كتاب( المنشق) هو الكتاب الوحيد في العالم الذي أحمله أينما ارتحلت، وهو الكتاب الوحيد الذي لا يمكن للقارئ أن يخرج منه دون أن يصاب بلوثة ما، كما يعترف مترجمه السيد محمد علي اليوسفي، وهو بالنسبة لي الكتاب الوحيد الذي تمنيت أن أكون كاتبه.
فكيف يمكن كتابة حياة شخص آخر مرة أخرى دون أن نقع في التكرار أو في الرداءة؟ خاصة إذا كانت هذه الحياة هي حياة الروائي اليوناني نيكوس كازنتزاكي، هذا الكريتي المصنوع من الهواء الصافي والتراب والبحر وأعشاب الفجر ونقاوة الندى؟
هذا الكتاب هو كتاب سيرة مشتركة كتبته زوجة نيكوس الكاتبة ايليني كازنتزاكي الزوجة الثانية للروائي الكبير، وايليني هي الأخرى مؤلفة عدة كتب منها: حياة المهاتمنا غاندي، ومأساة بينيت أستراتي الحقيقية، كما أنها تكتب الشعر على استحياء أمام نيكوس مؤلف الأوديسة الشهيرة مشروعه الكبير قبل أن يأتي غراب الموت.
ونيكوس هو أحد أكبر كتاب الرواية في القرن العشرين، وربما في عصور قادمة، وصاحب الرائعة الروائية التي دخلت في الذاكرة البشرية( زوربا) والإخوة الأعداء، وكتاب الزهد، وبستان الصخور، والطريق إلى كريكو( سيرة ذاتية) والأوديسة، والإغواء الأخير للمسيح( التي جلبت له الويلات مع الكنيسة والرهبان والمؤسسة المسيحية والسلطة والناس حتى قرار حرمانه من القداس بعد الموت)، ورواية: المسيح يصلب من جديد، التي عمقت الهوة بينه وبين المجتمع الكنسي والبابوي والناس، وروايات ومؤلفات أخرى في الأدب والفلسفة والشعر.
ولا أعرف حقا كيف استطاعت ايليني العودة إلى قصاصات نيكوس هذا الإشراقي المفتون بالحياة والحس والعذوبة والضوء وكل ما هو حي ومدهش ، ورسائله وصوره، وهي تجهش بالبكاء أمام كل ورقة وذكرى ورائحة؟
فقراءة نيكوس هي صداقة واكتشاف ومتعة وجمال لكل عناصر الطبيعة النظيفة، فكيف إذا امتزجت هذه الصداقة مع العيش المشترك؟
قال عنه:
مارسيل بريون/ الأكاديمية الفرنسية:
( كان يعيش على المستوى نفسه مع عناصر العالم، بل داخل كل شيء، وكان له إزاء كل ما يحيا ذلك الورع الذي كان يشكل أحد الملامح الجوهرية التي كثيرا ما يتم تناسيها. وقد كتب عنه شارل بيغي صفحات رائعة أقرب إلى وثنية القدامى. وكان توماس مان يوازي كازنتزاكي بشعراء الإغريق القدامى، أي أسلافه الكبار، وقال أن روح هوميروس تبعث في كتب نيكوس المفعمة بحيوية خارقة، والمسكونة بحس حلولي يطهر الطبيعة كلها، بما فيها أبسط نبتة على ربوة).
وقال عنه روبير كانتز:
( مثلما تعيش البذرة، بخطى متسارعة، مراحل تشكلها، تبدو روح كازنتزاكي القادم من وسط متواضع، وكأنها أمام واجب العيش، خلال أعوام معدودة، مجمل المغامرة الروحية للبشرية جمعاء. ربما يتوجب القول أن كازنتزاكي، مع المسيح، أراد الخلاص في مواجهة العالم، ومع بوذا أراد الخلاص خارج العالم، وأراد مع لينين الخلاص من خلال العالم، وأخيرا مع عوليس أراد أن يخلص هو والعالم في وقت واحد وذلك بابتكار وثنية بقامة الإنسان).
وقال عنه ميشال ديون في مجلة باريس:
( بقي البحث عن الأسباب التي جعلت هذا الرجل القادم من الشرق الأدنى يحتقر الغرب في شبابه سرا، وكان ينتظر منه الكثير، ثم يتوجه نحو آسيا ليعود منها، في خريف حياته، كي يكمل أعماله ويموت بالقرب من هؤلاء الفرنسيين الذين حقد عليهم في السابق، قبل أن يعود إلى التعلق بهم، لأنهم تفردوا بزرع تلك الزهرة شبه الماورائية التي تدعى الحرية).
