّحضير للبيع جردا مفصّلا لما كان يملكه سبينوزا. من بين ممتلكاته نجد مكتبة ضخمة نسبيّا تحتوي على كتب تتحدّث في الفلسفيّة، والعلوم، والرّياضيّات، والدّين، والسّياسة والأدب (بما في ذلك الشّعر). كان سبينوزا قارئا انتخابيّا وبلُغات متعدّدة، وكان يمتلك تفاسير للتّوراة باللّغة العبريّة، كما كانت عنده كتب في التّاريخ والدراما الكلاسيكيّة باللّاتينيّة، وكتب في الطبّ والسّياسة باللّغة النييرلنديّة وكتب كوميديا بالإسبانيّة. نجد عنده مثلا كتاب Observationes Medicae لصاحبه Nicolas Tulp، الذي خلّد الرّسام رامبرانت في إحدى لوحاته درس التّشريح الذي ورد فيه بمساعدة مؤلِّفه، وكتاب أشعار لفرنسيسكو غوميس دي كويفيدو، وهو كاتب من العصر الذّهبي الإسباني، وأيضا الأعمال الكاملة لمكيافيل. كما نجد عنده نسخة من الهاكّاده العبريّة، وكتابا لتعلّم الإغريقيّة القديمة وقاموسا للّغة الإيطاليّة.
وكان بحوزة سبينوزا أيضا خمس نسخ من البيْبل ومن بينها طبعتيْن باللّاتينيّة تعود إحداهما إلى سنة 1541، ونسختيْن من البيْبل العبري (التّوراة)، Biblia Sacra Hebraica, Buxtorf 1618، وكذلك طبعة منشورة في البندقيّة عام 1639. بالإضافة إلى ذلك، وعلى غرار أعضاء مَجمَع تلمود توراة (Talmud Torah) في آمستردام، كان سبينوزا غالبا ما يقرأ البيْبل باللّغة الإسبانيّة، والنّسخة المُترجَمة التي وجدوها في مكتبته كانت قد طُبِعت في آمستردام عام 1646. لقد كان اليهود السفرديم الهولنديّين في القرن السّابع عشر يستعملون اللّغة البرتغاليّة في تعاطيهم مع قضايا الطّائفة الدّاخليّة، وكذلك في المسائل التّجاريّة؛ أمّا عندما يكونون في منازلهم أو في الشّارع فقد كان كلّ واحد يتكلّم لغة وطن آبائهم الذي قدموا منه. فحتّى أفراد الطّائفة الذين لم يَفدوا من شبه الجزيرة الإيبيريّة، مثل الرّابي مورتيرا وهو يهودي أشكينازي من أصيليّ البندقيّة، كانوا مجبورين على تعلّم اللّغة البرتغاليّة إذا أرادوا الإندماج في هذا العالَم الكوسموبوليتي بالتّأكيد ولكن تَنسُجه روابط وثيقة. وبالمقابل، ما إن يتعلّق الأمر بالتّعامل مع الأدب المقدّس أو اعمال أدبيّة راقية، سواء كانت تخصّ دراسة التّوراة أو قراءة دراما أدبيّة، فإنّ "عبرانيّي الأمّة البرتغاليّة" في آمستردام (الذين كان أكثرهم لم يحصل، في أفضل الحالات، إلاّ على نزرٍ ضئيلٍ من اللّغة العبريّة) كانوا يلجأون عامّة إلى نصوص باللّغة الإسبانيّة.
سواء كان معاصرو سبينوزا قد قرأوا البيْبل بالإسبانيّة، بالعبريّة، باللّاتينيّة أو بالنييرلنديّة، فإنّهم، على غرار الأجيال التي سبقتهم، كانوا كلّهم يتقاسمون فكرة مسبقة لا جدال فيها حول أصل الكتاب المقدّس بامتياز. فالكلفانيّون، واللّوثريّون، ويهود آمستردام، وكذلك الكاثوليك الذين استمرّوا في إقامة طقوسهم في منازل خاصّة (حتّى يتجنّبوا الملاحقة والإضطهاد)، كلّهم كانوا يعتقدون اعتقادا لا يتزعزع بأنّ البيْبل كان من أصلٍ إلهيّ. فقد كانوا يعتقدون أنّ كاتِبه، بالمعنى الحرفي للكلمة، هو الرّب، وأنّ آياته كانت تترجِم بأمانة (حتّى وإن كان ذلك أحيانا بالمعنى المزاجي) أفكارَه، وأوامره، وتصِف صنائعه.
