أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث قانونية - سلام عبود - اجتثاث البعث, دراسة تحليلية تاريخية حول قضية اجتثاث البعث وصلتها بالمشروع الوطني العراقي















المزيد.....



اجتثاث البعث, دراسة تحليلية تاريخية حول قضية اجتثاث البعث وصلتها بالمشروع الوطني العراقي


سلام عبود

الحوار المتمدن-العدد: 1661 - 2006 / 9 / 2 - 09:43
المحور: دراسات وابحاث قانونية
    


اجتثاث البعث:
لعبة سياسية أم حاجة وطنية حقيقية؟
(دراسة تحليلية, تاريخية حول قضية اجتثاث البعث وصلتها بالمشروع الوطني العراقي)
1
اجتثاث البعث وضرورة صياغة مشروع وطني للثقافة العراقية

ما حقيقة "اجتثاث البعث"؟ وما مقدار جدية تأثير هذا التعبير المثير للفزع في مجرى العمليات السياسية والاجتماعية القائمة الآن في العراق؟ وما صلته بالمشروع الوطني العراقي؟
لا يهدف هذا الموضوع الى دراسة الاجتثاث كقضية سياسية بحتة, وإنما يهدف, بدرجة رئيسة, الى دراسة مضمون هذه المسألة وموقعها ضمن عملية التغيير الثقافي والاجتماعي. لذلك, فالأسئلة التي يسعى هذا الموضوع الى إثارتها كثيرة, منها: هل ما يحدث الآن في العراق مجرد صراع حزبي فوقي بين غالب ومغلوب, أي صراع بين باحثين عن أدوار سياسية, أم أنه جدل اجتماعي حقيقي؟ وهل هناك تطابق بين رغبات السياسي أو المشرّع, الحاكم والمعارض, من جهة وحاجات الناس الواقعية الى التغيير من جهة أخرى؟ هل استخدم تعبير الاجتثاث بمضامينه المثيرة والمفزعة لغرض الدعاية والابتزاز السياسي من قبل السياسيين المحليين بأوامر وتدبير من القوى التي تدير حقيقة مقادير الأمور في العراق, أم هو حاجة سياسية ثقافية وطنية موضوعية؟ أهو مجرد استثمار لمشاعر الخوف وتجنيد وتعبئة لعناصر التوتر الاجتماعي والنفسي هدفها الكسب السياسي السريع, وتأزيم الوضع السياسي لتمرير مشاريع أكبر حجما, نظرا لما يتضمنه مفهوم الاجتثاث عند الطرفين, الفاعل والمفعول به, من رغبات ثأرية عنيفة لدى الطرف الأول, ومن مخاوف وردود أفعال سياسية ونفسية واجتماعية سلبية لدى الطرف الثاني؟ أهو المقابل النظري والغطاء الروحي التبريري للمارسة السياسية الحسية: أعمال العنف و العمليات الحربية التي تقوم بها قوى الإرهاب والميليشيات والقوات الحكومية وقوات الاحتلال والمقاومة؟ أهو مجرد ظاهرة خادعة, كغيرها من الظواهر, التي جاءت مع الاحتلال عقب سقوط النظام الديكتاتوري, أم أنه فعل اجتماعي سياسي منظم ومدروس يهدف الى إعاد ترتيب الحياة بعد ثلاثة عقود ونصف العقد من الطغيان البعثي؟
هذه الأسئلة, مجتمعة, التي تتعلق باجتثاث البعث, تتعلق بالقدر نفسه بجوهر وحقيقة الصراع السياسي والعسكري والثقافي الماثل الآن في العراق. فهي أسئلة تمتد أبعد من حدود البعث, وتتصل اتصالا مباشرا بجوهر وحقيقة المشروع السياسي الراهن. إنها أسئلة عن مصير و مستقبل وطن كامل. والإجابة عنها تلخص حقيقة المشاريع المعروضة للتداول اليومي من قبل الكتل السياسية المتصارعة ومن خلفها الأفراد والأحزاب والدول ذات المصالح المباشرة في استمرار أزمة التغيير في المجتمع العراقي.
لقد أضحى تقليدا ثابتا في " العراق الجديد" عودة الجدل حول "اجتثاث البعث" الى الواجهة السياسية مع اشتداد حدة كل موجة من موجات الصراع السياسي على السلطة. فقد طفا الموضوع على السطح عند مناقشة الدستور العراقي, وطفا مرة ثانية عندما طرح ما عرف بـمعالجة موضوع "المهمشين", الذين عرضوا آنذاك إلغاء قانون إجتثاث البعث كشرط للدخول في العملية السياسية والمساهمة في صياغة الدستور. ثم عاد الموضوع الى الظهور بقوة عند تشكيل حكومة الجعفري الثانية, ووضعه بعض السياسيين كشرط لا مساومة فيه من أجل الاشتراك في تشكيل حكومة عراقية قادمة. وكان صالح المطلق, رئيس كتلة الحوار الوطني, وأحد زعماء ما يعرف بالمهمشين, من أوائل من نادوا علنا أن اجتثاث البعث, مؤكدا أنه " سيتم الغاؤه من برنامج الحكومة" وأن ذلك حدث باتفاق الكتل السياسية, ملمحا الى ضغوط أميركية محتملة لصالح الجهات الرامية الى حمل كتلة الإئتلاف الشيعي على الأقرار بشروط معارضيهم, بما في ذلك موضوع إجتثاث البعث. لكن الموضوع عاد الى الظل مرة رابعة مع انفراج أزمة المحاصصات وارغام الجعفري على التخلي عن منصب رئاسة الوزراء لصالح جواد ( نوري) المالكي. ثم عاد الموضوع ليظهر بقوة عند تعثر مساعي المالكي الرامية الى تعيين وزراء الدفاع والداخلية والأمن, واختلط فجأة بموضوع المصالحة الوطنية, وأضحى حلقة أساسية من حلقات مشروع المصالحة, وربما الحلقة المحورية و الجوهرية فيه. فما حقيقة إجتثاث البعث في الخطط السياسية الأميركية؟ وما دوره في الصراع السياسي والاجتماعي القائم الآن؟

تختلف كلمة "إجتثاث" عن غيرها من الكلمات الدالة على القلع أو الخلع والقطع, في أنها تضمر في طياتها إيحاء يرتبط بالجسد البشري في وضع الموت. وهذا الأمر يسبغ على الكلمة مدلولات اجتماعية ونفسية عقابية قاسية, أكثر مما تمنحه الكلمات الأخرى التي تؤدي غرضا محايدا, يتمثل في فصل الشيء عن أصله. ورد في لسان العرب لابن منظور: " اجتثه: اقتلعه" و "الجثّ: القطع؛ وقيل قطع الشيء من أصله". أما الجُثّة, فقد خصها بعضهم بالكائن في وضع القعود والنوم. ومنهم من جعلها بمعنى الجسد. أما الجُثّة بالمعنى المتداول اليوم فقد وردت في بعض كتب السيرة والتاريخ العربي بمعنى أجساد القتلى, ومثل هذا نجده لدى الطبري والشهرستاني والقلقشندي وغيرهم. ومن هنا اكتسبت كلمة اجتثاث وقعا مثيرا, لما تتضمنه من معان تدل على عنف صريح وتطرف في فعل الاقتلاع. وقد أطلقت هذه الكلمة على عملية تفكيك حزب البعث العراقي, عقب سقوط نظام صدام حسين. بيد أن غموضا كبيرا اكتنف عملية الاجتثاث عند التطبيق. ويوما بعد يوم يكتشف المواطنون أن هذه الكلمة قد لا تعني ما تعنيه قاموسيا, وربما لا تعني شيئا على الإطلاق, أو قد تعني أشياء أخرى غامضة, يجهلها الناس, ككل ما يحدث على أرض العراق الآن. ما حقيقة هذه الكلمة, وما أبعادها السياسية والثقافية, وما مراميها الخفية؟

بعد سقوط نظام صدام حسين ظهرت صيغتان رسميتان للتعامل مع البعث كحزب سياسي. الصيغة الأولى هي صيغة "حل حزب البعث", والثانية "اجتثاثه". وقد مرت الصيغة الأولى من دون أن تثير مشكلات سياسية أو جدلا ثقافيا ملحوظا. وسبب ذلك يعود الى أن صيغة "حل" حزب البعث لا تحمل قيمة جدية من الناحية الإجرائية والعملية. فعند تحليل أبعادها الواقعية, المتحققة على الأرض, لا نعثر على قوانين أو إجراءات تنفيذية أو قضانية تثبت سبل تحقيق عملية الحل, عدا عمليات الفصل الوظيفي, التي رافقت حل المؤسسات العسكرية والإعلامية وبعض مؤسسات الدولة عقب سقوط النظام الديكتاتوري. وقد خلت نصوص قانون إدارة الدولة والدستور ووثائق السفارة الأميركية ببغداد المتعلقة بالقوانين الداخلية من أية صيغة تطبيقة تتعلق بالحل كإجراء قانوني له شروط ومعايير وأحكام. ومن جانب آخر تؤكد البيانات العسكرية الأميركية وبيانات الحكومة العراقية والإعلام المؤيد لهما, كل يوم, عكس ذلك. حيث يجري الإعلان عن نشاطات هذا الحزب ومسؤوليته عن جزء أساسي من أعمال العنف والمواجهات العسكرية. وه1ا الأمر يثبت عمليا, من خلال الإعلام الأميركي نفسه, أن موضوع الحل لم يكن سوى صيغة تضليلية, فارغة, لها أهداف خفية, لا تتطابق مع مظهرها الخارجي, الرامي إلغاء وجود هذا الحزب. وهذا يعني, من الناحية القانونية, عدم ظهور تشريعات تنظم عملية الحل وتحدد أوجه ممارستها, كما لم تشرع قوانين تحريمية توجب قضائيا منع إعادة تنظيم الحزب أو عودة العضوية اليه أو الى أية صيغة تنظيمية أخرى تعمل تحت اسمه أو تحت مسميات أخرى ذات مرجعيات بعثية. وكان لهذا الغموض أثر كبير في شيوع ظاهرة قتل البعثيين في بعض مدن العراق كالعمارة والبصرة وكربلاء. وقد حدثت تلك "الاجتثاثات" الجسدية, جلها, بعد أكثر من عامين على سقوط البعث, كنتيجة من نتائج غموض الواقع القانوني, وكثمرة من ثمار تسخير وتوظيف الفوضى والخيبة السياسية لمصالح طائفية وأغراض حزبية ضيقة. فهذه الاغتيالات تحاول الجمع بين صيغتي الحل والإجتثاث, بأسلوب كيفي, ثأري, يتم خارج إطار المؤسسة الدستورية والقانون, والأهم أنه يتم خارج سياق الترتيب الزمني للأحداث وتفاعلاتها الاجتماعية والنفسية, فهي فورة انتفام متأخرة, أو مؤجلة, أو "مبرمجة".
صدر قرار الحل في منتصف نيسان 2003 , وينسب الى الجنرال تومي فرانكس, الذي أضفي اسمه على قرار الحل مزيدا من الغموض والشكلية. لأن الصلة القانونية التي تربط جنرال عسكري لقوات احتلال بحل حزب سياسي في بلد محتل واهية, ولا تحمل مضمونا عمليا وقانونيا. أما أبعاد وأهداف هذا القرار فيلخصها بول بريمر في الفصل الثالث من مذكراته قائلا: " القضاء على أطر الحزب، وطرد قيادته من مواقع السلطة والمسؤولية في المجتمع العراقي، وكان الهدف من ذلك ضمان ان الحكومة المنتخبة الجديدة للعراق لن تقود الى عودة البعثيين للسلطة". ويلاحظ هنا أن بريمر يخلط خلطا تاما بين حل حزب البعث, وهو إجراء حزبي, تنظيمي, وبين السلطة, التي هي شكل لإدارة المجتمع, وهو عين ما تفعله فرق الاغيالات. إن دراسة اجتثاث البعث تظهر أن هذا الخلط يطبع مجمل العمليات السياسية التي مارستها قوات وسلطات الاحتلال. وهو دليل جدي على سوء دراية هذه السلطات بكيفية تسيير الحياة, وهو دليل ثابت على استهانة الإدارة الأميركية بالواقع واستسهالها المثير للدهشة لسبل معالجة الأمور. وكل ذلك يخلق انطباعا فوريا بأن الإدارة الأميركية تنظر باستهانة تامة, وبقدر كبير من الاستصغار والاحتقار, لا للسياسيين العراقيين من حلفائها فحسب, بل لمجمل عناصر الواقع العراقي السياسية والثقافية والنفسية والاجتماعية.

أما صيغة "إجتثاث" البعث فقد كانت جزءا من إجراءات الحاكم "المدني" الأميركي بول بريمر. وهي صيغة مثبتة وثائقيا في نصوص ما يعرف بمجلس الحكم ووثائق السفارة الأميركية ببغداد, والتي جرى نقلها الى الدستور العراقي. جوبهت صيغة " اجتثاث البعث" بمعارضة من قبل قوى سياسية عديدة, ليس بسبب طبيعتها المتطرفة أو القاسية, كما يدعي البعض, وإنما بسبب احتوائها قدرا محددا من الطابع التنفيذي أو التطبيقي, جعلها تكون نقطة صدام سياسية مع قوى لا تتفق مصالحها مع تلك الصيغة. فقد وردت بنود عملية تتعلق بالاجتثاث في قانون إدارة الدولة الذي أصدره بريمر, والذي كون الجسم الرئيسي للدستور العراقي بعد صبغه بألوان ماضوية وطائفية وعرقية ومناطقية. كما وردت نصوص في وثائق السفارة الأميركية ببغداد وفي الدستور الجديد تشير الى ضوابط قانونية محددة, تتعلق بأعضاء حزب البعث السابقين, إضافة الى ذلك كونت السلطة لجنة شبه حكومية, ذات طابع سياسي, اختصت بتطبيق قانون اجتثاث البعث, برئاسة أحمد الجلبي, وتولى جواد (نوري) المالكي وجلال الدين الصغير منصب نائبي الرئيس. أي أن مهام اللجنة أوكلت الى أشخاص في أعلى الهرم السياسي لكتلة الائتلاف.

القوانين والوثائق المشرعة للاجتثاث

أولا: مسودة قانون الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية
في فبراير2004 قدم عدنان الباجه جي عضو مجلس الحكم العراقي ورئيس تجمع الديمقراطيين المستقلين نص قانون إدارة الدولة العراقية في الفترة الانتقالية, الذي سمي بـ "مسودة قانون الدولة العراقية". وقد أقر هذا النص حرمان الأعضاء القياديين السابقين في حزب البعث من تولي مسؤوليات قيادية في إدارة الدولة. وقد أحيل النص الى مجلس الحكم العراقي لمناقشة المسودة التي تعد الثانية التي طرحت للنقاش، بعد المسودة الكردية ". أما المواد المتعلقة بالبعث فهي: المادة الثانية والثلاثون: وتنص على: " يجب ان تتوفر في المرشح للجمعية الوطنية الشروط التالية: 1 ـ الا يقل عمره عن ثلاثين سنة. 2 ـ الا يكون منتميا لحزب البعث المنحل بدرجة عضو فرقة فما فوق (الا اذا استثني من الهيئة العليا لاجتثاث البعث) او من منتسبي الاجهزة القمعية السابقة او ممن اسهم في اضطهاد المواطنين. 3 ـ الا يكون قد اثرى بشكل غير مشروع على حساب الشعب والمال العام. 4 ـ الا يكون محكوما عليه بجريمة مخلة بالشرف، وان يكون معروفا بالسيرة الحسنة. 5 ـ ان يكون حاملا لشهادة دراسية. 6 ـ الا يكون من منتسبي القوات المسلحة عند الترشيح.
المادة الثالثة والاربعون: (ب) ـ يُشترط في عضو هيئة الرئاسة ان تتوفر فيه شروط العضوية للجمعية الوطنية مع التأكيد على الشروط التالية: 1 ـ انه لم يكن عضوا في حزب البعث المنحل. 2 ـ ان يكون متمتعا بالسمعة الحسنة وبالنزاهة والاستقامة. 3 ـ وان يكون قد بلغ الاربعين من العمر." («الشرق الأوسط» السبـت 23 ذو الحجـة 1424 هـ 14 فبراير 2004 العدد 9209 )
ثانيا: قانون إدارة الدولة
وردت شروط التعامل مع أعضاء حزب البعث في البند المسمى " شروط العضوية في الجمعية الوطنية", في المادة الحادية الثلاثين والسادسة والثلاثين, وأهم شروط الأولى: " 2ـ الا يكون عضوا في حزب البعث المنحل بدرجة عضو فرقة او اعلى الا اذا استثني حسب القواعد القانونية. 3ـ اذا كان في الماضي عضوا في حزب البعث المنحل بدرجة عضو عامل يجب عليه ان يوقع وثيقة براءة من حزب البعث يتبرأ فيها من كافة ارتباطاته السابقة قبل ان يحق ان يكون مرشحا، وأن يقسم على عدم التعامل والارتباط بمنظمات حزب البعث. واذا ثبت في محاكمة انه كان قد كذب او تحايل بهذا الشأن فأنه يفقد مقعده في الجمعية الوطنية.
4ـ ألا يكون من منتسبي الاجهزة القمعية السابقة او ممن أسهم أو شارك في اضطهاد المواطنين.
8ـ ألا يكون عضوا في القوات المسلحة عند الترشيح."
أما المادة السادسة والثلاثون فتنص على:
"(ب) ـ يشترط في اعضاء مجلس الرئاسة ان تتوفر فيهم نفس الشروط الخاصة باعضاء الجمعية الوطنية مع ملاحظة مايلي:
1.ان تبلغ اعمارهم اربعين عاما على الاقل.
2.ان يتمتعوا بالسمعة الحسنة والنزاهة والاستقامة.
3.ان يكون قد ترك الحزب البائد قبل سقوطه بعشر سنوات على الاقل، اذا كان عضوا في حزب البعث المنحل.
4.الا يكون قد شارك في قمع الانتفاضة عام 1991 والانفال ولم يقترف جريمة بحق الشعب العراقي. "

