أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - حمزة الحسن - حفلة التيس















المزيد.....

حفلة التيس


حمزة الحسن

الحوار المتمدن-العدد: 474 - 2003 / 5 / 1 - 03:53
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    



 


يحتفل العالم العربي هذه الأيام بيوم الأيام وهو يوم الصم والبكم العربي.

وفي مثل هذا اليوم العظيم، يجلس الصم والبكم العرب في واجهات  ومنصات للاحتفال  بهم من قبلنا نحن،  نحن الذين يفترض بنا أننا لسنا صما ولا بكما.

 وتبدو مشاهد الاحتفال هذه، أو حفل الزور هذا، كمشاهد أخرى، مبتكرة، ومنقحة، وجديدة، لاحتفالات التنكر وألعاب السيرك التي لم تعد سرا أو لغزا على أحد بما في ذلك أصحاب هذه المشكلة الحقيقيين.

لكن من هم الصم والبكم حقا؟

هل هم المحتفى بهم؟ أم أصحاب حفل الزور؟

 عن قناعة وتجربة ومعايشة لأوضاع عالمنا العربي، فإن عالم الصم والبكم لا ينطبق على هؤلاء المساكين الذين ربما يكونون وحدهم قادرين على الرؤية السليمة، وعلى التعبير عنها بلغتهم الخاصة، وعلى رؤية عري الملك في حشد تنكري للتهريج.

فليست الحشرجة لغة.
وليست الهمهمة لغة.
ولا المأمأة لغة.

فالقطط تمتلك مثل هذه القدرة وكذلك الدلافين والحيتان وحتى الحشرات التي ظهر أنها تتغزل وتنادي وتحذر بضعها، بل رأيت قرودا على الشجرة ( التي لا يزال بعضنا معلقا فوقها رغم الأزياء الحديثة) تطلق  أصواتا تحذيرية عند اقتراب أفعى أو خطر...الخ.

لكن عالم الصم والبكم أوسع في واقع الحال من هذه الشريحة التي قد ترى وتحس وتتألم أكثر مما نرى ونحس ونتألم.

ليس الصوت العالي وحده علامة على النطق أو على الكلام، بل محتواه، وليس السمع دليلا على العافية، بل كيف نهضم ما نسمع.

فقد رأيت وسمعت خطباء يقولون الهواء.
ورأيت وسمعت زعماء يخطبون بصوت مزمجر لا يقول شيئا.
وقرأت كتبا وبرامج أحزاب حاكمة أو محكومة تفسد الهواء النقي لا أكثر.

ورأيت على الشاشات كتابا وزعماء ومحللين( إستراتيجيين!) لا  يفرقون بين رأس الرجاء الصالح وبين رأس الملك سنحاريب، ولا بين قناة السويس وبين قناة الأذن الوسطى أو حتى قناة الجيش، ولا بين رئيس دولة السيراليون وبين رئيس بلدية البعاج.

غريب أمر هذه البقعة من العالم.

فيها أكبر نسبة من المفكرين وفيها أكبر نسبة من التخلف.
فيها أعداد من المناضلين أكبر من عدد السجون لذلك فر كثيرون منهم إلى حافة الأرض ومع ذلك هرب خلفهم جلاديهم في طبعة ملونة ومنقحة كي لا ينام هؤلاء يوما واحدا على حلم بشري نظيف، وفيها كذلك أعداد من مجرمي السياسة والمال والقانون أكثر من أي أمة أخرى.     

علماء من كل الأصناف وعندنا عتمة وظلام.
خبراء في القانون وخبراء في السطو والتشليح.

( قال لي صديقي الكاتب  والصحفي فلاح المشعل في اتصال هاتفي على الخلوي/ الثريا أمس أنه لا يستطيع البقاء في ساحة الفردوس ليلا خوفا من كل الاحتمالات، وأنه يتكلم معي من شارع السعدون ويخشى أن يسرق منه  الهاتف!).

الموت وحده يتجول في شوارع لم تدفن موتاها بعد.
وحده السلاح هو المتكلم الوحيد في عالم من الخرس والصمت والذهول والسلاح والريح والغبار.

وحدها رائحة الجثث تملأ الشوارع.

جثث من كل النواع:
جثث لرجال قتلوا صدفة بالانفجار ودفنوا في حدائق عامة بدون هوية أو اسم.

جثث لرجال قتلوا سهوا على أثر تراشق نار بين طرفين.
جثث لأطفال قتلوا ببقايا قنابل عنقودية فخر الصناعة الأمريكية، هدية لأطفال العراق في عطلة الربيع المدرسية.