يمكن أن نعتبِر، رغما عن هذا الحكم المسبَق، أنّ البيْبل هو، في معنى مّا، وثيقة بشريّة تاريخيّة. وأنّ رسالة الرّب كشف عنها وكتبها بشر من لحم ودم في فترات معيّنة من الزّمن. والألفاظ التي ظهرت في شكلها المطبوع آنئذٍ للقرّاء المعاصرين كانت أوّلا وقبل كلّ شيء قد حُرِّرت من طرف الأنبياء القدامى. فموسى، حسب المأثور الدّيني، هو الذي كتب أسفار التّوراة الخمسة، في حين أنّ أشخاصا آخرين (يشوع، سَمُوئيل، داود، ارميا وهكذا دواليك) تعاقبوا على تأليف الكتب التي تحمل أسماءهم أو كتب الوقائع التّاريخيّة التي كانوا قد لعبوا فيها دورا مهمّا. ولكن من جهة النّظام الطّبيعي الكبير للأشياء، فقد كان الأمر متعلّقاً في نهاية المطاف بنوع من التّاريخيّة العاديّة بالأحرى. ولم يكن الكتّاب، وهم زائلون، إلاّ مَن حضوا باستلام محتوى أزليّ، عبارة عن كَتَبة كانت مهمّتهم تدوين كلام الرّب بكلّ دقّة وسرد تاريخ الشّعب الذي اصطفاه بنفسه. وكانت مخطوطاتهم الفانية تنقل تواريخ وتصوغ تشريعات كانت كلّها بدون استثناء تواريخ وتشريعات إلهيّة صالحة لكلّ زمان ومكان. فالكتب المقدّسة، ضمن هذا التصوّر، ليست هي بالتّأكيد نتاجا لأيّ طارئ تاريخيّ مهما كانت طبيعته ولا إجابة له.
هذه هي بالضّبط الرّؤية للأصل السّماوي للكتب المقدّسة التي يهاجمها سبينوزا في الفصول من 7 إلى 10 من رسالة اللّاهوت والسّياسة. وهو يتوصّل إلى خلاصة مفادها أنّ التّوراة لا تجد أصولها في وحي خارق للطّبيعة، بل هي مجرّد عمل أدبيّ نتج عن الظّرف السّياسي لقدماء بني إسرائيل. ويقوم برهانه في ذلك على عدّة اعتبارات فلسفيّة، ولغويّة، وتاريخيّة، بما فيها ميتافيزيقيّتَه الخاصّة حول الرّب أو الطّبيعة الطّابعة (التي تُواصِل ظهورها في الرّسالة، حتى وإن كانت بصورة دقيقة أكثر)، كما يقوم أيضا على تصوّراته المتعلّقة بالنبوّة والمعجزات.
في الواقع، لم يكن سبينوزا أوّلَ مَن تكلّم عن تاريخيّة البيْبل. فمنذ ذلك الوقت كان هناك تقليد عريق، خاصّة بعد الإصلاح البروتستانتي، من المقاربات النّقديّة للنّصوص البيْبليّة. لقد كان اللّاهوتيّون الكاثوليك والبروتستانت قبله، ولم يكونوا على الإطلاق ثوريّين، قد شجّعوا على الدّراسة الفيلولوجيّة والتّاريخيّة للنّصوص العبرانيّة، وذلك بالخصوص لأنّهم كانوا يعتبرون الوثيقة المكتوبة ثمّ المطبوعة لاحقا (وليس المحتوى الإلهي الذي تنقله) هي عبارة عن عمل من صنع أيدي بشريّة، وبالتّالي تكون عرضة لكلّ ما يمكن أن يطرأ على النقل النصّي من تحريفات. وبالرّغم من أنّ الإصلاح البروتستانتي قد نادى بالرّجوع إلى النّظر في "الكتابات المقدّسة في ذاتها"، وإلى نفاذ القرّاء المؤمنين (وليس فقط بالضّرورة المتبحِّرين منهم) نفاذا مباشرا إلى صفحات البيْبل بهدف تعلُّم دروسه الجليّة والمفهومة، فإنّ الإنسانيّين العصريّين لعصر النّهضة المتأخِّر وبداية المعاصَرة عمّقوا بحوثهم الفيلولوجيّة والألسنيّة بغية استنباط المعاني التّاريخيّة "الحقّة" والتي لا يمكن ادراكها بسهولة. لقد كانت نسخ الكتب المقدّسة المطبوعة في القرن السّابع عشر تستند إذن على تقليد علْمي جامع أصبح منذ ذلك الوقت مطوّرا جدّا فيما يتعلّق بأصل المخطوطات البيْبليّة ومصادرها.
