أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ناصر بن رجب - كتاب صُنِع في الجحيم(18)















المزيد.....


كتاب صُنِع في الجحيم(18)


ناصر بن رجب

الحوار المتمدن-العدد: 7207 - 2022 / 3 / 31 - 00:03
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


محنة سبينوزا ونشأة العَصر العَلماني


الفصل السّادس
الكُتُب المقدَّسة
(قسم 5)


في كتاباته الفلسفّية في مرحلة النّضج، نرى سبينوزا قلَّما يذكر فلاسفة آخرين، سواء أولئك الذين يتّفق معهم (مثل ديكارت)، أو أولئك الذين يضع بينه وبينهم مسافات لكي يبتعِد عنهم (أيضا، ... ديكارت). وبالفعل، فمثل هذا التّشخيص قد لا يتماشى مع الطّريقة الهندسيّة لكتاب الأخلاق. بالمقابل، نجده في رسالة اللّاهوت والسّياسة يذكر عرَضا أفلاطون أو أرسطو، وكذلك ابن عزرا عند تحليله المعجَب ببرهنة هذا الأخير والمتعلّقة بأُبُوّة موسى للكتابات المقدّسة العبرانيّة. غير أنّ هذه الاستثناءات تجنح إلى تأكيد القاعدة التي يعتمدها سبينوزا في تحفّظه المعتاد عند إشارته إلى أفكار الآخرين. ومع ذلك، فهو يُخالِف هذا النّهج العامّ في الرّسالة عندما يناقش تأويل النّصوص المقدّسة.
يقدّم سبينوزا نظريّته الشخصيّة لتأويل نصوص البيْبل بطريقة مضادّة صراحة وفرط-نقديّة (highly critical) لنظريّة ابن ميمون (وضمنيّا متعارضة أيضا مع نظريّة صديقه ماير). فإذا كان سبينوزا قد عارض بلباقة صاحب "دليل الحائرين" عندما ناقش النبوّة حيث كشف عن توجّهاته الميمونيّة، فإنّه لم يدّخِر أيّ جهد في إظهار أنّ "منهج ابن ميمون لا فائدة منه على الإطلاق"(1)، وذلك عند تحليله "آراءَ أولئك الذين يناهضون منهجنا [منهج سبينوزا]" بخصوص مسألة تأويل النّصوص المقدّسة. فهذا المنهج يتلاعب، من بين أشياء أخرى، بمعاني المقاطع البيْبليّة لكي يُطوِّعها لمذاهب فلسفيّة مستقلّة، إذ: "يفترِض ابن ميمون أنّه يحقّ لنا تفسير الكتاب وتأويله بطريقةٍ مُتعسِّفة طبقاً لآرائنا المسبَقة، ورفْض المعنى الحرفي عمداً واستبدال مَعانِيَ أخرى به"(2). ويبدو هذا غير ملائم بصفة خاصّة في حالة الكتابات النبويّة من حيث أنّ مؤلِّفيها لم يتمتّعوا بتكوين فلسفي، ولأنّهم كانوا منشغلين أساسا بنشر الطّاعة الأخلاقيّة أكثر من انشغالهم بإذاعة حقائق فكريّة.