جثث لنساء قتلن على الشواطئ بحثا عن  ماء.
جثث جنود.
جثث حرس جمهوري أو مخابرات.
جثث لا علاقة لها بكل هذا الذي يدور، لكنها سقطت لأن جنديا أمريكيا أراد أن يتأكد من قوة رمي بندقيته أو صلاحيتها للرمي، كما فعل أجداده مع الهنود الحمر حين كانوا يطلقون النار عليهم للتأكد من بنادقهم بعد التنظيف، وعلى نساء يحملن أطفالهن للتفرج على هؤلاء القادمين الجدد.
ألسنا نحن أيضا شعب الهنود السمر؟

موت في كل مكان.
وكل هذه المساحة لا تتسع لقبلة واحدة، أو أغنية واحدة، أو حلم نقي، أو أمل نظيف، أو ضحكة عفوية.

موت مرتجل.
داخل كل هذا الصمت الأصم والصراخ الأبكم.

ومع ذلك نحتفل بعيد الصم والبكم.

كل هذا الخرس السياسي والأخلاقي والقانوني والتاريخي والثقافي والأدبي، ومع ذلك نضع هذه الشريحة النقية من المصابين بهذه العاهة( أكره هذه الكلمة لأن مفهوم العاهة لا يعني العطل الجسدي، بل ابعد من ذلك) في الواجهة ونحتفل بهم علنا في حفل يشبه الجلد أو السخرية.

حفل كبير للزور.

هل حقا نحن نتكلم حين نتكلم؟
أم نحن نرطن ولا نقول شيئا؟

خطباء جدد دخلوا ساحة الخطاب أو المزاد أو حفل العري السياسي بعد أن كانوا يطلون علينا عبر الشاشات وتحتهم أسماء وعناوين وأحزاب أو مؤسسات كبيرة.

واحد يهتف بحياة المملكة المتحدة وعلى رأسه عمامة سوداء كانت تبدو على رأسه وهو يغرد بحياة المملكة دخيلة ومهانة ومنتهكة.

لم يقل ( شكرا لبريطانيا، بل شكرا للمملكة المتحدة على تحريرنا، لأنه بذهنية رجل سياسة محترف كان يتهرب من أسم الدولة الاستعمارية التي يعرفها العراقيون، فحاول استعمال الاسم البديل الذي لا صورة نفسية له في الخيال العام، وهذا لاشك دهاء، وفي الدهاء مكر، كما قال أمير الفقراء علي بن أبي طالب).

واحد يعانق غارنر في قاعة تضج بحضور شهود حفلة الموت والإقصاء والتهميش والنفي والبتر.

وكانت القاعة وستظل خالية من المثقف الوطني، ومن الشاعر، ومن المفكر، ومن العالم، ومن خبير علم الاجتماع أو علم الأرصاد الجوية أو علم  النفس أو الفيزياء أو علم الأدب.

 الذين حضروا وتكلموا، في حفل الصم والبكم العراقي، هم شيوخ عشائر سيكون أول طلب لهم هو الإبقاء على قوانين قتل النساء، والأخذ بالثأر، والعودة إلى قانون العشائر( قلنا ذلك في مقالة على هذا الموقع في 15/ 2/ 2003، قبل الحرب، تحت عنوان: انطلاق وحش، وقبيلة مركبة).

الذين حضروا حفلة النهب، ليسوا مناضلين مجربين، أو نساء مناضلات، أو طبقة علماء وخبراء وكتاب المنافي، بل مدراء شرطة طردوا حتى في زمن الفاشية لأسباب أخلاقية أو على خلفية سرقات، أو ضباط استخبارات عادوا مع جيش الاحتلال إلى مؤسساتهم القديمة التي كانوا يعرون فيها ضحاياهم الأبرياء نساءً ورجالا من أجل المتعة والانتقام.

( في ليلة 23 / 5/ 79، كان ينام إلى جواري في زنزانة في مديرية الأمن العامة الشاعر الشعبي المعروف عريان السيد خلف والسيد سمير الحلواني أو الحلوائي شقيق جاسم الحلواني عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي يومذاك،، حين أدخلوا علينا فتاة كانت تبكي ، فقال لها أحد الجلاوزة حرفيا( سنتأكد بعد دقائق إذا كنت باكرا أم لا!).
 