كان أعظم روّاد الحركة الإنسانيّة الكاثوليكي النييرلندي إيراسموس، أصيل مدينة روتردام، يُلِحّ على استعمال المصادر في لغتها الأصليّة (الإغريقيّة والعبريّة)، وعلى ما كتبه المؤلِّفون الكلاسيكيّون وعلى مؤلَّفات آباء الكنيسة، وذلك إمّا لتقييم الأناجيل المدوّنة في نسخة جيروم التي تُعرَف بالفولغاتا (المكتوبة بالّلاتينيّة)، أو حتّى مراجعتها وتنقيحها، أو كتابة شروحات وتعليقات خاصّة على المزامير مثلا أو كتب أخرى من كتب البيْبل. ومع أنّ مثل هذه الاهتمامات المعرفيّة لم تكن تروق السّلطات الكنسيّة، خاصّة عندما تُستَخدم لغايات جداليّة (فقد أدان لاهوتيّو الكنيسة بشدّة إيراسموس لجرأته)، فإنّها لم تكن نادرة وبالخصوص في الجامعات. غير أنّ سبينوزا سيذهب أبعد ممّا ذهب إليه المفكِّرون السّابقون له في هذا النّوع من الدّراسة التّاريخيّة للكتب المقدّسة وبالأخصّ ما يتعلّق منها بمسألة الأصل البشري والدّنيوي للبيْبل. لقد تسلّح سبينوزا، أكثر من أيّ كان، بتلك الإرادة التي ستذهب به أينما تقوده الأدلّة النصّيّة والتّاريخيّة غير عابئ بالتشعّبات الدينيّة مدشِّنا بذلك حقل المقاربة المعاصرة للمصادر البيْبليّة. تبدو اليوم للعديد من قرّاء البيْبل الحاليّين أنّ فكرة كون هؤلاء الكتّاب كانوا بشراً عاديّين كبقيّة البشر الآخرين، بمعنى أنّهم كانوا طرفا فاعلا في الأحداث الإجتماعيّة والسّياسيّة لعصرهم، فكرة عاديّة جدّا، إلاّ أنّ ما خَلُص إليه سبينوزا من استنتاجات بخصوص أصول الكتب المقدّسة وحول تاريخ وتداعيات تناقلها كان قد أثار سخط معاصريه وصدمهم بنفس الدّرجة التي صدمهم بها تصوُّره عن المعجزات.
****
لقد كان الإعتقاد السّائد آنذاك أنّ موسى كان قد خطّ بيده كلّ كلمة من كلمات التّوراة. أو على الأقلّ، كما لاحظ ذلك هوبز بنوع من الإزدراء، كان ذلك هو المبدأ بلا منازع داخل أوساط التّقاليد الإبراهيميّة وبالخصوص منها الدّوائر الأرثوذكسيّة وغير المثقّفة؛ حيث كتب هوبز في اللّيفياثان أنّه "من جميع النّواحي كان الإعتقاد أنّ الكاتِب الأوّل والأصلي للكتابات المقدّسة هو الرّب"(1). وبصورة أدّق، أملى الرّب على موسى كلّ الوصايا على جبل سيناء، كما أملى عليه قصّة الخلْق، ووصف له الأجيال التي عاشت قبلَه وسرديّة والمحن التي ستلحَق مستقبلا ببني إسرائيل. كما يُقال أيضا أنّ موسى كان قد جمع بمفردِه كلّ هذه الموادّ التّشريعيّة، والتّاريخيّة، والسّياسيّة، والدّينيّة والميتافيزيقيّة في كتاب واحد تمّ تناقله دون تغيير أو تحريف عبر العصور. وكان هذا من شأنه أن يضمن السّلطة الإلهيّة وبالتّالي الصّلوحيّة الابديّة لهذه الكتب التي جاءت مباشرة من الرّب إلى النّبيّ موسى ومن ثمّة إلى الشّعب دون فقدان استمراريّة النّقل والتّواتر الشيء الذي لا يترك أيّ مجال للشّك في حقيقة كلام الرّب واستِلامه بهذه الطّريقة.