ثالثا: وثيقة مسودة الدستور:
"الفصل الأول السلطة التشريعية: م / 4: يُشترط في من يُرشح لعضوية الجمعية الوطنية ما يأتي: و. ألا يكون من منتسبي الأجهزة القمعية السابقة أو ممن ساهم أو شارك في اضطهاد المواطنين. ح- ألا يكون عضواً في القوات المسلحة والأجهزة الأمنية عند الترشيح. ط- ألا يكون مشمولاً بقانون اجتثاث البعث. "
"الباب السادس: الأحكام الختامية: المادة الثالثة: 1_ تواصل الهيئة الوطنية العليا لاجتثاث البعث مهامها كهيئة مستقلة بالتنسيق مع السلطات القضائية والأجهزة التنفيذية في إطار القوانين المنظمة لعملها وترتبط بالجمعية الوطنية وتنتهي بانتهاء مهمتها. 2- للجمعية الوطنية إنهاء عمل هذه الهيئة بأغلبية ثلثي عدد أعضائها"
م5. د- يشترط لتولي منصب رئيس مجلس الوزراء أو منصب الوزير الشروط نفسها الخاصة بأعضاء الجمعية الوطنية."
الباب الأول المادة السابعة:
اولاً: يحظر كل كيان أو نهج يتبنى العنصرية أو الإرهاب أو التكفير أو التطهير الطائفي أو يحرض عليه أو يمهد له أو يمجده أو يروج له أو يبرره، وبخاصة البعث الصدامي في العراق ورموزه وتحت أي مسمى كان، ولا يجوز أن يكون ذلك ضمن التعددية السياسية في العراق، وينظم ذلك بقانون."
رابعا: المسودة الختامية للدستور
( تم عرض الصيغة النهائية لمسودة الدستور في جلسة خاصة للجمعية الوطنية عقدت بعد ظهر يوم الأحد 28-8- 2005 )
"المادة 7 : يحظر كل كيان أو نهج يتبنى العنصرية أو الإرهاب أو التكفير أو التطهير الطائفي أو يحرض عليه أو يمهد له أو يمجده أو يروج له أو يبرره، وبخاصة البعث الصدامي في العراق ورموزه وتحت أي مسمى كان، ولا يجوز أن يكون ذلك ضمن التعددية السياسية في العراق، وينظم ذلك بقانون."
المادة 37 أولاً ـ حرية تأسيس الجمعيات والأحزاب السياسية، أو الانضمام إليها مكفولة، وينظم ذلك بقانون..
المادة 132 تواصل الهيئة الوطنية العليا لاجتثاث البعث أعمالها بوصفها هيئة مستقلة وبالتنسيق مع السلطة القضائية والأجهزة التنفيذية في إطار القوانين المنظمة لعملها وترتبط بمجلس النواب.
ثانياـ لمجلس النواب حل هذه الهيئة بعد انتهاء مهمتها بالأغلبية المطلقة.
ثالثاـ يشترط في المرشح لمنصب رئيس الجمهورية ورئيس وأعضاء مجلس الوزراء ورئيس وأعضاء مجلس النواب ورئيس وأعضاء مجلس الاتحاد والمواقع المتناظرة في الأقاليم وأعضاء الهيئات القضائية والمناصب الأخرى المشمولة باجتثاث البعث وفقا للقانون أن يكون غير مشمول بأحكام اجتثاث البعث.
المادة 135 ثالثا: يشترط في أعضاء مجلس الرئاسة ما يشترط في عصو مجلس النواب على أن يكون: جـ : قد ترك الحزب المنحل قبل سقوطه بعشر سنوات إذا كان عضوا فيه. د- ألا يكون قد شارك في قمع الانتفاضة في عام 1991 والأنفال ولم يقترف جريمة بحق الشعب العراقي"
المادة 132 اولاـ تواصل الهيئة الوطنية العليا لاجتثاث البعث اعمالها بوصفها هيئة مستقلة وبالتنسيق مع السلطة القضائية والاجهزة التنفيذية في اطار القوانين المنظمة لعملها وترتبط بمجلس النواب.
ثانياـ لمجلس النواب حل هذه الهيئة بعد انتهاء مهمتها بالاغلبية المطلقة.
ثالثاـ يشترط في المرشح لمنصب رئيس الجمهورية ورئيس واعضاء مجلس الوزراء ورئيس واعضاء مجلس النواب ورئيس واعضاء مجلس الاتحاد والمواقع المتناظرة في الاقاليم واعضاء الهيئات القضائية والمناصب الاخرى المشمولة باجتثاث البعث وفقا للقانون ان يكون غير مشمول باحكام اجتثاث البعث.
خامسا: نص السفارة الأميركية, بغداد, العراق 2005- بغداد, العراق 2005- 1- 18
"بغداد, 19 كانون الثاني- يناير 2005- أصدرت السفارة الأميركية ببغداد بيان حقائق يحدد شروط الترشيح لعضوية الجمعية الوطنية العراقية الانتقالية والمهلة الزمنية المسموحة يهذه الجمعية كي تستكمل صياغة دستور جديد للعراق وفقا لما نص عليه قانون ادارة الدولة, فيما يلي نص البيان
الأحكام التي حددها قانون ادارة الدولة: " شروط الترشيح للجمعية الوطنية كما حددت في الفصل الرابع, المادة 31 من قانون ادارة الدولة: - يجب أن يكون المرشح مواطنا عراقيا ولا يقل عمره عن 30 عاما. - ألا يكون عضوا سابقا في حزب البعث المنحل برتبة عضو شعبة او اعلى, ما لم يكن قد أعفي من هذا تبعا للقواعد المرعية. - اذا كان في السابق عضوا في حزب البعث المنحل برتبة عضو كامل سيطلب منه التوقيع على وثيقة ينبذ فيها حزب البعث ويتنصل فيها من روابطه الماضية بالحزب قبل أن يصبح مؤهلا للترشيح, وان يقسم بانه لم تعد له تعاملات أو ارتباطات بتنظيمات حزب البعث. واذا قررت محكمة ان ( المرشح) كذب أو اختلق فانه ( في حال انتخابه) سيفقد مقعده في الجمعية الوطنية. - يجب الا يكون عضوا سابقا في هيئات القمع السابقة او ان يكون قد ساهم او شارك سابقا في اضطهاد المواطنين. - يجب الا يكون قد اثرى نفسه بصورة غير مشروعة على حساب اموال الوطن والاموال العامة. - ما كان له ان ادين بجريمة تنطوي على الفسق وان يكون قد تمتع بسمعة طيبة. - ان يكون قد حصل على شهادة ثانوية او ما يعادلها على الاقل. - الا يكون فردا في القوات المسلحة وقت ترشيحه." (نقلا عن موقع وزارة الخارجية الأميركية, نشرة واشنطن)
سادسا: الدستور المؤقت للمرحلة الانتقالية, المسودة الأولى
جاء في مقدمة النص أن هذه الوثيقة قدمت إلى الأحزاب والحركات السياسية العاملة داخل العراق والتي وافقت على المشاركة في جبهة الإنقاذ الوطني وأبدت ملاحظاتها حول المسودة والتي تم تعديلها على أساس تلك الملاحظات ونشرت في13/6/2003 , وأدناه بعض بنود هذا النص: " بسم الله الرحمن الرحيم. المقدمة: نظرا لهزيمة النظام الصدامي الفاشي ، وتسليمه مفاتيح البلاد للقوات الأجنبية الغازية في 9/4/2003 ، وانهيار بنى ومؤسسات الدولة العراقية المنشأة منذ الاستقلال عام 1921 على أثر ذلك ، ونتيجة لحصول الفراغ الدستوري والسياسي المؤدي بالضرورة إلى قيام حكم وطني تعددي حر يمثل الإرادة الشعبية ، ويعمل على إعادة استقلال الوطن واستقراره ، و يسعى بجد إلى أعمار ما دمرته الحروب الداخلية والخارجية المفروضة جرّاء السياسة الهوجاء التي اتبعها النظام الصدامي البائد"
مادة 66: لا يكون عضوا في المجلس من لم يكن : أ‌- عراقيا بالولادة. ب‌- من أبويين عراقيين بالولادة. ت‌- من لم يكن من أسرة سكنت العراق قبل عام 1924. ث‌- من كان مزدوج الجنسية. ج‌- من كان دون الأربعين من العمر أو تجاوز سن الخامسة والستين . ح‌- من كان محجورا عليه أو معلنا لإفلاسه قانونا خ‌- من كان محكوما بالسجن داخل أو خارج العراق لمدة لا تقل عن سنة بقضية غير سياسية د‌- من أسقطت حقوقه المدنية أو السياسية أو كلاهما عرفا وشرعا. ذ‌- من كان محكوما بالسجن لسرقة أو رشوة أو خيانة الأمانة أو تزوير أو احتيال أو غير ذلك من الجرائم المخلة بالشرف بصورة مطلقة. ر‌- من كان مجنونا أو معتوها أو مدمنا للخمر. ز‌- من كان مدينا بمبلغ يتجاوز العشرة ملايين دينار عراقي عند ترشيحه لعضوية المجلس. س‌- من كانت له منفعة مادية ناشئة عن اكتسابه عضوية أو رئاسة المجلس أو أحد وظائفه.
مادة 63: يؤدي رئيس المجلس ( ومحلس الوزراء ومجلس الدولة المؤقت)أمام الأعضاء وأعضاء جبهة الإنقاذ الوطني وعدد من المدعوين من عامة الشعب اليمين التالي: (( أقسم بالله العلي العظيم ومعتقدي وشرفي أن ألتزم بما ورد في هذا الدستور وقوانينه وأن أسع لإنهاء الاحتلال وأحقق استقلال البلاد وأسهر على سلامتها وأساهم مساهمة فعالة في إعادة بناء مؤسسات الدولة وحفظ الأمن والنظام العام وأمهد بكل تفاني وإخلاص لقيام دولة الدستور والقانون الدائمين وأضمن التبادل السلمي للسلطة وأرعى مصالح الشعب والوطن))
مادة47: حرية تأليف الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات على أسس وطنية مكفولة للجميع وتؤمن الدولة كافة مستلزمات نجاح عمل هذه المؤسسات بقانون.
مادة 98: تشكيل محاكم خاصة لمحاكمة كل من : أ‌- أركان النظام البائد الذين ارتكبوا جرائم إنسانية بحق الشعب العراقي. ب‌- المستفيدين نتيجة الفساد الإداري أثناء فترة النظام البائد.
مادة 86: تختص هذه المحكمة (الدستورية) بالصلاحيات التالية: أ‌- الإشراف والمصادقة على انتخابات الهيئة التأسيسية التي تتولى إعداد مسودة دستور دائم للبلاد وسن قانون الإدارة اللامركزية في المحافظات وقانون الأحزاب السياسية والجمعيات والنقابات وتعديله. ج‌- حل الأحزاب المخالفة أهدافها لمبادئ الدستور ومنعها من ممارسة نشاطاتها"
2
ملاحظات على النصوص المشرعة لقوانين اجتثاث البعث
حقائق : الوثائق الست السابقة هي أعلى النصوص التشريعية المتعلقة بالتعامل مع حزب البعث, وهي جميعها حملت صفة "دستور" أو "قانون أعلى". قانون إدارة الدولة هو النص المرجعي الذي استندت اليه النصوص اللاحقة له باعتبار " ان هذا القانون يعد القانون الاعلى للبلاد", وهو النص الحكومي المعتمد من قبل السلطات الحاكمة في العراق وسلطات الاحتلال عقب سقوط نظام صدام. وهو نص تجميعي ذو مرجعيات أجنبية, ظهر بصيغ متنوعة وبترجمات مختلفة. وترجماته لم تكن كيفية أو اعتباطية, بل تعود الى جهات حكومية عليا كوزارة الخارجية الأميركية والسفارة الأميركية ببغداد. تتفق النصوص السابقة عدا وثيقة الدستور المؤقت للمرحلة الانتقالية, على موضوع اجتثاث البعث, وتتفق في الوقت عينه على خلوها خلوا تاما من أية إشارة ولو عابرة الى قضية حل حزب البعث, عدا تكرار كلمة " المنحل" بعد عبارة حزب البعث. لم تظهر تحديدات تتعلق بطبيعة البعثي من المراتب الدنيا "العضو العادي". حُصر النص في البعثي المؤهل للترشيح الى المواقع التالية: المجلس الوطني (البرلمان), مجلس الرئاسة و مجلس الوزراء. أما المراتب المشمولة باجراءات التطهير السياسي والوظيفي فهي "عضو فرقة فما أعلى" في نص إدارة الدولة وفي نصوص الدستور, و"عضو شعبة" في نص السفارة الأميركية. أما المدة الزمنية لتخلي البعثي عن عضويته السابقة, الواجب توافرها في البعثي الذي يرغب في الترشيح للمجلس الوطني والمناصب الحكومية العليا, فحددتها المادة 132 من الدستور والمادة 36 من قانون ادارة الدولة بفترة عشر سنوات قبل سقوط النظام. أما مسودة قانون إدارة الدولة فلم تتطرق للمدة الزمنية وحرّم نصها على "البعثي" عضوية مجلس الرئاسة. كما أن النص لم يذكر شروط التعامل مع البعثي من مستوى أدنى عند الترشيح للجمعية الوطنية, وجعل " الهيئة العليا لاجتثاث البعث" الجهة التي تحدد استثناء العضو البعثي من قرارات العقاب الوظيفي, في حين أن المسودة النهائية جعلت الاستثناءات مرهونة بـ " القواعد القانونية". نص السفارة الأميركية والنص الحكومي لإدارة الدولة ثبتا صيغة للتعامل مع البعثيين ممن هم في مرتبة " عضو كامل العضوية" تشترط تقديم تعهد خطي والتخلي عن الارتباطات الحزبية إذا رغبوا في الترشيح للانتخابات. لكن النصين لم يحددا طبيعة الجهة التي تتولى مهمة معالجة التعهدات. أما نص الدستور فقد خلا من شرط التعهدات الخطية, وأحال الموضوع ضمنا الى هيئة اجتثاث البعث. الشرط المتعلق باستبعاد البعثي المشارك في قمع الانتفاضة والانفال ظهر في النصوص الخمس. خلا نص الدستور من أي تحديد لمرتبة البعثي المؤهل للمشاركة في أجهزة الحكم العليا المذكورة. أطلقت وثيقة السفارة الأميركية ببغداد على الشرط المتعلق بالجانب الأخلاقي كلمة "الفسق", وأدنى مرتبة حزبية مشمولة بالتطهير عضو "شعبة", بينما وصفه قانون ادارة الدولة بـ " بجريمة مخلة بالشرف ", وحدد مرتبة البعثي المشمول بالتطهير بعضو "فرقة" فما فوق. حددت المسودة الأولى للدستور البعثي المؤهل لمزاولة الحكم بأنه " الا يكون مشمولا بقانون اجتثاث البعث". وصفت وثيقة ادارة الدوله حزب البعث بـ "البائد" و" المنحل", بينما وصفته وثيقة الدستور بـ " المنحل" فقط. أما صيغة "البعث الصدامي", أي حصر البعث بصدام, فلم تظهر إلا في نص الدستور. شددت وثيقة الدستور من شروط عضوية مجلس الوزراء فاضافت الى الشروط السارية على عضو الجمعية شرطين: الأول يتعلق بطول مدة ترك حزب البعث, وحددتها, كما أسلفنا, بعشر سنوات, والثاني يتعلق بعدم اشتراك المرشح في أعمال القمع العامة كالانتفاضة والانفال. أما نص الدستور المؤقت للمرحلة الانتقالية المسودة الأولى فينفرد بأمور عدة, أهمها: عدم وجود صيغ موجهة ضد حزب البعث, وبدلا من ذلك تم التركيز على" الحكم الصدامي" و " النظام البائد". وردت عبارات صريحة عن "ازالة الاحتلال", اعتبر النص معالجة موضوع البعث جزءا من معالجة قضية " أركان النظام البائد الذين ارتكبوا جرائم إنسانية بحق الشعب العراقي", وأضاف اليهم " المستفيدين نتيجة الفساد الإداري أثناء فترة النظام البائد". والشرطان السابقان يحملان مدلولات وطنية أكثر منها طائفية وعرقية أو حزبية, لم تظهر بالوضوح نفسه في نص إدارة الدولة والدستور. فقد وضعت الوثيقة قضيتي الفساد والجرائم الإنسانية ضمن الجرائم التي يحاسب عليها القانون, والتي تشكل معيار محاسبة البعثي السابق, ومن دون شك محاسبة السياسي اللاحق أيضا. وهما مسألتان قد تسمحان بادخال الحربين العراقية الايرانية وغزو الكويت ضمن إطار الجرائم التي تخضع لمحاكم خاصة. والحروب شأن وطني, عراقي صرف, أهملها الدستور ووثيقة بريمر إهمالا تاما. كما أن الوثيقة لم تحدد أي استثناء في قانون إجازة وتشكيل الأحزاب, ولم تشر الى حزب معين , بما في ذلك حزب البعث, وحددت الجرائم باعتبارها جرائم إنسانية أو جرائم فساد, مجردة إياها من طابعها الحزبي. أما الجهة صاحبة العلاقة قانونيا بقضايا المحاسبة فهي المحكمة الدستورية العليا, المستقلة عن الدولة. صدر هذا النص بعد مرور تسعة أسابيع على سقوط "النظام الصدامي" و"احتلال" العراق من قبل "القوات الأجنبية الغازية", كما تنص الوثيقة.
استنتاجات: الدستور المؤقت للمرحلة الانتقالية هو أول وآخر نص عراقي , صدر بعد وصول بريمر الى العراق بأربعة أسابيع ( غادر بريمر واشنطن متوجها الى العراق في 12 -5- 2003, بينما صدر الدستور الانتقالي في 13-6- 2003). وعلى الرغم من النواقص الكثيرة, في غير موضع, إلا أن هذا النص مكتوب بأيد عراقية, كما هو واضح من صياغته ومحتواه. أما قانون إدارة الدولة الصادر في 8-3- 12004 فقد كان نصا معدا عن مرجعيات غير عراقية, وبهذا الصدد يقول القانوني العراقي خالص عزمي " لقد انكب معدو القانون على المصادر الاجنبية والنصوص الجاهزة لينقلوا منها النص حرفيا دون الاعتماد الاساسي على ارشيف القوانين والانظمة العراقية السابقة والتي تحتوي على محاضر المناقشات والتعليقات التي ابداها افذاذ رجال القانون عند تصديهم للمشاريع، تدوينا وتقنينا من خلال مدرسة قانونية عريقة هي (ديوان التدوين القانوني) الذي اوجد لاعداد القوانين والانظمة وابداء الآراء الفقهية منذ بدايات تأسيس الدولة العراقية في العشرينات من القرن الماضي وحتى الغائه في السبعينات من القرن ذاته" (الشرق الأوسط 8 ابريل 2004 العدد 9263 ). وفي شهر ابريل (نيسان) 2003 وصل كنعان مكية الى بغداد "وكان قد انتهى لتوه من المشاركة في كتابة مشروع دستور عراقي جديد في فصل الشتاء الماضي من خلال مشروع مستقبل العراق التابع للامم المتحدة. وقد اكد مشروع الدستور على «استئصال حزب البعث»." ويشير كنعان مكية الى أنه أعد وثيقة قدمها الى وزارة الخارجية الأميركية, قبل احتلال العراق. ورأى مكية أنه يمكن الإفادة من الجوانب الايجابية في دستور عام 1925 عند إعداد الدستور الجديد. لكن وثيقته وضعت جانبا, ولم يؤخذ بها.
ولهذا السبب رأينا أن النص المسمى بالدستور المؤقت كان أول وآخر نص, يحمل صفة دستور عراقي, يصدر بعد سقوط النظام الديكتاتوري. وعلى الرغم من هذا النص أهمل إهمالا تاما, إلا أن أنغلاق آفاق الصراع اليومي على السلطة أعاد إحياء نصوصه, خاصة تلك المتعلقة بالبعث, بعد ثلاث سنوات من جولات الصراع الدموي. ولا تشمل عراقية النص الصياغة فحسب, وإنما تشمل أيضا الأهداف الوطنية, التي تم تجاهلها في النصوص اللاحقة, إضافة الى خلوه من النزعة الطائفية والعرقية والتحاصصية, التي طبعت نصوص الدستور. كما أن ربط الوثيقة اجراءات المحاسبة والعقاب بالمحكمة العليا, يعني ربط الجريمة السياسية والوظيفية بالجهاز القانوني القضائي, وهو أمر أغفلته النصوص الأخرى, التي جعلت من هيئة اجتثاث البعث الجهة العليا المختصة بالمراقبة الجرمية لأعضاء حزب البعث. وهي جهة سياسية, انحصرت قيادتها طائفيا في كتلة واحدة. ومن عجائب الصدف أن القوى الكردية, التي تقاسمت وتنازعت الصغيرة والكبيرة, عزفت عزوفا تاما عن الاشتراك في قيادة مؤسسات الاجتثاث ونأت بنفسها عن الوزارات العقابية والتجريمية: الداخلية, العدل, والأمن الوطني, أما وزارة الدفاع فقد حصرت اهتماماتها في المواقع التنفيذية, الميدانية, العليا. وهذا يعني إسباغ محتوى طائفي مسييس ومتعمد على عمليات الاجتثاث, وتجريد الاجتثاث من محتواه الوطني, حتى في صيغته التحاصصية. وهذه النقطة, عراقية المحتوى, هي محور بحثنا هذا. لذلك سنعود اليها غير مرة, بغية تعميقها بمزيد من الحجج والأمثلة الخفية والظاهرة.
حوت وثيقة السفارة الأميركية تعارضات واضحة مع النسخة المعتمدة حكوميا لقانون إدارة الدولة ومع نصوص الدستور في عدد من المسائل, أهمها تغيير كلمة "فرقة" الى كلمة "شعبة", وهما مرتبتان حزبيتان مختلفتان في الهيكل الهرمي لتسلسل عضوية حزب البعث. كما حلت كلمة "الفسق" محل "الاخلال بالشرف", على الرغم من الاختلاف الكبير في دلالة ومحتوى الكلمتين. فالأولى ضيقة الدلالة, ذات طبيعة أخلاقية, جنسية, تستخدم في أحوال كثيرة من قبل القوى الدينية. أما الثانية فهي واسعة تشمل كل جرائم الاخلال بالمسؤوليات الأخلاقية, التي تتصادم مع المصالح الاجتماعية المقرة قانونيا. وربما يفسر البعض هذا التعارض بسبب سوء الترجمة, وهو أمر مرجح. لكن قصور الترجمة هذا, في وثائق على هذا القدر من الخطورة, تتعلق بقضايا على هذا المستوى من الجسامة الوطنية والاجتماعية والسياسية, تعني جهلا واستهانة مطلقة بالشأن الوطني. فمن غير المنطقي, والمهين, أن يكون مترجمو وزارة الخارجية الأميركية على جهل بالنص العربي لقانون إدارة الدولة, الذي سمي بـ "القانون الاعلى للبلاد"! فالفرق العددي بين أعضاء الفرق وأعضاء الشعب يصل الى عشرات الآلاف, والفرق بين الفسق والاخلال بالشرف, يلغي جرائم الرشوة والسرقة والنهب غير الشرعي والابتزاز وسوء استخدام السلطة وغيرها من قضايا الضمير والمسؤولية الوظيفية. والأمران, كيفما فسرا, لن يخرجا من حدود فقدان المعايير الوطنية في الترجمة والرقابة وسوء العلاقة بين قنوات السلطة المحلية وسلطة الاحتلال. ولا بد لنا هنا أن نشير الى أمر عظيم الخطورة, هو أن السفارة الأميركية, شكل من أشكال تطور سلطة الاحتلال, وليست مجرد هيئة دبلوماسية أجنبية. فالسلطة الأميركية في العراق مرت بمراحل أربع هي : الأولى قيادة عسكرية صرفة بيد الجنرال تومي فرانكس, مسؤولة عن الأعمال الميدانية كافة. تولت, بدرجة أساسية, إدارة ترتيبات المعركة والاستعداد للهجوم البري في 19 مارس 2003. ثانيا: نقلت المسؤولية قبل شن الهجوم البري وأعطيت مسؤوليات ما بعد الهجموم الى "مكتب إعادة الاعمار والمساعدة الانسانية" التابع للبنتاغونِ. ففي يناير 2003 عين رامسفيلد الجنرال المتقاعد غاي غارنر على رأس هذا المكتب, و" كان المبرر الاصلي لوجود هذه المنظمة كما يدل على ذلك اسمها، مراقبة وترميم البنية التحتية الحيوية المتضررة من الحرب في العراق بما في ذلك حقول النفط والمستشفيات والطرق وشبكات الاتصالات", كما قال بريمر في الفصل الثاني من مذكراته. ثالثا: بعد 13 مايو 2003 تسلم بول بريمر إدارة السلطة بصفة الحاكم المدني للعراق. وفي المرحلة الرابعة حل السفراء نغروبونتي ثم زلماي كسلطة عليا. وقد اختلفت مهام ووظائف السلطة في المراحل الأربع. فقد كانت مهمة فرانكس عسكرية بحتة, سواء في الإعداد للهجوم البري أو في تدمير بنية الدولة العراقية والبنية التحتية والاجتماعية والثقافية. أما غاي غارنر, الذي وُضع كاحتمال لإعادة معالجة ما يتم تخريبه وما ينشأ من كوارث إجتماعية مرافقة للحرب, فقد وجد نفسه بلا وظيفة أو مسؤولية, نظرا لاختفاء البعث كسلطة, والاستسلام المفاجيء والمريب, وعدم نشوء كوارث اجتماعية جسيمة كالنزوح أو المجازر, عدا أعمال الفرهود والنهب, المنظمة باتقان, والتي كانت جزءا متمما لمسرحية اسقاط الصنم. لذلك تم الاستغناء عن غارنر ومهمته سريعا, وحل محله بول بريمر. ويُعتقد أن "السبب الأساسي لتعيين غارنر رئيسا للجنة البنتاغون لإعادة الاعمار، هو خبرته في شمال العراق عام 1991، وللتقدير العالي الذي حظي به من وزارة الدفاع ومن القادة الأكراد لإدارته (عملية توفير الملاذ) التي أدت الى إعادة توطين مئات الآلاف من الأكراد الذين هربوا من القوات العراقية بعد الانتفاضة ". أما بريمر فقد اختير لما تمتع به من مؤهلات تخدم مهمته, وأبرزها, أولا: خبراته في حرب فيتنام, وبشكل خاص ما يتعلق بالانتخابات وتكوين حكومة صورية, محلية, على غرار مجلس الحكم. ثانيا: تخصصه المهني الأساسي, وهو إنشاء "منظمات مضادة للمنظمات المضادة", وهو تخصص نادر يرتبط بالحروب الأهلية في البلدان الأجنبية. ثالثا: يعتبر بريمر أحد تلاميذ الخط الكيسنجري, وهو أحد أبرز الخطوط الستراتيجية المكونة للسياسة الأميركية في مرحلة الصعود والتفوق العسكري. وقد أنجز بريمر مهماته بنجاح ملحوظ. وينسب اليه أمران خطيران: الأول هو تكوين فرق ما يعرف بالمتعاقدين, أي الجيش السري. وهو صورة مطورة عن فرق الاغتيالات الأجنبية التي شاركت في حرب فيتنام, وأساس لقوة عالمية جديدة, يمكن تسميتها بـ "المافيا العسكرية". وهي شبكة واسعة تجمع بين تقاليد المافيا والمخابرات والأجهزة العسكرية والدبلوماسية في هيئة أجهزة للحماية, وتمتد نشاطاتها الى القوات الدولية وقوات الأمم المتحدة, وقنوات المساعدات والإغاثة الدولية. وثانيا: أنه كان أول من "اكتشف" تدفق الخلايا السرية " "الوهابية", أي التكفيرية, على العراق من دول الخليج, التي شكلت أساس المنظمات الإرهابية التكفيرية, لاحقا. ويدعي بريمر أنه أبلغ حكومته بذلك. لكن المؤكد أنه أفاد منها بشكل مقتدر, بعد اطلاع البنتاغون وجهاز المخابرات المركزية على خططه. ومن الملاحظ هنا أن الدول التي شجعت وقدمت مساعدات وتسهيلات للحرب على العراق, هي ذاتها التي عجلت بتسريب المجاميع المتطرفة الى العراق. وهو أمر يفضح أكاذيب السياسيين العراقيين الذين أرادوا تزييف مصادر الإرهاب الحقيقية لأسباب سياسية ودعائية. أما السلطة الرابعة, التي حكمت العراق المحتل, فهي سلطة السفراء. وقد شغلها نغروبونتي المتخصص في شؤون زرع خلايا الارهاب, والذي أصبح مسؤولا أمنيا رفيعا فيما بعد, وزلماي خليل, مهندس مؤتمرات المعارضة ومصمم النموذج الأفغاني, ومعدل ميزان التوازن الطائفي بوجهة سنية, ومعتنق اتجاه "عراق لا عربي, لا مسلم", أي عراق بلا هوية. وهناك أخبار تتحدث عن مرحلة جديدة تنتقل فيها السلطة الى سفير أميركا السابق في لبنان المتخصص بالحرب الأهلية. وهناك من يرى أن أوان هذا الرجل لم يحن بعد, وأنه مرهون بعوامل إقليمية ودولية عديدة, وببعض التطورات غير المتوقعة في الواقع العراقي والإقليمي. ويلاحظ هنا أن تطور إدارة السلطة الأجنبية والمحلية رافق وساير تطور محتوى وأشكال ظاهرة العنف في العراق. فلم يترافق مع تطور المشروع السياسي الوطني, ولم يساير مشاريع الإعمار وإعادة البناء, وإنما ساير مسايرة محكمة تطور مشروع العنف. لذلك فإن تطور شكل ومحتوى السلطة المحلية كان جزءا عضويا من تطور مشروع العنف, حتى وإن بدا العنف خارجا عن مجرى بناء السلطة في الظاهر. إضافة الى ذلك ساير مشروع العنف وطريقة بناء السلطة المحلية مسايرة تاما عملية تهديم الهوية الوطنية, التي تولت مهام تنفيذها, ميدانيا, القوى العراقية المحلية من سياسيين وإعلاميين ومثقفين وأدباء. فالعنف وتهديم الهوية الوطنية سارا سيرا موحدا وتلازما. وهو ما عنيناه بغياب المشروع الوطني العراقي. فما يحدث في العراق ليس مشروعا وطنيا لإدارة البلاد, بل هو مشروع أجنبي لإدارة مشروع العنف المسلح, بما يخدم المشروع السياسي الأجنبي. فالأميركان, كمحتلين, يملكون مشروعهم الوطني الواضح والمعلن, الذي ينفذون جزءا منه على أرض العراق. أما القادة المحليون, المرتبطون بالمشروع الأميركي, فيعملون ككتل وجماعات, يجمعها مشروع الاحتلال وسقفه, وتمتلك, كل واحدة منها, خططها العرقية والطائفية والحزبية والمناطقية. لكنها, جميعها, تفتقد الوحدة الداخلية. أي تفتقد أسس المشروع الوطني المتكامل الجوهرية, ونعني بها وحدة الهوية الوطنية. أما تجميعها تحت سقف البرلمان أو في مجلس للحكم أو الوزراء, فلم يمنحها أفقا وطنيا. لأن المشروع الوطني, ليس حاصل جمع عددي, وإنما هو محتوى سياسي واجتماعي وثقافي تاريخي محدد. وهنا تمكن أكبر مصادر الخطر التي تهدد مستقبل تطور العملية السياسية. فغياب المشروع الوطني يعيق نقل السلطة من مركزية الديكتاتورية الى أفق ديموقراطي وطني, ويجعلها أسيرة ضيق الأفق العرقي و المناطقي والطائفي أو الفئوي, كما أنه يعيق عملية استكمال بناء كيان الدولة الجديدة على أنقاض الدولة المهدمة, أو "البائدة", كما تقول وثائق العهد الجديد.
وقد عكست وثائق الدستور في مسوداته الأولى والمعدلة والختامية, ظاهرة فقدان الأفق الوطني, بصورة نموذجية وسافرة, لأنها لم تكن سوى نسخ معدلة من قانون إدارة الدولة. وهي نسخ تفتقد تماما, كصياغات وكمضمون, المحتوى الوطني. فالبناء العقلي للنص مفكك تفكيكا ملحوظا, يعكس شدة تجاذب الأطراف المختلفة وتنافرها. وتفكك النص البنائي يعكس تفكك العقلية التي صاغته. فهي عقلية محاصصات وليست مشيئة وطنية, جمعية, موحدة. كما أن النص يحتوي دلالات عرقية وطائفية وجهوية وحزبية تفقد النص روحه الجامعة, كوثيقة معبرة عن إرادة أمة. فواضعو الدستور يتحدثون عن العراق كبلد مستقل تماما! أما بريمر, فيذكر في كتاب مذكراته, في غير موضع, أنه يمثل سلطة الاحتلال, ويتحدث بصراحة مطلقة عن العراق كبلد "محتل". وهنا نرى أن بريمر أكثر صراحة وواقعية في الشأن العراقي من واضعي وثيقة الدستور, فيما يتعلق بأهم محتوياته: السيادة الوطنية وشروط تحققها وصيانتها. وقد يظن القارئ, لأول وهلة, أن وثيقة الدستور بصيغها المتعددة, جاءت بناء على رغبات طائفية وعرقية لهذه القوة السياسية أو تلك, التي ساهمت في استنساخ الدستور وترجمته من مصادره الأجنبية الأصلية المتعددة. ولكن التمعن في نصوص الدستور ومقارنتها بنص مرحلة بريمر (قانون إدارة الدولة) يكشف للقارئ الخبير أن الأمر عكس ذلك تماما. فالأحزاب الطائفية والعرقية ( ظهر تأثير العناصر الطائفية السنية قويا قبيل إسقاط حكومة الجعفري, وغدا عاملا مؤثرا بعد مجيء حكومة المالكي) لم تكن حرة تماما في اختيار طائفيتها وعرقيتها القومية. وهو أمر مثير للعجب. إن هذه القوى محكومة طائفيا وعرقيا بسقف حُدد لها من قبل سلطة الإحتلال, وألزمت بالتحرك طائفيا وعرقيا في حدوده, ومن يقوم باختراق هذا السقف, يعامل معاملة الأعداء, بصرف النظر عن عرقه ومذهبه وحجم ضلوعه في تنفيذ المشروع الأجنبي, كما حدث للحزب الاسلامي, أو تيار أحمد الجلبي. وقد عانت تيارات سياسية مشاركة في السلطة, كتيار الصدر وحزب الفضيلة, من ضغوطات أميركية سافرة ومستترة, هدفها دفع هذه الأطراف للانسجام مع الدور الطائفي المسموح به أميركيا. أي أن القوى الطائفية والعرقية لم تكن حرة حتى في اختيار طائفيتها وعرقيتها, ناهيك عن وطنيتها المفتقدة تماما. فقد تولت سلطة الاحتلال مهمة تحديد القضايا موضع التحاصص عرقيا وطائفيا, ومنحت القوى السياسية المختلفة حق التصارع, بحسب مقدراتها, لتقاسم الغنيمة طائفيا وعرقيا. وهو حد مزر من حدود فقدان الإرادة الوطنية. لذلك بدت وثيقة ما عرف بالدستور المؤقت وطنية الى حد كبير مقارنة بالدستور, علما أن هذه الوثيقة صيغت من قبل القوى سياسية ليست بعيدة عن مشروع الاحتلال. من هذا نستنتج أن الطائفية والعرقية مرضان مزمنان عاشا لحقب طويلة في المجتمع العراقي, ولم يقم المحتل أو صدام باختراعهما. وقد استخدما من قبل قوى سياسية عديدة بسبل شتى وفي أوقات عديدة. أما ما أضافته سلطة الاحتلال فهو تصعيد الطاقة السياسية والتنظيمية للعناصر العرقية والطائفية, أي تسييس الطائفة والعرق, ومنح هذا التسييس شرعية دستورية, وهي الخطوة المنطقية الثانية, بعد التسييس الجغرافي للمناطق, من خطوات صناعة تقسيم وطني معترف به نفسيا واجتماعيا وجغرافيا ومذهبيا ودستوريا. وهنا يكمن خطر غياب المشروع الوطني, الذي هو محور بحثنا, كما أسلفنا. فالمشروع الوطني لا يعني التحدث عن الوطن أو التغني به في الاعلانات التلفزيونية, أو وضع نقاط عريضة عن أهداف وطنية, كما يظن كثيرون. إن المشروع الوطني يعني صياغة الأهداف بروح وطنية, تأخذ المصالح الأساسية, باعتبارها الهدف الأول والرئيس للمجتمع. وهذا الأمر يفسر غياب قضايا وطنية كبيرة في النصوص التي تناولت الجرائم الكبرى, كغزو الكويت, والحرب العراقية الايرانية, التي هي أفدح من الانتفاضة والانفال بالمقاييس الوطنية والمقاييس الديموقراطية. ففي إهمال وإضعاف هاتين المسألتين رغبة مشتركة أجنبية وطائفية وعرقية. أي اتحاد لما هو إجنبي (سلطة الاحتلال) بما هو لا وطني ( القوى الطائفية والعرقية والحزبوية). وتلك هي النقطة الجوهرية التي نبعت منها مشاكل العراق جميعها, بما في ذلك الارهاب ونهب الثروة الوطنية وتدمير بنية الدولة والمجتمع, وتدمير الهوية الثقافية والوطنية, كما سنحاول إثبات ذلك بمزيد من الأمثلة.
3
اجتثاث البعث: خطأ في الأرقام, أم ألغاز رقمية؟
ليس من اليسر على باحث أو دارس وضع تصور دقيق لعملية الاجتثاث. والسبب في ذلك يعود الى عوامل عديدة, منها عوامل بحثية تتعلق بقلة المصادر, وإخفاء المعلومات, وسيطرة ما يعرف بمراكز البحث والتوثيق الحكومية أو التابعة مباشرة وبشكل غير مباشر لسلطات الاحتلال ومخابراته, ومريديه, على مصادر البحث, وعجزها عن تقديم بحوث ولو أولية وشكلية في المجال الوطني. بالاضافة الى ذلك كان لضعف وشكلية وهامشية مؤسسات المجتمع المدني وممثلي الشعب المعنيين بالجوانب الحقوقية والأنسانية والتوثيقية, وسيادة الفوضى السياسية واضطراب الأمن, أثر كبير في تصعيب وتعقيد مهام الباحث, المستقل خاصة.
المعلومات المتكررة, التي بثتها لجان الاجتثاث ومراكز المسؤولية في سلطة الاحتلال حددت سقفا لعملية الاجتثاث يقوم على أساسين, حزبي ووظيفي. والحزبي يتعلق بموقع العضو المجتث في حزب البعث, وقد قمنا بعرض ذلك عند دراسة وثائق الدستور وقانون إدارة الدولة, وخلاصته: سريان الاجتثاث على المراتب الحزبية الأربع العليا, من رتبة عضو فرقة فما فوق. وهذا يعني, بشكل محدد, شمول أعضاء الفرق والشعب وأعضاء قيادات الفروع والقيادة القطرية. وقد شملت الفئات السابقة بقرار مجلس الحكم المنشور في 11 يناير 2004, والذي أقر " آلية لابعاد البعثيين عن القطاع العام ودوائر الدولة، تنص على اقصاء الموظفين البعثيين ذوي الرتب العليا مع فتح باب الاستئناف امام فئة محدودة منهم واستثناء اسرى الحرب العراقية الايرانية. وحدد في قراره الصادر في 11 يناير 2004 ان هذه الاجراءات تنطبق على «كبار اعضاء حزب البعث الذين يعملون في دوائر الدولة والقطاع العام بما في ذلك الوزارات والمؤسسات والمنشآت والمصالح الحكومية الاخرى", وحدد القرار هؤلاء الموظفين بـ«اولئك الذين يشغلون الدرجات الاربع العليا في التنظيم الحزبي: قيادة قطرية وقيادة فرع وقيادة شعبة وقيادة فرقة». ولا تنطبق هذه الاجراءات على «الموظفين من هم دون الدرجات الثلاث الادارية العليا والذين هم اعضاء في حزب البعث دون درجة عضو فرقة ما عدا الذين اضطهدوا المواطنين او ارتكبوا جرائم ضدهم». (الشرق الاوسط .الاثنيـن 20 ذو القعـدة 1424 هـ 12 يناير 2004 ,العدد 9176)
وقرار الحل هذا إجرء أميركي, لم يكن للعراقيين يد فيه أو استشارة, على الرغم من أنه جاء لفائدة كثير من الأطراف التي وفدت مع القوات الأميركية والتي أيدت خطط الحرب. وبهذا الصدد يقول بريمر في مذكراته إنه قبل مغادرته واشنطن الى بغداد اطلعه وكيل الوزارة دوغلاس فيث على مسودة أمر يقضي بـازالة آثار البعث في المجتمع, وأكد على الأهمية السياسية لهذا الأمر.
ويضيف بريمر: "كان اهتمامنا ينصب فقط على المستويات العليا في المراتب الحزبية التي يتطلب الامر استبعادها عن الحياة العامة, وهؤلاء هم البعثيون الموالون ممن كانوا بحكم مواقعهم في السلطة ضمن النظام ادوات للقمع في يد صدامِ وقد قدرت اجهزتنا الاستخبارية ان عددهم يصل الى حوالي واحد في المائة من كافة اعضاء الحزب او 20 الف شخص تقريباِ".
ولكن, كيف يمكن التحقق من تقديرات " اجهزتنا الاستخبارية"؟ لا أحد يعرف حقيقة هذا التقدير الحسابي. فهو لغز, كغيره من ألغاز السياسة الأميركية, تختلط فيه الأهداف الدعائية والنفعية والانتقامية والستراتيجية. فمصادر حزب البعث تشير الى رقم أعلى من هذ يصل الى ما يزيد على ثلاثة ملايين عضو. وهناك من يجعل الرقم يزيد على الخمسة ملايين عضو عامل وعضو مرتبط بإحدى مؤسسات البعث النقابية والمهنية. أي بواقع بعثيين مقابل كل مواطن غير بعثي من الذكور البالغين. ومن المعيب أن لا تملك سلطات الاحتلال ومخابراتها والحكومات المتعاقبة احصاءات دقيقة حول هذه المسألة, على الرغم من استيلائها على وثائق الدولة والحزب كافة, واعتقالها جل قيادات هذا الحزب. ومن المعروف أن " كنعان مكية وضع في مطلع التسعينات 18 طنا من ملفات جهاز استخبارات النظام العراقي السابق على شبكة الانترنت اثر الاستيلاء عليها في كردستان، كما اضاف في وقت لاحق 800 ألف صفحة من ملفات الجيش العراقي التي استعيدت من الكويت. وفي سبتمبر (ايلول) الماضي حصل مكية على ثلاثة ملايين صفحة من السجلات الخاصة بحزب البعث العراقي عثر عليها مخبأة ببغداد ". وفي شهر سبتمبر، عثر على كنز من الوثائق. وسمح له قائد عسكري اميركي باستئجار 10 شاحنات و30 عاملا لنقل الملفات من اقبية تحت الارض. وقد وضع مجموعة الملفات التي تزيد عدد صفحاتها عن ثلاثة ملايين صفحة في بدروم منزل في منطقة مؤمنة تأمينا جيدا تضم القصور والمقار الحكومية. ( الشرق الأوسط- الاحـد 27 شـوال 1424 هـ 21 ديسمبر 2003 العدد 9154)
ويثير هذا الأمر, كغيره من الأمور الإحصائية المرتبطة بالشأن الوطني, كالإحصاء السكاني وتقدير أعداد المهاجرين والمهجرين, شكا عميقا في نوايا السلطة, ويجعلها متهمة بقضية إخفاء الحقائق لأسباب سياسية, تحاصصية. وهذا الأمر يضاف الى سلسلة أمراض فقدان الهوية الوطنية, التي رافقت مجيء القوى السياسية المتعاقبة منذ سقوط النظام الديكتاتوري. أي فقدان المشروع الوطني. فالذاكرة والإحصاء هما العدو الأول للسلطات المحلية التي تعاقبت على حكم العراق عقب سقوط صدام. وما عمليات نهب وتدمير وسرقة وتهريب وبيع مراكز التوثيق والتجنيس والإحصاء ومراكز المعلومات والموازنات المالية والمكتبات والمواقع التاريخية سوى مظهر من مظاهر هذا العداء. وهو أمر يرتبط ارتباطا خفيا ووثيقا بموضوع "اجتثاث البعث" أيضا.
أما من الناحية الوظيفية أو المهنية, فقد شمل اجتثاث المراتب الوظيفية الثلاث العليا في الهيئات الحكومية, وتشمل كما يذكر بريمر " المراتب العليا الثلاث من الإدارة في كل وزارة أو مؤسسة حكومية أو اي هيئة حكومية أخرى بما في ذلك الجامعات والمعاهد العليا والمستشفيات سيتم فحصها للتوصل الى وجود اي ارتباط لافرادها بحزب البعث، وان ايا من هؤلاء المديرين يثبت انه يتمتع بـ عضوية كاملة في الحزب يتم طرده من منصبه الحكومي، ولكن تظل لديهم حرية العمل في أماكن أخرىِ".
يمكن لنا اعتبار قرارات بريمر الصادرة في 16 مايو (ايار) 2003 والقاضية بمنع البعثيين من تولي وظائف في القطاع العام الاشارات الرسمية المبكرة لعمليات التطهير الحزبية والحكومية. وفي الفصل الثالث من مذكراته يقول بريمر إنه في الثالث والعشرين من مايو 2003، وقع على الأمر رقم 2 لإدارة التحالف والمعنون حل مؤسسات ، والذي شمل وزارة الدفاع وكل الهيئات التابعة أو المرتبطة بها وكل التشكيلات العسكرية بما في ذلك الحرس الجمهوري والحرس الجمهوري الخاص وميليشيات حزب البعث المسماة فدائيي صدام ، كما شمل دفع نهاية خدمة لكل المسرحين من هذه المؤسسات (مع بعض الاستثناءات). ولحقه القرار رقم 3 الذي أصدره الحاكم المدني بريمر, والذي شمل موظفي وزارة الإعلام المنحلة. " وفي سياق مقارب أصدرت لجنة المراجعة القضائية التي تم تشكيلها من قبل سلطة التحالف قرارا بعزل 79 قاضيا من مختلف محاكم العراق ضمن حملة التطهير التي بدأتها الادارة. وقال مصدر مسؤول في مجلس القضاء في وزارة العدل ان سبب قرار العزل هو الاخلال بالواجبات الوظيفية في سياق عملهم كاعضاء في المحاكم الخاصة المشكلة في عهد النظام السابق، ولكونهم من كبار اعضاء حزب البعث (الشرق الأوسط: الخميـس 27 شعبـان 1424 هـ 23 اكتوبر 2003 العدد 9095 ). وهكذا توالت قرارات التسريح من الخدمة, لتشمل قطاعات الحياة كافة.
ولكن, رغم سعة عمليات التسريح والفصل, لا أحد يعرف الأرقام الحقيقية لعملية الاجتثاث. فالارقام الصادرة من جهات عليا تتضارب تضاربا شديدا, يصل أحيانا حدودا غير معقولة. ونظرا للاختلاف الكبير في تحديد عدد منتسبي حزب البعث اختلفت التقديرات المتعلقة بالمجتثين حزبيا. كما اختلفت الإحصاءات المتعلقة بعدد المجتثين وظيفيا, ويصل الاختلاف أحيانا حدودا خيالية. فقد قدر بريمر عدد اعضاء البعث المشمولين بالتطهير بـعشرين ألفا, بناء على تقارير "الاستخبارات الأميركية". وهو رقم يشمل التطهير العمودي, القائم على أساس حزبي, وفق المراتب الحزبية العليا الأربع. أما التطهير الأفقي, الوظيفي, وفق المواقع الوظيفية الثلاثة العليا, فقد شمل, طبقا لقرارات لجنة إعادة المفصولين والمسرحين ما يقرب من ثلاثة أرباع المليون.
ففي 6 أغسطس اب 2006 نقل عن وكالة رويترز ما مفاده أن الحكومة العراقية قالت " ان نحو عشرة الاف موظف ممن جرى ابعادهم من وظائفهم في اطار برنامج اجتثاث حزب البعث في اعقاب الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق يجري اعادتهم لوظائفهم. وقال راشد نجيب صالح رئيس دائرة شؤون موظفي الكيانات المنحلة وهي دائرة اقامتها الحكومة في عام 2005 لمساعدة الموظفين الذين ابعدهم البرنامج المثير للجدل لتطهير اجهزة الدولة: " ان نحو ثمانية الاف من وزارتي الداخلية والدفاع اعيدوا الى وظائفهم اضافة الى 1800 من وزارة الاعلام... ان هناك 700 الف ممن حرموا من وظائفهم وان هناك ما يتراوح بين 350 و400 الف منهم من الجيش" ويضيف الخبر : "وعلى وجه الاجمال كان 5.2 مليون شخص ينتمون الي حزب البعث الذي كان يتزعمه صدام حسين. وبالنسبة لكثيرين منهم كانت العضوية وسيلة لتأمين عمل وليس التزاما صارما بالبعثية او نظام صدام.
وفي ظل برنامج التطهير قرر المسؤولون الاميركيون ان الصفوف الثلاثة العليا من عضوية حزب البعث لا يمكن ان تستخدمها الحكومة الجديدة. " (عن موقع البديل العراقي).
هذه الأرقام الكبيرة قابلتها من جهة ثانية أرقام أخرى شديدة التواضع. ففي مقابلة مع مثال الآلوسي مدير عام الهيئة الوطنية العليا لاجتثاث البعث, نقلا عن مجلة المرأة اليوم الاماراتية وموقع كتابات في 2 تشرين الاول 2006, قال: ".. فقط 1300 فرد من حزب البعث قررنا فصلهم.. هل تصدق هذا الرقم!". وهذا الرقم غير قابل للتصديق حقا! فهو يقل عن الرقم الذي أورده بريمر بـ 18700 عضو قيادي! والملاحظ هنا أن الأرقام المعلنة لا توضح الجهات التي قامت بعملية الاجتثاث ولا طبيعة المجتث. لذلك تضاربت الأرقام تضاربا شديدا. ففي مقابلة سابقة مع مثال الآلوسي, نشرت على موقع ايلاف يوم الخميس 25 مارس 2004 08:30 , جاء ما يلي: " أعلن المدير العام للهيئة الوطنية لاجتثاث حزب البعث في العراق مثال الالوسي ان عدد أعضاء الحزب المنحل من الدرجات العليا ، فرقة فما فوق ، يبلغ حوالي (60) ألف فرد وقبل شروع الهيئة بعملها العام الماضي اقصي (30) ألف منهم من وظائفهم والهيئة الان بصدد النظر والتثقيف في العدد المتبقي مع ملاحظة أن 80% من هذا العدد لهم حق الاستئناف ."
عند مقارنة أرقام بريمر بأرقام الآلوسي نجد تناقضا صارخا يصل الى أربعين ألف مجتث في المراتب الحزبية العليا فحسب. أي أن الاختلاف بين الرقمين يصل الى ستة وستين بالمئة من العدد الاجمالي, الذي يفترضه الآلوسي, ومئتين بالمئة من الرقم الذي أورده بريمر بناء على تقديرات المخابرت الأميركية. وهو اختلاف محير, لا يعكس شدة اضطراب مقاييس الأجهزة الحكومية المحلية والأجنبية فحسب, وإنما يعكس أيضا شدة الأزمة الأخلاقية والمهنية والسياسية التي يعاني منها الفريقان. فالخطأ في تقدير حجم القياديين البعثيين ذوي المراتب العليا جسيم, بواقع أربعين ألف قيادي, أي ما يعادل ضعفي العدد الإجمالي. وهذا يدل على غموض في رؤية الواقع السياسي. فاربعون ألف قيادي من المراتب العليا عدد يفوق كمّا وقوة حجم ومكانة أكبر التنظيمات الحزبية في العراق. ومثل هذا الفشل يضع القادة المحليين وقادة الاحتلال في مرتبة أدنى من مرتبة الأميّين, كقرّاء للواقع السياسي العراقي. ولو أضيف الى ذلك أن الرقم المعترف به مؤخرا لعدد المشمولين بالتطهير أفقيا وعموديا, يبلغ ما يقرب من ثلاثة أرباع المليون, اي ما يقرب من ثلاثة ملايين مواطن في الحسابات الإجتماعية - لو قدر متوسط عدد أفراد الأسرة العراقية بخمسة أشخاص- تغدو القراءة كارثية حقا. فهذا الرقم يعني تضرر قطاع اجتماعي يوازي حجم إقليم كردستان. إن تضارب الأرقام يعكس سوء الإدارة من الناحية المهنية, لكنه يكشف أيضا عن ضرر أكبر هو غياب الخطط الوطنية, وغياب المشروع الوطني للتغيير الاجتماعي عن ذهن القائمين بالعملية السياسية. وكما أسلفنا, ان الأرقام هي العدو الأول للحكومات المتعاقبة على الحكم. فهذه الحكومات تتبجح ليل نهار بأنها أجرت حملتين انتخابيتين في سنة واحدة وفي ظروف أمنية بالغة الصعوبة, وعدت ذلك نصرا كبيرا. بيد أن هذه الحكومات لم تقم حتى هذه اللحظة بإجراء إحصاء سكاني وطني, واعتمدت في انتخاباتها على البطاقات التموينية, الموروثة من زمن صدام! ما هو محير في الأمر ليس ذلك, الأكثر إثارة للحيرة هو أن التعداد السكاني جزء أساسي من قرارات بريمر, التي طبقت تطبيقا حرفيا, بقدسية تامة, عدا قرار التعداد السكاني, الذي هو الأساس القانوني لأي عملية فرز للأصوات الانتخابية! ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد في مجال التعامل مع الأرقام. ففي انتخابات الخارج وصلت الاختلافات في تقدير عدد الناخبين الى عدة ملايين, فهناك من قدر عدد العراقيين في المهجر بأربعة ملايين ومنهم من عدهم ثلاثة أو أقل. أما المؤهلون للانتخابات فقد قدروا بما يقرب من مليون وربع المليون, لم يصل الى صناديق الاقتراع منهم سوى رقم قارب الربع مليون فقط. وأكاد أجزم فأقول إن جدولة خروج القوات الأجنبية إجراء يتعلق بالأرقام أيضا, ولا أعني هنا عدد الأيام المتبقية لهذا أو ذاك في الحكم, وإنما أعني أرقام الموزنات المالية وأرقام الإنفاق الحكومي وأرقام وجداول توزيع الحصص. فالانسحاب وفق جدول زمني لا بد أن يقابله إجراء على الأرض للتغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي مرصود بجدول زمني مواز أيضا. وهذه حقائق مخيفة, تتعلق بشكل مباشر بعملية التحاصص الحزبي. ولغرض مواجهة سلسلة الفضائح هذه, التي رافقت عملية الاجتثاث, اضطر مؤخرا مدير عام الدائرة الثقافية والتربوية في هيئة اجتثاث البعث الى القول " ان الهيئة استخدمت كورقة سياسية سيما في الانتخابات الاخيرة. مشيرا الى ان هناك سوء فهم لعمل الهيئة..."( الصباح 10 أغسطس 2006 )
إن الأرقام تضيق وتتسع بضيق واتساع الدعاية الحزبية. فالرقم الأخير, 700 ألف مواطن مشمولين بالتطهير الفعلي, لم يظهر إلا كإنجاز وطني كبير. بيد أن هذا الرقم يخفي تحته فترة دموية مرعبة من تاريخ العراق, جرى فيها التستر على الأرقام, من دون الالتفات الى أن خلف هذه الأرقام تكمن واحدة من مأسي الشعب الكبرى: العنف والفوضى السياسية. وهذا ما عنيناه بغياب المشروع الوطني. فالأرقام الكبيرة التي تعلن الآن كمكاسب كبيرة في نظر معلنيها هي في ذات الوقت كارثة وطنية كبيرة, استمرت لأكثر من ثلاث سنوات, عمّت فيها سياسة الفوضى ومنطق العنف.
باختصار شديد: في مايو 2003 صدرت قرارت بريمر التاريخية القاضية بحل المؤسسات, وفي أغسطس 2006 قررت الحكومة العراقية ترتيب أوضاع 700 ألف مشمول بقرارات بريمر. ما الذي حدث بين هذين التاريخين؟

