أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - نوفل شاكر - ليس لدى الكولونيل من يعاتبه















المزيد.....

ليس لدى الكولونيل من يعاتبه


نوفل شاكر

الحوار المتمدن-العدد: 7204 - 2022 / 3 / 28 - 00:19
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


كانت ليلة الخامس من كانون الأول عام 1989 ليلة باردة في مدينة دريسدن فيما كان يُعرف سابقاً ب " ألمانيا الشرقية" في ذات امبراطورية كانت تسمى يوما ما ب " الاتحاد السوڤياتي".

حوّل سقوط جدار برلين هذه الليلة الباردة إلى ليلة ملتهبة، حوّلَ أيضاً معه مصير المقدم الشاب في " الستازي" (جهاز الاستخبارات السوڤياتي في ألمانيا الشرقية)، الجهاز الأقوى من بين أجهزة الاستخبارات الشيوعية بأسرها وقتذاك.

كانت الحشود الثائرة قد نزلت إلى الشوارع في كل أرجاء ألمانيا الشرقية، هاجت وماجت، وجرفت معها كل النظام القديم، ومعه رموز الشيوعية وتماثيلها، في تلك الليلة، وفي دريسدن، تمّ تحديد الهدف: مبنى الستازي.

تمكنت مجموعة من تطويق المبنى ومع مضي الوقت، كانت الأعداد تتزايد باضطراد، وتتحول إلى حشدٍ غاضب وشرس. كذئبٍ جريح ومحاصر، محدقاً من خلال الستائر، كان المقدم الشاب والذي اسمه ڤلاديمير پوتين يراقب بحذرٍ ما يدور في الخارج، بوصفه ضابطاً مساعداً، فقد استلم زمام الأمور بنفسه في تلك الساعة الخطيرة بعد غياب مديره.

ونظراً لحاجته إلى المساعدة؛ اتصل بمركز الاستخبارات السوڤياتي ال" K.G.B” في موسكو مراراً وتكراراً بدون نتيجة، أخيراً جاءه ردٌ غير مكترث بما يجري، قائلاً: " إن موسكو صامتة"! وهكذا وجد المقدم الشاب نفسه لوحده في هذا الموقف الكبير والخطير!

نزل إلى أسفل المبنى، متوجهاً حيث القبو، مشعلاً الفرن، ممزقاً آلاف الصفحات من التقارير السرية، والوثائق الاستخبارية التي تكمن في فحواها آلاف الأسماء للعملاء السريين، وآلاف التفاصيل عما كان يجري في أوربا في الحرب الباردة، وهكذا تحولت هذه الأوراق المهمة إلى قصاصات صغيرة بيد المقدم، الذي أخذ يطعمها للنيران المشتعلة في الفرن، والتي كلما ازداد توقُّدها كلما ازدادت الحشود اقتراباً من المبنى… ترك ألسنة اللهب تتعالى، وبأعصاب باردة، وقلب تدرب لسنوات في الردهات السرية في مراكز الكي جي بي على تأخير الشعور بالخوف، خرج إلى الحشود وصرخ بهم مهدداً: " هناك حراس مسلحون في الداخل، سيردونكم قتلى"!!

تعاقبت المشاهد التراجيدية أمام عين المقدم الذي أصبح الآن عقيداً؛ ليرى أكبر كارثة جيوسياسية تحدث في القرن العشرين بعد عامين من سقوط الجدار، انهيار الاتحاد السوڤياتي الرهيب!
توارى ميخائيل غورباتشوف، وتوارى معه الاتحاد السوڤياتي، وتقاسم الأخوة الأعداء إرثه تقاسماً مجحفاً، وتعهد جيمس بيكر شامتاً بعدم تقدم حلف الناتو شرقاً.

كانت التسعينيات سنوات الضياع، ضياع البلاد التي كسرت _ يوماً ما_ نابوليون بونابرت، مُحيلةً حملته ذات الستمائة ألف جندي، إلى ثلاثين ألفاً فقط، مُثخنين بالجراح والأمراض وصقيع موسكو، هاربين من غارات فرسان القوزاق على امتداد طريق الهزيمة، ولازالت مدافعهم تقبع ذليلة في حديقة الكرملين. البلاد التي قهرت أدولف هتلر الذي أصيب بجنون العظمة، واجتاحها ب " عملية بارباروسا" ذات الخمسة ملايين جندي، فهزمت فرق الڤرماخت، والتي كانت من أفضل الجيوش في العالم وأكثرها كفاءة ودقة في تنفيذ العمليات؛ تحطمت على مقتربات موسكو، وطاردتها فرق الجيش الأحمر وصولاً إلى الرايخستاج، فغيّرت ملامح أوربا بأسرها.