ولكن عبر مجرى التّاريخ، ظهر جليّا للكثير من القرّاء الذين كانوا يميلون لاستعمال الفكر وينتمون لمختلف التيّارات الدّينيّة (وحتّى المعادية للدّين) أنّ موقفاً كهذا كان يصطدم بمشكلات جديّة غير هيّنة. فقد أشار بعض المفسِّرين اليهود والمسيحيّين على أنّ موسى ما كان بغمكانه أن يكتُب كلّ ما نجده في التّوراة؛ وقد بنوا حُجَجَهم على أرضيّة نصوصٍ تروي وقائع تاريخيّة مُوَثَّقة وعلى مبادئ تجريبيّة دامغة لا تقبل الشّك (مثل "الموتى لا يتكلَّمون"). وعلى هذا الأساس، لم يعد هناك، في زمن سبينوزا، أيّ جديد يدفع لمساءلة كلّ جملة في التّوراة حول أبوَّة موسى لها، ولا حتّى إلى التّأكيد القطعي على أنّ موسى لم يكتب أبدا كلّ ما تحتويه الكتب الخمسة.
إنّ المشكلة الصّارخة كانت تمسّ قصّة موت موسى نفسه، وذلك من حيث أنّه يستحيل، بطبيعة الحال، على أيّ كان أن يكتب هو نفسه قصّة موتِه ودَفنِه. فحتّى حكماء التّلمود، بالرّغم من إيمانهم التّام بمبدأ تدوين موسى بيده التّوراةَ برمّتها، كانوا قد أقرّوا بأنّ الآيات الثّمانية الأخيرة كانت قد أُضيفَت من طرف يشوع(2).
لقد ذهب أبراهام بن عزرا، مُفسِّر القرن الثّاني عشر الميلادي، إلى أبعد من ذلك مع الحرص الشّديد على ألاّ يُفصِح عن رأية بجرأة أكبر [خوفا على حياته]. فهو يقترح، في تفسيره للتّوراة، أنّ بعض العناصر الحاضرة في النصّ تحمل على الإعتقاد بأنّ العديد من الآيات لا يمكن أن يكون موسى قد كتبها بنفسه. ففي تعليقاته على التّكوين 12، 6 ("والكَنْعانيُّون حينَئذٍ في الأرض")، أكّد ابن عزرا "أنّنا هنا أمام سرّ، وعلى مَن يفهَمه أن يلزَم الصّمت". فهذا "السّر" ("صَادْ" بالعبريّة)، المستمدّ من قواعد الجملة النحويّة، يبدو أنّه عندما كُتِبت هذه الآية لم يعد الكنعانيّون موجودين في كنعان وذلك لأنّ بني إسرائيل كانوا قد أُطْردوهم منها (وقد تمّ ذلك تحت قيادة يشوع). وبالتّالي تكون هذه الآية قد كُتِبت جيلاً على الأقلّ بعد موسى. وتعليقا على سفر التّثنية 1، 1 ("هذا هو الكَلامُ الذي كلَّم به موسى كُلَّ إسرائيلَ في ما وراء نهر الأُرْدُنّ، في البريّة، في العَرَبة، مُقابِل سُوف، بين فاران وتُفَل ولابان، وحَصيرُوت ودِي ذَهَب")، يتساءل ابن عزرا عن المعنى المحتَمَل لهذه الآية ماذا يكون، باعتبار أنّ موسى لم يَعبُر نهر الأردن. وينهي تعليقه على المقطع في إشارة غامضة يقول فيها:
"إذا فهِمتَ سرّ الإثنتي عشرة، وكذلك [الجُمَل والآيات التّالية] "وَكَتَب موسى"، "والكَنْعانيُّون حينَئذٍ في الأرض" (تكوين 12، 6)، "في الجَبَلِ، الرَّبُّ يَرى" (تكوين 22، 14)، "وسَريرُه [سرير عُوج الذي هو وحده بَقِيَ من الرّفائِيّين] سريرٌ مِنْ حديد" (تثنية 3، 11)، حينها ستفهَم الحقيقة" (3).