بالإضافة إلى ذلك، يُضيف سبينوزا، أنّ منهج ابن ميمون الفرط-عقلاني (hyper-rationalist)، الذي يشترط معرفة قيمة الحقيقة التي تحتوي عليها قضيّة مّا بهدف تحديد ما إذا كانت أم لا مُعبَّرًا عنها في مقطع من مقاطع البيْبل، من شأنه أن يجعل معنى البيْبل عَصيًّا على العامّة المحرومين من تجربة فلسفيّة ولا يتمتّعون بمعارف صلْبة بخصوص المعتقدات ذات الطّابع النّظريّ الفائق: "[...] وإذن [في رأي ابن ميمون] لا يُمكن أن نَستيْقنَ من المعنى الحقيقي لمقطع من الكتاب المقدّس، مهما كان واضحًا، ما دامنا نشكُّ في حقيقة العقيدة التي يُعبِّر عنها، وما دامت هذه الحقيقة لم تَثبُتْ في نظرِه بالبُرهان. وطالما لم يقُم البرهان على هذه الحقيقة، فلن نعلَمَ إن كان المعنى الحرفي للنّصوص المقدّسة مُتَّفِقًا مع العقل أم مُناقضًا له، وبالتالي لن نعلَمَ إن كانَ هذا المعنى الحَرْفي صحيحًا أم باطلًا"(3). فتأويل النّصوص المقدّسة تكون في حاجة إلى "نور آخرَ غير النّور الطّبيعي"، وبالتّالي يكون الفلاسفة هم وحدهم المؤهَّلين لتحديد ما يُحاوِل البيْبل تبليغه:
"وفضلًا عن ذلك، فلو كانت طريقة ابن ميمون صحيحة، لكان على العامَّة، الذين هم في أغلب الأحيان جاهلون بالبراهين أو عاجزون عن الاضطلاع بها، ألَّا يُسلِّموا بشيءٍ يتعلَّق بالكتابات المقدّسة إلَّا مُعتمِدين على سُلطة الفلاسفة وعلى شهادتهم، ولكن عليهم بالتالي أن يَفترِضوا أنَّ الفلاسفة مَعصومون من الخطأ في تفسيرهم، وهذا يَعني افتراض وجود سُلطة جديدة داخل الكنسية، نوع جديد من القساوسة والباباوات، وهو أمرٌ يُثير سُخرية العامَّة أكثرَ مِمَّا يبعث في نفوسهم الإحترام"(4).
ولهذه الأسباب كلّها، يختم سبينوزا أنّه يجب إذن: "أن نرفض منهجيّة ابن ميمون رفضا قاطعا ونعتبرها منهجيّة لا طائل منها، بل خطيرة وعبثيّة".
يُصرّ سبينوزا على أنّ وجود منهجيّة ملائمة لتأويل النّصوص المقدّسة، أي منهجيّة تكون في متناول كلّ أولئك الذين وُهِبوا فقط النّور الطّبيعي للعقل، يشكّل أهميّة فائقة، وذلك بالخصوص بسبب توجّهات العصر نحو التّلاعب بمعاني مقاطع من البيْبل لخدمة أغراض سياسيّة واجتماعيّة. فاللّاهوتيّون النييرلنديّون والزّعماء الدينيّون، خاصّة في القرن السّابع عشر، كانوا قد تعوّدوا على العثور في النّصوص المقدّسة على كلّ ما كان متوافقا مع احتياجاتهم ويبرِّر تأويلاتهم الإنتهازيّة والتي لا أساس لها من الصّحة باللّجوء إلى "إلهام الرّوح القدس". وهو إلهام يتّفق، بالنّسبة لبعض الكلفانيّين، مع الإشراق ما فوق طبيعي يُفتَرض فيه أن يكون الدّليل الحقيقي لفهم أقوال الأنبياء، غير أنّه إشراق، على غرار العناية الإلهيّة، لا يُمنَح إلاّ لبعض المختارين(5):
"إنّ ما يقع تقديمه لنا على أنّه كلام الرّب [من طرف رجال الدّين] يكون في غالب الأحيان مجرّد أوهام عبثيّة لا يقبل بها العقل، ويتّخذون من الحماس الدّيني تعلَّة واهية لفرض مشاعرهم الخاصّة على الآخرين. نعم، وأكرِّرها مرّة أخرى، إنّ الهدف الأكبر لرجال اللاّهوت على مرّ العصور هو السّطو على الكتب المقدّسة لكي ينتزعوا منها ما يصادِق على صحّة أوهامهم وتخيّلاتهم ونُظُمِهم، حتّى يُصبِغوا عليها سلطة الرّب [...].
