أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هيثم بن محمد شطورو - الفراشة















المزيد.....

الفراشة


هيثم بن محمد شطورو

الحوار المتمدن-العدد: 7095 - 2021 / 12 / 3 - 04:03
المحور: الادب والفن
    


حين تمر على الأرض لامبالية لا تستحضر فكرة كونها جوهرة نفيسة. على المدى الأبعد من الانجاز الواقعي لأي شخص، فهناك فعل روحي لا يفنى في السجل الكوني ويتلبس الشخص في جسدانيته كلها حتى بما يرتديه من ثياب وبما دأب عليه الجسد من حركات. وهاهي توقف سيارتها البيضاء الصغيرة الحجم على الجانب الأيمن من الطريق، والهاتف بين خدها الأسيل وأذنها الصغيرة، وقوامها الرشيق الذي كسته بمعطف ابيض اللون قصير وساقين رشيقتين ملتفتين في بنطلون اسود ضيق، وشعرها الأسود الرقيق يتدلى على شكل ذيل حصان. تعبر الطريق ناحية مقهى "الفراشة" وهي لازالت تتحدث في التلفون، وتدخل إلى المقهى المرتفع قليلا على الشارع. مقهى جميل ذو كراسي وطاولات جميلة وتملأ صالته الداخلية لوحات فنية جميلة من بينها صورة للفنانة "فيروز". تأخذ قهوتها وتعود إلى سيارتها، ولازال التلفون معلقا تحت أذنها. لم تنظر إلى أي كان سوى عامل المقهى، وبابتسامتها العذبة تناوله ثمن القهوة التي يعرفها جيدا بحكم مرورها كل صباح في مثل هذه الساعة لتأخذ قهوتها ومن ثم تلتحق بعملها في البنك الذي لا يبعد عن هنا كثيرا. ربما تجيش مشاعرها بمختلف التموجات التي لا تفهمها، ولكنها يبدو أنها لا تدرك مقدار البهجة التي يحدثها حضورها في قلوب الناظرين إليها الذين عادة ما يلوحون لجسدها الجميل بنظرة سريعة كفيلة بإحداث الابتهاج. لقد تعود الرجال في عديد المقاهي بظهور النساء في المقاهي التي كانت حكرا على الذكور فقط. لقد غزت المرأة كل الفضاءات في هذا البلد وفي هذه المدينة التي تُعتبر مدينة محافظة في تونس.
لا تعرف أن هناك شخص على الأقل من رواد هذه المقهى يجلس فيها كل صباح في مثل هذه الساعة وانه يملي عينيه وقلبه بنزولها من السيارة وعبورها الشارع، وكل يوم بلباس وكل يوم بهيئة مختلفة ولكن عادة تتكرر دوما وهي معانقتها لهاتفها وهي تتحدث في التلفون. لا تعرف أن شخصا يعرفها بل جمعته بها فرصة الحديث معها عدة مرات في ساحة المعهد الثانوي مع زملاء آخرين. لا تعلم أن نظرته إليها كل صباح تختلف عن نظرة البقية بما انه يعرفها نوعا ما، ورغم ذلك فخجله منعه من التوجه إليها. انه يعلم أنها تشتغل الآن مديرة لأحد البنوك، كما انه يعلم من أيام الثانوية أنها من أسرة بورجوازية، أما هو فبروليتاري من حينها إلى يومه هذا ولا يحلم أبدا بأن يكون بورجوازيا، ولكن المشكلة أن وعيه الطبقي وخجله منعاه من أيام الثانوية إلى اليوم بان ينفتح عليها أو يفتحها إليه. لا يملك حقدا طبقيا ولكنه وبكل بساطة يؤمن أن كرامته تأبى عليه أن ينفتح على الطبقة البورجوازية باعتبار ذلك سيكون وضعا لنفسه في مرتبة أدنى بشكل مسبق وهذا ما لا يرضاه لنفسه...
