أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - حمزة الحسن - الاغتيال المبكر















المزيد.....


الاغتيال المبكر


حمزة الحسن

الحوار المتمدن-العدد: 482 - 2003 / 5 / 9 - 04:48
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


 


* الإهداء إلى الشاعر علي مزهر أحد زهرات الجيل الجديد.


لا يعرف المرء هذه الأيام هل هو حزين أم مسرور أم مسروق أم معتوه أم عبقري أم مكبل؟

فقد اختلطت حدود الحزن بحدود الفرح كما تختلط أغصان الأشجار، أو كما تختلط الدموع في الصرع وفي الأعراس وفي الجوائز وفي النوبات المفاجئة وفي صدمات الحب أو صدمات الكهرباء أو صدمات الحرب أو صدمات المباغتات الليلية أو صدمات التعرية الإجبارية في معتقلات السلطة أو صدمات التواقيع الإجبارية لسجناء معصوبي الأعين لا يعرفون على أية ورقة أو هاوية أو حزب أو اعتراف أو جريمة يوقعون.


كل منتصف ليلة أفكر في عدد الأشخاص والقوى والمؤسسات والدول والأحزاب والمواسم والظروف والتقاليد والمصادفات التي حاولت بعمد أو بدون عمد تحويلي من إنسان إلى وحش أو قاطع طريق أو لص أو مجرم أو أمي أو متسول.

فأكتشف عجبا:
إن المؤامرة على العراقي تبدأ في زمن الطفولة. وإذا كنت سأتحدث عن نفسي هنا، فلأن حياتي لا تختلف عن حياة أي طفل عراقي فقير ولد على كدس تبن في تاريخ مجهول كحشرات البرية أو أزهارها بدون ملعقة ذهب أو فرقة موسيقية أو حفل ساهر، بل العكس كان أول مخلوق في انتظاري هو مفوض شرطة مخمور عثر على أبي راكضا  تحت المطر بعد منتصف الليل نحو منزل القابلة، فاتهمه بأنه( سياسي) متآمر، أو:

ـ دعني أذهب معك كي أتأكد فعلا أن زوجتك في حالة طلق.

هكذا جاء ليتأكد، مفوض الشرطة رزوقي، الذي قتل زوجته بعد هذه الوقائع وألقى جثتها في البئر، وقضى حياته في مصح الأمراض العقلية.

لا تبدأ المؤامرة على حياتنا، نحن الأطفال الفقراء، من هذه النقطة وحدها التي تبدو استثنائية، بل من مواقف وحالات وأوضاع أخرى أكثر عنفا وشراسة ومأساوية.

لمن نغفر اليوم؟

لشمس الظهيرة التي كانت  تدور فوق رأسي، وأنا أسرح في البراري المشتعلة، المحرقة، الملتهبة، فأحتمي تحت ظلال القطعان،أو تحت الشوك بعد أن أضع ثوبي على شكل مظلة، وأقضى نصف النهار في الترعة أو النهر لكي لا أحترق في تلك الظهيرة المهلكة؟

أم نغفر للرغيف المر الذي كان غير مسموح أن نأكله إلا حين تصير الشمس عمودية؟

لمن نغفر؟

للجار الغني الذي ينصح طفله بأن لا يمشي مع هؤلاء الأطفال الفقراء، لأن أولهم وساخة وأخرهم نجاسة؟

وكيف نتصالح مع هذه الجروح النفسية العميقة التي حفرت في الروح مغارات وأوكارا وثقوبا سوداء؟

لمن نغفر؟

لمدير المدرسة الابتدائية الذي كان يقف أمام الباب الرئيس كما يقف ملاك الموت وفي يده عصا تكفي لإسقاط ثورة أو قارة أو سفينة أو طائرة أو براءة طفل؟

لمن نغفر؟

لمعلم الدين الذي كان يأخذنا عنوة في المساء، وقت اللعب، إلى الجامع بالقوة،كي تتهشم هذه البراءة الغضة على صخرة التهديد والوعيد والرعب من الأفاعي والوحوش والنيران والمذنبين الذين يسبحون في جهنم بدون رحمة أو أمل، حتى صارت صورة الله الجميل الرحيم في نظرنا هي صورة شرطي لا يرحم؟