اجتثاث أم فوضى مخططة؟
في حقيقة الأمر, لم تكن قرارات بريمر المتشددة طويلة النفس. فقد أخذت بالتصدع المفاجئ بعد أسابيع من صدورها. وكان أول من تفاجأ بقرارات بريمر الاستثنائية هم أنصار الاتجاه السياسي الرامي الى قيادة عملية الاجتثاث. فلم يمض على قرارات مايو الشاملة سوى شهرين حينما ظهر أول صدع في جدار الاجتثاث, باعلان بريمر وجود استثناءات في قرارات الاجتثاث. ولم تكن دهشة فريق الجلبي والاتجاه الشيعي في التحالف الحكومي ناشئة من المفاجأة, وإنما من تأويل المفاجأة. فالاستثناءات كانت معروفة للجميع, منذ وقت مبكر. لكن الإفصاح عنها علنا, بقرارات استثنائية حكومية, فُسر من قبل بعض أطراف التحالف المحلي على أنه انحياز في التوجه السياسي الأميركي لصالح طرف من أطراف التحالف: إياد علاوي, المستفيد الأول من تلك الاستثناءات, في تقدير خصومه. وأمام هذه المبادرة وجد الجميع, بمن في ذلك "المتفاجئون", أنفسهم في مواجهة واقع جديد, يتمثل في نقطتين: الأولى, إعادة حسابات التحالفات الداخلية على ضوء موازين القوى الجديدة, المتوقعة, الناشئة بفعل استثناءات بريمر. والثانية, وهي الأهم, اغتنام هذه الاستثناءات لغرض الحصول على مكاسب ذاتية, سريعة. أي أن استثناءات بريمر أوقدت شرارة التسابق على اقتسام وتحاصص "الحزب المنحل" و"النظام البائد". حدث هذا قبل تبلور ما يعرف بالمهمشين أو الكتل السنية, التي انتزعت من الجلبي وعلاوي على حد سواء مبادرة تقاسم الجسد البعثي وسدت عليهما الطريق, شاقة لنفسها طريقا خاصا أوصلها الى أن تكون طرفا أساسيا علنيا معترفا به من قبل الجميع في معادلات وحسابات الواقع السياسي. وكان سقوط الجلبي في الانتخابات وفوز أحد مساعديه, مثال الآلوسي, بمقاعد برلمانية من نتائج ذلك التغيير, ومثله يمكن القول عن صعود أفراد الى البرلمان كمشعان الجبوري وسقوط أحزاب. وكان لهذا التغيير في موازين القوى أثر مباشر مهد الى ظهور صيغ المصالحة والتحاور مع ما عرف حكوميا وأميركيا بـ "الإرهاب". وهذا يعني أن غياب المشروع الوطني دفع الجميع, بمن في ذلك الأميركان, الى تنسيق مشروع العنف مع مشروع بناء السلطة, وتكييف عملية بناء كيان السلطة المحلية مع تطور مسارات الصدام المسلح. أي أن السلطة الجديدة ولدت من الخارج بفعل عملية الغزو والاحتلال, وطورت آليات عملها وأسس بنائها على ضوء مشروع العنف المسلح, الذي شارك فيه الجميع: قوات الاحتلال, الميليشيات, الأحزاب, الحكومة والمقاومة "الشريفة" و"غير الشريفة". إن الصيغة التي توصل اليها بعض قادة الاتجاهات الضاغطة على الحكومة مؤخرا, والتي سميت بـ " هيئة العدالة والتوازن الوطني والسكاني", هي التعبير الأمثل عن تلازم العنف وبناء السلطة واتحادهما بالصراع الطائفي العرقي. فباعلان ظهور " هيئة التوازن" أراد البعض إرغام الكتلة الشيعية على الإقرار رسميا لا بمشروعية العنف فحسب, وإنما بمشروعية التقاسم طائفيا, كحق دستوري. فمن المنتظر من هذه الهيئة " ان تعمل على توازن تمثيل المكونات في المناصب المختلفة". ولا غرابة أن يظهر فجأة اسم الشيخ جلال الدين الصغير عضو مجلس النواب عن الائتلاف العراقي الموحد, كأحد المعلقين بايجابية على مشروع التوازن: " ان مشروع قانون هيئة العدالة والتوازن الوطني والسكاني مادة دستورية واشير اليها في مقررات المجلس السياسي للامن الوطني".(صوت العراق - 12-08-2006 , نقلا عن المدى) ولا غرابة أيضا أن تظهر في كلمات الصغير عبارة " مقررات المجلس السياسي للامن الوطني". فالتقاسم يستند الى الاتفاقيات الأمنية السرية أولا, أما الصغير نفسه فهو الرئيس الحالي لهيئة اجتثاث البعث, بعد تولي المالكي رئاسة الوزراء واختفاء الجلبي, غير المعلن. وهذا الأمر يدفعنا, مرة أخرى, الى القول إن الاجتثاث والعنف المسلح وبناء السلطة تحاصصيا, هو القاسم المشترك للفئات السياسية التي المتصارعة, وهو المضمون الداخلي الذي يسير آلية بناء ما يعرف بالعراق الجديد, وكل ما عداه هراء محض.
إن الأمانة التاريخية تقتضي منا أن نوثق بوضوح تام قضية الصراع بين أجنحة القوى المتعاونة مع سلطات الاحتلال ومشروع الحرب. فالخشية مما حدث, أي من نتائج التخبط في مواجهة البعث, كان هاجسا مقلقا لأطراف أساسية في التحالف الأميركي الداعي الى الحرب والاحتلال. فقد ظهرت هذه المخاوف منذ وقت مبكر, سبق ما يعرف بعملية "تحرير العراق". وقد أعرب الإتجاه الأكثر قربا من الإدارة الأميركية: أحمد الجلبي وكنعان مكية عن تلك المخاوف علنا. وقد كتب مكية غير مرة منبها حلفاءه الأميركان من مغبة عودة القيادات البعثية الى مركز السلطة: إن «السلطة ستقدَّم على طبق من ذهب للصف الثاني من حزب البعث وللضباط العسكريين الكبار». ولم يغفل مكية تطعيم مخاوفه السياسية ببهارات طائفية: «إن الخطة الأميركية تقدم مساعدة للأقلية السنية التي ظلت تحكم العراق لعدة عقود في أي انتخابات لاحقة على الرغم من أن أغلبية المسلمين في العراق هم ينتمون للمذهب الشيعي». (الشرق الاوسط- الخميـس 12 ذو الحجـة 1423 هـ 13 فبراير 2003 العدد 8843) أما الجلبي فقد أعرب عن المخاوف ذاتها بكلمات أخرى "إن الخطة الأميركية ستترك أتباع صدام يحكمون حتى لو تم إسقاط صدام نفسه عبر هجوم أميركي أصبح وقوعه أكثر احتمالا الآن" ( االشرق الاوسط- الخميـس 12 ذو الحجـة 1423 هـ 13 فبراير 2003 العدد 8843). وقد عبر مكية في مقالة طالب البيت الأبيض بعدم نشرها, عن فكرته السابقة بصراحة أكبر معربا عن إحساسه بالخيبة من الحليف الأميركي, وعلى وجه التحديد, قيادة البنتاغون وخططها التآمرية: «الخطة تناقض التزامات أخلاقية ومالية عمرها عقد كامل قدمتها أميركا للمعارضة العراقية». ووصف الخطة بانها «غريبة. فهي (تمثل) البعثية بوجه اميركي». وأن «حكومة الولايات المتحدة توشك ان تخون هذه القيم الانسانية الجوهرية لحق تقرير المصير والحرية الشخصية، كما فعلت مرات عدة في الماضي». ( الشرق الأوسط- الاثنيـن 16 ذو الحجـة 1423 هـ 17 فبراير 2003 العدد 8847 )
وقد فُسر غضب مكية والجلبي بأنه مجرد خشية داخلية, ضمن فريق الاحتلال, سببه تخوف كتلة الجلبي من امكانية استغلال منافسهم علاوي هذا الوضع لمصلحته الحزبية, بدعم من جهاز المخابرات الأميركية والقيادة العسكرية. وفسره آخرون تفسيرات أخرى سنعود اليها لاحقا. وعلى الرغم من ذلك لا بد من الاقرار أن لهذه الخشية ما يبررها, وإن اختلفت مبرراتها ودوافعها. فهي من ناحية أخرى تعكس خلافا جديا مع الإدارة الأميركية حول سبل التعامل مع البعث وسبل بناء السلطة الجديدة, قاد في نهاية المطاف الى هذه حدوث الانعطافة السياسية الكبيرة. ففي يوليو 2003 اعترف الحاكم المدني بضرورة ان "تكون هناك استثناءات يقررها هو بنفسه او مساعدوه على اساس دراسة بعض الحالات". ( الشرق الاوسط- الاثنيـن 29 جمـادى الاولـى 1424 هـ 28 يوليو 2003 العدد 9008 )
ما هي هذه الاستثناءات ومن يقررها, ولماذا؟ لا أحد يعرف حتى الآن ولن يعرف أحد ذلك على نحو دقيق. ولكن مجريات الأحداث أثبتت أن تلك الاشارات الاستثنائية كانت مجرد ضوء أخضر بعثه بريمر الى حلفائه المحليين, لكي يبدأوا معركة تحاصص كيان البعث الحزبي رسميا. أي يتم امتصاصه, ثم تمثله, ثم إعادة انتاجه طائفيا وعرقيا بثوب أميركي. وفي هذه النقطة المحددة تكمن قضية الاختلاف الجوهرية مع تيار الجلبي. وفي هذه النقطة المحددة نشأت واحد من أعمق وأعقد قضايا فهم المسألة الوطنية العراقية. فالجلبي يبدو معارضا للخطط الأميركية, وأكثر تشددا من الأميركان في مواجهة البعث. وهو هنا يبدو وطنيا في مواجة أجنبي. أما القاسم المشترك مع الأميركان والتيارات العراقية المتحالفة معهم فهو الاستيلاء على السلطة, الذي سمي من قبل فريق الجلبي باتفاق المصالح, وغلفوه بغلاف سياسي اسموه تحقيق الديموقراطية, وهو الغطاء الشرعي لكلمة احتلال, التي تتعارض تعارضا تاما مع مبدأ الوطنية. لكن الاختلاف سرعان ما ظهر عند الحديث عن سبل تقاسم السلطة, أي حول تنفيذ الديمقراطية عمليا. لقد بنى تيار الجلبي وجهة نظره على أساس واحد, هو أن الأميركيين, غير مهتمين بما سيؤول اليه انتماء البعثي المجتث, وما يهمهم هو موافقته على المشروع الأميركي والانخراط في تنفيذه. لذلك فإن الإجتثاث, مرحلة عقابية مؤقتة, هدفها قرص آذان العناصر المجتثة, لغرض إتاحة الفرصة أمامها لاختيار الفريق الذي ستعمل من خلاله في تنفيذ المشروع الأميركي. وهنا تتفق كتلة الجلبي مع الأميركان في استخدام الاجتثاث كعملية عقابية مؤقتة, لكنها تختلف عنهم في أنها وجدت أن المصلحة الأميركية ستقود الى تقليل نصيب كتلتهم من تقاسم الجسد البعثي. فالأميركان لا يهمهم انتماء الفرد الحزبي بقدر اهتمامهم, الآن, بولائه لمشروعهم. وقد أعرب بريمر عن هذا الأمر بصراحة تامة, بعد أن التقى قياديين شيوعيين, منهم عزيز محمد وحميد مجيد موسى, وخلص الى أن الثاني أنفع للمشروع الأميركي, وهذا سر تحالف الأخير مع علاوي. فوطنية تيار الجلبي هي في حقيقة الأمر عصبوية, فئوية, أقل مكانة حتى من نظرة الأميركان للمشكلة الوطنية وحساباتها السياسية. فالذين خططوا لتنفيذ عملية التقاسم بواسطة الاحتلال هم أنفسهم الذين رسموا مشروع العنف في العراق, الذي كان جزءا منه مبرمجا سلفا, أي أنه جزء من احتمالات العقاب ورد الفعل. بيد أن مشروع العنف المؤقت " قرصة الأذن التاريخية" انحرفت عن مساراتها المرسومة بفعل تداخل عوامل عديدة, أبرزها محاولة الأميركان تسيير غير مشروع سياسي وعسكري في منطقة واحدة, وفي زمن واحد, بعد نجاحهم الباهر في أفعانستان, فأدرجوا سوريا ولبنان وإيران وفلسطين ضمن مشروع عسكري سياسي متكامل, ينفذ متزامنا ومترابطا. لكن هذا التزامن والترابط قاد الى نشوء حالة معاكسة في جسد القوى موضع الفعل, جعلها تستمد شيئا من القوة والتماسك والتأثير المتبادل. لقد أدرك الأميركيون ذلك, واضطروا, على لسان بوش, الى الاعتراف بصعوبات الواقع, وتأكد لهم الأمر جليا بعد الهجوم الاسرائيلي على لبنان, ولكن بشكل متأخر. ومن المرجح أنهم مصرون على المضي بما بدأوه. من هذا نخلص الى أن حسابات الشراكة والاختلاف عند كتلة الجلبي, أي الوطنية والولاء للأجنبي, تتحدد على ضوء المصالح المتبادلة, أي على "حجم" ما يمكن تحاصصه من جسد الدولة المنهارة والحزب "المنحل". أما حسابات الأميركيين فقد بدت مختلفة تماما. فالقضية لديهم أكبر من أحجام وكميات, لأنها قضية نوع لا قضية كم. كيف بنى الأميركيون حساباتهم؟
استند بريمر في استثناءاته تلك على فكرة جوهرية ذات شق عملي يرتبط بأهمية وضرورة الأطر البعثية العليا في إدارة مفاصل الدولة, والى شق تقويمي, سياسي, يتعلق بمقدار ثقته واحترامه وتقديره لكفاءة وإخلاص حلفائه المحليين. وفي الناحيتين وجد بريمر أن الكفة تميل لصالح البعث. ولا يخفي بريمر هذا الأمر, فهو يعرب بوضوح مطلق مشوب بالاستهزاء عن شعوره بتدني مكانة حلفائه المحليين وضعف خبرات ما أسماه "الوافدين من الخارج". يقول بريمر " بيد انني ادركت ان العوائق الادارية التي تطرق اليها رامسفيلد قد ثبت بأنها أكثر من عوائقِ فقد شكل كبار البعثيين الكادر القيادي في كل وزارة وهيئة عسكرية عراقية, وان حظرهم من المشاركة في العمل سوف يجعل ادارة شؤون الحكم امرا اكثر صعوبة بكل تأكيد, ومن جانب آخر فقد شعرت بالارتياح بعض الشيء لمعرفتي ان التكنوقراط من غير السياسيين هم في العادة وراء نجاح عمل تلك الوزارات والهيئات". لكن ارتياح بريمر سرعان ما تبخر حينما وجد أن عجلة السلطة لا تدور ببضعة "تكنوقراط" معزولين, في محيط طائفي وعرقي, تسوده روح الأنانية المفرطة, والبحث عن مغانم سريعة, وغياب تام للخبرة والأفق الوطني. إن التناقض الأكبر الذي وقع فيه الأميركان, عند تجريد حلفائهم المحليين من استقلالهم الوطني, أنهم خلقوا سياسيين سيئين إداريا ومهنيا, مجردين من الإرادة وعاجزين, لا يستطيعون إدارة دولة ومجتمع, ولا يرقون حتى الى مستوى قادة قبائل. وهذا ما أعرب عنه بريمر غير مرة, بشكل خفي تارة وصريح تارة أخرى. وهذا الأمر يعود بنا مجددا الى موضوع فقدان المشروع الوطني, فالقوى التي ساندت الاحتلال لم تكن تملك حتى مشروعا وطنيا زائفا قابلا للتنفيذ. وقد امتلك بعضهم أوراقا ونصوصا أعدوها في "مرحلة تحرير العراق", لكنها أخفيت جميعها حال اختبائهم في المنطقة الخضراء. فقد ظن كثيرون منهم أنهم لم يعودوا بحاجة اليها, لأن هناك من يشرع ويعمر ويهدم ويحمي ويعاقب ويمنح الثواب بدلا منهم. كانت أياديهم وعقولهم وضمائرهم فارغة تماما من أي ظل لمشروع عراقي, الى حد أنهم أصبحوا عائقا أمام ما كان الأميركان يعلنون, ولو دعائيا, القيام به: تشييد العراق الجديد, وبناء "نموذج الشرق الأوسط الجديد".
مرة أخرى أعود فأكرر القول: لا أحد, حتى هذه اللحظة, يعرف المعايير والقوانين والأسس التي تم بموجبها تقييم البعثيين, وما هي شروط الاستثناءات من قرارات الاجتثاب. أما المعلومات اليسيرة التي بحوزتنا فهي ليست جزءا من قرارات وقوانين الدولة, وإنما هي بعض من غبار المعارك بين الأطراف المختلفة المكونة للتحالف الحكومي. فعلى سبيل المثال كشفت أحداث قبو وزارة الداخلية عن وجود ضباط بعثيين يقومون بأعمال التعذيب لصالح السلطة الجديدة. وقد اعترف بذلك علنا وزير الداخلية, بيان جبر صولاغ, لكي يبرئ حزبه من تهمة التعذيب. لكنه لم يجب عن السؤال المتعلق بمن وظف أولئك ولمصلحة أي الأطراف. هذه الحادثة العابرة وغيرها من الحوادث كشفت أن مشروع بريمر لإعادة إنتاج البعث أميركا كانت هي الحلقة التالية من حلقات مشروع العراق الجديد, الذي أراد الأميركان تنفيذه, بعد مرحلة ما عرف بحكومة مجلس الحكم.
ولغرض توضيح الأمور نعرض هذا الخبر الحكومي: " أعلنت «الهيئة الوطنية المستقلة لاجتثاث البعث» في العراق إعفاء العشرات من كبار قادة التشكيلات الأمنية في وزارتي الداخلية والدفاع من مناصبهم، لشمولهم بقرارات الاجتثاث التي تطاول القيادات السابقة في الحزب. مؤكدة تنفيذ قرار للأمانة العام لمجلس الوزراء. وقال علي فيصل اللامي، المدير العام التنفيذي للهيئة لـ «الحياة» انه اتفق مع «اللجان المحلية في الوزارتين اللتين قررتا إعادة تقويم منتسبي الاجهزة الامنية»، مشيرا الى «تنسيق مع وزيري الداخلية، بيان جبر صولاغ، والدفاع سعدون الدليمي». واوضح ان التقويم «أسفر مبدئيا عن شمول عدد من كبار الضباط في الوزارتين، اضافة الى العشرات من ضباط المديريات، بقرار الاجتثاث، بينهم اللواء علي غالب وكيل وزير الداخلية لشؤون الشرطة، واللواء مهدي صبيح، قائد قوات حفظ النظام، واللواء جواد الرومي، قائد اللواء الاول، المسؤول عن امن منطقة الرصافة، والعميد جبر حميد المكصوصي، مدير استخبارات القوات الخاصة، والعميد عبد اللطيف تعبان، قائد الفرقة العاشرة، ومؤيد عبد الجليل، مستشار وزير الدفاع، ومؤيد خضير الجبوري المستشار الامني لوزير الدفاع وعبدالكريم عبدالرحمن، آمر لواء الرافدين التابع لقوات حفظ النظام، وثامر سعدون الجنابي، مدير دائرة مكافحة الجرائم الكبرى، ومحمد كطافة، آمر فوج تابع للواء الكرار. اضافة الى مجموعة اخرى من القيادات التي ثبت توليها مواقع قيادية في البعث في عهد النظام السابق". (نقلا عن البديل العراقي)
هذا الخبر يعود بنا مجددا الى تبرير بيان جبر صولاغ التواطئي ويؤكد محتواه. لكنه يوضح لنا, في الوقت نفسه, أمرا أكثر خطورة هو أن العناصر المشمولة بالتطهير لم تكن هذه المرة مجرد ضباط للتعذيب يعملون في قبو, بل هم القادة الأساسيون, الميدانيون, الفعليون, الذين يديرون النشاطات العسكرية والأمنية في العراق! من وظفهم, ومن جاء بهم, ومن استثناهم من قرارات البعث, ومن اكتشف بعثيتهم لاحقا؟ ولماذا تم الآن فقط, في هذه اللحظة, اكتشاف أنهم " من القيادات التي ثبت توليها مواقع قيادية في البعث في «عهد النظام السابق»! الإجابة عن هذه الأسئلة تميط اللثام عن حقيقة ما يعرف باجتثاث البعث. فهؤلاء الضباط, ليسوا سوى حفنة ضئيلة من شريحة واسعة تعمل مع القوات الأميركية بقوائم يحظر على الدولة الاطلاع عليها, وجزء من شريحة أوسع تعمل مع أجهزة وميلشيات عراقية في السلطة وخارجها, وتتبادل المنافع مع جهات أجنبية استخبارية وعسكرية ومدنية. لماذا تم اكتشاف بعثيتهم الآن؟ السبب هو أن هؤلاء كانوا جزءا من عملية تحاصص الجسد البعثي التي شرعها بريمر, وقد قُبل أغلبهم على أسس طائفية, ظنا من الذين استخدموهم أنهم بهذا سيغّلبون العنصر المذهبي على الانحياز الحزبي. فأغلب هؤلاء من البعثيين الشيعة. لكن مجريات الأحداث: توسع نطاق الارهاب والمقاومة, ووصول العنف الى رؤوس القيادات التي ترأس القوى التي تولت مهمة إعادة الانتاج, كالحكيم, وعز الدين سليم, أثبت للجميع أن خللا جديا يعيق عملية خلق النموذج الهجين: الشيعي- البعثي-الأميركي, على الرغم من نجاح بريمر في خلق نماذج هجينة عديدة, منها النموذج الشيوعي- البعثي- الأميركي, المتلبس بالعلمانية. هذا الخلل تمثل في ظهور كتلة سياسية هي الأقرب الى ولاء هؤلاء, أخذت تحاور السلطة وقوات الاحتلال محاورة الند للند, وبدأت تشترك مع أحزاب السلطة تحت سقف البرلمان. هنا ظهر خلل وازدواج في الولاء. لقد اكتشف القادة المحليون أن الواقع المعقد يعيد ترتيب الاستثناءات, ويعيد ترتيب عمليات التحول في مراحل الفوضى السياسية, وفقا لشروط القوة, وليس وفقا للحسابات النظرية والأماني. لهذا السبب جرت عملية إعادة اكتشاف بعثية هؤلاء البعثيين, ولكن بعد أن جرت دماء غزيرة على أرض الواقع, وبعد أن قطعت آلاف الرؤوس البريئة وألقيت في المزابل.
من هنا نخلص الى أنه إذا كان سقف الاجتثاث حزبيا ووظيفيا معروفا ومحددا وفق الضوابط التي أشرنا اليها سابقا, فإن شروط الاجتثاث غامضة, وأكاد أجزم فأقول إنها معدومة تماما, وهي رهن بعمليات البيع والشراء السياسي. لنتأمل هذا الخبر: " هيئة اجتثاث البعث تعلن عن أن المرشح للمجلس الوطني حازم الشعلان غير مؤهل للترشيح, لأن شروط اجتثاث البعث تنطبق عليه". هذا الخبر يمثل ذروة الاستهتار بالمعايير الوطنية والمهنية والدستورية. فالشعلان كان وزيرا لأهم وأخطر وزارة عراقية, ولم يمنع تعارض ترشيحه مع قوانين الاجتثاث من تولي حقيبة وزارة الدفاع. أما التبرير القائل بأن شروط الترشيح الى المجلس الوطني لا تنطبق عليه فأكثر غرابة, لأن شروط الترشيح الى منصب وزارة الدفاع لا تنطبق عليه أيضا وفق قانون اجتثاث البعث نفسه. أين هي المعايير؟ من استوزره, من قبل استيزاره, ولماذا جرى الانقلاب عليه الآن والتلويح بقانون اجتثاث البعث في وجهه؟ تقول الهيئة الوطنية العليا لاجتثاث البعث بأنها طعنت بقرار مجلس المفوضين في المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق حينما " أبدت فيه المفوضية رفضها لأستثناء 185 مرشحاً من الانتخابات القادمة، كانت الهيئة الوطنية العليا لاجتثاث البعث قد طالبت بمنع دخولهم الى الانتخابات بسبب شمولهم باجراءات اجتثاث البعث. وفندت الهيئة ادعاءات المفوضية بعدم كفاية المستمسكات، حيث قالت ان الهيئة قد زودت المفوضية في 8/12/2005 في الكتاب المرقم 7267 بالاسانيد التي استندت عليها الهيئة باجراء اجتثاث كل من حازم كطران الشعلان وراسم حسين عبد الله العوادي وسعد عاصم الجنابي وعدنان عبد المنعم رشيد الجنابي واخرين". بيد أن هذا الاعتراض لا يجيب عن السؤال الأساسي: ألم تكن شروط الاجتثاث تنطبق على الشعلان حينما قادت وزارة الدفاع عملية ضرب مرقد الإمام علي ؟ من هذا الخرم "الوطني!" استثني الشعلان وظيفيا, ومن الخرم ذاته أدين حزبيا. إنها تناقضات سلطة الاحتلال البراغماتية المستعصية, التي لا تأبه بعرق أو دين أو طائفة, والتي تحدد, هي بنفسها, سقف المشروع الطائفي لحلفائها المطيعين, في مجتمع شديد التعقيد, عصي على الترويض.
قضية الشعلان والصراع بين الكتل المتحالفة مع المحتل معروفة. لكن قضية النائب مشعان الجبوري أكثر غرابة. فقد قُبل ترشيح الجبوري الى المجلس الوطني, وحصل على مقعدين في دائرته الانتخابية في الوقت الذي هزمت أحزاب وكتل ذائعة الشهرة. حدث ذلك كله ولم يكتشف أحد أن مشعان أحد المشمولين بقرارات اجتثاث البعث وبقرارات هيئة النزاهة. لكن السلطة تكتشف, فجأة أيضا, أن الجبوري خارج على القانون لأسباب عديدة, منها بعثيته السابقة ومنها سرقة موارد الدولة. قضية مشعان أكبر وأخطر من قضية الشعلان مهنيا وأخلاقيا ووطنيا. لأن مشعان رجل معروف بتصريحاته غير المنسجمة مع السلطات المتعاقبة عقب سقوط صدام. ولكنه رغم ذلك كان جزءا من بنية القوى المتحالفة واقعيا مع مشروع الاحتلال. ما هو خطير في موضوع الجبوري ليس حصوله على مقاعد نيابية, بل منحه, من قبل السلطة الحاكمة, وظيفة من أخطر الوظائف والاجتماعية والاقتصادية الأمنية: تجنيد عناصر قبلية لحماية أنابيب النفط. إن اكتشاف تهم الجبوري تعني في الوقت عينه تثبيت الاتهام على من كلفه بهذه المهمة الخطيرة, التي قيل أن الجبوري أساء استخدامها واتخذها وسيلة للتهريب ومساعدة الإرهابيين. من منحه تلك الصلاحيات الخطيرة, لهذه المهمة المحددة؟ الذي منحه ذلك هو خبرته. فهو, كما روج قادة المعارضة العراقية أنفسهم قبل سقوط النظام الديكتاتوري, أحد الذين كانوا يفتخرون علنا, بأنه كان يقوم يتجنيد أبناء القبال لصالح حروب صدام. أي أن القادة الجدد وظفوا مواهب مشعان السابقة لمصلحة نظامهم الديموقراطي, وحينما اكتشفوا, كما اكتشفوا كبار الضباط والوزاء من قبل, أنه لم يمنحهم ولاءه الكامل, أضحى عنصرا معاديا وخارجا على القانون, يستحق أن يشمل بقرارات اجتثاث البعث والنزاهة؟
قضية أيهم السامرائي, الوزير السابق, مثال آخر. والأمثلة كثيرة ومتنوعة.
ما معايير الاجتثاث السياسية والقانونية والأخلاقية؟ لا أحد في العراق يعرف ذلك. ما معايير الاستثناء من الاجتثاث؟هذا أمر لا يعرفه حتى إبليس. وما مهمات هيئة الاجتثاث؟ هذا أمر لا يعرفه حتى رئيسها أحمد الجلبي.
ففي السنوات الثلاث المنصرمة جرى اجتثاث عدة آلاف, وجرى استثناء آلاف أخرى. فمن القرار1 الى القرار 41 تم استثناء 8034 عضو فرقة حسب المحافظات, و7784 حسب الوزارات.
فوفقا للقرارات السابقة جرى استثناء أعضاء الفرق التالية أعدادهم:
بغداد 2292, الأنبار 1237, ديالى 944, صلاح الدين 1037, نينوى 686, بابل 275, المثنى 222, الديوانية 278, كربلاء 140, البصرة 109, النجف 75, كركوك 576, ذي قار 61, واسط 63, ميسان 39, المجموع في 15 محافظة
8034
وحسب الوزارات جرى استثناء: الدفاع 49 , الخارجية 3, الداخلية 855, التعليم العالي 1232, التربية 4525, الصحة 99, الزراعة 152, النفط 93, الصناعة 130, الاعمار والاسكان 13, العمل والشؤون الاجتماعية 33, المالية 88, العدل 30, النقل 60, الموارد المائية 52, التجارة 61, الثقافة 10, الكهرباء 62, الاتصالات 23, البيئة 1, الاشغال والبلديات 106, العلوم والتكنولوجيا 33, التخطيط 17, الشباب والرياضة 15, مجلس الأمن القومي 1, ديوان الوقف الشيعي 1, بيت الحكمة 1, مجلس القضاء 9, أمانة بغداد 24, ديوان الرقابة المالية 2, ديوان الوقف السني 4, شؤون المحافظات1 المجموع: 7784
(المكتب الاعلامي-الهيئة الوطنية العليا لاجتثاث البعث العراقي, نقلا عن شبكة كربلاء للأنباء " ابا " - 19/06/2005 )
فوفق معايير الهيئة العليا للاجتثاث, يفترض أنها قامت خلال السنوات الثلاث المنصرمة بدراسة وفرز ملفات ستين ألف قيادي بعثي, بينهم 40 ألف عضو فرقة. لكن الهيئة صحت من نومها في أواخر مايو 2006 فوجدت نفسها ملزمة باعفاء أعضاء الفرق من قرارات الاجتثاث, وبذلك ضيعت في لحظة واحدة جهودا اجتثاثية مضنية دامت ثلاث سنوات, استغرقتها في دراسة أربعين ألف ملف. ولم تكتف الهيئة بذلك, بل قامت برفع القيود التي حددها قانون إدارة الدولة " التي كانت لا تسمح له بتقلد المناصب الرئيسة والقيادية، فأضحى بوسع(العضو) ان يكون مديرا عاما ووكيلا للوزير ووزيرا." (الصباح, 25 مايو 2006 )
لو عدنا الى الخبر المتعلق باعفاء أعضاء الفرق من عقوبة اجتثاث البعث وقارنّاه بنص الاجتثاث الصادر من السفارة الأميركية ببغداد لتوصلنا الى أمرين هامين: الأول, إن تطور بناء السلطة تم بالتوازي مع تطور مشروع العنف وتلازم معه. والثاني: فقدان الأفق السياسي وغياب المشروع الوطني العراقي. فالفقرة القائلة " احالة جميع اعضاء الشعب في البعث المنحل على التقاعد واعادة جميع اعضاء الفرق الى وظائفهم ورفع القيود عن الاعضاء لتسلم المناصب العليا", تتطلب منا العودة مجددا الى قراءة ترجمة السفارة الأميركية ببغداد لنص قانون ادارة الدولة, والتي ترجمت سهوا كلمة فرقة الى شعبة. ترى هل كان الأمر خطأ في الترجمة أم أنه نبوءة؟ والجواب على ذلك: لا هذا ولا تلك. إنه غياب تام للمشروع الوطني, وتوظيف مخطط لمكونات النظام السابق, الشريرة منها, لغرض بناء عراق خال من الأشرار, عراق ديموقراطي, حر, ومتسامح, عراق جديد.
إن الأمانة البحثية ترغمنا أن نسجل هنا أن " الهيئة الوطنية العليا لاجتثاث البعث العراقي" هي أول من قام بفضح اللقاءات السرية الدائرة بين الأميركان وعناصر البعث, على الرغم من أن مثل هذه النشاطات لا تقع ضمن اختصاصاتها. فقد قامت الوكالة الشيعية للأنباء من على ملف عاشوراء 1426 بنشر الخبر التالي, المليء بالتناقضات والاشارات المبهمة: "تــُفيد الأنباء التي تتوارد هذه الايام ومن مختلف المصادر , عن وجود اتصالات مكثفة تــُجرى بين الحكومة والقوات الامريكية من جهة وبين ما يسمى بالمقاومة العراقية , و برعاية خاصة من قبل الاخضر الابراهيمي مبعوث الامين العام للامم المتحدة , والشي المُلفت للنظر وحسب ما جاء في تلك التقارير الاخبارية , أن عودة ( البعث ) المنحل الى الحياة السياسية كان من أبرز المطالب التي طرحها الوفد المفاوض , ومما يُثير الاستغراب أن تلك المحادثات تتم بدون علم أو مشاركة الحكومة العراقية وهي الحكومة المُنتخبة والشرعية والمعنية بالأمر. "
وفي يوم الاحد 14/5/2006 نشرت صحيفة المدى نقلا عن الوطن الكويتية الدعوة التي وجهها احمد الجلبي نائب رئيس الوزراء والرامية إلى حل هيئة اجتثاث البعث التي يرأسها. قال الجلبي: إن الدستور العراقي يخول مجلس النواب مناقشة قانون الهيئة وحلها إذا ما وجد في ذلك مصلحة للبلاد. وأضاف: أنا مستعد للتنحي عن رئاسة هذه الهيئة وسأضع هذا الأمر بيد مجلس النواب المخول باتخاذ القرار المناسب بهذا الشأن.
ولم تمض سوى أيام على ذلك التصريح حتى تناقلات الأنباء أخبار اختفاء الجلبي من المسرح السياسي, دون أن يعرف أحد الى أين ولماذا. وبذلك انتهى فصل هام من فصول الصراع السياسي, العسكري, لصالح عملية التحاصص, ولكن بدخول البعث طرفا أساسيا في عملية المحاصصة السياسية, ولكن علنا وبصورة شرعية هذه المرة, بعد جولة طويلة, دامية ستترك بصماتها السود على تاريخ العراق القادم لحقب طويلة.
4
ورثة نهمون وقمامون ثقافيون!
إن دراسة صيغتي الحل والاجتثاث وتتبع مراحل تنفيذهما تاريخيا, بقليل من التمعن, تكشف للمرء أمرا على غاية الغرابة, هو خلو هاتين الصيغتين من أي محتوى وأساس واقعي, رغم طابعهما المثير للجدل, ورغم ما تضمنتاه من إشارات جذرية متطرفة أسهمت في صياغة جزء حيوي من البناء النظري والدعائي, الذي تحركت به وعليه عجلات كيانات سياسية وأجهزة سلطوية عديدة, بعضها ادعى تبنيه صيغ الحل والاجتثاث, والبعض الآخر تظاهر برفض تلك الصيغ, ومنها ما تأرجح بين السكوت على الإجتثاث عند توليه الحكم والوقوف ضده بعد خسارة موقعه الحكومي, كاياد علاوي. وبين لعبة التهديد بتنفيذ الصيغتين من قبل من تبنوهما, ولعبة الإحساس بالخطر من قبل القوى التي تظاهرت برفضهما, ظهرت علامات استفهام عميقة تشكك في الأهداف الحقيقلة الكامنة وراء ظهور هاتين الصيغتين.
فليس خافيا على أحد أنه ليس من اليسير تحريم حزي سياسي, كحزب البعث العراقي, حكم لمدة تزيد على ثلاثة عقود, وبلغ عدد منتسبيه ما يقرب من مليوني عضو, أي ما يقرب من خمس عدد البالغين من العراقيين العرب, وما يقرب من نصف عدد الرجال البالغين على أقل تقدير. فهذا الحزب تغلغل عميقا في كيان مؤسسات الدولة والمجتمع وجعلها أداة طيعة بيديه, بما في ذلك المؤسسات العسكرية والقضائية والتربوية والثقافية. لذلك فإن مواجهة تركة هذا الحزب تقتضي القيام بإصلاحات بنيوية سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية عميقة, طويلة الأمد, تعنى بمعالجة الجوانب الضارة في حزب البعث ككيان خاص, ومعالجة تأثير هذا الحزب على الحياة عامة. أي تتطلب إعادة تأهيل سياسية واجتماعية وثقافية شاملة, تخص الحزب نفسه وتخص مؤسسات المجتمع والدولة, بما في ذلك القوى الجديدة, الحاكمة. ما الذي تحقق من ذلك حتى الآن من الناحية العملية؟ وما الذي تحقق في الجانب الثقافي, بشقيه النظري والتطبيقي؟ هذا الجزء من البحث يسعى الى إماطة اللثام عن بعض الأوجه الخفية لعملية إجتاث البعث في الجانب الثقافي, ويسعى من جانب آخر الى أيجاد صيغة واقعية, خالية من الدعاية السياسية النفعية, تهدف الى صياغة أساس نظري لحل معضلة مواجهة تركة هذا الحزب, وتشير الى سبل ايجاد بديل ثقافي يؤسس لمرحلة قادمة, تقوم على أسس ومعايير جديدة, نابعة من الحاجات الفعلية للمحتمع, ومن الضرورات العملية, التي تتطلبها عملية إعادة تأهيل المجتمع ثقافيا وروحيا, وخلق مراجعة وطنية شاملة تكون الإطار العام, النظري, لعملية تصفية الثقافة الديكتاتورية.