انه يفكر في مشاعره نحوها بكونها مجرد إعجاب ورغبة تريد أن يتم إشباعها ولكن عقله بإمكانه السيطرة على رغباته وعقلنتها. انه منذ أيام الثانوية معجب برقتها الطفولية الساحرة التي تنضح جمالا. كأنها الطبيعة المنسابة ذاتيا حتى في تقلباتها العنيفة والفجائية ولا تتصنع في أي شيء. حركة حرة كالطيف ذو الاشراقة النورانية. كل من يعرفها يقع في حبها، وهو يدرك ذلك جيدا مثل كثيرين غيره ولكنه من ذلك الصنف الذي يكبح نفسه عنها واكتفى في بعض المرات ببعض الأحاديث معها. ساعتها كانت المعاهد الثانوية أكثر رقيا معرفيا وثقافيا وسياسيا من جامعات اليوم. حب الناس لها يسعهدها بقدر ما يشقيها. يشقيها اهتمام الآخرين بها إلى درجة التكلف ولكنها دربت نفيها على تلاوين مختلفة من الأساليب التي تحافظ بها على ارتباط الناس بها وفي نفس الوقت على حريتها وتصرفها وفق ما ترى هي. لم تكن قادرة على رد أي كان أو زجره أو التكلم معه بفضاضة. مثلها يعيش في حوار دائم مع نفسه نظرا لتلك الهجومات المتلاحقة عليها وقد اعتادت كل تلك الطرق المختلفة في خلق مسافة تحفظ بروزها كشمس دائمة بين الحضور.
كانت متفوقة في مادة الرياضيات وهو لا يحب تلك المادة فهو ذو ميول أدبية. وكلما مرت على مقهى الفراشة كل صباح لتغدق على قلبه بالغبطة الصباحية التي اعتاد عليها كلما تذكر ذلك الحوار الذي جرى بينهم أيام الثانوية. ذاك الحوار البعيد جدا عن وظيفتها الحالية والبعيد جدا عن وضعه الحالي كعامل أو موظف في شركة تجميع واستغلال النفايات المنزلية. سألها ساعتها قائلا:
ـ ما الذي يعجبك في الرياضيات؟ عقدتني حتى أني لما أراك أرى معادلة رياضية تمشي على قدمين.
ابتسمت وقالت:
لأني منذ صغري والى الآن لم أفهم سر النقود. كيف تأخذ علبة شكلاطة تتلذذ بها مقابل قطعة نقدية باردة تقول عددا معينا؟ كيف يساوي هذا ذاك؟ الشكلاطة اللذيذة مع أعداد جافة؟ إذن يمكننا التلذذ بالعالم بمعرفة هذا السر للأعداد. هذا ما جعلني أحب مادة الرياضيات.
قال هو ساعتها:
ـ الحالة الطبيعية هي أن يأخذ الإنسان ما يرغب فيه. العلاقة هي بين الرغبة والشيء. كيف تكون النقود واسطة؟ كيف يكون ما تملك من أعداد معينة محددة لما يمكنك أن ترغب أصلا ولما يمكنك أن تأخذ؟ أي والله سؤال منطقي. حقيقة إننا نعيش في العالم ببلاهة. الحالة الطبيعية هي أن يأخذ الإنسان ما يريد.
قالت هي:
ـ المشكل انه لا يمكننا أن نأخذ ما نريد إلا بواسطة الأعداد..
قال بحماسة بروليتارية واضحة:
ـ هذا هو الوعي الزائف. المستغلون عبر التاريخ هم الذين خلقوا ما يسمى عالم الضرورة. خلقوا عالما لصالحهم ثم يقولون لك هذا هو ما هو ممكن واقعيا. لا يمكن أن تكون الحياة إلا بهذه الطريقة. اغلب البشر حيوانات وعبيد ولا يعرفون كيف يعيشون ولذلك يلزمهم نظام يحدده الأسياد ويؤسسونه لصالح هؤلاء بينما هو لصالح استغلالهم لمجهودات الآخرين..
قالت سناء بانفعال:
ـ تخيل لو تنعدم الواسطة بين الرغبة والشيء.. أو.. لقد فتحت بابا لعالم آخر في ذهني.. إني الآن أعيش في ذهني عالما آخر.. تخيل العالم دون نقود.. أن يأخذ الإنسان ما يرغب يعني في نفس الوقت أن يعمل الإنسان ما يرغب كذلك. تخيل العالم دون نقود. سيكون إذن وفق ما نريد فعليا. كل يقوم بما يريد أن يفعله. انا أريد أن أكون نجارا. أنا مهندس وغيره وغيره ولكن دون نقود. سيكون الناس متساوون من جهة ومن جهة أخرى مترابطين ويحبون أنفسهم لان حياتهم ليست مرتبطة بالنقود وإنما بالناس الآخرين.. حتى الرسام و الفنان يبدع ما يريد ويحقق رغبة عند الآخرين في الاستمتاع الفني يقدرونها وبالتالي يكون له موضعا بين الناس مبجلا، وكل يجاهد لأجل تحقيق حقيقة نفسه هو.. تخيل أن الطبيب لايكون طبيبا من أجل المال بل لأنه يحب