أم نغفر لمعلم الرياضة الذي كان يجلدنا في زاوية الدرس حتى نتساقط في سلة المهملات من الألم؟
ويطلب من بعض تلاميذه المجيء في المساء لأغراض دنيئة لا يدركها عقل وخيال  الطفل؟

ومعلم الرياضة يكره معلم الحساب.
الأول قومي.
والثاني شيوعي.
ومدير المدرسة مستقل.
وكل واحد يقول لك لا تصدق بالمعلم الأخر.
والمناهج متناقضة.
والأسرة تعلم عكس المدرسة.
والحزب الحاكم أو المعارض يعلم عكس الأسرة والمدرسة والمجتمع والتاريخ.
فكيف يتوازن طفل في مؤسسة تربية منحطة بدون معايير منسجمة أو موحدة أو منسقة؟

بمن نصدق؟ ولمن نغفر اليوم؟

 نكبر قليلا ويكبر معنا شجر الحزن والتشوه والتناقض.

كل ثلاث أو أربع سنوات نمزق صورة رئيس الدولة من الكتب المدرسية بعد كل انقلاب.

في زمني مزقت صور:
الملك والوصي، عبد الكريم قاسم، عبد السلام، عبد الرحمن عارف.

وهذه ليست صورا فحسب، بل نحن الأطفال الصغار، نمزق مجموعة قيم ومعارف وذاكرة وتقاليد يقال لنا مرة،بالقوة،والإكراه، والضرب، أنها صحيحة وعادلة وخالدة، ثم في وقت آخر يقال لنا بالقوة والضرب والإكراه أنها عكس ذلك.

( قبل أيام رأيت تلاميذ مدرسة ابتدائية يمزقون صورة الدكتاتور، فعاد المشهد القديم إلى الذاكرة).

على أي شيء، مبادئ، أو قيم، أو معايير، أو مرجعيات، أو أعراف، سيتعكز هذا المجتمع الذي تأسس على هذه القيم المنحرفة والمرفوضة؟

لمن نغفر اليوم؟

لأبناء الأحياء التي يقال لها في السوق والمقاهي أنها (أحياء راقية) ولا أعرف كيف أنها راقية، الذين كانوا يعتبرون دخول مدن الفقراء  عارا؟ 
  
والزواج منهم عيبا؟
وصداقتهم جريمة؟
وإذا حدث هذا فهو مغامرة وشجاعة وتنازل وتواضع.

( قال لي أحد هؤلاء خلال زيارتي له في السويد سنة93 رغم أننا كنا في سجن واحد في مديرية أمن الكوت سنة 70، أن عليّ أن أشكر النرويج لأنها منحتني بيتا. قالها بسخرية. ذهلت من رأي يقوله شخص كان معي في السجن. وتساءلت مع نفسي، سرا: لماذا لا أكون صاحب حق في بيت؟ ولم أطرح السؤال لأني عرفت أن هؤلاء يدخلون الأحزاب ويخرجون منها كما يدخلون موضة أو مقهى أو مكانا للاستعراض دون أية قناعة حقيقية ـ  كتبت هذه التجربة المرة في روايتي سنوات الحريق).

لمن نغفر نحن الأطفال الفقراء؟
الفاشية خرجت من منازلنا ومدارسنا وقيمنا قبل كل شيء وآن الأوان كي نعترف ونصحح ونحذر.

لمن نغفر؟
 لمنحرفي الأحياء الفقيرة والغنية الذين يركضون خلف الأطفال الصغار الفقراء، الذين لا أحد يدافع عنهم، كما لو أنهم لا يحملون مؤخرات فحسب، مثل أية عنزة أو بقرة أو حصان، بل مفاعلات نووية يجب نزعها عند كل منعطف أو بستان أو عتمة؟

( كان هؤلاء الوحوش يغتصبون الأطفال الفقراء الذين يجدونهم في البساتين للقراءة المدرسية أو للبحث عن الفاكهة أو الطيور، عنوة، ويقفون طابورا طويلا على صبي أو طفل، ثم  يفضحونه في المدينة على أساس أنه هو الساقط، وهم الشجعان !).

( من بعد تعلمت السلطة هذا السلوك: تقتل وتشهر، تغتصب وتفضح، تعهر الناس وتحاسبهم ).