لقد اتّفق الشّارحون عموما على أنّ ما يقصده ابن عزرا هو أنّه بالإضافة إلى أنّ الآيات الإثنتي عشر الإخيرة من سفر التّثنية لم يكتبها موسى (وهو "سرّ الإثنتي عشرة")، فإنّ بقيّة الآيات لم تخطّها يد موسى أيضا. فما كان لموسى أن يتكلّم عن نفسه بضمير الغائب ("وكتَب موسى اليوم هذا النّشيد")، وما كان في حاجة للتّذكير بقامة عُوجٍ، هذا الملك العملاق في باشان، وذلك بذكر سريره، بما أنّ مقاييسَه (طوله وعرضه...) كانت معروفة لدى معاصريه. بالإضافة إلى ذلك، عندما كان موسى لا يزال حيّا، فإنّ الهيكل ("في الجَبَلِ، الرَّبُّ يَرى")، لم يكن قد بُنِيَ بعدُ. فـ"الحقيقة" إذن، هي أنّ هناك بعض المقاطِع في التّوراة لم تكن قد أُلِّفَت من قِبَل موسى بل أضافها آخرون جاؤوا بعده.
يُومِئ ابن عزرا إلى هذه الفرضيّة إيماءة مُقتَضَبة (وكأنّما لم يكن يجرؤ على التّأكيد على ذلك صراحة مخافة أن يستنتِج بعض القرّاء وجود آيات كثيرة أخرى في التّوراة وربّما فصولٍ بأكملها، لم تكن مكتوبة بيد موسى). لقد كان ابن عزرا يعاقِد بعد أنّ موسى كان مؤلِّف معظَم أجزاء التّوراة، وما هو مؤكَّد أنّه لم يقُل ما سيُقوِّله سبينوزا في رسالة اللّاهوت والسّياسة، أي "أنَّ موسى ليس هو مُؤلِّف الأسفار الخمسة بل إنَّ مُؤلِّفها شخصٌ آخَر عاش بعده بزمنٍ طويل"(4).
كان شرح ابن عزرا معروفا جدّا من طرف المفسّرين اليهود والمسيحيّين، وكان الكثير منهم يعتقد أنّ المسائل التي أثارها كانت في محلّها على درجة أنّ بعض اللّاهوتيّين البارزين حوّلوا ملاحظاته المقنَّعة إلى نتائج واضحة وصلبَة. فمثلا، لم يكن لوثر يرى ما يُزعِجه أن تكون بعض سطور التّوراة غير مكتوبة بخطّ يد موسى. وكان بعض الشرّاح، الذين هيّأوا لأطروحات سبينوزا الرّاديكاليّة حول التّوراة في مجملها، قد أشاروا إلى عزْرا الكاتِب (Ezra the scribe)، الذي عاش في زمن الهيكل الثّاني، على أنّه ربّما يكون مَن كتب الآيات التي لم يُحرِّرها يشوع.
لاحقا، وفي القرن السّابع عشر، كان من المقبول جدّا الحديث على أنّ موسى لم يكن قد كتب عدّة مقاطع من التّوراة. فإذا لم يكن الكلّ قابلا بهذه الفكرة، فحتّى مَن كانوا ينتقدونها كانوا يأخذونها على محمل الجدّ. هناك فكرة كانت بالتّأكيد أقلّ تقبُّلا، ولكنّا كانت على ما يبدو حريّةً بعدُ بأن تأخذ مكانها في نقاش مشروع، وهي الفكرة القائلة بأنّ الكتابات العبريّة، كما وقع نقلها، كانت قد اتّخذت شكلها الحالي يعد زمن طويل من موت موسى والأنبياء الآخرون: لربّما وقع ترتيبها من قِبَل محرِّر أو فريق من المحرّرين عاشوا في أزمان متأخِّرة أكثر مع أنّهم يكونون قد اشتغلوا على مصادر موسويّة أصليّة.