مادة الطب، وتخيل أن يعالج الناس بدون نقود بمثل ما يتمتع هو بسيارة بدون نقود وبمنزل بدون نقود بما أن الجميع يشتغلون بدون نقود، وإنما لان كل شخص يقوم بالعمل الذي يريده بالفعل. وهنا قد يقوم الإنسان بعدة أعمال في حياته ولا يخشى تقلبات الدهر. المهندس قد يتحول إلى فلاح والطبيب إلى بائع خضار وبائع الخضار إلى اسكافي وغير ذلك.. مجتمع كهذا ستختفي فيه الجريمة لأنه مجتمع لا يقوم على منطق القوة أولا، ولان الناس متساوون ومتقاربون ومترابطين ويحب بعضهم بعضا، إضافة إلى كونه بالضرورة مجتمع مثقف، فكل مجموعة بشرية تلد المفكرين والحكماء والأدباء والمسرحيين والموسيقيين والرسامين والمصورين وغير ذلك.. كل ذلك مرتبط بتغيير هذا ما يسمونه عالم الضرورة بمثل ما قلت.. أن نخلق عالما طبيعيا نلتصق فيه بالطبيعة.. يا إلاهي.. شكرا لك.. لقد فجرت لي ذهني..
ولفرط حماستها للفكرة قبلته وهي تقول:
ـ بالفعل. ليس من عالم الضرورة إلا ما تخلقه العقول الفاسدة..
هكذا هي منسابة ويعلم أن قبلتها تحاكي هبة ريح مفاجئة لا يمكن للطبيعة أن تكبحها بمثل ما أنها لا يمكن لها أن تكبح رغبتها في تقبيله كتعبير عن نشوتها بالانفجار الذي حققه في وعيها بالأشياء، لذلك لم يذهب بعيدا في تأويل فعل القبلة، إلا أن لذاذتها بقيت عالقة في ذهنه لزمن طويل.
ربما كانت مندهشة من ابتعاده عنها بعد ذلك. كانت تبتسم له وجرت بعض اللقاءات مع بقية الزملاء إلا انه كان يهرب من الانفراد بها برغم كونها تعبر دوما عن سعادتها بلقائه. يفسر هو موقفه الكابح لنفسه عنها بالوعي الطبقي، ولكن إضافة إلى ذلك يبدو أن المسألة متعلقة بالغيرة أو ما شابه ذلك..
فبطبيعة الأمور، هناك بعض الفتيان من أراد الذهاب بعيدا معها باستغلال تلك الانسيابية الطافحة لديها. كثيرة هي الأيادي المترامية على أفخاذها أو حتى مؤخرتها أحيانا سواء داخل المعهد أو خارجه، وبقدر ما كانت تفهم مبعثها فإنها لم تكن تتصرف بفضاضة تجاهها، الأمر الذي أثار غيرته ربما. لكن قراره بقطع علاقته بها والابتعاد عنها لا يمكن فهمه سوى في كونه أما وقد كرهها أو انه كرهها لأنه يحبها، ولكن يبدو أن مشاعره التي كانت غامضة قرر وضع حد لها. فقد كان يحب قدره مثلما يقول إلى اليوم.
و مقهى الفراشة يستـقبلهما صباحا بعد كل هذه السنوات، يستـقبلهما كغرباء. غريبة هي وقد ابتلعها عالم الأعداد والنقود، وغريب هو كأديب أو متفلسف في عالم النقود العدو اللدود للفكر والحكمة والثـقافة الحرة الحقيقية المتماهية مع الطبيعة..



#هيثم_بن_محمد_شطورو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- آه يا عراق
- الإنهيار
- -يوم النفير- الغنوشي في تونس
- جانب من حقيقة الوضع السياسي الحالي في تونس
- ما وراء صخب الديمقراطوية في تونس اليوم
- إنتصار الرئيس قيس سعيد
- هل هو إنقلاب على الديمقراطية في تونس؟
- ساكن القبر 5
- ساكن القبر 4
- ساكن القبر 3
- ساكن القبر 2
- ساكن القبر 1
- أزمة الراهن التونسي
- فلسطين.. نقطة تفتيش إسرائيلية
- المثقف في لحظة موت الإسلام السياسي
- حوار فلسفي مع فتاة ذكية
- في رسالة رئيس الجمهورية -قيس سعيد- إلى -الغنوشي-
- الحجاب والاسلام
- المدينة العريانة
- الصداقة والصندوق


المزيد.....




- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هيثم بن محمد شطورو - الفراشة