لكن محنة أيليني وهي تكتب سيرتها المشتركة مع آخر غسق يوناني قبل أن ينطفئ ذات نهار بين يديها، تكاد أن تكون محنة لا تحسد عليها، فالكتابة مع نيكوس هي نوع من الطقس الخارق، فكيف والكتابة عنه وهو بعيد هناك، خلف الشجرة التي أحبها بجنون، وتحت غيمة تمر دون أن تتوقف خجلا لحظة واحدة وتسلم على النائم؟
تقول أليني بما يشبه البكاء:
( وأنا منكبة على دفاترك ورسائلك، يا حبيبي، أحاول أن أبلور للذين يحبونك من خلال كتاباتك، صورك المتعددة والدقيقة والموغلة في الهروب، أيضا، فمن أية زاوية أتحدث عنك، من دون أن أخونك؟.
كيف أتعامل مع الكلمات، كيف أمدها، وكيف أضبطها، أروضها، أخضعها،أخنقها، من دون أن أجعلها تنفجر حنانا وقسوة، كي تتمكن من استيعابك؟ كيف ابني ذلك السجن الذي كنت ترغب أن تسجن فيه؟
ـ عندما أموت اكتبي عني كثيرا.
ـ لا،لا، لا، لا بد من كاتب موهوب.
ـ سوف تضعين عني كتابا يالينوتشكا، عليك أن تفعلي ذلك، لأن الآخرين سوف يقولون عني أشياء غير دقيقة. أنت الوحيدة التي تعرفينني جيدا.
حينئذ، تواصل أيليني، أكون أعجز من أن أكتب، وإذا أردت قول الحقيقة، كنت سأتخلى عن هذه المهمة في نصف الطريق، لو لا عثوري، ذات ليلة، على كلمات بخط يدك، في أوراق مهملة، وقد كتبتها بسرعة وبقلم الرصاص، خطة أولية لكتابي...
وها أنذي أخوض التجربة.أن أكتب رواية، هذا ممكن، وبسهولة. أما أن أصفك، وأضمك، وأثبتك بإبرة ذهبية، كما لو كنت أثبت فراشة، فهذا أمر يثور له قلبي. لأنني لا أحب الفراشات وأحب تخيلها وهي تتطاير فوق رأسينا..).
كان نيكوس بعد أن طاف العالم كله، وعاش تجارب هائلة، يحب أن يعيش، كما الزهرة في البرية، أو كما طائر جبلي شرس، وحذر، أو مثل مجرى ماء، وحيدا ومنعزلا، كي ينضج كثمرة بلا ضوضاء، أو كضوء نجمة، أو منزل ريفي، لذلك اختار عزلة صارمة وصارت شرطا من شروط زواجه من هذه الحسناء المجنونة التي قررت العيش( تعبير غير دقيق!) مع هذا النسر اليوناني، في ميثاق عائلي له قوة الإلزام يسمى ميثاق( الأيام العشرة) التي يلتقيان فيها سوية( بينما تنوب الرسائل عن اللقاء، بقية أيام السنة، التي ينعزل فيها الناسك من أجل الكتابة، حتى مجيء الشيخوخة، ثم الموت..).
والكتابة تصعد، مثل صياد عجوز، كما تقول، وهي تلهث خلف أوراق نيكوس، بحثا عن كل ما هو مدهش، وخاص، وغامض، وطري، من الثمار التي أحبها، والصخور، والطيور، ونزهات الغابات، والقارات، والمعارك التي خاضها وهي كثيرة، وحتى غضبه الشرس من( الثرثرات) التي تدور في فراغ مقاهي اليونان في بداية القرن العشرين وحتى النهاية، إلى كلام مؤثر ونبيل عن زوجته الأولى غالاتي ( التي كانت جميلة المحيا، حاضرة البديهة، وتتمتع بتقدير اليسار اليوناني) وعاشت بكبرياء واستقلالية بعد انفصالها عن نيكوس، وظلت حتى وفاتها دائمة الحديث عنه، دون أن تسمح لكل من يتجرأ بالحديث عنه بسوء أمامها ؟
تصف أليني نيكوس في صفحات مؤثرة كثيرة مثل:
( كان يفعل ما يبشر به. يشعل الشمعة من طرفيها. يتشدد مع الآخرين إلى حد الإفراط، ويطالب نفسه بالمستحيل. ففي رسائله أو في كتبه، ومع من يحب، أو مع الجمهور، كان هو ذاته، هادئا ومشعا في آن واحد، جادا وضاحكا، بضعفه وقوته، غير مكترث لأقوال الآخرين. وكل من يقترب منه، إما يحبه أو يكرهه، ولا أحد يحبه أو يكرهه في الوقت نفسه.
