أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هيثم بن محمد شطورو - ساكن القبر 2















المزيد.....

ساكن القبر 2


هيثم بن محمد شطورو

الحوار المتمدن-العدد: 6965 - 2021 / 7 / 21 - 08:42
المحور: الادب والفن
    


اخترنا أن نمضي يومنا الأول في الريف. كانت فرصة لي لأطفئ نار شوقي إلى ضيعة الزيتون التي يملكها أبي. هواء منعـش و أجواء هادئة تماما. لا سيارات و لا ضجيج و إنما فـقط اتصال رائع بالطبيعة النقية.كم هي مدننا ملوثة و نتـنة. إلى غاية تلك الساعة، بين كل الاحـداثات التي مرت بجانب طرق الزبالة و النفاق و العهر الذكوري، تجدني في غاية الاستمتاع بالكائن الريفي الرائع الجميل و من ورائه أبي ذاك الشخصية العـظيمة المتـلبسة لكياني. تجـدني من صلب الفلسفة قـد ولدت و من نسيج وطنيته و عروبته قـد تدثرت روحي، و من طيـبته و تـفاؤله الدائميـن قـد تشربت، و كذلك من شدة شراسته عند الغـضب قد تطبعـت..
بدأت أحبها حين رأيت ساقيها تعبثان بالتراب. حذاؤها الأبيض المطاطي تغبر و هو ينثر التراب المتطاير بفعل مشيتها الراقصة. قالت:
ـ إيه.. غاب التراب عنا كثيرا. تراب بهذه النظافة و الخفة و الامتـداد. تراب مثـل هذا يغـذي الحنين إلى الأرض. تراب كهذا لا ينتهي أمامك و إنما يمتد و يمتد و يقـشع كل تلك الطرقات الملوثة و كل تلك المربعات الإسمنـتية التي تـشوه البصر و تكـدر الروح. تراب لانهائي يجمعنا و لا يفرقنا كتلك الصناديق المسماة شقق و عمارات و بيوت... يا لروعة أشجار الزيتون...
تتلألأ عيناها بسعادة طفولية. ما احلي رؤية الطفل في الإنسان. رؤية الخير أو الأصل الخير فينا فنحن إشعاعات بعثت من الروح العـلية الخيرة. لامس قلبي ذاك الفرح و المرح الطفولي فأحبها لأنه لامس فيها و من خلالها روح العالم الجميل الرائع الرحيم العلي الخير بإطلاق. ذاك الإحساس وحده يبني دعامة الإحساس و الاهتمام بالوجود، ذاك الإحساس وحده ينبئك بأن شيئا لم يخلق عبثا. أما كيف و لماذا فتلك ألعاب ذهنية داخلة في إطار هندستـنا للحياة و كيفية النظر إليها. هناك سباق حتمي نحو الأفضل. هذا وحده جدير بالاهتمام...
أما عن كيفية تسرب الهواء فذاك ما يعجز عنه البيان. لا فائدة من ذكر أصل الكلمات أو مسافاتها أو أصلها و منبعها، و لا حتى تـتبع تيارها الكهربائي. المفيد أن شيئا ما قد طرأ. انه موضوع ساخن لدي، بل انه يسيطر على جل تـفكيري منذ مدة ليست بهينة على ذهن لم يتعود على التـفكير إلا في الحياة، أما موضوع الموت هذا و القبر فشيء أزعجني و أقض مضجعي نظرا لسير الحفاة الأموات بيننا اليوم و اعتلائهم المناصب و يتهيئون أنهم يتحكمون فينا.كأني أرى القبور قد انفتحت و أخرجت ما فيها من عظام لتـتـشكل في كائنات بشرية أموات أحياء. ذاك الموقف المهول، ذاك الموقف المرعب، الامنطقي، ذاك المشهد المكسر لكل أطر الموضوعية.. مشهد خارج عن السياق، عن الاعـتيادي، عن المكرر. مشهد ينـقلك تماما من الرتابة، بل انه يصفعـك، يرعبك و يخيفـك، و لكنه في الآن نفسه يرميك في لجج المجهول، في بؤرة العالم الآخر الاموضوعي تماما. عالم شبيه بالكابوس الجاثم على وجودنا...نعم. ذاك ما يمكنني وصفه بمشهد القبر المفتوح...
***
كلمة القبر تزعج في النهار و لكنها في الليل تكون مرعبة. أقول كلمة القبر و ليس القبر مباشرة، لان الكلمة تـشع بالخرافات و الحكايات و المتون و عـديد الأساطير التي أثـقـلت المخيلة الإنسانية بأوهام الموت و العـذاب و التـنكر للدنيا على أساسها. كأن الحياة تغـدو مع حكايات القبر مجرد خدعة شيطانية وجدنا أنفسنا فيها متورطين بحبها و الاستمتاع بها. كلمة القبر تـناقض كل إرادة حياة و كل قـشع للمخاوف و كل مواجهة مباشرة للخير و الشر.. كلمة القبر تختـزل مآسينا في عـدم حياة الحياة..
أقول كلمة القبر كذلك لأن المحكي هو الذي مدد الحدث زمانيا و شعوريا و واقعيا مثلما هو الشأن مع جميع تداعيات كلمة القبر. المحكي هو الذي جعـل من الحـدث يدخل في تركيبة العالم، بما أنه ولد حدثا اعتبره هاما، و هو تكلف هذه الفتاة مشقة السفر من تونس إلى صفاقس. كانت حادثة تحدثت عنها بإيجاز ذات ليلة عبر الفايسبوك. لو حكيت حكاية القبر في النهار لما أثارتها إلى هذا الحـد ربما. لما طلبت إثر وصفي الموجز لقائي مباشرة. عبرت عن عـدم إمكانية سفري فدعت نفسها إلى الإتيان إلي...
في المقهى صباحا حدث لقاء بارد بكلمات قليلة. مسافة السفر على السيارة إلى ضيعة الزيتون لم نتحدث عن أمر القبر، فشمس النهار تأبى حديث القبور. الليل وحده يخلق للقبور حكايات. أدركت هي الأمر. سألتني و نحن في السيارة قائلة:
ـ هل لديكم منزلا في الضيعة؟
ـ نعم. غرفة طويلة بثمانية أمتار طولا و خمسة أمتار عرضا، فيها أريكة طويلة و أريكتين و فراش و خزانة، مغطاة بالزرابي، مكتبة و طاولة و كرسي.. مطبخ صغير و لا فائدة من ذكر التواليت.
ضحكت و هي تطرد خصلة من شعرها الأسود كانت قد داعبت عينها.
ـ بلكونة صغيرة تحيلك إلى الزيتون مباشرة . بلكونة ذات المتر عرضا و مثله طولا و لكنه ممتع جدا حين تترشف فيه قهوة الصباح حين يكون الجو مشمسا و دون رياح..
ـ إذن، تعدني بصباح جميل في الغد مهما كانت أحداث الليلة مخيفة.. و ابتسمت..
تدعو نفسها إلى قضاء الليلة معي. لم أشأ أن أعبر عن دهشتي فما كان مجرد افتراض ذهني غدا واقعا.. إذن.. في اتجاه الثـقب الأسود المبتلع للحال التي اعتـدنا عليها. ربما يعاد تركيـبنا في حال جديد لا نعرفه البتة. المهم، هو الإيمان بالله و ترك المصير إليه و هو كفيل برحمته أن يبعثنا إلى الأفضل و الأجمل و الأروع.. لا خيار لنا أمام المجهول إلا الثـقة في إلاه قـدير رحمته تسع كل شيء. الأشياء التي نعرفها و الأشياء التي نجهلها...