لقد ادّعى مثلا اللّاهوتي الكاثوليكي أندرياس مزيوس (Andreas Masius)، في تعليقه على يشوع Iosuae imperatoris historia illustrata atque explicata (Anvers, 1574)، أنّ نصوص موسى ويشوع الأصليّة كانت قد "جُمِعَت، ورُتِّبَت وتمّ توحيدها، إذا صحّ التّعبير، في مجلَّد واحد" من قِبَل عزرا، يُعاونه في ذلك ربّما أعضاء آخرون من الكنيس الأعظم(5).
ومع ذلك، فإنّ سبينوزا هو الذي سيرفَع النّقاش إلى مستوى تجاوز، في نظر معاصريه، كلّ الحدود المقبولة. بالطّبع لم يكن هو الوحيد الذي قام بذلك. وكما سنرى، فإنّ تصوّره للبيْبل على انّه وثيقة بشريّة بأتمّ معنى الكلمة كان يشاطره فيها في تلك الفترة واحد أو إثنيْن من الكتّاب اللّذيْن لم تكن صحبتهما مع ذلك إلاّ عزاءً هزيلا لسبينوزا، وذلك لأنّها لم تُعِنْه مطلقا على تفادي الضّربات الموجعة والهجمات الضّارية على رسالة اللّاهوت والسّياسة، بل الأدهى والأمرّ أنّها لم تزد هذه الهجمات إلاّ ضراوة وتأجيجا لنيرانها.

(يتبع)
-------------------
هوامش
(1) اللّيفياثان، مصدر سابق، ج 3، فصل 33، التذرجمة من عندنا.
(2) التّلمود البابلي، بابا باترا (الباب الأخير)، 14ب.
(3) Ibn Ezra, Abraham, 2001. Commentary on the Pentateuch. 5 vols. Ed. H. Norman Strickman and Arthur M. Silver. New York: Menorah. التّرجمة من عندنا.
(4) الرّسالة، مرجع سابق، حنفي، الفصل الثّامن "البرهنة على أنّ الاسفار الخمسة ليست صحيحة"، ص 273.
(5) أنظر Malcolm 2002, p. 408، مرجع سابق، الترجمة من عندنا.



#ناصر_بن_رجب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كتاب صُنِع في الجحيم(13)
- كتاب صُنِع في الجحيم(12)
- كتاب صُنِع في الجحيم(11)
- كتاب صُنِع في الجحيم(10)
- كتاب صُنِع في الجحيم(9)
- كتاب صُنِع في الجحيم(8)
- كتاب صُنِع في الجحيم(7)
- كتاب صُنِع في الجحيم(6)
- كتاب صُنِع في الجحيم(5)
- كتاب صُنِع في الجحيم(4)
- كتاب صُنِع في الجحيم (3)
- كتاب صُنِع في الجحيم (2)
- كتاب صُنِع في الجحيم (1)
- رَبُّ القَبائل، إسلام محمّد
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (14)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (13)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (12)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (11)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (10)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (9)


المزيد.....




- العراق.. المقاومة الإسلامية تستهدف هدفاً حيوياً في حيفا
- المقاومة الإسلامية في العراق تعلن ضرب -هدف حيوي- في حيفا (في ...
- لقطات توثق لحظة اغتيال أحد قادة -الجماعة الإسلامية- في لبنان ...
- عاجل | المقاومة الإسلامية في العراق: استهدفنا بالطيران المسي ...
- إسرائيل تغتال قياديًا في الجماعة الإسلامية وحزب الله ينشر صو ...
- الجماعة الإسلامية في لبنان تزف شهيدين في البقاع
- شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية ...
- أكسيوس: واشنطن تعلق العقوبات على كتيبة -نيتسح يهودا-
- آلام المسيح: كيف حافظ أقباط مصر لقرون على عادات وطقوس أقدس أ ...
- -الجماعة الإسلامية- في لبنان تنعي قياديين في صفوفها قتلا بغا ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ناصر بن رجب - كتاب صُنِع في الجحيم(14)