فهم يتوهَّمون أنّ الكتابات المقدّسة تُخفي في طيّاتها أسرارا عميقة؛ وعلى هذا الأساس فإنّهم يتغافلون عن التّعاليم الأكثر نفعاً ليجهدوا أنفسهم في الرّكض وراء أوهام يرفضها العقل. وهم لا يتوانون في إضفاء كلّ ما تجود به مخيَّلتهم المحمومة، في سعيهم الأحمق هذا، على الرّوح القدس، ومن ثمّة التعلّق به بكلّ ما أوتوا من طاقة واندفاعيّة مذهلتيْن"(6).
إنّ تأويل الكتب المقدّسة بهذه الصّورة من شأنه أن يُفقِدها كلّ سياق تترسّخ فيه. فهؤلاء اللّاهوتيّون الذين تقودهم فقط هلاوسهم الغامضة تراهم يتفنَّنون في تمرير "بِدَعٍ بشريّةٍ محضة [على أنّها] تعاليم إلهيّة". بالتّالي، كلّ النّتائج التي نحصل عليها تكون غير مبنيّة على أيّة منهجيّة موضوعيّة وتبقى جرّاء ذلك غير قابلة للإثبات. فتأويلات اللّاهوتيّين هذه لا تعكس في الحقيقة شيئا آخر غير أحكامهم المسبقة والخرافات التي يريدون غرسها في عقول الآخرين. والنّتيجة الحتميّة لكلّ هذا، والتي ما فتئ التّاريخ يؤكِّدها على الدّوام، هي التّناحر الدّيني وتعكير السّلم الأهلي.
الوسيلة الحقيقيّة لتأويل النّصوص المقدّسة والكشف عمّا تُعلِّمه أو لا تُعلِّمه تتمثّل في البحث عن المعاني التي قصدها مؤلِّفو هذه النّصوص، وهذا يكاد يكون بديهيّا عند سبينوزا. وقد كان لودفيك ماير محقّاً على الإطلاق عندما يُفرِّق بين معنى مقطعٍ مّا وبين مسألة الحقيقة التي يحتضنها. الخطأ الذي وقع فيه بالنّهاية هو أنّه ماثَل بين الشّيئيْن في خصوص البيْبل. فهو، وكثيرون آخرون:
"ينطلقون من هذا الإفتراض (عندما يشرعون في تفسير النّصوص المقدّسة والبحث عن معناها الحقيقي) الذي مفاده أنّ الكتب المقدّسة هي دائما صحيحة ومن مصدر إلهيّ. مع أنّ هذا الافتراض يجب أن يكون نتيجة فحْصٍ دقيق لا يترك المجال لأيّ التباس، من حيث أنّه يتوجّب على [هؤلاء] أن يعتمدوا أوّلا وقبل كلّ شيء كقاعدة لتأويل الكُتب المقدّسة على ما قد تُعلِّمنا هذه الكتب هي نفسها أفضل من حشو أدمغتنا بكلّ تفاسيرهم التي لا طائل من ورائها"(7).
إنّ هدف مُفسِّر النّصوص المقدّسة، مثل هدف المفسِّر الأمين لكلّ عمل أدبيّ، هو الكشف عمّا يريد النصّ قوله، وهذا، على الأقلّ في رأي سبينوزا، لا يعني شيئا آخر سوى الرّسالة التي يريد المؤلِّف تبليغها من خلال عمله: "وذلك لأنّ الأمر يتعلّق بمعنى الأقوال المقدّسة وليس بحقيقتها على الإطلاق"(8). فهناك فرق بين التّساؤل عن حقيقة ما إذا كان الرّب خاضعا للانفعالات مثل الغضب والغيرة، وهذا سؤال من الأفضل أن نتركه للفلاسفة، وبين مسألة تحديد ما إذا كان موسى يعتقد حقيقة (وإذا كان يريد أن يعتقد الآخرون مثل ما يعتقده) أنّ الرّب كان يستطيع أن يَغضَب أو أن يغار، وهذه هي مهمّة المفسِّر. إذ أنّ غاية المفسِّر هي معرفة "مقصَد المؤلِّف، أو ما كان يُمكِن أن يَقصِده، ذاك المقصَد الذي أملى عليه أن يكتب ما كتبه"، وبعبارة أخرى محاولة معرفة "ما كان يدور في خَلد المؤلِّف"(9) وهو بصدد كتابة نصّه.