أوربا تلك القارة العجوز، التي ما برح رجل اليانكي المغتر بشبابه، يغويها بمشروع مارشال من هنا، ومبدأ ترومان من هناك، ثورات ملونة من هنا، وغرس لقواعد الناتو من هناك، والغاية دوماً هي تطويق " امبراطورية الشر" _ الوصف الذي أطلقه الرئيس ريغان على الاتحاد السوڤياتي_ لم يكن هذا المغوي يعلم شيئاً عن " عقدة الحصار" القابعة في الروح الروسية، كان مكتفياً فقط، بالفكرة التي كتبها العالم البريطاني " هالفورد جون ماكيندر في عام 1904 والتي مفادها، أن من يسيطر على أوربا الشرقية؛ سيسيطر على العالم، كان مدججاً بخطاب تشرشل عن " الستار الحديدي" الذي يريد القضاء على " الحضارة المسيحية".

كانت التسعينات أيضاً، مسيرة حافلة للكولونيل الشاب، الذي تنقل فيها بين المسؤوليات السياسية والاستخبارية والإدارية، فتشكلت شخصيته العميقة الأغوار، والتي تلاقحت فيها الأفكار الليبرالية والرأسمالية الجديدة مع الخبرات الاستخبارية التي ورثها عن الثمانينيات.

هذه الشخصية المتمرسة، التي تمكن بها من نيل ثقة من عمل معهم، ونيل ملفات من عمل معه؛ فقاده ذلك عام 1997 إلى مكتب الرجل الأول في روسيا الرئيس يلتسين، الذي أدرك مواهبه فسلمه مباشرة مسؤولية أقوى جهاز رقابة في الكرملين، بعدها بعام سلمه رئاسة المخابرات، بعدها وفي آخر يوم من عام 1999 سلمه مكتبه معلناً إياه " رئيساً للاتحاد الروسي"؛ ليستقبل الروس الألفية الثالثة بوجهٍ جديد، وعهدٍ جديد، وأحلامٍ قديمة، هي أحلام استعادة المجد السوڤيتي الآفل، والذي دقت ساعة ثأره الآن!

استهل الرئيس الجديد عهده بحرب الشيشان الثانية، فقُبرت أحلام الانفصاليين الشيشان، ودانت القوقاز بأكملها لسلطة موسكو. أما في موسكو نفسها، فقد قلّم مخالب أباطرة المال الجدد، وبارونات النفط والإعلام وهم ما يُطلق عليهم في روسيا تسمية " أوليغارش".

كان الأوليغارش قد هيمنوا على جميع المفاصل الاقتصادية والمالية والإعلامية في عهد الرئيس السابق يلتسين، إنهم حلقة ضيقة متكونة من سبعة أشخاص فقط، أعلنوا عام 1995 بأنهم يملكون 70‎%‎ من الاقتصاد الروسي!

خاض صاحب الحزام الأسود أولى نزالاته ضد هذه الحلقة، فأسقط بارونات النفط والغاز والبنوك في الجولة الأولى، وحرّر مراكز القوى الاقتصادية، وأحكم قبضة الدولة على القطاعات الأساسية. في جولته الثانية، أطاح برؤوس المافيا الروسية، وسحق رجالهم في الشوارع.

قرر نقل بساط النزالات خارج موسكو، فوظّف الغاز سلاحاً مسلطاً على رقاب الأوربيين، إلى الحد الذي جعل السيناتور الأميركي السابق جون ماكين يصف روسيا بأنها " محطة وقود كبيرة متنكرة بهيئة دولة".

كان قطار الناتو _في هذه الأثناء_ مندفعاً لمد سككه في أوربا الشرقية، وارتفع عدد ركابه من 17 دولة في نهاية عام 1991 إلى 30 دولة اليوم، غير عابيء بشكاوى الروس المتكررة من هذا ال " كسر الجيوسياسي". لم تدخل قواعد الناتو لجورجيا وأوكرانيا، لكنه تسلّل إليهما عبر حصاني طروادة، أحدهما وردي في تبليسي، والآخر برتقالي في كييڤ. أطلق الإعلام الغربي على ماجرى هناك ب " الثورات المخملية".