كتب إليه الصحافي ج،ن( لا تذكر الاسم الكامل) يقول:
(ـ لم أرغب في المجيء لرؤيتك، لأنك ضميري، وأفضل عدم الإنصات إليه!).
ولقد نصحني منذ اليوم الأول قائلا:
( ـ كوني صورة كاملة عن ذاتك وحاولي أن تشبهيها).
وهي فكرة هاجس كان يضعها على لسان كل أبطاله تقريبا، ويمارسها من دون انقطاع)
وهذه الفكرة، الهاجس، تتجسد بوضوح على لسان بطله كابوديستريا، أول حاكم لليونان المحررة، والذي اغتيل في اليوم الذي كان يستعد فيه للوفاء بنذره وتوزيع أراضي الدولة على الفقراء، وكتب عنه نيكوس تراجيديا شعرية تحمل أسمه الحقيقي يقول:
ـ كان يعرف أنه سيقتل. هو الآن وحيد ويتأمل البحر.
تقول أليني:
كان يكره أثينا لأنه لا يعيش انسجاما في بيته. وبعد مرض غريب في فينا، وصفه في( المسيح يصلب من جديد) تمكن من التخلص من آخر العراقيل. يوم 5 يوليو 1924 ارتحل كازنتزاكي إلى جزيرة كريت وفي رأسه مشروعان متناقضان تماما: مقابلة قادة الحزب الشيوعي في جزيرته، ومدهم، إذا أمكن، بخبرته الشخصية، والاعتكاف في الوقت ذاته من أجل التفرغ لكتابة( أوديسته) خوفا من الاختناق بهذه الملحمة التي كانت تسكنه. وبعد يومين كتب لي:
ـ عاد عوليس الثاني إلى وطنه.رأى رأس الجبل الشاسع ( قمة جبل يوختاس على شكل رأس ) فوق مدينته، سلك بقرب الماء، طريقه القديم، وطرق مجدا باب والده. عوليس الثاني، يا رفيقتي، مرافقك في النزهات المسائية، الرجل الذي استمتع بمرافقتك وتكلم كثيرا وصمت كثيرا، صعد السلم ثم نزل منه ثانية، مغادرا بيته الأبوي. حالما اصل إلى ليدا سوف أكتب إليك. وأنتظرك. كوني طيبة، وهادئة، اعتني بجسدك، أحبي الناس، ساعديهم، لا تنسي أحاديثنا، نزهاتنا، الصخور الحارقة التي جلسنا عليها، أشجار الصنوبر، الجبال، النجوم التي شاهدناها يائسين أو سعيدين....).
هذا هو نيكوس الطفل الأبدي!
كان يحول أبسط الأفعال وأكثرها عادية، إلى شعر، وكانت أيليني تعجب من هذه القدرة المدهشة لطفلها الصغير( كان يكبرها بعشرين سنة تقريبا) فهو يعود من نزهة إلى البريد أو الغابة أو النهر أو الجبل بحكايات أسطورية، في حين( أعود أنا، تقول، خالية الوفاض من نفس الرحلة). كيف استطاع هذا الكريتي أن يخلق كل هذا الجمال حتى من الأشياء العادية؟
إنها عين النسر الداخلية، يا أليني!
فنيكوس ليس خريج بارات أثينا، ولا مقاهي الكلام الفارغ، ولا يعرف الحيلة، وظل حتى الرمق الأخير وفيا لمبادئ شخصية عاشها دون أن يتنازل عنها في أحلك الظروف، رغم كثرة الأيدي التي حاولت إخراجه من البراءة.
كان مصنوعا من الشمس الإغريقية، ومن الرمل، ومن ثمار الزيتون التي أحبها بجنون، ومن الريح، ومن جناحي الصقر. كان يكفي كي تتساقط العصور بين يديه خلال الكتابة أن ينظر عبر النافذة إلى الغسق اليوناني المتوهج حتى ترتعش كريتا القديمة بين يديه كعصفور مبلل بمطر التاريخ والأبدية.