وبجُرأة مذهِلة يقارن سبينوزا بين الإجراء المناسِب لتأويل النّصوص المقدّسة (الشيء الذي ينطبق على الأرجح على كلّ عمل أدبيّ)، وبين مناهج علْم الطّبيعة: "[...] هذه المنهجيّة التي تساعدنا على تفسير البيْبل تفسيرا يقينيّا لا تختلف عن المنهجيّة التي تُستَخدم لتفسير الطّبيعة، بل بالعكس تتطابق معها تماما"(10). وبما أنّ المعرفة العلميّة للطّبيعة يجب البحث عنها "في الطّبيعة نفسها" دون افتراض أيّ مبدإ ميتافيزيقي أو لاهوتي مسبق، فإنّ "المعرفة كلّها للكتب المقدّسة يجب طلبها فقط من الكتب المقدّسة ذاتها لا غير [ab ipsa Sciptura sola]"(11).
لقد كانت حاضرة في ذهن سبينوزا بالخصوص عناصرُ لمنهجيّة علميّة تجريبيّة على نحو ما نجدها مشروحة من طرف فرانسيس بيكون في كتابه Novum Organum (الأورغانون الجديد) الصّادر عام 1620(12). فالمرحلة الأوليّة لرجل العلْم هي "الدّراسة المفصَّلة للطّبيعة" التي تستوجِب تجميع كلّ الوقائع الهامّة من خلال ملاحظة مباشرة، والأهمّ من ذلك أن تكون هذه الملاحظة مضبوطة مُتَحكَّماً فيها، بمعنى آخر هو ما يسمّيه بيكون مجموعة من "الأحداث [الظّواهر] الطّبيعيّة والتجريبيّة"، ويسمّيه سبينوزا "معطيات قاطعة". ومن خلال مجموع المعطيات هذه، أي الظّواهر التي يأمل رجل العِلْم فهمها لكي يَستنتِج منها (على الأرجح بالإستقراء والاختبارات التّجريبيّة للفرضيّات) "تعريفات الأشياء الطبيعيّة". ومن وراء لفظة "تعريفات" يقصد سبينوزا الماهيات أو الطّبائع، بمعنى آخر الخصائص الجوهريّة المكوِّنة لمختلف أنواع الأشياء. ونجد لهذا التّعريف مثالا دقيقا في الشّرح الذي يقدّمه سبينوزا لطبيعة ملح البارود في بعض رسائله إلى أُلدنبورغ حيث يعترِض على موقف روبرت بويْل الذي يعتَبِر أنّ ملح البارود يتركّب من جزيئات لا متجانسة(13).
إنّ اكتشاف هذه الماهيات أو الطّبائع يمرّ أوّلا بصياغة مبادئ كونيّة (تقوم على قاعدة معطيات الملاحظة المضبوطة) التي تحكُم الظّواهر الطّبيعيّة، مثل قوانين الحركة التي تنطبق على كلّ الأجسام. وهي "التّعاليم" التي يكتشفها فيلسوف الطّبيعة من خلال دراسته النّقديّة لهذه الطّبيعة المشار إليها. ومن هذه المبادئ الكونيّة الشّاملة يكون من الممكن المرور إلى قواعد الطّبيعة تكون أقلّ عموميّة لا تَشرَح إلاّ بعض أنواع من الظّواهر:
"[وذلك على غرار ما نقوم به] في دراسة الأشياء الطّبيعيّة [إذ نبدأ] أولًا بكشفِ أكثر الأشياء شمولًا، وهي الأشياء التي تُشارك فيها الطّبيعة كلُّها كالحركة والسّكون، وكذلك كشْف قوانينها وقواعدها التي تَتَّبِعها الطبيعة دائمًا، والتي تفعل من خلالها بلا انقطاع، ثُمَّ نرتفِع تدريجيّا إلى الأشياء الأخرى الأقل شمولًا[...](14).