صار الجلاد هو الشاهد والقاضي، وصارت الضحية هي المتهم.

ثقافة المرجلة  امتدت للسياسة.

صارت ثقافة الموت هي الغاية والهدف والقيم والشجاعة: ليس شجاعا من لا يموت تحت حذاء أو هراوة أو مطحنة قمح ولو كان لا يملك سر ثورة.

دعم ثقافة الموت تحت الأحذية.
من يتألم أو يصرخ أمام الجلاد جبان.
الشجاع هو من يموت بلا صرخة أو هزة جفن أو رعشة.
لأن جسد المناضل، يقولون، مفرغ من المشاعر، ومعبأ بالمبادئ.
هو ليس جسدا، بل حشوة تبن أو كيس ملاكمة.
مدرسة صنع الحجر هذه يجب أن تزول ونعلم الأطفال كيف يتألمون، ويصرخون من الألم، وكيف يحزنون من الإهانة.

ونعلم الأطفال أن السجن السياسي عار، وأن التعذيب عار، ونزع جلود الناس أو أفكارهم أو أرواحهم أو مشاعرهم عار.
وجسد الإنسان مقدس.

الإنسان يبكي.
ويتألم.
ويحزن. ويخاف. ويقلق.
وهذه مشاعر إنسانية وعادية وطبيعية.

ومقياس الصمود في السجن ليس في عدد دورات الفلقة أو عدد نوبات التعذيب أو عدد الأحذية التي تمزقت فوق رؤوسنا، بل في الكراهية الداخلية والعميقة للجلاد وسلطته.

كل قوانين العالم ترفض قبول مواقف فرضت على الناس وهم تحت التعذيب أو تحت الضغط أو تحت الترهيب أو تحت الابتزاز.

لا يمكن إجبار الناس على الكلام
أو إجبارهم على الصمت
أو الانتماء تحت الأحذية و التوقيع تحت فوهات المسدسات
ولا يجوز محاسبتهم على ذلك أبدا لأنهم ضحايا.

والذين يعاملون الضحايا بناء على قوانين وأخلاق وشروط ومعايير السلطة، هم أكثر حقارة من السلطة نفسها ( ليس خطأ فادحا، بل جزء من منهج وعقلية حزب عراقي يساري (عريق) أنه كان يقابل الفارين من جحيم السلطة من جنود وعمال وأطباء وفلاحين ومهندسين وكتاب وضباط وباعة طريق  على أنهم كانوا في الحزب الفاشي الحاكم، ولا أعتقد أن هذه السياسة القذرة والفاشية والغبية والتي تفتقد لبعد النظر والحكمة والضمير ستتوقف لأنها صارت من صميم  التكوين الفكري والسياسي والتنظيمي والذهني لهذا الحزب، مع الأسف الشديد، حتى أنه  صار مدرسة في هذا المجال يعرفها حتى الصبيان. وقبل أيام فوجئت وأنا أتحدث مع صديق حين قال لنا أبنه البالغ من العمر 12 سنة، فجأة، بأن كلامنا هو كلام شيوعيين!).

بمعنى أدق: كلام لا معنى له.
من زرع هذه الفكرة القاتلة في ذهن الأطفال؟
تاريخ من السلوك محفور في قلوب جريحة.

لمن يغفر الأطفال الفقراء؟
ولنتكلم بلغة عارية كي لا تتكرر المأساة.
كي لا نقع في الكارثة مرة أخرى.

طفولة هشة غضة تصدم بمئات المطبات والفخاخ والكمائن.

جارك على اليسار يريدك أن تصير ماركسيا.
وعلى اليمين يريدك أن تكون قوميا.
والجار الثالث يريدك أن تكون شرطيا.
والجار الرابع يريدك أو تكون منحرفا.
والخامس يريدك أن تكون قاطع طريق.
والسادس يريدك أن تكون عضوا أو شهيدا في حزب ديني.
والسابع يريدك أن تكون لصا.
والثامن يريدك أن تكون جثة وعاقلا ولا تتدخل في شأن.
والتاسع يريدك أن تكون مهتما بالصرع والغرام والنكاف والجدري وحب الشباب وتنسى الدنيا وما فيها.
والعاشر يريدك أن تكون ساحرا أو مشعوذا أو دجالا.