قرّر الكولونيل إنهاء هذا اللعب، وإيقاف مهرجان الألوان هذا، فأرسل دباباته إلى تبليسي عام 2008 أمام أنظار الغرب، واقتطع منها إقليمي أستونيا وأبخازيا واعترف بهما دولتين مستقلتين، فعل الشيء نفسه في أوكرانيا عام 2014 فضم شبه جزيرة القرم، واقتطع إقليم دونباس، وأضحى البحر الأسود " بركة روسية" _ على حد وصف الأوربيين _.

جالساً في مكتبه الخشبي الكلاسيكي الخالي من أجهزة الحاسوب والهواتف الذكية، يفكر سيد الكرملين في اللحظة الراهنة من تاريخ روسيا، متأملاً الخريطة، يرى المجال الحيوي للأمن القومي لبلاده مهدداً، تستيقظ في روحه عقدة الحصار الروسية، يقرر إعادة صياغة الهيكل الأمني لأوربا، ويقلّب مذكرات " ربيع براغ"، يطلق " عمليته الخاصة" في أوكرانيا؛ لإرغام حلف الناتو على التنازل عن حلم التوسع شرقاً، كمقدمة لإرغامه على الإنكفاء، مردداً مقولته السابقة " بعد وفاة الزعيم الهندي المهاتما غاندي لايوجد أحد من الممكن التحدث إليه". يفاجيء الغرب بدخوله أوكرانيا، غير متفاجيء بردود الفعل، فالذي يملك المفاجأة لا تأخذه المفاجأة، وصاحب المفاجأة نفد صبره،وأعلن حالة التأهب النووي، ومن الآن فصاعداً سيكون هو صاحب الضربة الأولى، فليس لدى الكولونيل من يعاتبه.



#نوفل_شاكر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- توغل الدبابات وتغوُّل العقوبات والقطب الثالث
- الدب الروسي والقفص الأوكراني
- العاصفة الروسية تتجه غرباً
- الزرقاوي، شيخ الذباحين، ومفجر الحرب الطائفية
- تيار السلفية الجهادية
- ملابسات مصرع ثورة
- عندما تهزم أميركا نفسها بذات نفسها!
- مطار كابل ورحلة الألف ميل
- حدث ذات مرةٍ في الشرق
- عن بغداد التي - لم تسقط- وأشياء أخرى
- مفارقة التقدم
- إحتقار المرأة في تأريخ الفلسفة ( من سقراط إلى نيتشه)
- خلجات (نص شعري)
- من المادية إلى الميتافيزيقا
- عندما تغدو الشتيمة الجنسية، معياراً للوطنية!
- لانريد وطن- بقيادات دموبة بعثية
- تشرين من الغضب إلى اللطم
- كلمة الملك سلمان، رقصة موت أفريقية.
- حائكُ السجادة الفارسية، يسخرُ من رجل المارلبورو.
- ديمقراطية على طريقة الويسترن الأمريكي


المزيد.....




- رمى المقص من يده وركض خارجًا.. حلاق ينقذ طفلة صغيرة من الدهس ...
- مسيّرة للأمن الإيراني تقتل إرهابيين في ضواحي زاهدان
- الجيش الأمريكي يبدأ بناء رصيف بحري قبالة غزة لتوفير المساعدا ...
- إصابة شائعة.. كل ما تحتاج معرفته عن تمزق الرباط الصليبي
- إنفوغراف.. خارطة الجامعات الأميركية المناصرة لفلسطين
- مصر.. ساويرس يرد على مهاجمة سعد الدين الشاذلي وخلافه مع السا ...
- تصريحات لواء بالجيش المصري تثير اهتمام الإسرائيليين
- سيدني.. اتهامات للشرطة بازدواجية المعايير في تعاملها مع حادث ...
- ليبيا وإثيوبيا تبحثان استئناف تعاونهما بعد انقطاع استمر 20 ع ...
- بحضور كيم جونغ أون.. احتفالات بيوم الجيش في كوريا الشمالية ع ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - نوفل شاكر - ليس لدى الكولونيل من يعاتبه