المراجعة الثقافية بين النظرية والتطبيق
إن وجود إرادة أجنبية تقرر منفردة, وتعبث بواقع الحياة كيفما تشاء, لم يعقد ويؤخر ظهور البديل الثقافي فحسب, بل أسهم أيضا في تقوية عناصر الضعف في الجسد الثقافي, وألحق أذى بالغا بصورة البديل الديموقراطي المرتقب. إن تدخل المحتلين المباشر في صناعة القرار السياسي فر ّغ مبادئ الاستقلال والديموقراطية والحرية من محتواها, وأعاد إحياء بنى ثقافية كانت خاملة لزمن طويل كالطائفية والعشائرية والمناطقية والنزعات العرقية والتكفيرية, وأشاع القسوة والتعذيب وخرق المبادئ الأخلاقية والقانونية والاجتماعية الأساسية للمواطن باسم ديموقراطية لم يقتنع أحد بصدقها, حتى القائمون بأمرها. إضافة الى ذلك فقد تخبطت سياسة المستعمرين تخبطا مثيرا للدهشة في مسألة مواجهة تركة النظام السابق, وأولها مواجهة تركة وفكر البعث. فمؤسسة العنف البعثي في تقديري لم تندحر بعد, وإنما تمزقت أوصالها ولم تمت. لقد تشظى عنف المؤسسة البعثية وتناثرت أجزاؤه حيّة وفاعلة, ثم راحت تتكاثف وتنتظم هنا وهناك, لدى هذا الفريق أو ذاك. إن ما حدث هو إعادة توزيع لمكونات الديكتاتورية. أي تحاصص الجسد الظالم, وتفريقه بالعدل على الطوائف والقوى الجشعة, المتخاصمة. فإذا كان صدام وزع ظلمه على العراقيين بعدالة, مشكوك في بعض جوانبها, فإن المشروع الأميركي يعيد توزيع شرور صدام, في هيئة هبات سياسية, على القوى السياسية, كلها, بعدالة ونزاهة تامتين.
أول إجراء واجهه البعثيون عقب سقوط نظام الحكم هو قرار حل البعث, الذي جاء بأمر من قوات أجنبية, واتخذ صيغة شاذة قانونيا: الحل, وليس التحريم. إن القوات الأجنبية (الاحتلال) لا تملك سلطة قانونية تمنحها حق حل حزب عراقي, حتى لو كان حزبا ظالما, ولا تستطيع تحقيق ذلك عمليا في الواقع. لأن الأحزاب لا تحل بقرارات من خارجها, ولن يكون حلها فعالا ونافعا سياسيا واجتماعيا قبل أن تتم محاكمة التجربة وطنيا, والإتفاق على قرار شعبي وقانوني بشأنها, والأهم الاتفاق وطنيا على إيجاد صيغ عملية لتعطيل فعالية الفكر الذي يستند عليه هذا الحزب في المجتمع. وكل ذلك لم يحدث, لأن قرار الحل كان مستوردا, ولم يتم من خلال مشروع ثقافي وطني ينبع من خبرات المثقفين والسياسيين والحقوقيين والأكاديميين والعلماء العراقيين والمواطنين عامة. إن الحل, وليس التحريم, هو ما أثار تساؤلات المتأملين للوضع العراقي ولفت أنظارهم. فالحل يعني إعادة توزيع الأعضاء الحزبيين على الكيانات السياسية الجديدة, وهو ما يتماشى مع خطط الاحتلال بعيدة المدى ومع مشاريع بعض القوى التي ساندت الاحتلال, إضافة الى القوى التي لبست ثوب المعارضة كورقة ضغط سياسية وعسكرية لتقاسم السلطة. فقد تمت إعادة وراثة الحزب, وتُرك جزء منه يعمل في الخفاء والعلن. وهو فعل يوازي في خطورته جريمة حل الجيش العراقي, وجريمة تبديد أسلحة الجيش العراقي, اللتين كونتا الأساس العملي لظاهرة العنف في العراق. لذلك فإن حل حزب البعث, بقرار خارجي, أسهم ثقافيا في وراثة أساليبه وطرائقه والكثير من أسسه النظرية وسلوكه من قبل من جاءوا بعده الى الحكم. وفي المجال الثقافي أسهم هذا الحل في نشوء ظاهرة تزييف التاريخ وظاهرة فوضى القيم واختلاطها. فلم يعد المرء يفرق بين من يتحلون بـ " قصور نظر", أو الذين " لم يطالهم عسف الديكتاتورية", و الذين " لم يكونوا ممن يعارض بصورة جذرية النظام القمعي" , أو الذين "كانوا بطريقة أو أخرى شركاء لذلك النظام وجزءا منه", أو حتى الذين قاوموا بحق. لقد بعثرت السياسة الثقافية الأميركية أجزاء الجسد الثقافي البعثي, لكنها لم تقض عليه, بل قامت بإعادة تحاصصه وتفريقه على القبائل السياسية, كغنيمة, وتسليم ملكيته الى ورثة جدد.
خرافة إجتثاث البعث في التطبيق
لقد تم تصميم قانون حل البعث, وقانون إجتثاث البعث, وفق مقاسات حلفاء الاحتلال الأساسيين: علاوي والجلبي بدرجة اولى والطالباني والقيادات الكردية بدرجة ثانية. فقد أفاد الجلبي من الجانب الدعائي, المظهري, لعملية الإجتثاث وما تضمنته الكلمة من معنى ثأري, استخدمه في كسب تعاطف بعض شرائح المجتمع العراقي, وأعني بهم الشيعة, الذين أثبتوا أنهم لا يمحضون الجلبي أقل بارقة ثقة. كما أنه أفاد منه كورقة طعن مبطن موجهة الى منافسه الأكبر, البعثي السابق, علاوي, وورقة ابتزاز نفسي للبعثيين السابقين المنافسين المنضوين تحت قيادة قائمة الائتلاف وقيادة تنظيمه الحزبي الخاص: عادل عبد المهدي ومثال الآلوسي (حينما كان جزءا من حزب الجلبي) أو المحسوبين( ثقافيا) على البعث سابقا من حزب الفضيلة (نديم الجابري). أما علاوي فلم يكترث للمغزى اللغوي للكلمة, وترك مهمة الاستمتاع واللهو بها, والإفادة منها, لخصمه التقليدي وشريكه في دعوة القوات الأجنبية الى "زيارة" أرض الوطن. لكنه أفاد من حدود القانون العملية, التي شملت درجات محددة من مراتب البعث. فقانون حل البعث منح علاوي, بجرة قلم, آلاف الخلايا والمنظمات الحزبية الجاهزة, تمكن بها من استكمال بناء تنظيمه وإعادة هيكلته, مبعدا رفاق الخارج, الذين ناضلوا معه لسنوات طويلة, معتمدا على ما شرعه وجوزه قانون إجتثاث البعث. وبعد أن تم استيعاب ما سمح به القانون, وبالتزامن مع ظهور خلافات الجلبي مع الحليف الأميركي, صعّد علاوي من سقف التجوز فجعله يشمل قيادات ومراتب حزبية أعلى, رفدت تنظيمه بأعداد جديدة من الكوادر الحزبية المتمرسة والخبيرة, ممن تفوق مراكزهم التنظيمية والوظيفية السقف الذي حدده قانون إجتثاث البعث. وفي موجة الصراع الأخيرة صعّد علاوي مجددا موقفه داعيا بصراحة تامة الى إلغاء القانون, الذي لم يقم بإلغائه حينما كان هو نفسه رئيسا للحكومة العراقية! ففي مايو 2006 اكتشف إياد علاوي الحقيقة التالية " ان اجتثاث البعث عملية سياسية سيئة باتت سيفا مسلطا على رقاب العراقيين لتصفية الخصوم السياسيين", وانطلاقا من وطنيته وعراقيته قال: " لقد جاهرنا بهذا الامر وفي احاديثي وخاصة الاخيرة مع القادة الاوروبيين والبريطانيين تحديداً والقادة الامريكيين طلبت من هؤلاء القادة التبني الواضح والصريح لهذا الامر والضغط على حكومة بغداد بهذا الاتجاه وفعلاً قرأت تصريحات رئيس الوزراء البريطاني في لقائه مع الرئيس الامريكي والتي جاءت مطابقة لما بُحث مع هؤلاء القادة وغيرهم . (العراق للجميع - الملف العراقي - واع : 2006-06-17 - 17:40:11 )
وقد حذت حذو علاوي في الإفادة من خدمات البعثيين أحزاب وكتل وجماعات عديدة, عربية وكردية, سنية وشيعية, مسلمة وغير مسلمة, مستفيدة من خبرات ومهارات الأجهزة البعثية, العاملة في مجال الأمن والمخابرات خاصة. وكان للأميركان حصة الأسد من جهاز الأمن الخارجي والمخابرات ومن بعض الأجهزة المرتبطة بوزارات الداخلية والخارجية والدفاع والنفط. وفي هذه النقطة لا بد أن نشير الى أن وزارتي النفط والخارجية قد أعدتا هيكليا, بشكل جنيني, قبل الاحتلال, وتكونت مؤسسات موازية لمؤسسات صدام تحت إدارة أميركية. ووصلت الأمور حدودا متطورة عمليا في وزارة النفط, حينما تشكلت إدارة أميركية للنفط العراقي انتقلت الى العمل ميدانيا من الأراضي الكويتية, ولهذا السبب قامت القوات الأميركية بحماية وزارة النفط من أعمال النهب, لأنها لم تكن مشمولة بخطة الفرهود. أما الضباط العراقيون , المنشقون, الذين انضموا طوعا الى المشروع الأميركي فقد أخفقوا في حمل الأميركيين على خلق تكتل أو إطار عسكري يشكل نواة قيادة عسكرية قادمة, رغم ظهور تكهنات تحدثت عن اسماء عديدة, مرشحة لتولي مناصب عليا في الجيش القادم, كنجيب الصالحي والياسري وغيرهما. إلا أن الواقع أثبت أن الأميركان اكتفوا من الضباط العراقيين الكبار بدور الوشاة فحسب.
أما القوى السياسية الصغيرة والهامشية فقد لعبت دور القمّام الثقافي والسياسي, فراحت تقوم بعملية اصطياد للفرائس الصغيرة والعاجزة والكسيرة سياسيا وثقافيا, راضية بما تخلفه الكواسر وراءها. وقد ظهر هذا الميل بدرجة كبيرة في صفوف الشيوعيين. فإذا كان زعيم الكتلة العراقية, البعثي السابق علاوي, قد جذب اليه المراتب العليا من البعثيين, فإنه ترك لحلفائه هامشا صغيرا, تمكنوا فيه من جذب أعداد ممن لعبوا دور الوشاة والمخبرين وأشباه البعثيين في زمن صدام. وهم الفئة الأكثر خطرا ثقافيا وإنسانيا, بحكم طبيعتهم الارتزاقية وتلوث ضمائرها واستعدادها الدائم لإداء دور الخادم, الذليل, المتباكي, ولكن الفاسد والغادر. وهذه الشريحة أكثر حضورا من غيرها في المجال الثقافي.
وشيئا فشيئا تمت إعادة من أقصي من أجهزة التربية والإعلام والخدمات والشرطة والجيش الى وظائفهم. ثم توسع حيز تواجد عناصر الحزب في الأجهزة الإعلامية المختلفة. وبذلك عاد جزء كبير من منتسبي الحزب الى كيان الدولة الجديدة والى الواجهات الإعلامية والعسكرية والأمنية, وانخرط جزء كبير منهم في إطار القوى السياسية الحاكمة أو الموالية أو المعارضة.