والطفل غض وهش وقابل للكسر.

كيف يتجاوز كل هذه القوى والمؤسسات دون أن يتهشم من الداخل، أو يتشوه أو ينكسر في داخله اليقين الضروري بقيمة الإنسان؟

وإذا تشوهت هذا الضحية، دقوا لها الأجراس. فكيف يدخل إنسان هذا الوكر القذر ويخرج ناصع البياض؟

وإذا مرض، وحتى الحجر يمرض في مثل حياة وسخة مثل هذه، ربطوا الأمر بالشرف والضعف والتخاذل والجنون؟

( قبل فترة قال رئيس وزراء النرويج في خطاب عام أنه مصاب بمرض نفسي وسيدخل مصحا عقليا. لم يتحدث أحد عن هذه القضية طوال فترة وجوده تحت العلاج، ولم يغمز أو يلمز سياسي أو كاتب بمرض أو عاهة كما يحدث عندنا في فرق الردح، لأن هذه الشعوب المتحضرة تؤمن عن قناعة ووعي ومعرفة، وليس على الورق، أن الإنسان يمرض ويجن  ويخطأ، وعندهم تشريع قانوني عن الحق في الخطأ الإنساني ـ منسكلي فايل.) 

 ونحن رغم كل هذه السنوات المجنونة والداعرة والقاسية والتي تصيب قارة بالألم والجنون وفقدان التوازن، لا يحق للعراقي أن يمرض أو يصاب بكآبة أو ذهول.

من يخلق هذا الوعي الدوني؟
من ينشر هذه الثقافة المهلكة؟
من ينشر لهؤلاء الأغبياء والفاشلين والسذج هذا الهراء؟
ومتى نخلق تقاليد سياسية وإعلامية وأدبية جديدة في ضوء خبرة سنوات الحريق والذل والموت والعار؟

أم أننا سنعيد إنتاج تجربة الموت مرة أخرى، بصورة مغايرة؟

لمن يغفر الأطفال الفقراء؟

هم وحدهم عزل في مدنهم.
وعزل في المنافي.
لأن الفقير لا وطن له.
هم سلع وعناوين عريضة في صحف اليسار واليمين.
وهم الموتى في السجون وحطب الحروب وعلف المدافع.

المؤامرة على حياتنا بدأت في عمر الطفولة، وأن الفاشية خرجت من المنازل والمدارس والأحزاب والعقول والتاريخ وصارت مؤسسة شرسة.
بدأت من ضرب الطفل على  لعبة أو رغبة أو شهية أو زلة لسان أو علاقة أو كلمة أو وجع.

هنا يتم تنمية الكبت والكذب والخوف وزرع عقدة الشعور  بالدونية  ومخاوف من الآخر، وحذف المغامرة الفكرية، والتركيز على مغامرة القوة والجسد.

أي تنمية الثور في داخل جسد الطفل.

تبدأ الفاشية من سلوك العزل: لا تلعبوا مع الأطفال الفقراء لأنهم نجس وقذارة.
لا تقتربوا منهم لأنهم بلا أخلاق. لصوص. وحوش.

تبدأ حين تفرض على الطفل مقاييس ضخمة لا يدركها أبدا: حين يتم إخضاع سلوك الطفل العفوي البريء لتفسيرات وهمية، أكبر من إدراك الطفل ويحرم من اللعب( علم النفس الحديث يؤكد على دور اللعب في تنمية شخصية الطفل، وعلى أن اللعب الطفولي علم وفلسفة وذوق).

تبدأ الفاشية أو بذور الدولة الفاسدة حين يتحول معلم الدين إلى جلاد يزرع في ذهن الأطفال صورة الإله الشرطي الذي يطارد الناس في الشوارع ويحاسبهم على ما في قلوبهم.

تبدأ حين يغيب في المدرسة والحزب والمجتمع حس العدالة، ويصبح كل تافه قاضيا، وكل فرد متهما، بدون مناقشة أو دليل أو وثيقة أو شاهد نفي أو أثبات أو فرصة المتهم أو المحامي أو الحالة المرضية له.

تبدأ حين تصير كل مقهى محكمة.
وكل رصيف قانونا.
وكل تخت  موضع إطلاق نار على المارة.
أي حين يحكم كل شخص بناء على( معاييره الشخصية) .