بعد ذلك يقع تجميع الظّواهر المتفرِّدة حسب هذه المبادئ حيث تتولَّد التّأويلات العِليَّة الواضحة. وكما أنّ المعرفة الصّحيحة التي يقدِّمها كتاب "الأخلاق" على أنّها أعلى درجةِ نجاحنا الفكري، فإنّ ماهيات الظّواهر الطّبيعيّة التي يكتشفها رجل العلْم توفِّر لنا فهماً أعمق لتركيبة الأشياء والسّبب الذي جعلها هي كما هي. وهذه الماهيات بالنّسبة للعلوم الطّبيعيّة هي ما يتطابق مع الدّلالات بالنّسبة لعلم التّأويل. وفي منظور سبينوزا، لا يذهب العالِم، في أيّ لحظة كانت من هذا المسار، خارج الطّبيعة نفسها، وذلك مثلا بالّلجوء إلى مبادئ لاهوتيّة تتعلّق بالرّب، وهو ما كان ديكارت قد فعله في كتابه "مبادئ الفلسفة" عند صياغته القوانين الأكثر عموميّة للطّبيعة(15).
وعلى غرار ما يجب أن يفعله العالِم فإنّ مفسِّر النّصوص المقدّسة لا يجب عليه أن يضع نفسه خارج النّصوص المقدّسة نفسها، وذلك حتى يتسنّى له اكتشاف "المبادئ"، أي التّعاليم التي أراد مؤلِّفوها تبليغها. فمهما كانت الدّروس الدينيّة والعِبَر الأخلاقيّة التي أراد الأنبياء تبليغها لقرّائهم من خلال كتاباتهم، فإنّ هذه الدّروس والعبر يجب البحث عنها في هذه الكتابات، وفي هذه الكتابات وحدها لا غير، وذلك بمساعدة "النّور الطّبيعي":
"ما هو إذن جوهر منهج تفسير الطّبيعة؟ إنّه يتمثّل قبل كلّ شيء في رسم رواية دقيقة لهذه الظّواهر لكي نصل بعد ذلك، انطلاقا من هذه المعطيات المؤكَّدة، إلى تعريفات مضبوطة للأشياء الطّبيعيّة. وهذه بالضّبط هي الطّريقة الملائمة لتأويل النّصوص المقدّسة. يجب في البداية أن نجعل منها رواية دقيقة وبالتّالي نقوم بتكوين مخزون من معطيات ومبادئ موثوقة جدّا، ومنها سنستنتج لاحقا الفكر الحقيقي لمؤلِّفي الكتابات المقدّسة عبر سلسلة من التّداعيات المشروعة. كلّ مَن سيمارس هذا المنهج سيكون على يقين تماما من أنّه سيحمي نفسه من أيّ خطأ، ولكن شريطة ألاّ يستخدم في تأويله للكتب المقدّسة معطيات أخرى ولا مبادئ أخرى سوى تلك التي نعرفها من رواتها [...](16).
إنّ المبادئ الأخلاقيّة المعروضة في الكتب المقدّسة هي بالفعل معروفة بغضّ النّظر عن هذه الكتب، وذلك بواسطة العقل فقط، كما يُظهر سبينوزا هذا في كتابه "الأخلاق". فهي، في نهاية المطاف، عبارة عن مبادئ عقلانيّة صرفة "التي يُمكِن البرهنة عليها بالأفكار الشّائعة"(17). إلّا أنّ تعليم الكتب المقدّسة لهذا المبدإ أو ذاك لا يمكن الكشف عنه إلاّ بتحليل هذه الكتب نفسها تحليلا نقديّاً.