الاجتثاث في المجال الثقافي
على الصعيد الثقافي جرت محاولات فوقية لتحديد صفة البعث القانونية في المجتمع. لكنها لم تأخذ طابعا معمقا إجتماعيا وفكريا, ولبثت معزولة, قابعة في الظل, تصدر كردود أفعال, تطفو وتغطس, تبعا لتبدل الأحداث وتقلب الأحوال.
ولغرض إماطة اللثام عن الإشكالات النظرية والتطبيقية المتعلق بهذا الموضوع, سنتوقف عند جهود ثقافية نظرية مستقاة من الواقع تتعلق بالصياغة الدستورية لموضوع تطهير المجتمع من آثار البعث. كما سنقوم بتحليل بعض الترجمات التطبيقية لتلك المفاهيم النظرية والدستورية لنتعرف من خلالها على سبل تحديد هوية البعث كحزب سياسي, والبعثي كمواطن في العهد الجديد, وسبل التعامل الواقعية مع البعث كظاهرة ثقافية, والالتباسات العميقة التي اكتنفت هذه المهمة الغامضة.
من أبرز الإضافات التي تم إحداثها في الدستور الجديد, هي التغيير في تحديد هوية حزب البعث, بعد أن حصر التحديد من قبل في النظام السياسي العراقي في الحقبة التي سبقت الاحتلال, أي حقبة حكم حزب البعث العربي الاشتراكي, التي امتدت من عام 1968 حتى 2003. فمنذ وقت مبكر ظهرت صيغة "النظام الصدامي", والتي أريد بها تمييز حقبة من حقب النظام البعثي في العراق, وقد ظهرت هذه الصيغة لإرضاء مشاعر القوى التي تحالفت لفترات مختلفة مع البعث. وبعد سقوط "النظام الصدامي", ظهرت صيغة سياسية جديدة, لم تكن متداولة دستوريا من قبل اسمها " البعث الصدامي", كنوع من التمايز في إطار البعث كحزب وليس في إطار السلطة. لقد أوضحنا في الصفحات السابقة من بحثنا, أن صيغة زمنية ظهرت في وثائق مجلس الحكم, قدرت بعشر سنوات, فرقت بين طبقتين من البعثيين, لغرض ايجاد تمايز بين البعثي المؤهل للمشاركة في الحكم والبعثي المستبعد من المشاركة. وعلى الرغم من أن هذه الصيغة رسمت بعناية من قبل بعض أطراف المعارضة المشاركة في السلطة لغرض تبرير وجودهم قانونيا, إلا أن هذه الصيغة ظلت شكلية, أي زمنية, ولم تمس طبيعة البعثي كعضو في كيان حزبي محدد ايديولوجيا وسياسيا. وبظهور الدستور الجديد ظهرت صيغة " البعث الصدامي", كعنصر جديد للتمايز, يطابق عملية الفرز السياسي في إطار الكتل المتصارعة المكونة للسلطة الحاكمة أو الساعية الى الدخول فيها. والتعريف الجديد يحمل قدرا من التصنيف النوعي, فهو يخص البعثي, ولكن الملتزم بمنهج صدام حسين فحسب.
ولغرض تتبع المسار الدستوري لصياغة الأفكار المتعلقة بتحديد صفة البعث, يتوجب التوقف عند إسهامات الشخص الذي ينسب الى نفسه مهمة صياغة الفقرات المتعلقة بالاجتثاث في مسودة الدستور العراقي, وأعني به د. منذر الفضل.
ود. منذر الفضل رجل قانون وأكاديمي. دُفع به الى الواجهة السياسية على أنه مشرّع دستوري. ولم يلبث أن ظهر كممثل ونائب في المجلس الوطني العراقي عن الكتلة الكردية. وينسب د. منذر الى نفسه مهمة صياغة الفقرة المتعلقة باجتثاث فكر البعث في الدستور العراقي الجديد. لكنه يعترض على صيغتها النهائية القائلة باجتثاث فكر " البعث الصدامي". فهو يرى أن هذه الصيغة قيّدت فكرته الأساسية, التي "حظيت بإجماع كبير في المجلس الوطني العراقي ", والقاضية بـ " تطهير العراق من فكر البعث" عامة, لأنها الصيغة الأصح. إذ "لا يوجد بعث صدامي أي منسوب الى صدام وبعث غير صدامي اي غير منسوب الى صدام" وفق تقدير الفضل. بيد أن هذا التطرف في صيغة تطهير البعث سرعان ما يفقد تماسكه, حينما نعثر, في حجج الفضل السياسية, على عدد كبير من الاستثناءات البعثية, تُخرِج شرائح بعثية واسعة من عملية التطهير, وتجعل من رفض عبارة" البعث الصدامي" موضع شك أكيد. كما أن حصر المعالجة بـ "فكر" البعث, من دون توضيح ما المقصود بـ "الفكر" وما حدوده القانونية عند التطبيق العملي, يضيف غموضا جديدا الى الموضوع. حجج الفضل ومناقشاته, التي صيغت بأسلوب بيّن الركاكة ومنطق أميل الى السطحية, تقلل الى حد كبير من قيمته "كخبير" دستوري ومشرّع, وتسلب منه صفة المحاور الثقافي, وتعمق الشك في نوايا من دفع به الى الواجهة, وتضع علامات استفهام جدية على مستوى ومحتوى التشريع في العهد الجديد. إن إمعان النظر في تلك الأفكار تكشف لنا أنها كانت مكبر صوت سياسي أكثر منها تشريعا وجدلا ثقافيا. وفي حقيقة الأمر كان الفضل ناطقا رسميا يعبر عن فكر الفئات القومية الشوفينية الكردية كمقابل ومعادل للنزعة الشوفينية العربية. وقد انعكس هذا التناقض والالتباس على بعض فقرات الدستور, التي أقرت تجريم الفكر الشوفيني العربي, "الصدامي" خاصة, متجاهلة أن هذا الفكر موجود بالقوة ذاتها, وبما يفوقها خطورة على وحدة الوطن, لدى شرائح سياسية عديدة من المجتمع الكردي, ولدى قوميات أخرى كالتركمان وغيرهم. وبناء على ذلك, فقد يرى البعض أن صيغة التشدد ضد البعث يراد بها التستر على النهج الشوفيني لقوميات معينة. وهذا مطعن أساسي في توجهات الدستور الوطنية, ومصدر خلل وخطر كبير فيه, يعكس هشاشة المشّرع والتشريع الدستوري, والنقص الجدي في مصادر وطنية الجهات التي صادقت عليه. إن تلك الأفكار التشريعية والدستورية تعبرعن الوجه النظري للثقافة البديلة, ثقافة مرحلة القلق السياسي والفكري المرافقة للاحتلال والمهيئة لمشاريع تقسيم الوطن.
إن قومية وعرقية هذه المفاهيم, التي ظلت مستترة طوال الفترات السابقة, أخذت بالبروز السافر خطوة خطوة مع تعقد عمليات بناء سلطة الدولة القائمة على المحاصصة والعنف. ففي تصريحات رئيس إقليم كردستان حول الخيارات الثلاثة, وما تلاها من آراء انفصالية واضحة, يتضح أن العبارات العرقية المغلفة التي تتعلق بالوحدة الوطنية, لم تكن سوى تعبيرات عرقية مموهة. ففي يوم 10 أب 2006 صرح مسعود البارزاني الى إذاعة صوت أمريكا الناطقة باللغة الكوردية قائلا: "إن أمام العراق ثلاثة خيارات فقط هي: التقسيم، او الفيدرالية او الكونفيدرالية، مؤكدا ان حكومة مركزية قوية لن تقوم في العراق بعد الآن", وقد تلقف الآيديولوجيون القوميون هذا التصريح وراحوا ينسجون أفكارهم الانفضالية العلنية على هديه. وقد اهتبل د. منذر الفضل ذلك التصريح ليعجل بنشر أفكاره, قائلا, لمن فاته الاطلاع على آرائه الانفصالية: " نعيد نشر مقالنا الذي سبق ان كتبناه قبل 7 شهور حول موقفنا من مستقبل العراق حيث طرحنا صراحه فكرة تقسيم العراق طبقا للدستور العراقي وقواعد القانون الدولي وحقوق الشعوب في تقرير المصير كحل لتجنب المزيد من إراقة الدماء بين العراقيين وايقاف الحرب الاهلية القائمة حاليا التي تؤكدها المصادر الرسمية لصناع القرار في واشنطن لاسيما بعد فشل مبادرة المصالحة الوطنية وتزايد اعمال العنف السياسي والمذهبي .والاراء الواردة في هذا المقال هي جزء من رؤيتنا للاحداث الجارية في العراق والتي اشرنا اليها بكل وضوح في محاضرتنا عن مستقبل العراق في معهد المشاريع الامريكية بواشنطن وفي وزارة الخارجية الامريكية واما جهات عده في الولايات المتحدة الامريكية ومنها وسائل الاعلام في أكتوبر 2005 ". (صوت العراق 12-8- 2006 ). وهنا, لا توجد اعتراضات على معتقدات كاتب تلك السطور, لكن الاعتراضات تتعلق بأهليته كمشرع دستوري. فمثل هذه الأفكار تخرج صاحبها تماما من حدود الحيادية الدستورية, فكيف يمكن لمثل هذه الآيديولوجيا العرقية الانفصالية أن تصوغ دستورا وطنيا؟ أما السياسي الكردي وعضو مجلس النواب العراقي عن قائمة التحالف الكردستاني محمود عثمان فيوضح هذا الاشكال القومي بطريقته الخاصة قائلا: " الكورد ليسوا طرفا في النزاع الدائر في العراق حاليا ولا توجد اية مشكلة للطرف الكردي مع اية جهة في العراق داعيا الاطراف العربية "سنة وشيعة" الى حل مشاكلهم العالقة"(صوت العراق23-6-2006). وعند تقييم مفاهيم محمود عثمان, الذي يقف في أعلى الهرم السياسي الكردي, وفق مقاييس وطنية, يجد المرء نفسه يقف أمام سياسي لا يدرك حتى هذه اللحظة أن المصالحة ليست قضية قومية, بل هي قضية وطنية. فالبعث لم يكن حزبا حاكما على القومية العربية, بل كان حزبا سيطر على الحياة السياسية في عموم الوطن العراقي, وبالتالي فإن تصفية آثاره مسؤولية وطنية, وليست مشكلة هذه القومية أو تلك. هذه الشواهد الصريحة مجرد شذرات, تؤكد أمرا واحدا: غياب المشروع الوطني العراقي غيابا مطلقا عن ذهن القادة والمشرعين. ولو عدنا مجددا الى مقالة د. الفضل السابقة, نعثر على ما هو أهم وأبلغ. فالفضل يبني أراءه الانفصالية على حجة وجدها مكينة وغير قابلة للدحض," تؤكدها المصادر الرسمية لصناع القرار في واشنطن لاسيما بعد فشل مبادرة المصالحة الوطنية". فقرار الانفصال يتم الوصول اليه بناء على تقديرات أجنبية, أما مبرراته فتستند الى "فشل مشروع المصالحة الوطنية". وربما تكون تلك الاشارة زلة لسان, ناشئة عن الحماسة الزائدة, والثقة التامة بالنفس. لكنها من جانب آخر, تدل دلالة قاطعة على أن المصالحة الوطنية ليست في صالح الفئات الانفصالية, والأمر الثاني الأكثر خطورة هو أن "المصالحة الوطنية", لم تكن سوى فكرة أولية حينما توصل الفضل الى خلاصاته الانفصالية. وهنا نجد أن الاستعجال في الوصول الى النتائج ناشي من وجود سقف زمني حُدد ضمنا للمناورة السياسية واللعب بموضوع المصالحة. فمبادرة المالكي المتأخرة جدا, والأكثر قربا من الواقع لم تظهر إلا في جولاي 2006, فكيف يمكن الوصول الى نتائج وطنية وقومية على هذا القدر من الخطورة, من طريق الحكم الاستباقي على فعل سياسي في طوره الجنيني! الجواب عن هذا السؤال يجده القارئ في أحدث تصريحات البارزاني, التي تربط ربطا محكما بين المصالحة والانفصال والدستور, والتي تميط اللثام عن دور التحالفات التحاصصية المؤقتة في صياغة مضمون الدستور الجديد:
" أكدت رئاسة اقليم كردستان انها تؤيد وتدعم مشروع المصالحة الوطنية في البلاد لكنها ترفض ان يتم ذلك علي حساب الكرد. وقال مسعود البارزاني رئيس اقليم الأقليم في بيان أمس ان قيادة الأقليم تؤيد مبادرة المصالحة التي اطلقها رئيس الوزراء نوري المالكي بغية تجاوز الأزمة السياسية والأمنية في العراق حالياً. لكنه اكد ان هذا التأييد لن يكون علي حساب شعب كردستان واجراء تعديلات علي الدستور الدائم وقال ان بعضاً ممن يتحدثون عن المصالحة يعرضون شروطاً مثل اجراء تعديلات علي الدستور. وشدد البارزاني علي القول ان (علي الذين يريدون بقاء العراق موحداً الكف عن الحكم الشمولي والتسلط وطالبهم بالالتزام ببنود الدستور" (صوت العراق - 30-08-2006 , نقلا عن صحيفة الزمان)
لم تظهر إسهامات نظرية جدية كثيرة تتعلق بالموقف من البعث. وحتى الممارسات الايجابية الشحيحة, التي قامت بها بعض الجماعات السياسية لمناقشة الدستور لم تتوقف مليا عند قضية البعث, على الرغم من أن البعث هو جوهر المشكلة السياسية في العراق. ومن الأمثلة البارزة على ذلك الاسهام النظري الذي قامت به "جمعية الثقافة للجميع", الذي انصب حول مناقشة مسودة الدستور العراقي الدائم. وهو إسهام نظري حيوي يستحق الثناء. ولكن رغم ذلك لم يحظ موضوع البعث باهتمام خاص معمق من قبل المناقشين. فلم نعثر إلا على إشارات عن حزب البعث المنحل, إضافة الى ملاحظات عابرة جاءت في ثنايا المداخلة المعنونة بـ " مشروع الدستور العراقي" للدكتور خضر عباس عطوان, الذي ذكر قضية الاجتثاث باعتبارها إحدى القضايا الخلافية المؤجلة. وعلل سبب التأجيل تعليلا صائبا : " وطبيعة هذه المواد - المؤجلة- توحي أن هناك رغبات بتمريرها من خلال قوانين تعكس الخلل الموجود في الجمعية - الوطنية- ودون اشراك الشعب في إعطاء رأي بخصوصها" (ص 14 وثيقة قراءة نقدية لمسودة الدستور). وهذا الأمر يعكس شحوب موضوع البعث في عقل القائمين على شؤون الثقافة والسياسة. ربما لأنهم, جميعا, اكتفوا بسقوط النظام وحل الحزب, من دون أن يضعوا في حساباتهم أن سقوط البعث هو فاتحة الهزة الاجتماعية وليس خاتمتها.
وإذا تركنا منذر الفضل والسياسيين الكرد ومناقشي الدستور وإسهامهم النظري والدستوري, نعثر في سلوك الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق على النسخة التطبيقية للمشروع الثقافي البديل. فالاتحاد , كما هو مفترض, أوسع إطار تنظمي للأدباء والكتاب العراقيين, وهم شريحة هامة, وإن كانت سلبية ومهملة. وهو أول اتحاد ثقافي عراقي بديل نشأ عقب سقوط النظام الديكتاتوري, لذلك يمكن لنا أن نتحاور معه باعتباره شخصية اعتبارية عامة, وأن نجد في مواقفه النظرية والتطبيقية, ما يجيز لنا, ويمكننا من استكمال رسم صورة الواقع الثقافي الجديد وإشكالاته العقلية. يقول رئيس الاتحاد الشاعر الفريد سمعان, في جواب له, نُشر في صحيفة الصباح في 22 فبراير 2006 , حدد فيه موقفه وموقف قيادة الاتحاد من الأدباء البعثيين: " أنا استغرب واتحدى واسألوا الأدباء البعثيين والمؤيدين للنظام السابق والمتورطين وسواهم هل حاسبنا أحدا على انتمائه السياسي.. هل ذكرنا أحدا بما فعل؟ أم كنا ديمقراطيين أكثر من الديمقراطية وأغمضنا العيون عن قصائدهم ومدائحهم ومواقفهم وتغاضينا عنها بشكل أو بآخر ونحن مع الطيبة والتراجع عن الخطأ وسبحان من لا يخطئ". نظرية "ديموقراطيين أكثر من الديمقراطية", و"إغماض الأعين" قابلها في الواقع العملي تحاصص ثقافي غريب ومريب. فقد منع الاتحاد تأبين أحد قادة الاتحاد السابقين الشاعر يوسف الصائغ. ولم يكن الصائغ برتبة عضو شعبة أو بدرجة وزير, وبالتالي فهو غير مشمول بقرارات الاجتثاث, وطبقا لذلك يحق له الترشيح الى المجلس الوطني. بيد أن قيادة الاتحاد حرّمت عليه تأبينا يليق بميت, ورفضت التعامل مع محاوريها إلا على طريقة " قميص عثمان", وأصرت على تقمص دور عمرو بن العاص. هذه الحادثة الصغيرة, ذات الدلالات الكبيرة, وغيرها دفعت البعض الى التشكيك في مقدرة المثقفين السلطويين,على تخطي سلبيات الواقع السياسي. فكما أن طريقة حل حزب البعث المريبة أثارت شكوكا حول حقيقة الحل, فإن تطرف قيادة الاتحاد في معاداة ميت أثارت شكوكا مماثلة. لماذا جرى الهجوم على الصائغ, بهذا الحدّة, بعد موته, وليس قبله؟ إنه السبب عينه الذي أوردناه سابقا عن تحاصص الجسد البعثي. فقد كان بعضهم يأمل, حتى اللحظات الأخيرة, أن "يثوب الى رشده بعد غي", ويعود الى الحظيرة, لكي يتوج شاعرا للجماهير المغبونة, أسوة بغيره من كتاب الحماسيات الصدامية, الذين تحولوا بطرفة عين الى شعراء ديموقراطيين من شعراء العراق الجديد. أما الخرافة التي أشيعت عن الصائغ, القائلة بأنه لم يكتب مراجعة ولو باهتة, فهي فريّة, لا تقل سوءا عن تحاصص جسده حزبيا. فقد نشرت الزمان عددا من المقالات باسم الصائغ لا تخلو من نقد خجول, كان من الممكن للجدل الخلاق أن يدفع بها الى ما هو أعمق, ويقودها الى مسارات أبعد. بيد أن ذلك لم يحدث. فهناك دائما من يتولى مهمات إغلاق الطرق. هنالك قطاع طرق سياسية وثقافية, وحتى جنائزية. فلم يكن ما عرضه الصائغ كافيا لعودة الإبن الضال. إنه تقاسم علني للجسد البعثي. لقد خاض الاتحاد معارك أخرى مماثلة, أظهر فيها ضيق نفس, وضعف مقدرة على إدارة صراع ثقافي معقد, يفرض على قادته الخروج من تقاطبات التحاصص السياسي, وامتلاك لغة عميقة, جديدة في مضمونها وفي سبل تعاملها مع المتغيرات الثقافية الحادة, في وطن يتناهشه الأعداء من الداخل والخارج, وتسوده لغة الدم والوشاية والثأر والمحاصصات النفعية. إن مواجهة الفكر البعثي بالفكر الشمولي, والفكر القومي العربي بالفكر الشوفيني الكردي, ومركزية الدولة بمركزية الفوضى, والعنف المحلي بمشاريع العنف الأجنبي, وقطع الآذان والألسن بقرارات الاجتثاث لن تحل مشكلات الواقع الثقافي, على العكس من ذلك, ستزيد من تعقيدها, وستضيف اليها مزيدا من سوء الفهم وسوء الإرادة والإنغلاق والتحجر, وستقود في النهاية الى تأبيد ظاهرة مصادرة الوعي الإنساني لصالح الصراعات الحزبية والفئوية.
تلك نماذج تطبيقة مستقاة من الواقع تشير جميعها الى أمر واحد: غياب المشروع الوطني العراقي.
فهل تقوى مثل هذه التناقضات الفاضحة المنسوبة الى قمة الهرم الثقافي والتشريعي للعهد الجديد على إقامة بديل ثقافي وطني على أنقاض فكر البعث؟ وهل حقا أن مثل هذا الاضطراب العقلي, النظري والتطبيقي, قادر على صياغة سياسة ثقافية وطنية؟
إن الثقافة الوطنية في خطر, وأعظم مصادر الخطر تكمن في مصادرة الوعي الوطني من قبل ثقافة الاحتلال, إضافة الى عجز البنى الثقافية القائمة عن إنتاج ثقافة وطنية بديلة, تبنى على أنقاض ثقافة العنف والديكتاتورية. أما الصيغ السياسية الدعائية, "التكتيكية", التي رافقت مشروع الاحتلال, كصيغة " إجتثاث البعث", أو "تطهير العراق من فكر البعث", فهي مجرد أوراق للمناورة, ذات أهداف سياسية بحتة, يراد بها خداع العامة من الناس, أوراق تخلو من أي أساس نظري وتطبيقي يمكن له أن يكون قاعدة عقلانية وإنسانية منسجمة لمراجعة ثقافية وطنية ديمقراطية حقيقية.
لنتأمل هذين الخبرين الثقافيين الطريفين: يقول الخبر الأول: "تأهيل البعثيين:اسهامة جديدة في بناء العراق الجديد"
"عقدت في قصر المؤتمرات ببغداد الندوة التأهيلية الاولى للبعثيين الذين تم اعادتهم والذين بلغ عددهم واحد وخمسين شخص والتابعين لوزارة التربية / تربية الكرخ الاولى ، وقد تضمنت هذه الدورة عددا من المحاور التي تطرق اليها مدير عام الهيئة الوطنية العليا لاجتثاث البعث السيد مثال الآلوسي مؤكدا ان الكل كان رهينة بيد البعث المجرم وان جرائم البعث اكبر من ان تحصى". فإذا كان السياسي الكردي محمود عثمان يحصر المصالحة الوطنية بالعرب, فإن مثال الآلوسي يعيد تأهيل واحدا وخمسين بعثيا. واحد وخمسون بعثيا, أي خمسة وعشرون بعثيا من كل مليون بعثي وفق تقديرات بريمر والمخابرات الأميركية, وخمسة عشر بعثيا من كل مليون بعثي وفق تقديرات عزت الدوري! أما الخبر الثاني, فيقول: " الهيئة الوطنية العليا لاجتثاث البعث تنظف الجامعات العراقية من الاطاريح الممجدة للنظام المقبور. شرعت الهيئة الوطنية العليا لاجثتاث البعث بسحب الاطاريح والبحوث والكتب والمؤلفات التي تمجد نظام البعث المقبور والطاغية صدام من الجامعات العراقية، وبالتعاون مع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ودار الكتب والوثائق، لغرض خزنها في مكتبة خاصة وحجبها عن التداول من قبل الطلبة في الجامعات العراقية. لأبتعاد هذه المطبوعات عن الروح العلمية، وكونها كتبت لتمجيد رأس النظام المقبور وأيديولوجية البعث المنهار.
يأتي هذا العمل كجزء من سياسية الهيئة الوطنية العليا لاجتثاث البعث في تنظيف الجامعات العراقية ومكتباتها من اثار البعث، ومخلفاته التي اضرت بالجانب العلمي والثقافي لمختلف المراحل الدراسية في العراق".
هذان الخبران الطريفان يؤكدان أن عملية إجتثاث البعث عملية سياسية تضليلية, ذات أهداف خفية, تمت خارج سياقها الاجتماعي, وخارج إطارها الزمني, فهي خطوة مشابهة لفتح الحدود العراقية وفتح أبواب المعسكرات ومخازن الأسلحة. لذلك يقول بول بريمر: " علينا التحرك بسرعة للقضاء على الانطباع القائل ان التحالف اطاح بصدام فقط لكي يسلم السلطة الى المراتب الثانية من البعثيين", وهذا القول يذكرنا بقول كنعان مكية : "«السلطة ستقدَّم على طبق من ذهب للصف الثاني من حزب البعث". فلم تكن مواجهة الإرث البعثي مشروعا وطنيا عراقيا, ولم تكن عملية سياسية اجتماعية منظمة, بل كانت وليدة قرارات ارتجالية, فوقية, تمت بمعزل عن عملية التغيير الاجتماعي الديموقراطي الشامل, هدفها الأساسي إعادة تحاصص حزب البعث سياسيا, وتحاصص الأرث الثقافي البعثي, بما في ذلك ثقافة العنف.