تبدأ حين تفسد النخب السياسية والأدبية.
تبدأ حين يتحول أدباء البلد إلى قضاة متجولين سريعي الرشق لمجرد خلاف في الرأي( في آخر ما كتبه القاص إبراهيم أحمد/ اللصوص من مدرسة صدام حسين/ إيلاف/ اتهام صريح  وفوري ومخجل بالعمالة من السيد القاص لكاتب عراقي كتب في جريدة لبنانية مقالة يقول فيها أن الكتّاب الذين وقفوا مع الحرب لا يختلفون عن لصوص المؤسسات والمتاحف، وهو الروائي سلام عبود. فتحول، بدون محاكمة، إلى مخبر كان يكتب التقارير في اليمن على رفاقه، حسب شريعة إبراهيم أحمد!).

  تبدأ الفاشية حين يشتم المدير معلميه أمام التلاميذ ويعانقهم في الطريق،وهنا يتعلم الطفل عاهة الازدواجية والانفصام والسلوك الملتبس والمشوه.
وحين يشتم رب البيت ضيوفه أمام الأطفال بعد خروجهم.

وحين نحبس الإنسان في خزانة واحدة، وفي موقف واحد، ولا نسمح له بالخروج أبدا، مع أن الإنسان موجة تحولات مستمرة متواصلة لا شاطئ لها من الولادة وحتى الموت.

تبدأ الدولة القهرية من تناقض المرجعيات والقيم والقواعد والأعراف والتصورات الأخلاقية:
في شارع ما، يكون الثأر شجاعة.
في شارع آخر يكون جريمة.

في مدن يكون قتل النساء شرفا.
في مدن يكون جريمة.

 حتى داخل الأسرة الواحدة نجد قواعد أخلاقية متناقضة:

قد يكون الأب سكيرا، والأم متدينة.
وقد يكون الأب لصا، والأم عصامية مهذبة.
وقد تكون الأم منافقة، والأب صادقا.
من هذه اللحظة تبدأ المؤامرة على حياة الطفل ويتشكل النظام السياسي القادم.

هذه القيم المتناقضة،والتربية المزدوجة، في الأسرة، والمدرسة، والحزب، والمؤسسة، والدولة، والثقافة،والدين،والأخلاق، ستخلق المواطن الهش، المواطن غير المتوازن، المواطن الخائف، المعوج.

الإنسان لا يعيش ويتوازن على نصائح أخلاقية أو سياسية مهما كانت صحيحة، بل على  وضع اجتماعي واقتصادي ثقافي مستقر.

الخائف لا يمكن أن يكون عادلا ونقيا وعادلا.

والمجروح في ضميره لا يرى الأشياء في حجمها الحقيقي، لأن الجرح النفسي يضخم أو يصغر من أحجام الأشياء والمواقف.

والجائع، كما أفتى بذلك أبو حنيفة، لا يصلح أن يكون شاهدا في محكمة لأنه لا يرى بوضوح.
الجوع كفر.
والجوع عتمة.      
 والجائع أعمى.

كيف يتوازن العراقي وهو يعبر من الطفولة إلى القبر على هذا الصراط الدقيق بين الهاوية وبين الحبل؟

حتى إيقاع المشي للمقموع  يصبح مختلا.
وأية مقارنة بين مشية العراقي ومشية المواطن السويدي مثلا أو السويسري أو الفرنسي، نجد أن العراقي يتعثر في مشيته بالحذاء أو البنطلون أو الرصيف أو المارة أو يتعثر بأحزانه.

مرة زارني الدكتور أحمد رجب علي قادما من ألمانيا في عزلتي المشعة والذهبية في النرويج ولم أكن قد رأيته في حياتي أبدا ولا هو رآني.

قال لي صديق نرويجي ونحن في صالة انتظار المطار بعد هبوط الطائرة:
ـ كيف ستتعرف عليه؟ 

قلت:
ـ اطمئن. سينزل الجميع ويمشون في رشاقة شجرة سرو أو صنوبرة إلا واحدا يتلفت منة ويسرة ويعبث بأصابعه أو يحدق في المسافرين أو يبحث في جيوبه أو يهرب من شرطة المطار كأنه هارب وليس سائحا. عندها سأعرف صاحبي !