كان سبينوزا يعني بالتّأكيد، من خلال مقولته بتأويل الكتب المقدّسة فقط انطلاقا من "الكتب المقدّسة وحدها" (sola -script-ura)، اقصاء الّلجوء الميموني-العقلاني إلى قانون فلسفي خارجي، وأيضا لجوء كالفين إلى إلهام إلهي خاصّ (الرّوح القدس). من جهة أخرى، كان سبينوزا يريد تحاشي هذه المقاربة الفردانيّة والذّاتية للكتب المقدّسة التي تدعو لها بعض الطّوائف الإصلاحيّة المارقة. فعلى سبيل المثال، كان الكويكرز والكلّيجيان، وكان لسبينوزا كثير من الأصدقاء من بينهم، يتركون لأتباعهم مهمّة تأويل النّصوص المقدّسة حسب ما تُملِيه عليهم ضمائرهم أو "النّور الدّاخلي". هناك، بالنّسبة لسبينوزا، طريقة موضوعيّة لتأويل الكتب المقدّسة، طريقة من شأنها أن تقود مُؤَوِّلَها، بالرّغم من الصّعوبات العديدة، إلى فهم يكون على الأقلّ قريبا من الدّلالات التي كان الكتّاب يريدون تبليغها من داخل العديد من مقاطع البيْبل، وبعض هذه المقاطع تكتسي أهميّة قصوى في هذه النّصوص المقدّسة.
في الحقيقة، كان لدى سبينوزا تصوُّر أوسع من التصوّر المتمثّل في "فهم الكتب المقدّسة من خلال الكتب المقدّسة ذاتها لا غير" [ab ipsa Sciptura sola]. فمقاربة البيْبل الصّحيحة تتطلّب بالفعل ليس فقط تحليل النصّ نفسه واللّغة التي كُتِب فيها، ولكن كذلك تحليل العوامل الأخرى مثل الظّروف الإجتماعيّة والسّياسيّة التي حفّت بتأليفها، وتحليل سِيَر حياة مؤلِّفيها. فعبارة "لا تُطلَب معرفة الكتب المقدّسة إلاّ من الكتب المقدّسة نفسها لا غير" تعني بكلّ تأكيد دراستها حصريّا بطبيعة الحال انطلاقا من اعتبارات لغويّة، ولكن من كلّ الإعتبارات اللّغويّة الوجيهة ذات الصّلة الوثيقة بها. وهذا يعني أنّنا عندما نتحدّث عن "البيْبل" فإنّ المقصد منه هو "عالَم البيْبل". ما يطلبه سبينوزا هي مقاربة تاريخيّة للكتب المقدّسة التي تحتّم دراسة مختلف السّياقات التّاريخيّة التي كانت هذه الكتابات قد أُنْتِجت فيها أصلا.
من ناحية أخرى، بالرّغم من أنّ تأويل سبينوزا للبيْبل ليس له طابع عقلانيّ بالمعنى الذي يقصده ابن ميمون (أو ماير)، فإنّ العقل مع ذلك يلعب في هذه العمليّة دورا هامّا. فتفسير النّصوص المقدّسة يحتاج منّا استخدام مداركنا العقليّة لتناول المادّة النصيّة والتّاريخيّة تناولا مُمَنهجاً. وهذا، مرّة أخرى، هو ما ينطبق على علم الطّبيعة الذي لا يشترط أيّ معرفةٍ ما فوق طبيعيّة:
"ولا شكَّ عندي أنَّ كلَّ شخصٍ يرى الآن أنّ هذا المنهج لا يتطلَّب نورًا سوى النّور الفطري [أي النّور الطّبيعي لتأويل النّصوص المقدّسة]؛ ذلك أنَّ طبيعة هذا النّور وصِفتَه المُميِّزة تنحصِر في استنباطه الأشياء الغامضة وغير المعروفة واستخلاصِهِ إيَّاها بوصفها نتيجة مشروعة من الأشياء المعروفة أو الأشياء المُعطاة على أنّها معروفة"(18).