خطران أساسيان
خطران عظيمان يتهددان أي مسعى لإطلاق مشروع ثقافي وطني. خطران متباينان, لكنهما قد يجتمعان في كلمة واحدة, اسمها السياسي. إن الخطر الأكبر, الذي يتهدد مشروعا وطنيا للثقافة, هو تحويل المشروع الثقافي الى صيغة سياسية. أي الوقوع مجددا في حضن السياسي أو الحلول محله, وتحويل النشاط الفكري والعقلي الى مؤسسة سياسية. فالمشروع الثقافي الوطني الذي أعنيه يقف في تعارض مطلق مع هيمنة السياسة والسياسي على الوعي وعلى مؤسسات العمل الفكري والثقافي. إن الخطر الأول الذي تواجهه دعوة كهذه ينبع من أن بعض السياسيين سيهللون لمشروع مثل هذا, ويظنون خطأ, أنه خلق لصالحهم, وقام من أجل توسيع دائرة نفوذهم. لذلك سيعجلون بإرسال رجالهم لغرض احتواء الفكرة, أو استنساخها من خلال تأسيس ملاحق ثقافية حزبية, تقوم بعمل منافس, على غرار منظمات الشباب والنساء الملحقة بالأحزاب أو الاتحادات الثقافية الأميّة, الفئوية والطائفية والعرقية. أما الخطر الثاني فينبع من المثقفين أنفسهم, حينما يظن المثقف أن هذه الدعوة تعني إنشاء كيان سياسي بديل عن الأحزاب أو مواز لها, وبهذا الصدد أشير الى الدعوة التي أطلقها الروائي طه الشبيب في مداخلته حول مسودة الدستور العراقي: " يجب أن نخطو الخطوة الأولى ونؤسس حزبا للمثقفين, سيتبعنا الجميع" (كراس قراءة نقدية لمسودة الدستور - ص 61 ) وهي دعوة لا تحمل قدرا عاليا من الرغبة الجدية في التحزب, بقدر ما تحمل مشاعر الإحباط وخيبة الأمل, الناشئة بفعل هزال السياسيين. بيد أن بعض مثقفي الاتجاه الذي روج للحرب قاد حملات منظمة من أجل خلق إطارات ثقافية وسياسية واستخبارية تروج لمشاريع الانقلابات السياسية, كما روجوا قبل ثلاث سنوات فقط لمشروع الديموقراطية من طريق الاحتلال. هذان هما الخطران الحقيقيان اللذان يواجهان أي محاولة لتكوين مشروع ثقافي وطني. فالمشروع الذي نحتاجه ليس إطارا تنظيما, وإنما هو نشاط ذاتي, طوعي, حر, يهدف الى أخذ المقود العقلي من السياسي في مرحلة الأزمة, والمشاركة الفكرية في إيجاد حلول نظرية وعملية لمعضلات الواقع الثقافية والروحية المستعصية, بما في ذلك أزمة نظام الحكم وأزمة البنى الاجتماعية, من خلال إعادة النظر في المسلمات الأساسية الموروثة من حقب سابقة, وتمحيص ما هو معروض الآن من أفكار ومشاريع ثقافية, وايجاد قواعد عقلية وتنظيمية وأخلاقية لتثوير الفعالية الثقافية: العلمية والفنية والأدبية, وتحسين طرائق تأثيرها في المجمتع وفي النسيج الثقافي نفسه, ووضع خطط بعيدة المدى لدراسة أوجه الواقع الثقافي المختلفة. إن الأسباب التي تستدعي هذا تنبع من أمر أساسي واحد, هو أن المجتمع العراقي يواجه خطرين تاريخيين كبيرين, الأول يتمثل في التركة الموروثة من المؤسسة الديكتاتورية ومن العهود الماضية كلها, التي قامت على أساس مركزية الفكر ومركزية المؤسسات واحتكارها. أما الخطر الثاني, فهو خطر السياسة الثقافية للمحتلين ومشايعيهم. وهي سياسة تقوم على تهديم البني الاجتماعية والثقافية القائمة, بواسطة سياسة الفوضى المخططة والمنظمة, القائمة على تفكيك المركزية والاحتكار, مصحوبة بإطلاق عناصر التناقض الداخلي للمكونات السياسية والاجتماعية والفكرية المتعارضة في المجتمع, وقيادة المجتمع من خلال التحكم بعناصره المتناقضة مركزيا, من أعلى. وهو ما يضطلع به السفراء أو الحكام الأميركيون ومستشاروهم: غارنر, بريمر, نغروبونتي, زلماي, وغدا آخر, ربما سفير أميركا السابق في بيروت. وهذا الأمر يفسر لنا الدعوة الغريبة التي أطلقها الأميركان, والرامية الى ايجاد صيغ علوية لإدارة المجتمع, بعد معارك عصيبة من أجل قيام انتخابات وطنية وتشريع دستور جديد: مجلس أعلى للإنقاذ, جبهة وطنية عريضة, أهل الحل والعقد, مجلس وطنى أعلى, كتلة استحقاق وطني, حكومة توافق وطني موسعة, مجلس الأمن القومي, العضو "السامي" للبرلمان. وكلها تشير الى أمر واحد: اختراع آلية فوقية تجمع تناقضات الواقع, وتضعها مجتمعة بيد فرد واحد, يقف فوق المجتمع العراقي, فوق حكومته, فوق أحزابه, فوق طوائفه ومكوناته الاجتماعية, فوق برلمانه وانتخاباته ودستوره. وإذا ما رفض المجتمع ذلك, فسيصار الى تهديد المجتمع باستمرار الارهاب, وقيام الحرب الأهلية, وتعطيل عمل المؤسسات الراهنة, القائمة على وحدة المتناقضات. وهذا يعني إحلال مركزية الفوضى محل مركزية الديكتاتور. إن الخطرين السالفين يشكلان تهديدا تاريخيا لحاضر ومستقبل الوطن, وبدرجة أساسية لوحدة نسيجه الاجتماعي والروحي وثقافته. فإذا كانت الديكتاتورية قد قادت الوطن من خلال المركزية والاحتكار السياسي نحو حروب داخلية, ومواجهات إقليمية, وحلول اجتماعية قسرية تمت بقرارات مركزية, فإن مشروع الفوضى المخططة يعمل على توجيه المجتمع في الاتجاه المعاكس تماما, ولكن بالمضامين والنتائج نفسها. فعلى أنقاض الحرب النظامية المركزية,حرب الجيوش, ابتدعوا حرب مكافحة الإرهاب,( ولهذا السببب عجل الأميركان بفتح الحدود, وحل الجيش, وتجاهل إعلان حالة طورائ ترافق الحرب ودخول المدن, واستباحة ترسانات الأسلحة, ونهب الثروات والملكية العامة. وتلك هي الشروط المادية الأساسية في معادلة الفوضى "الخلاقة". أما شروطها السياسية فهي المحاصصات العرقية والطائفية والقبلية), وربما سيضطرون الى خلق حروب أخرى, لا مركزية الطابع, كالحرب الأهلية, التي قد تقوم إذا استعصت إدارة المجتمع من خلال حرب الإرهاب وصراع الطوائف. وعلى أنقاض مركزية المؤسسات أسسوا مراكز قوى طائفية وعرقية وعشائرية وغيرها, كبديل لمركزة السلطة الدكتاتورية. وعلى أنقاض نظرية الحزب الواحد واحتكار الفكر والثقافة ظهرت سياسة فوضى القيم, وما يرافقها من فوضى المفاهيم والنشر والتعبير والفوضى الروحية والأخلاقية, باسم الحرية والفردية والديموقراطية. وعلى أنقاض الحزبي البعثي ولد الموطن "الديموقراطي", على النمط الأميركي, سواء أكان علمانيا أم معمما. وفي هذه النقطة الضيقة, يرى كثيرون أن البعثي أو البعث, في كل الحقب, كان عنصر فائدة عظيمة للمشروع الأميركي, أكثر منه عنصر ضرر, سواء لعب هذا البعثي دور العدو أم الحليف. ومن هنا فإن تفكيك المجتمع, في مخططات الأميركان, ليس جزءا من سياسة مواجهة الإرث الديكتاتوري البعثي, أي ليس مصلحة وطنية عراقية خاصة, أو التقاء مصالح, كما يقول البعض, بل هو سياسة منهجية تلائم خصائص المشروع الأميركي العالمي, القاضي بإعادة هيكلة البناء الدولي على ضوء شروط اللحظة الراهنة. وفي ظروف المجتمع العراقي قد يعني هذا تقسيم الوطن, وقد يعني أيضا السير في حروب متواصلة داخليا وخارجيا, وهو يعني بشكل مؤكد تسليم إدارة الوطن الفعلية وثرواته الى قوى أجنبية. من دون شك إن المشروع السياسي الأجنبي يتطلب أن يواجه بمشروع سياسي شامل, وليس بمشروع ثقافي فحسب. مشروع سياسي وطني, يرفض بحزم العودة الى مركزية الديكتاتورية ونهجها, وفي عين الوقت يرفض بحزم مماثل السير في مشروع تطويع الإرادة الوطنية لمصلحة لص محتل. إن المشروع الثقافي الذي أعنيه لن يقوم بمهمة البديل السياسي, بل يتوجب على السياسيين أنفسهم شق طريق وطني, بأنفسهم, لخلق بديلهم. أما المثقفون فعليهم إعادة تنظيم الحياة الروحية من خلال دراسة الواقع: الديكتاتورية والاحتلال وما بعدهما, وايجاد صيغ للجدل وتبادل الأفكار المختلفة, وليس لوحدة الأفكار والآراء, حول قضايا الحريات الأساسية: حرية التعبير, وحرية إنشاء قنوات تنظيم العمل الثقافي والمهني, وحرية الممارسة الثقافية والإبداعية. وربما يتساءل متسائل: وماذا نفعل لو أن سياسيا ما سرق أفكارنا؟ والجواب هنا: مرحبا بهذا السياسي. هنا ستنشأ لحظة التوافق الممكنة بين المشروع السياسي الطليعي والفكر الحر. وعلى الرغم من أني أشك في ظهور مثل هذا السياسي , قريبا على الأقل, لكنني أجد في ظهوره معجزة وطنية تستحق أن نعمل من أجل تعجيل خلقها. ففي كل المفاصل التاريخية للشعوب كان المثقف هو مشعل حرائق التنوير, وكان السياسي هو سارق النار أو مطفئها. ولذلك نقول: مرحبا بمثل هذا السارق التاريخي, لو أن القدر أضحى رحيما حقا وأهدانا سياسيا, أو سياسيين, مثله, في هيئة فرد أو حركة اجتماعية وسياسية, تتطابق مصالحها وإرادتها مرحليا مع مشاريع وأحلام المثقفين الطليعيين.
خلاصة: المصالحة عملية مركبة, لها عدد من الأوجه و الأطراف المتشابكة. لا تتم بدون التسامح, ولا يتم التسامح بدون وجود طرف متسامح يضحي بآلامه وأوجاعه الماضية من أجل المستقبل ويتقبل بتجرد تام نتائج ذلك, بما في ذلك الأوجاع الذاتية المترتبة على قبول الآخر. وفي المقابل هنالك أطراف ملزمة بأن تعترف بأخطائها وعيوبها وتتقبل نتائج هذا العمل, بما في ذلك تقبل المنغصات النفسية والأخلاقية المصاحبة لذلك. فكل الفرقاء, من دون استثناء, معنيون بالقدر نفسه بالمكاشفة والمصارحة, وليس بالنسيان وتبادل الأكاذيب, كخطوة تمهيدية, ضرورية من أجل تحقيق المصالحة مع الذات, التي هي خطوة أولى لازمة في طريق تحقيق المصالحة الاجتماعية. وكل ذلك لن يتم إلا بإطلاق مبادرة وطنية قائمة على الثقة المكفولة قانونيا, لجميع الأطراف, بهدف تهيئة الأساس الحقوقي والاجتماعي والأخلاقي والنفسي, الذي يجعل من الحوار الوطني ممكنا وواقعيا ومثمرا.
هل لا يزال في الوقت متسع لإقامة مشروع ثقافي وطني؟