 القمع يشوه.
والذين قالوا أن القمع يشوه الحياة، لم يكونوا حكماء أو فلاسفة أو مفكرين فحسب، بل كانوا علماء وأطباء وأصحاب مختبرات طبية وعلمية.

يتعارض الخوف مع الإبداع.
ومع الجنس الطبيعي وحتى مع الإنجاب( هناك نوع من العقم  مصدره الرعب الدائم).
ويتعارض مع الفرح البشري.
ومع المشي المتوازن.

حين أتأمل حياتي بدقة وهدوء أشعر بالدهشة كيف أني لم أصبح قاطع طريق أو نشالا  أو جلادا أو نصابا أو وحشا.

كل شيء كان يدفع في هذا الاتجاه.

أن تنجو من كل هذه الفخاخ، وتكون إنسانا سويا، فهذه مفخرة عظيمة.
لكن أن تنجو من كل هذه الفخاخ  وتصير كاتبا  تتحدث عن الجمال والبراءة والأمل والسعادة والحب والوضوح والخير والخلق والرواية، فهذه معجزة.

حتى حين تنجو من دولة، وتهرب إلى أخرى، تسجن بتهمة عبور الحدود غير الشرعي( نهرب إلى إيران نسجن، نهرب إلى الباكستان على الأقدام نسجن بتهمة العبور غير الشرعي!).
مع أن العراقي صار مواطنا غير شرعي حتى في داره ووطنه.

حتى حين تنجو من الحزب الحاكم، تجد أمامك الحزب النائم: أنت في عرف الأول خائن للوطن، وأنت في عرف الثاني خائن للحزب لأنك مازلت حيا، لأنك لم تخرج باكرا رغم الحدود المغلقة، لأنك لم تنتحر، لأنك لم تجن، لأنك لست ببغاء في قفص.

 الأول يريد منك أن تموت في الحرب، والثاني يريد منك أن تموت في السجن.

أنت مشروع جثة في الحالتين والكل يراهن على موتك.
صورتك في التابوت دليل على آدميتك.

لا تكتمل حياتك، أو شرفك، إلا في الموت من أجل هذا أو ذاك. وليس مهما لك أن تعرف أن هذه الحرب قذرة أو أن هذا الموت في السجن رخيص بلا ثمن .

أنت كجثة أهم منك حياً في الحالتين:
الجثة تعطي الحزب الحاكم الدليل القاطع على أن هناك من يموت لأجله.
والجثة، من جانب آخر، تعطي الدليل للحزب النائم، على أن هناك من يموت لأجله، كي يصفق لقادته في المؤتمرات الدولية ويقولون لهم:
ـ برافوا حزب الشهداء!

صرنا نتباهى، في الحالتين، على يد سلطة حاكمة أو محكومة، بالموتى والجثث والمقبرة وثقافة الفناء والسحل والتعذيب.


لمن يغفر الأطفال الفقراء الذين كبروا اليوم، كما يكبر الدمع، أو كما تكبر الأحزان كشجرة متسلقة، أو كما يكبر السراب أمام العطشى، أو كما يكبر ظل طائر عابر في عيني غريق؟

كنا نريد أن نغني، فجعلونا نعوي.
كنا نريد أن نمشي كما يمشي البشر، وكما ينتصب الشجر، فصرنا نمشي بحدبة مقوسة تشبه قوس النصر في باريس.

كنا نريد أن نتعلم السباحة ولو في طشت أو سطل أو كأس أو بقعة رمل،  فتعلمنا السباحة في بحيرات الموت والدم والدخان.

كنا نريد أن نولد ولادة طبيعية، ونموت موتا طبيعيا، فصرنا نولد كالألغاز أو حشرات البرية أو نباتات الفطر بدون تاريخ أو عيد ميلاد في زمن صار للقردة والتماسيح والأحذية عيد ميلادها.