يكتب لها بما يشبه الهمس الاحتفالي لرجل عشق المسيح حتى الموت، وأحب لينين بشغف، وتعرف على وجدان بوذا، وجمع كل هذه التناقضات( لو كان حيا الآن لسخر من كلمة تناقضات!) قائلا:
( عندما أغادر البحر، مع حلول الليل، ولا تزال شفتاي وشعري وافكاري محتفظة بالملوحة، ألتقي سرا بقادة الحركة الشيوعية هنا، ونخطط للمعركة القادمة. مازال البحر كله، رؤيا العزلة والأبدية، ملء عينيّ، وفجأة، بين هؤلاء الفقراء والبسطاء، المبشرين الجدد، المهانين، الجائعين، يتدفق فيّ الحب الملتهب العابر تجاه الإنسان وهذا العصر المجيد واليائس الذي كتبت لي الولادة فيه. أقول لنفسي: هؤلاء الرفاق هم الدرجة الأولى في تعاليمي الدينية، إنهم يحتلون الصدارة كي ينقذوا أنفسهم من الظلم والجوع.
كل شيء يلمع في ذهني بهدوء وبزرقة خالدة..).
لكن مرة أخرى، أليني، كيف تحملت قراءة أوراق نيكوس صديقنا الرائع، كيف استطاع القلب، قلبك، أن يصغي لهذا الصوت النبوي والبشري في آن، دون أن ترمي النجوم والبحر وصخور جزيرة كريت بحجر قديم من أحجار نيكوس التي كان يجمعها من غزواته اليومية في أعماق الغابات، أو تخاطبي الأبدية؟
( قلبي مملوء بمرارة لا تحتمل. ليس لدي أي وهم، لذلك أكافح بلا بهوادة، يائسا وحرا، وأعرف جيدا أن سقوط هذه الطبقة الاجتماعية البائسة يؤدي إلى ازدهار العمال وإشراقهم الجسدي والروحي. إنها ساعة الغسق. ساعتنا الخطرة. استلمت للتو رسالتك وقلبي يخفق بشدة.
رفيقتي العزيز، ليكن إلهنا الصلب،اليائس، حامل النار، معنا..).
وفي رسالة أخرى:
( تعالي بسرعة. فالعنب والتين والأجاص والبطيخ وهوميروس وبوذا، وروحانا، والأمطار الأولى الموشكة على النزول ـ كلهم ناضجون، جاهزون، طيبون، ومقدسون،يا رفيقتي!).
كان يكتب بحماس وخوف. كان مشغولا بهاجس الزمن والعمر القصير وكان يخشى الموت، ليس خوفا من الزوال، فهذه الفكرة بعيدة عن عقل ووجدان نيكوس، بل كان يخاف أن يأتي في غير موعده، وقبل أن يتم مشروعه الكبير في إعادة كتابة( الأوديسة). وكان يقول في سيرته الذاتية( الطريق إلى كريكو) انه يفكر أحيانا في النزول إلى الشارع وشحذ الوقت من المارة: كل واحد عشر دقائق من عمره !.
كان يقول:
( أخشى أن أموت، وتموت في داخلي كتب كثيرة).
كيف يمكن تلخيص حياة إنسان مثل كازنتزاكي في صفحات؟ لا شك يحتاج المرء سنوات، أو ربما إلى أكثر من حياة لكي يتحدث عن هذا البحار الباسل في الليل الأغريقي والأبدية، حامل المرساة نحو يوتوبيا بشرية يلتقي فيها الإلهى والبشري، الحب، والتصوف، النضال السياسي مع العزلة المشعة، نقاوة القلب مع عشق التراب والأشرعة والفواكه، تمرد الجسد وصلابة الروح، الاشتراكية والمسيح، الشعور بالفناء والحفر عميقا في التاريخ؟
يناديها من عزلته بحس طفل صغير:
( تعالي.. لكن مع صديقاتك، و إلا ستضجرين معي)!
وكانت أيليني تمشي معه، كفريسة تعشق مخلب النسر، إلى كل مكان يرغب فيه، حتى إلى نهايات العزلة، أو موسكو، دون أن تدخل عشه الخاص، عش النسر، الأرض السرية المسكونة بالصواعق والأمطار وبالحراس الرائعين الذين بنوا بدمهم تخوم اليونان وقتلوا، في حرب التحرير، دون أن ينسى البشري فيه وهو يصرخ كطفل عثر على هدية فجأة وهو يكتشف زهرة في الصباح تفتحت خلسة في الظلام.
كان يسمع، حتى في الحرب، صوت الأزهار وهي تتفتح قرب تحت جدار غرفته..!