5
جدل التغيير وتناقضاته!
لا توجد أوقات صالحة وأخرى طالحة عند البحث عن مشروع وطني. بيد أن الأزمان الطالحة تعقد وتؤخر وتشوه ولادة البدائل الثقافية والسياسية والاجتماعية. فقد كان العراق يمتك فرصة ذهبية لتحقيق جولة من الصراع الديموقراطي, تقود الى ولادة حركة اجتماعية ثقافية للتغيير السلمي للمجتمع, بواسطة التعبئة الاجتماعية للطاقات الشعبية في مواجهة الطغمة الديكتاتورية. وكان من الممكن لتلك الحقبة أن تكون مدرسة عملية لتدريب الناس على ممارسة انتزاع الديموقراطية والمشاركة الفعلية في تحقيقها وتعلم ممارستها. بيد أن مشروع الحرب عطل تلك الامكانية وفتح مشروع العنف كبديل وحيد. وتلك هي البذرة الأساسية التي أسست لنهوض الصراع, المفرغ من محتواه الوطني, الذي مارسته القوى الطائفية والعرقية والحزبية, ذات المصالح الأنانية الضيقة وقصر النظر السياسي. لقد قوبل خيار الحرب بخيار البديل الديموقراطي, الذي كان من الممكن له أن يكون مدرسة لتعلم الديموقراطية في بلد لم يعرف الديموقراطية قط. وكان من الممكن أن يكون أداة للتغيير الإجتماعي السياسي الداخلي الشامل, الذي يحافظ على البنى الاجتماعية والاقتصادية والبشرية الايجابية, التي هي ملك الشعب العراقي, لكي تكون أساسا أوليا لعملية التغيير الشامل. لقد اختار تيار الحرب الوقوف الى جانب القوى المحتلة خشية من عملية نهوض الجماهير المنظم. فهذه القوى لم تكن لتختلف من حيث الجوهر عن طغمة صدام في أنانيتها وصلفها, رغم شعاراتها البراقة, الفارغة. لقد أثبتت أنها مجرد قوى ذليلة, عصبوية, ضيقة الآفاق, مجردة من الحس الوطني والفهم التاريخي. كان العراق أمام امتحان صعب, عرض العالم فيه خيارين على الشعب العراقي, الأول خيار الحرب, الذي هو خيار المخابرات الأميركية والبنتاغون وبضعة قوى سياسية أوروبية مشهورة في عدائها لخيارات السلام كاستراليا وبريطانيا. أما الخيار الثاني فهو الخيار السلمي, الذي وقفت معه كل القوى الديموقراطية الأوروبية وشعوبها, والذي كان من الممكن له أن يكون نقطة الالتقاء مع المشروع العراقي الوطني للتغيير الاجتماعي بالاستناد الى الأمم المتحدة ودعم الديموقراطيات الأوروبية ونهوض الحركة الشعبية العراقية. لقد عارض أصدقاء واشنطن الأمم المتحدة معارضة صريحة, ولم يخفوا عداءهم لها, ولم يزل هذا الميل قائما بقوة, لأنها في اعتقادهم قد تقود الى تقوية نزعات ديموقراطية محتملة, يتم تأطيرها خارج كتلهم السياسية. لذلك يقول كنعان مكية: «أخشى من تعاظم نفوذ الأمم المتحدة، فهي قد تؤثر على ما يجري في المنطقة ». ( الشرق الاوسط- الاثنيـن 19 صفـر 1424 هـ 21 ابريل 2003 العدد 8910 ). وقد فسر بعض المراقبين جريمة اغتيال سيرجيو دوميللو, ممثل الأمم المتحد في العراق, على أنها جزء من تلك الخشية. ويروي عن دوميللو أنه "فيما كان يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت أنقاض مبنى مكتب الأمم المتحدة في بغداد, قال للسيرجنت الأميركي الذي كان يحاول انقاذه: "لا تتركوهم ينقلون مكتب الأمم المتحدة خارج العراق". وكان ذلك آخر دور للأمم المتحدة في العراق.( الحياة 2004/08/ 17 )
شدة الأزمة العراقية جعلت كثيرين يتساءلون: ألم يكن من مصلحة الولايات المتحدة الأميركية أن ترى عراقا مستقرا, يمتلك أسباب الرخاء والتقدم, لكي يكون مثالا للتغيير على الطريقة الأميركية؟ أين ذهب تفاؤل الأميركيين الذي عبر عنه بول بريمر في كلمته التي بثها الى الشعب العراقي في الساعة 5:30 في 10 تشرين الأول 2003 , والتي قال فيها : "لقد مرت الآن ستة أشهر على تحرير بغداد. سيُظهر التاريخ أن الإطاحة بنظام صدام البعثي هو يوم عظيم بالنسبة لكم, شعب العراق. الآن وبعد ستة أشهر, أنا متاكد بانكم تعرفون أن الأوضاع افضل بكثير وهي في تحسن مستمر طول الوقت• وصل إنتاج الطاقة الكهربائية لمستويات ما قبل الحرب. يساهم المزيد والمزيد من العراقيين في المهام الأمنية الضرورية لحماية حياتكم وأملاككم. يقوم مجلس الحكم والوزراء الذين عينهم بتمثيلكم حول العالم- في الجمعية العامة للأمم المتحدة والجامعة العربية ومؤتمر القمة الأسلامي. أعلن وزير خارجيتكم يوم الخميس بأن العراق سيفتتح سفارات في 30 قطر مختلف. أنا اتحدث مع العراقيين يومياً وانا على علم بمدى تفائلهم. انا مثلكم أعتقد إن مستقبلكم مليء بالأمل. التغيير القادم هو إشارة أخرى على ظهور عراق جديد, عراق مليء بالأمل. إبتداءاً من 15 تشرين الاول ستكون لديكم عملة جديدة. ستُستبدل الأوراق النقدية القديمة التي تملكوها بأخرى جديدة بدون أي كلفة...". أين ذهبت تلك الوعود؟ على هذا السؤال علقت صحيفة الفايننشال تايمز البريطانية قائلة " انه منذ الظهور الدعائي للرئيس بوش علي متن البارجة لينكولن عندما أعلن عن نهاية العمليات العسكرية على خلفية ملصق كبير المهمة انجزت وذلك في الاول من ايار (مايو) 2003 لم يشهد العراق يوما لم يكن أسوأ من الذي سبقه "
ولكن, هل تردي واقع الحال خطة مرتبة؟ وإذا كان الأمر كذلك, ما فائدتها للأميركيين وحلفائهم؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك, فما أسباب هذا السوء, الذي لا شبيه له إلا في في أساطير العالم السفلي؟ الجواب على ذلك: كل الاحتمالات قائمة. فكلها, مجتمعة, صنعت هذا الواقع المعقد. بعضها مخطط ومرتب لأهداف تعود بالنفع على المحتلين وعلى حلفائهم الإقليميين والمحليين. وبعضها يعود بالنفع للطرف الأقوى وحده. ومنها ما يعود بالنفع لهذا الطرف وبالسوء لذلك الطرف. لكن الطرف الوحيد الخاسر في معادلات النفع المتبادل هو الشعب العراقي, لأنه لم يكن طرفا في المعادلة السياسية, سواء كمشروع سياسي معبر عنه بواسطة جماعات حزبية, أو كإرادة وطنية صامتة لشعب أعزل.
ولكن االسؤال الأكثر أهمية, هو: ألم يكن بمقدور أحد تعديل مسار الأحداث, لكي تكون أقل سوءا؟
الجواب على ذلك: الجميع يحاول ذلك, لكن تناقضات الواقع أكبر من أن تحل. ومن أجل إيجاد حل لمشكلة ما, يتوجب التوقف أولا أمام تناقضاتها الأساسية وايجاد مخارج لها. فما هي تناقضات الواقع العراقي المستعصية والأقل استعصاء؟
التناقضات وصناعة الأزمة!
قبل أن نقوم بجرد سريع لسلسة تناقضات الواقع, يتوجب أن نشير هنا بوضوح الى أن التناقضات ليست من صنع إرادة البشر. أي أنها ليست إرادة خارجية تفرض على الواقع, وإنما هي عنصر داخلي يحتمه لزوم وجودها في لحظة معينة. وهذا الأمر لا يعني أن الإرادة لا تستطيع تطوير وتسريع ولادة تناقضات معينة في الوضع السياسي والاجتماعي. على العكس تستطيع الإرادات استثمار التناقضات من طريق تصعيد طاقاتها وتغيير جدول أولوياتها, بتعجيل أو تأخير, وبتهميش أو تضخيم حدوثها. فالواقع العراقي مثلا يعطي إمكانية قيام تناقض عرقي نظرا لوجود أعراق متعددة, ويتيح قيام تناقض مذهبي, للسبب ذاته, ويتيح أيضا إمكانية ظهور تناقض أقليمي وغيرها من التناقضات. ولكن التناقضات تفعل فعلها الذاتي المستقل أحيانا, وفي أحيان كثيرة تتمرد على إرادة صانعيها, وفي أحوال عدة تكون هي ذاتها مصدرا لولادة تناقضات جديدة. فلنتأمل كيف ولدت تناقضات الواقع العراقي.
1- التناقض الأول ولد مع ولادة فكرة غزو العراق واحتلاله, ويتمثل في التناقض بين الأهداف المعلنة للحرب (الدعائية والذرائعية) والأهداف الحقيقية. فعقب غزو الكويت نشأت فرصة تاريخية نادرة بغطاء شرعي دوليا, وبقبول وطني, وأكاد لا أخطيء لو قلت بقبول بعثي صامت أيضا, وبقبول من أوساط عسكرية عراقية شعرت بمرارة الأزمة وتوقعت حدوث الهزيمة. كل تلك العوامل جعلت من مشروع إسقاط السطة أمرا مشروعا وممكنا. لكن الشرط الخارجي لم يكن متوافرا. فالأميركيون كانوا لا يريدون الإتيان بقوى سياسية واجتماعية لم يتضح ولاؤها الكامل لهم بعد. لذلك تم تضييع تلك الفرصة الثمينة. لقد استغرق إعداد القوى الحليفية أميركيا (المؤتمنة) أكثر من عقد, حتى عام 2003, وحينما قدمت أجهزة المخابرات تقاريرها الى القيادة الأميركية بأن تشكيلة الحلفاء جاهزة, وأنها لا تحمل موشرات تحول باتجاه غير مرغوب: ظهور كتلة اسلامية قوية, سواء كانت شيعية منفردة أو في صورة تحالف شيعي سني, أعطيت الإشارة للبدء بعملية "تحرير العراق". ولكن, غاب حينذاك المبررالعسكري لوجود قوات أجنيبة على أرض العراق, بعكس ما كانت عليه الحال ابان حرب الكويت. فلم يعد مقبولا المبادرة الى شن حرب على دولة أجنبية يتم اختراق أجوائها ليل نهار, ولا تجرؤ على الرد. لذلك تم اختراع هدف وهمي اسمه "البحث عن أسلحة الدمار الشامل". وبهذا الصدد يقول كولن باول في تبريره لغزو العراق: "إن الاكتشافات الأولية لديفيد كاي وفريق المسح الخاص بالعراق يوضح أمرين بجلاء: أن عراق صدام حسين كان في حالة خرق مادي لالتزاماته تجاه الأمم المتحدة قبل أن يتخذ مجلس الأمن قراره 1441 في تشرين الثاني / نوفمبر، وأن العراق ارتكب مزيدا من الخروقات بعد أن تمت الموافقة على القرار. وقد وفرت اكتشافات كاي الأولية أدلة مفصلة على جهود صدام حسين لتحدي المجتمع الدولي إلى آخر مدى. ويصف التقرير مجموعة من النشاطات المتصلة بأسلحة الدمار الشامل التي "كان ينبغي أن يتم الإعلان عنها للأمم المتحدة." وهو يعيد التأكيد بأن برامج العراق المتعلقة بالأسلحة المحظورة تمتد إلى أكثر من عقدين، وتتناول آلاف الأشخاص وبلايين الدولارات.
وما عرفه العالم في تشرين الثاني / نوفمبر الماضي عن أسلحة الدمار الشامل العراقية كان كافيا لتبرير التهديد بتبعات خطيرة وفق القرار 1441. وما نعرفه الآن نتيجة جهود ديفيد كاي يثبت أن صدام حسين كان له كل قصد بأن يواصل عمله على أسلحة محظورة رغم وجود مفتشي الأمم المتحدة، وأننا كنا، نحن وشركاؤنا في التحالف مصيبين بإزالة الخطر الذي كان نظامه يشكله على العالم" . بعد أيام من الغزو اعترف الأميركان بأكذوبة ما يعرف بتقرير كاي. وكشف تقرير السويدي هانس بلكس زيف هذا التقرير بتقرير مقابل. وما يهمنا هنا هو التالي: في هذا التبرير الكاذب, لا يعثر المرء على كلمة واحد تخص الشعب العراقي, أو تشير الى أهداف عراقية, ولو على سبيل الدعاية, كتحقيق الديموقراطية أو القضاء على الديكتاتورية وغيرها من الشعارات, التي التفت حولها قوى المعارضة العراقية. فأهداف الغزو واضحة ومحددة تماما, بما لا يقبل اللبس أو التأويل: تقرير كاي.
وهذا أول تناقض بين الأهداف المعلنة والغايات الحقيقية. وهذا التناقض خلق طائفة واسعة من التناقضات الفرعية, لا مجال لذكرها, منها على سبيل المثال أن هذا الهدف تطلب وجود شركاء سياسيين محليين يناصرون الفكرة المعلنة, ولا نقول الهدف الخفي. فنشأت جماعات سياسية ذات خطاب تبريري, أضطرت الى التخلي عن الشعار الحقيقي: النضال ضد الديكتاتورية, لتتمكن من التلاؤم مع ما طرحه باول في الأمم المتحدة من تبرير وهمي للغزو. مما دفعها, مرغمة, الى التخلي عن جزء من برنامجها لصالح الهدف الدعائي. وسرى الأمر ذاته على جهاز الإعلام المصاحب لهذه الجماعات. وحينما سقطت ورقة الأسلحة الشاملة أضطر الفريق المتحالف مع الاحتلال الى البحث عن تبرير جديد, يزيف به مشروع تحالفه, فظهرت نظرية: التقاء المصالح. ولكنهم لم يحددوا لشعبهم أي مصالح؟ وكيف وأين سيتم اللقاء؟ وما حدوده؟ هذا التناقض بين الأهداف الأميركية المعلنة والخطط الحقيقية, بين المحتل وحلفائه, بين مشروع حلفاء الاحتلال المحليين الوطني للتغير ومشروع التلاؤم مع خطط الاحتلال, قاد الى ضياع الأفق الوطني, الذي ينظم ويحكم العملية السياسية, وقاد الى تجريد القوى السياسية, كلها, من المقدرة على التأثير في مجريات الصراع السياسي, وأحالها الى مجرد لاعب احتياط يجلس على مقاعد الانتظار, ويغادر الملعب حينما تنتهي الحاجة منه. وهنا يجد المرء تفسيرا لبعض مشكلات تيار أحمد الجلبي, الذي اضطر بحكم هذا التناقض الى البحث عن حلول في صورة دعم سياسي من خارج القبضة الأميركية ( مخططو المشروع العسكري), وعلى وجه التحديد خارج سلطة القادة العسكريين الأميركيين. لقد أخطأ الجلبي في توقيت الصدام, في مرحلة كان للعسكريين اليد الطولى, وليس للسياسيين, كما فهم الجلبي سهوا, فاضطر الى الوقوع في تناقضات سياسية وايديولوجية تحالفية أعمق, قادت في النهاية الى إخراجه تماما, خطوة خطوة, من العملية السياسية, بعد أن كان نجمها الأول. فالصدام الأول, أو التناقض الأول, ولد في قلب المشروع الأميركي, وليس خارجه.
2- إن القوى التي تتهم اليوم بفقدان الأفق والمنهج الوطني لم تكن فارغة اليدين حينما بدأت عملية الإعداد لاسقاط نظام صدام حسين. على العكس من ذلك, فقد قدمت أغلبها مشاريعها الخاصة والمشتركة, والتي كان جزءا كبيرا منها صالحا كإطار عام لعمل جماعي وطني مشترك. فأغلب الأحزاب كانت تملك أوراق عمل خاصة بها. وحتى مجاميع الضباط العراقيين المنشقين قدموا تصوراتهم عن الجيش القادم وعلاقته بالسلطة والمجتمع, وظهرت إسهامات نظرية لصياغة بعض أوجه الحياة الدستورية والمدنية, ونشطت جماعات ما يعرف بالمجتمع المدني وحقوق الإنسان, التي تبخرت بأسرع مما ظهرت فيه. بيد أن الجميع أضطر الى التخلي عن هذا. لأن الأهداف الوهمية تتطلب ذرائع زائفة, ولا تتطلب خططا واقعية قابلة للتنفيذ. وهذا ما اسميناه بغياب المشروع الوطني. والذي يمكن أن نسميه بدقة أكبر, في تلك المرحلة, بالتخلي عن المشروع الوطني لمصلحة التطابق مع أهداف الإحتلال الأجنبي. ما الأسباب التي دفعت الأميركان الى ذلك؟ السبب الأساسي, وهو ما عبر عنه من خرجوا من لعبة الحكم: السعي الى لمّ عناصر الواقع الممزقة في وحدة مفككة, وحصرها في قبضة واحدة هي قبضة الحاكم الأميركي. أي أن الأميركان كانوا راغبين في تجميع أكبر قدر من المزق السياسية, ليس كمجموع وطني متجانس, وإنما كقطع مبعثرة, يجمعها سقف خارجي, هو سلطة الاحتلال. وهنا ربما تبدو فكرة غياب المشروع الوطني, التي هي محور بحثنا, أكثر وضوحا. ولكن, لكاذا أراد الأميركيون حدوث ذلك؟
كان تجميع القوى السياسية العراقية تحت شعار "تحرير العراق" مؤشرا للقيادة الأميركية على أن اصطفافا سياسيا عراقيا غدا ناضجا لتسلم السلطة في حال إزاحة صدام عنها. والأهم من هذا كله أن هذا الاصطفاف لا يجتمع حول أهداف وطنية, وإنما تجمعه مصالح أقل من مرتبة الهم الوطني المشترك, وهذا أمر يطابق شعار الحرب الزائف: البحث عن أسلحة الدمار الشامل, الذي لا يشكل للعراقيين إطارا حقيقيا للوحدة, لأنه مختلق بالأساس بإدراك الجميع. فالنيات الزائفة تشترط قواعد زائفة, والتحالف على قاعدة الزيف يخلق حلفاء مزيفين. وهنا يكمن عنصر عدم الثقة المتبادل بين الفرقاء المتحالفين. وهذا هو التناقض الثاني الجوهري. إن التناقض بين الهدف الذرائعي والهدف الحقيقي, الذي نجح في تجميع الكتل العراقية المؤيدة للاحتلال حول مشروع الحرب, وتحت سقفها, رغم زيف ذرائعها, سرعان ما أصبح عائقا جديا عقب سقوط النظام المفاجيء, وغير المتوقع من قبل الأميركان أنفسهم, وافتضاح كذبة أسلحة الدمار الشامل. لقد أدى هذا التبدل المفاجئ في ترتيب الأحداث الى تغيير سريع في الخطاب السياسي, جعله يعود الى موضعه الطبيعي: الشعار الوطني, الذي جرى تغييبه مع بدء الحرب. فظهرت مجددا كلمات الديمقرطية وبناء السلطة المنتخبة ديموقراطيا. وفي هذا الحقل ولد التناقض الثالث. فقد قادت الانتخابات الى عودة الخطر, الذي ناضل الأميركيون طويلا من أجل تلافيه: ظهور تأثير القوى الدينية. وانتجت الانتخابات حالة فريدة, لم تكن ضمن خطط الأميركان وضمن سياسة تفكيك الكتل. ففي الانتخابات أضحى الدين والقومية عاملان حاسمان. والأخطر من هذا ظهر الشيعة, الجانب غير المؤتمن من قبل الأميركان, بسبب قضية ايران, كطرف أساسي. فشعار الديموقراطية أنجب عند التطبيق ما يناقضه على أرض الواقع, من وجهة نظر الأميركان. وهنا بدأت معضلة حل هذا الاشكال, التي تدرجت من ازدواج الولاء, الى المساومات, الى إنشاء جيوش خاصة, وفي الأخير الى الصراع المكشوف: تشكيل حكومة عريضة, مجلس وطني, مجلس أمن قومي, لويا جركا, ووصلت الأمر الى حد التلويح السافر بانقلاب عسكري. وبهذا انقلب الشعار الديموقراطي المبشر بالحرية الى شعار القبضة العليا والمشروع الانقلابي. أي تمت استعادة لغة العسكريين والانقلابيين الدمويين والبعث, ولكن من قبل الطرف الذي يدعي الديموقراطية. من هذا نخلص الى أن التناقض قد يخلق نقائضه الخاصة ويولد تناقضات جديدة لم تكن محسوبة, أو مدرجة أصلا ضمن قائمة الصراع. والتناقضات السالفة, كلها, تناقضات طرف واحد: القوى المؤيدة لمشروع الحرب والاحتلال.
3- إن إضعاف القوى السياسية, وتمزيقها الى كتل صغيرة على أسس عرقية ومذهية, والذي هو هدف سياسي أساسي للسياسة الأميركية قاد الى نشوء تناقض داخلي مستعص: سلطة هشة, حلفاء يسودهم عدم الثقة. لقد قاد هذا التناقض الى تقوية عنصر العنف في المجتمع. فقد قويت شوكة العناصر المعارضة للسلطة, واضطرت قوى سياسية واجتماعية الى التأقلم مع منطق الصراع المسلح, فأمعنت في إضعاف قوة السلطة, وعززت مكانة الفوضى والعنف. ومن هنا نشأت سلسلة من الحلقات المتصلة, متناقضة في الظاهر, لكنها تنتظم, جميعها, حول رابط واحد هو غياب الإرادة الوطنية الجامعة, وتسيير الحدث من خارجه, من قبل قوى عليا, مركزية, ممثلة في سلطة الاحتلال. وهذا يطابق مطابقة تامة الهدف السياسي الأميركي, ولكن تحقيقه مشروط بتقديم تضحيات جسيمة من قبل الشعب العراقي.
4- لقد قاد ضعف السلطة, وتمزق الأحزاب الى نشوء تناقض جديد لم يضعه حلفاء الأميركان في حسبانهم. فقد اضطر الجيش الأميركي الى استعارة تقاليد جيوش السلطات الاستيطانية, حينما وجد أن الواقع لا يستجيب لإرادته كما يجب. فحل الجيش العراقي, والخشية من إشراك العناصر العسكرية التي تحالفت مع الأميركان قبل السقوط, قاد الى أن يعود الجيش الأميركي الى استخدام الأساليب التي تدرب عليها كاحتمال. فلجأ الى أسلوب التطويق الجماعي للمدن والأحياء والجماعات السكانية, واتخاذ مواجهات ذات طابع عقابي جماعي, باسم الدفاع. وهي استعارة مثلى لتقاليد الجيش الاسرائيلي في مواجهة الفلسطينيين. وقد أخطأ الأميركان في الأمر هنا أيضا, لا بسبب عدم فعالية هذا الأسلوب فحسب, بل بسبب أنه أسلوب قد يتلاءم مع العقيدة الاستيطانية, لكنه لا يمكن أن يكون نهجا لدولة أجنبية, تدعي أن وجودها مؤقت وطارئ وضروري. وفي هذه الناحية نعثر على نقطة التفوق التي حصل عليها المقاومون, الذين اختلفت الآراء في تحديد طبيعتهم, واضطر الجميع الى قبول توصيف أخلاقي يقسمهم الى شريحتين: شريفة وغير شريفة؟ ولا أحد يعرف من الذي قام بترجمة هذه الكلمة الى اللغة العربية! إن حرق الأرض: السجون الجماهيرية, ودك المدن, والتعامل مع المواطنين ككتل, إجراء ستيطاني لا يتلاءم مع أهداف الأميركان المعلنة, وسلوك عدائي علني فظ يضع حلفاءهم في موضع حرج وطنيا, وفي أحيان كثيرة يضعهم تحت طائلة العقاب أيضا. لقد قاد اتكاء الحكام الجدد التام, في حماية ظهورهم, على على آلة الحرب الأجنبية, وأنانيتهم المتطرفة, ومواقفهم السلبية تجاه أبناء شعبهم, الى تخلي الأميركان نهائيا عن أي محاولة لبذل جهد يهدف الى إعادة تطبيع الحياة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. ومن الناحية الأمنية, لجأوا الى العنف كحل وحيد للخروج من مأزق الواقع, نتيجة لغياب المشروع الوطني العراقي, ولعزلة واغتراب الحكام الجدد, الذين ما أن تنتهي فترة تعيينهم حتى نجدهم عائدين من حيث أتوا, كما لو أنهم متعاقدون غرباء. وينطبق هذا أيضا على أنصارهم من إعلاميين ودعاة سياسيين, الذين يمارسون تأييدهم والدفاع عن نظامهم الجديد من خارج الحدود, بواسطة الحاسوب. كل تلك الأسباب جعلت القوات الأجنبية تلجأ الى النموذج الاسرائيلي, القائم على الاعتقالات الواسعة والتدمير والقتل اليومي, جاعلة من الشعب بأسره مشبوهين, معرضين للقتل والبطش في أية لحظة, من دون حسيب أو رقيب, وجعلت من السلطة مجرد مرشد بائس يقوم بدور الواشي أو الدرع الواقية. لقد أسهم غياب المشروع الوطني العراقي في إرباك خطط المحتلين أنفسهم, فجعلهم يظهرون كقوة عسكرية خالصة, ليس لها من هدف سوى القتل والمطاردة واختلاق أساطير مقاومة الإرهاب والإرهابيين. وهذا هو التناقض الرابع والأساسي, الذي يبين كيف أن التناقضات تولد بعضها البعض, وفي أحوال كثيرة تصنع تناقضا جديدا, لم يكن قائما من قبل.
5- إن تغيير أسلوب عمل الجيش الأميركي قاد الى نشوء تناقضات فنية وعقائدية, لم تكن في الحسبان أيضا, كظهورالجيوش الداخلية الخاصة وفرق الاغتيالات, التي تطورت وأضحت أقوى من السلطة المركزية, المعدومة المركزية أصلا. فبناء الجيش الأميركي الجديد يقوم على ضم أعداد كبيرة من المجندين المتعاقدين, من أصول أجنيبة, أو حديثة العهد بالمواطنة الأميركية. وهذا يقلل من شدة الضغط السياسي والاجتماعي على القيادة في حال حدوث أخطاء عسكرية جسيمة, كما يقلل من مسؤوليتها الأخلاقية في حال حدوث تقصير في الواجب يتناقض مع مبادئ الأميركان الدعائية. بيد أن التغيير الأعظم تعلق بتشكيلات القوات المسلحة وببنية وتركيبة هذه القوات, التي خضعت عند بنائها للمعيار السابق نفسه. فقد قام الجيش الأميركي العامل في البلدان الأجنبية بالتخلص من أحماله الزائدة: النقل والتموين والهندسة والخدمات, وحتى فرق الاستطلاع الميداني والتجسس والسجون, إضافة الى جزء أساسي من جهاز الدعاية والإعلام, وتم توكيلها الى شركات خاصة, يتم اختيارها من قبل لجان عسكرية وأمنية. والهدف من وراء ذلك التقليل من خطر تعرض هذه القوات الى هجمات على الطرق الخارجية, والتقليل من احتمالات المعارك خارج الثكنات, والاشتباكات المباشرة. أي توحيد مهمات الجندي الأميركي وربطها بزند البندقية وحده. فهو جندي معد لغاية واحدة: إطلاق النيران وقتل العدو. وبذلك أضحى كل من يمر أمام موقع الحراسة الأميركية أو قواتها المتحركة عدوا محتملا, حتى لو كان رئيس مجلس الحكم المؤقت. وهذا تحول جذري في العقيدة القتالية الأميركية لصالح تنشيط غريزة القتل وكره الآخر, التي تتناقض تماما مع مبادئ الديموقراكية ومع الهدف الكاذب : لقاء المصالح. وهذا تناقض آيديولوجي وأخلاقي. ولم يتوقف الأمر على هذا فالتحول في بنية القوات العسكرية فنيا قاد, في ظروف العراق, الى نشوء مافيات عسكرية وحلقات سرية وعلنية من التشكيلات المسلحة والأمنية, أخذت على عاتقها مهام تنفيذ عمليات مشتركة ومنفردة وخاصة أحيانا. وقد قاد هذا الأمر لاحقا, في ظل تعدد مراكز القوى, وضعف مواقع السلطة اجتماعيا وعزلتها, الى نشوء مليشيات خفية تدار من قبل قوى سياسية محلية وأجنبية, تقوم بمهام خلق ظروف تفاوضية وأزمات أمنية, كوسيلة من وسائل عقد الصفقات الكبيرة, كتغيير الوزارات وتعيين الوزراء, أو تغيير القوانين وعقد الاتفاقيات والصفقات وغيرها. وقد أفتضح مؤخرا دور اللوائين العراقيين, اللذين يعملان تحت إمرة القوات الأميركية, باسم الجيش العراقي, من دون علم السلطات العراقية بمنتسبي هذه الوحدات وبهوياتها وبتحركاتها ومهامها. أما القوى الكردية الحاكمة فتملك عددا من الوحدات العسكرية, العاملة باسم الجيش العراقي أيضا, وأهمها الوحدات العسكرية المرابطة الآن في كركوك, باسم الفرقة الرابعة.
ويدخل ضمن هذا التغيير إدخال العناصر الإرهابية من الخارج, من الدول التي كانت ممرا للقوات الأجنيبة, عند الغزو. والجميع يعرف أن مقرات القاعدة وجماعة الزرقاوي كانت قائمة, بشكل علني, في ما يعرف بالمناطق المحررة من كردستان. لقد جرى غض الطرف عن تسرب هذه العناصر الى الأراضي العراقية, لتحقيق أهداف عديدة, أهمها: أولا, التخلص من فائض الإرهاب في تلك الدول وحصرها في جبهة الحرب المتقدمة, العراق, كما صرح الرئيس بوش. ثانيا, الضغط على الكتل السياسية العراقية وتخويفها بواسطة مجاميع ظن صانعوها أنها ستكون معزولة اجتماعيا وسياسيا ومحدودة الأثر. أي قد تربك الوضع السياسي وتقلقه, لكنها لا تغير مجرى الصراع السياسي جذريا أو تحسمه. ثالثا, خلق وحدة وهمية في الأهداف مع الجماعات غير المؤتمنة, الشيعة, تحت شعار مكافحة الإرهاب. إضافة الى تهديد هذه الجماعات بالإرهابيين, الذين ينتمون الى طائفة مغايرة. ومن أبرز أسباب تسريب العناصر التكفيرية هو تنشيط حاسة التمايز الطائفي عند الطوائف والمذاهب جميعها: الشيعي تجاه السني, والمسلم تجاه غير المسلم, والتركماني والعربي تجاه الكردي. لقد استخدم الأميركان هذه الورقة " الأجنبية", أو الاسلام الأجنبي ( الزرقاوي, المصري) بنجاح تام حتى هذه اللحظة, وحققوا قدرا عاليا من المكاسب السياسية بواسطتها, لكنهم لم يتمكنوا من السيطرة على تفاعلاتها داخل المجتمع العراقي المعقد, مما جعلها تكون عظيمة الضرر على المواطن العراقي. وفي ظل ضعف الدولة, وتعدد مراكز القوى العسكرية والسياسية أدى تزايد نفوذ هذه الجماعات, في أحوال كثيرة, الى خروجها على الإرادة التي أوجدتها, أو الغاية الأساسية التي خططت لها, والتي وجدت من أجلها. وبذلك أضاف الأميركان تناقضات جديدة الى تناقضات الواقع القائمة.
لقد أقام أنصار الاتجاه الأميركي مشروع "التحرير" بواسطة الحرب والغزو, وشيدوا سلطة لهم بواسطة مشروع العنف, ولعبوا دور المساعد والشريك في عملية تدمير البنى الاجتماعية والاقتصادية و الثقافية, والعبث بها, وما رسوا سياسة تضليلة فيما يخص إعادة تأهيل المجتمع والتخلص من آثار الديكتاتورية, متجاهلين أن إعادة تطبيع الحياة حلقة أساسية, ضرورية, ولازمة من حلقات بناء الديموقراطية والمجتمع الجديد. أما التعامل مع الأرث البعثي فهو الحلقة الأولى من حلقات إعادة تأهيل المجتمع وإعداده لتقبل حياته الجديدة.
لقد كان " الاجتثاث" عملية فوقية, وخطأ في التسلسل الإجرائي تاريخيا. لذلك غدا مصدرا أساسيا من مصادر ولادة تناقضات جديدة غير قابلة للاحتواء. لأن الاجتثاث, وفق الصيغة التي نفذ بها, كان جزءا من ظاهرة مجلوية ضمن خطة خارجية, ذات أهداف خفية, لا صلة لها بتسلسل عملية التغيير الاجتماعي, وبمراحل تطور عملية التغيير: الإعداد, ووسائل التغيير , والمشاركة الاجتماعية في التغيير, ثم إزالة آثار النظام السابق وإعادة تأهيل المجتمع. كان الاجتثاث صيغة ملحقة بالمشروع السياسي وليست جزءا عضويا من عملية التغيير الاجتماعي التاريخية. فهي سياق مقطوع, فوقي, يعكس تفكك فكر ومصالح القوى الحاكمة, والطابع المصطنع للتغيير. أما الأميركان, فكانوا أول من شكك في جدوى الاجتثاث, لأسباب عملية, وليس لأسباب آيديولوجية. لأنهم لم يكونوا في تناقض تناحري مع حزب البعث أو النظام السياسي الذي أقامه.
من هذا العرض المسهب نصل الى خلاصة موجزة: إن مشروع العنف البعثي ومشروع العنف الأجنبي وجهان لعملة واحدة, فهما يشتركان في جوانب جوهرية, رغم تعارضهما الظاهر. وأهم ما يشتركان فيه هو قسوتهما المفرطة على أبناء الشعب العراقي واستهانتهما بآدميتهم. لذلك,¸ربما يكون قد آن الأوان لأنصار مشروع التغيير بواسطة الاحتلال أن يلقوا أسحلتهم, ويقللوا من حجم إثرتهم, وأن يبدأوا بمراجعة ولو متأخرة, علها تعيدهم الى شعبهم المهان, كفئات مسالمة, وليس كمهندسين للحروب والعنف ومشعلي حرائق. وقد آن الأوان أيضا لمن سايروا حقبة صناعة الديكتاتورية, ممن لم يرتكبوا جرائم إنسانية أو مهنية, أن يقدموا لشعبهم وجها صادقا, جريئا, ناقدا لآثام الحقبة الديكتاتورية وجرائمها, لكي يتمكن الشعب من قبولهم بثقة كأعضاء في جماعته الكبيرة, ولكي يتمكن من إعادة تطبيع الحياة على أسس وطنية, وبناء المستقبل.