للذين حرمونا طفولتنا وحولوها إلى كابوس
والذين حرمونا حقنا في الاختيار والأمل والحنين والحب ودهشة الرؤيا الطفولية البكر الأولى
والذين طاردونا في الوطن وفي المنافي، سواء كانوا يسمون أنفسهم مخبرين أو مناضلين، نشالين أو ثورا، منحرفين أو أصحاب مشاريع فكرية أو مشاريع رعوية أو مشاريع روث
أو مشاريع ثورات مجهضة في البارات
أو مشاريع أحذية
أو مشاريع جنسية شاذة
سواء من أصحاب الجنس المعاش أو من أصحاب الجنس الطليعي الثوري أو من دعاة ممارسة الزنى لأنه من مستلزمات التقدم والمدنية والحداثة والعولمة كي لا نكرر تجربة الالتزام بالحلال والحرام ونعيش على مستوى الخنازير في السرير/  وهي دعوة موثقة لأحدهم.
أو مشاريع مائية أو مشاريع فضائية
أو مشاريع مرافق صحية في الساحات العامة
أو مشاريع سطو أو مشاريع رعب
مشاريع دولة أو مشاريع  دواجن

الذين حرمونا من الحلم والوهم والتصحر والجنون الفردي والنوم على العشب  والحق في الاحتضار والألم والضحك
والذين  سرقوا منا حتى حقنا في البكاء والثلج والمنفى
والذين حولونا إلى مجرمين لمجرد أننا نقتل في رواياتنا الأبطال الذين يختارون الموت

الذين حرمونا من حق الحياة
ومن حق الخيال
ومن حق العذاب
وحتى من حق روايته
( لا يحق لنا أن نعيش/ أو نروي!)
لهؤلاء جميعا أقول، نيابة عن كل الأطفال الكبار:

 كل شرور العالم لا تمنع وردة واحدة من التفتح حتى في مستنقع أو بين ثقوب الصخر  أو تحت الرماد.

كل سجناء العالم يخرجون من السجون يوما إلا أنتم لأنكم سجناء الكراهية وقضبان الحقد الصلب وسجناء الجلد.

وكل الأسرى يعودون إلى أوطانهم إلا أنتم لأنكم أسرى أبديون لفكرة الحقارة البشرية.
  
وكل حفاة الأرض سيجدون يوما أحذية لهم إلا أنتم لأن كل أحذية العالم لا تكفي  لقدم بلا ضمير.

العري عري الضمير
وليس عري الجسد.

لن نغفر
لن ننسى.

 



#حمزة_الحسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وطن العبيد
- رصاصة ناجي العلي في رأسي
- حماقة التاريخ الكبرى
- دكتاتور نجوم الظهيرة
- أشباح الماضي
- حفلة التيس
- إبراهيم أحمد وعيون الضبع
- غارنر والختان
- رسالة مفتوحة إلى الدكتاتور لمناسبة عيد ميلاده
- كل شيء تحطم إلا اللغة
- سنواصل المنفى ونحرض الشجر
- سقوط الرهانات الكبرى
- الوجه الآخر للدكتاتور
- أبناء منتصف الليل
- سرقوا الوطن، سرقوا المنفى
- لا تزعجوا هذا الجندي النائم
- خاتمة محنة البطريق/ رسالة منتصف الليل
- وداعا أيتها البصرة الرهينة 21
- الأخطاء القاتلة 20
- الروائي المصري رؤوف مسعد/ السيرة الذاتية كفضيحة


المزيد.....




- تعرّف إلى قصة مضيفة الطيران التي أصبحت رئيسة الخطوط الجوية ا ...
- تركيا تعلن دعمها ترشيح مارك روته لمنصب أمين عام حلف الناتو
- محاكمة ضابط الماني سابق بتهمة التجسس لصالح روسيا
- عاصفة مطرية وغبارية تصل إلى سوريا وتسجيل أضرار في دمشق (صور) ...
- مصر.. الحكم على مرتضى منصور
- بلينكن: أمام -حماس- اقتراح سخي جدا من جانب إسرائيل وآمل أن ت ...
- جامعة كاليفورنيا تستدعي الشرطة لمنع الصدام بين معارضين للحرب ...
- كيف يستخدم القراصنة وجهك لارتكاب عمليات احتيال؟
- مظاهرة في مدريد تطالب رئيس الحكومة بالبقاء في منصبه
- الولايات المتحدة الأميركية.. احتجاجات تدعم القضية الفلسطينية ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - حمزة الحسن - الاغتيال المبكر