في كتابه "الفلسفة، كمفسِّر للكتُب المقدّسة"، يُميِّز ماير بين طريقتيْن يستطيع العقل من خلالهما أن يلعب دورا في تأويل البيْبل. فحسب بعض الأشكال من المقاربات، التي تبنّاها ماير (وكذلك ابن ميمون)، يكون العقل هو: "المعيار، والمعيار هو القاعدة التي نُفسِّر ونَحكُم بها". فكلّ تأويل يتعارض مع "المعرفة الحقيقيّة والوثيقة بما لا يدع مجالا للشّك وهي المعرفة العقليّة التي تَكْسِبُ وتُنظِّم في غمرة نور الحقيقة السّاطع"، أي بعبارة أخرى يجب أن يُرفَض التّأويل الذي يتعارض مع الفلسفة الحقيقيّة(19). وفي هذا المنظور، يكون العقل هو الذي يُوفِّر المحتوى الذي يجب أن يمثّل القاعدة التي بموجبها يتمّ تقييم التّأويلات والتّفاسير.
من جهة أخرى، يمكن للعقل، حسب ما يرى ماير، أن يكون مجرّد "مُعينٍ وأداة لتشخيص معنى الكتب المقدّسة وتحديدها"، وليس "المعيار الذي بواسطته يجب توجيه كلّ تأويل والمصادقة عليه". يبدو أنّ سبينوزا كان متجاوبا تجاوبا كبيرا مع هذا التّمييز بين العقل من حيث أنّه تجسُّم لعقيدة، وبين العقل من حيث أنّه أداة اكتشاف. فهو يعرف أنّ هذا التّمييز، مهما كان دقيقا، يظلّ جوهريّا لفهم الفارق بين عقلانيّته في علاقته مع البيْبل، وبين هذا النّوع من العقلانيّة التي تتّسم بها تصوّرات ابن ميمون وماير. فهذا التّمييز يسمح له خاصّة بالتّأكيد على أنّ كلّ شخص وُهِب العقل، بمعنى آخر، كلّ البشر، يمتلك كلّ ما يلزم (على الأقلّ من حيث المبدأ) لفهم الرّسائل الأكثر أهميّة التي جاءت بها الكتب المقدّسة:
"ذلك لأنه لَمَّا كانت السّلطة العُليا في تفسير الكتاب ترجِع إلى كلِّ فرد، فلا ينبغي أن تكون هناك أيّة قاعدة أخرى للتّفسير سوى النّور الطّبيعي المُشترك بين جميع الناس، فلا يُوجد نور يفوق الطّبيعة ولا تُوجَد سُلطة خارجيّة، فمن الواجب إذن ألَّا يكون هذا المنهج من الصعوبة بحيث لا يُمكن أن يَتَّبِعه إلَّا الفلاسفة ذَوو البصيرة النّافذة، بل يَجِب أن يكون في مُتناوَل الذّهن العادي المُشترك بين جميع الناس، ومُتناسِبًا مع قدرتهم"(21).

(يتبع)
-------------------
هوامش
(1) الرّسالة، مرجع سابق، حنفي، ص 270.
(2) نفس المرجع، ص 269.
(3) نفس المصدر، حنفي، بتصرّف، ص 268.
(4) نفس المصدر،حنفي، بتصرّف، ص 268.
(5) ينتقد سبينوزا صراحة غموض هذه المقاربة في رسالة اللّاهوت والسّياسة في الجزء الثّالث، الفصل السّابع.