## ## ##
في إحدى جلسات المجلس الوطني العراقي قال مدير عام الهيئة الوطنية العليا لاجتثاث البعث السيد مثال الآلوسي:" هناك 40 عضوا من البعثيين داخل قبة البرلمان". وعلى الرغم من الشكوك الكبيرة المتعلقة برقم " أربعين" بعثي, فإن ما نسي الآلوسي قوله هو أنه شخصيا كان عضوا في حزب البعث! وما هو أكثر إثارة للسخرية, أن أحد أبرز ممثلي حكومة الجعفري, والناطق الرسمي باسم رئيس الوزراء, ليث كبة, أعلن أنه تعرض الى التعذيب على يد الآلوسي "مجتث البعث"!, حينما كان الأخير بعثيا. ترى من يصدق من؟ والأهم: من يسّوق من؟ وعلى حساب من؟ هنا تكمن المعضلة, وهنا نجد تفسيرا واضحا لحقيقة ما يعرف بالاجتثاث.



#سلام_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البرابرة يستيقظون مساء ..رسالة شخصية الى مواطن اسرائيلي
- رسالة الى صديق لبناني
- الواقعيون العرب:من نظرية المؤامرة الى نظرية المغامرة
- العودة الى آل ازيرج
- سنلتقي خلف منعطف النهر :::الى أخي كمال سبتي
- من الثورة الغادرة الى الثورة المغدورة
- من أجل مشروع ثقافي عراقي بديل.. جدل ثقافي ساخن على قبر يوسف ...
- لماذا يخشى السياسيّون العراقيون جدولة رحيل قوات الاحتلال؟
- جماليات فن التعذيب
- بريد الأنبياء الى أجمل الشهيدات:أطوار بهجت
- ما بعد جائزة نوبل للأدب, أزمة الذات الثقافية العربية
- الرابحون والخاسرون في معركة حرية التعبير - حول نشر صور الرسو ...
- عولمة الشر وتفكيك الديكتاتورية
- غرائز مسلّحة - ملاحظات على مقالة: أي نزار قباني يسلسلون ورسا ...
- أول حرب جنسية في التاريخ
- ارحلوا ايها الكلاب
- من كتب روايات صدام حسين؟ صدام يلقي خطابا على نفسه والذاكرة ت ...
- قراءة في روايات صدام حسين..دكتاتور كبير وقارئ كبير
- حكومة ننسحب, ما ننسحبشي!
- الله ساخرا!


المزيد.....




- رايتس ووتش وهارفارد تدقان ناقوس الخطر بشأن أثر المتفجرات على ...
- بن غفير يدعو لـ -إعدام الفلسطينيين- لتخفيف اكتظاظ السجون
- الضرب والتعذيب سياسة يومية.. هيئة الأسرى: استمرار الإجراءات ...
- وزارة الدفاع الوطني بالجزائر: إرهابي يسلم نفسه للجيش واعتقال ...
- أميركا تؤكد عدم تغير موقفها بشأن عضوية فلسطين بالأمم المتحدة ...
- برنامج الأغذية العالمي: لم نتمكن من نقل سوى 9 قوافل مساعدات ...
- قيس سعيد: من أولوياتنا مكافحة شبكات الإجرام وتوجيه المهاجرين ...
- -قتلوا النازحين وحاصروا المدارس- - شهود عيان يروون لبي بي سي ...
- نادي الأسير الفلسطيني: ارتفاع حصيلة الاعتقالات بعد 7 أكتوبر ...
- برنامج الأغذية العالمي يدعو لوقف إطلاق النار في غزة: السرعة ...


المزيد.....

- التنمر: من المهم التوقف عن التنمر مبكرًا حتى لا يعاني كل من ... / هيثم الفقى
- محاضرات في الترجمة القانونية / محمد عبد الكريم يوسف
- قراءة في آليات إعادة الإدماج الاجتماعي للمحبوسين وفق الأنظمة ... / سعيد زيوش
- قراءة في كتاب -الروبوتات: نظرة صارمة في ضوء العلوم القانونية ... / محمد أوبالاك
- الغول الاقتصادي المسمى -GAFA- أو الشركات العاملة على دعامات ... / محمد أوبالاك
- أثر الإتجاهات الفكرية في الحقوق السياسية و أصول نظام الحكم ف ... / نجم الدين فارس
- قرار محكمة الانفال - وثيقة قانونيه و تاريخيه و سياسيه / القاضي محمد عريبي والمحامي بهزاد علي ادم
- المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي / اكرم زاده الكوردي
- المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي / أكرم زاده الكوردي
- حكام الكفالة الجزائية دراسة مقارنة بين قانون الأصول المحاكما ... / اكرم زاده الكوردي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث قانونية - سلام عبود - اجتثاث البعث, دراسة تحليلية تاريخية حول قضية اجتثاث البعث وصلتها بالمشروع الوطني العراقي