لم تحضر هذه الفتاة حفلة التيس الأخيرة( وليعذرني الروائي الكبير ماريو فارغاس يوسو لأني أستعير عنوان روايته العملاقة عن الدكتاتورية بمعناها الواسع وليست دكتاتورية السلطة) كما لم يحضر عريان السيد خلف ولا سمير الحلواني أو جاسم، ولا حضر علي النعماني رفيقنا الآخر في تلك الليلة، ولا حضر فتية الحزب الشيوعي العمالي أحد أكبر الآمال الخضراء الباقية في هذا الوطن المسروق في وضح النهار( نسينا لصوص المناصب، وركزنا على لصوص الأثاث!).

حضور الوليمة هم شهود حفلة النصب.

لا شك هناك أخيار في هذا المشهد، لكنهم يتوارون في الصورة الكبيرة، والمنصة المخصصة لحفل الوشاية وتدنيس العمائم وتلويث ما تبقى من نفوس ببقايا المائدة( عندها سيعرف هؤلاء جميعا كيف أن السلطة السابقة أفسدت ضمائر، وحطمتها بالإغواء والإغراء، وأن هذا الكرسي التافه لا يكون كبيرا إلا على الصغار، وسيترحمون سرا عليهم).

خطباء صم.
وزعماء من قماش ستارة القاعة.
وكلمات تشبه صيحات القردة من فوق الأشجار( يبدو غارنر كأنه نزل توا من الشجرة!).

وفرح وحشي باقتسام الوليمة.

والجثث خارج القاعة لم يجف الدم منها.

لم يدفن بعد حتى أطفال الفلوجة.
ولا يزال الرصاص في أجساد الجرحى.
رصاص ينفجر داخل الجرح( كأن جرح العراقي الغائر والعميق في التأريخ لم يعد يكفي).

الرائحة في كل مكان.
لكن أحدا لا يشم.

ليست رائحة الجثث فحسب، بل رائحة أجساد شهود حفلة التيس، والغنيمة، في وطن ينام في مشرحة ولا ينتظر غير سرقة آخر ما تبقى من معاطف أو قصائد أو دموع أو منازل.

الرائحة في كل مكان.
لكن أحدا لا يشم.

رائحة شيء كبير يتفسخ.
كبير جدا.

رائحة قيم تتداعى.
ورائحة زمن قال عنه غرامشي:
لا القديم فيه يموت
ولا الجديد يولد.
وحفلة التيس مستمرة، لأننا نعيش الزمن نفسه، بلا قطيعة.



#حمزة_الحسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إبراهيم أحمد وعيون الضبع
- غارنر والختان
- رسالة مفتوحة إلى الدكتاتور لمناسبة عيد ميلاده
- كل شيء تحطم إلا اللغة
- سنواصل المنفى ونحرض الشجر
- سقوط الرهانات الكبرى
- الوجه الآخر للدكتاتور
- أبناء منتصف الليل
- سرقوا الوطن، سرقوا المنفى
- لا تزعجوا هذا الجندي النائم
- خاتمة محنة البطريق/ رسالة منتصف الليل
- وداعا أيتها البصرة الرهينة 21
- الأخطاء القاتلة 20
- الروائي المصري رؤوف مسعد/ السيرة الذاتية كفضيحة
- الشاعر الأسباني لوركا / نائم والعشب ينبت بين أصابعه
- نهاية التاريخ والقرد الأخير 19
- حروب الأعزل 18
- الشاعرة باميلا لويس/ عاد ميتا بهداياه
- ولادة جيل الغضب 17
- الشاعر رعد عبد القادر / أسرار اللحظات الأخيرة


المزيد.....




- نقار خشب يقرع جرس منزل أحد الأشخاص بسرعة ودون توقف.. شاهد ال ...
- طلبت الشرطة إيقاف التصوير.. شاهد ما حدث لفيل ضلّ طريقه خلال ...
- اجتياج مرتقب لرفح.. أكسيوس تكشف عن لقاء في القاهرة مع رئيس أ ...
- مسؤول: الجيش الإسرائيلي ينتظر الضوء الأخضر لاجتياح رفح
- -سي إن إن- تكشف تفاصيل مكالمة الـ5 دقائق بين ترامب وبن سلمان ...
- بعد تعاونها مع كلينتون.. ملالا يوسف زاي تؤكد دعمها لفلسطين
- السيسي يوجه رسالة للمصريين حول سيناء وتحركات إسرائيل
- مستشار سابق في -الناتو-: زيلينسكي يدفع أوكرانيا نحو -الدمار ...
- محامو الكونغو لشركة -آبل-: منتجاتكم ملوثة بدماء الشعب الكونغ ...
- -إيكونوميست-: المساعدات الأمريكية الجديدة لن تساعد أوكرانيا ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - حمزة الحسن - حفلة التيس