(6) نفس المصدر، التّرجمة من عندنا. يوافق الصّفحة 249 من ترجمة حنفي.
(7) الرّسالة، مقدّمة المؤلِّف، حنفي، بتصرّف، ص 122.
(8) نفس المصدر، التّرجمة من عندنا.
(9) نفس المصدر، حنفي، بتصرّف، ص 263.
(10) نفس المصدر، التّرجمة من عندنا، في ترجمة حنفي نجد الاستشاد ص 251.
(11) نفس المصدر، التّرجمة من عندنا، في ترجمة حنفي نجد الاستشهاد ص 254.
(12) يبدو أنّ هذا الكتاب لم يُعثَر عليه في مكتبة سبينوزا، غير أنّنا نعرف أنّه كان على علم به؛ انظر الرّسالة رقم 2 التي يوجّه فيها انتقادات لاذعة لبيكون، ص 200 من ترجمة عبد الجليل سعيد، مصدر سابق. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ كتاب "الأورغانون الجديد" ترجمه إلى العربيّة د. عادل مصطفى، رؤية للنّشر، القاهرة 2013.
(13) أنظر الرّسالتيْن 11 و13 من مراسلات سبينوزا.
(14) الرّسالة، حنفي، بتصرّف، ص 255.
(15) أنظر:
Descartes, René. 1974–83. Oeuvres de Descartes. 12 vols. Ed. Charles Adam et Paul Tannery. Paris: J. Vrin, p. 36-40.
(16) الرّسالة، التّرجمة من عندنا، ص 250 في ترجمة حنفي.
(17) الرّسالة، حنفي، ص 251.
(18) نفس المصدر، ص 266.
(19) ماير 2005، مرجع مذكور، التّرجمة من عندنا، ص 105.
(20) نفس المصدر، التّرجمة من عندنا، ص 217.
(21) الرّسالة، حنفي، ص 271-272.



#ناصر_بن_رجب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كتاب صُنِع في الجحيم(17)
- كتاب صُنِع في الجحيم(16)
- كتاب صُنِع في الجحيم(15)
- كتاب صُنِع في الجحيم(14)
- كتاب صُنِع في الجحيم(13)
- كتاب صُنِع في الجحيم(12)
- كتاب صُنِع في الجحيم(11)
- كتاب صُنِع في الجحيم(10)
- كتاب صُنِع في الجحيم(9)
- كتاب صُنِع في الجحيم(8)
- كتاب صُنِع في الجحيم(7)
- كتاب صُنِع في الجحيم(6)
- كتاب صُنِع في الجحيم(5)
- كتاب صُنِع في الجحيم(4)
- كتاب صُنِع في الجحيم (3)
- كتاب صُنِع في الجحيم (2)
- كتاب صُنِع في الجحيم (1)
- رَبُّ القَبائل، إسلام محمّد
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (14)
- قراءات أفقيّة في السّيرة النبويّة (13)


المزيد.....




- “خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم ...
- فيديو خاص عيد الفصح العبري واقتحامات اليهود للمسجد الأقصى
- “ثبتها الآن” تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah لمشاهدة ...
- بعد اقتحامات الأقصى بسببه.. ماذا نعرف عن عيد الفصح اليهودي ا ...
- ما جدية واشنطن في معاقبة كتيبة -نيتسح يهودا- الإسرائيلية؟
- بالفيديو.. مستوطنون يقتحمون الأقصى بثاني أيام الفصح اليهودي ...
- مصر.. شائعة تتسبب في معركة دامية وحرق منازل للأقباط والأمن ي ...
- مسئول فلسطيني: القوات الإسرائيلية تغلق الحرم الإبراهيمي بحجة ...
- بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري ...
- أسعدي ودلعي طفلك بأغاني البيبي..تردد قناة طيور الجنة بيبي عل ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ناصر بن رجب - كتاب صُنِع في الجحيم(18)