***
لا يوجد هنا مطعم جميل و لا مقهى أنيق و لا فندق واحـد. في نفس الوقت تـتـناهى أصوات المنادين بالاستـثمار في المناطق الداخلية. من المفترض أن تبدأ الدولة بالاستـثمار لتـفـتح الأبواب. خطة شاملة تتأسس على احتياجات و معطيات و مقترحات الأهالي. ديمقراطية محلية. مشاريع متناسبة مع البيئة و مع الأرض و ساكنيها. لا مكان اليوم للهامش.كله مركز في ذاته له دور و إشعاع في السيمفونية العامة.
ـ أنت تحلم بجعل البلد قطعة موسيقية جميلة.
أردفت كلماتها بضحكة و كأنها تخجل من التحدث في الشأن العام. ربما هي الأنثى لا يعنيها كثيرا الشأن العام و تتحرج من التجريد و الكليات لأن جل اهتمامها ينصب على الملموس المحسوس لديها. قالت:
ـ كل هذا يتطلب ثورة على الإملاءات و تحفيزا للمبدعين و ثورة دائمة على المناصب المتكلسة التي يكون فيها الموظف أو شاغـلها عائـقا أمام الجديد و الابتكار و الأفضل..
ـ طبعا. تبا للحكومات الخشبية و الإدارات الخشبية و الكلمات الرسمية الخشبية و رائحة الوزارات و الإدارات الخشبية..
علقت بابتسامة قائلة :
ـ لكن ليس تبا للخشب..
ـ طبعا. تبا لكل من يسيء للخشب بأفعاله و أقواله و ليس للخشب. الكلب أفضل من الذي تلعنه بابن الكلب فهو مثال للوفاء أما الملعون بصفة الكلب فهو مثال للخزي و العار.. لا يمكن للثورة الاقتصادية أن تكون إلا بالاقتصاد المختلط و الشركات المختلطة بين الدولة و الخواص مع الاقتصاد في الإجراءات الإدارية المعطلة و المضيعة للوقت و للفرص في النجاعة و سرعة الانجاز. يجب أن تـتوفـر شبابيك موحدة يتم فيها تأسيس شركة في ساعة أو ساعتين، كما أن المشاريع الصغرى هي الأولى بالإعفاء الضريبي من المستـثمرين الأجانب المستغلين للبلد و المستـنـزفين له و لاحتياطه من النقد الأجنبي. الاقـتصاد التشاركي بين القطاع العام و الخاص تـتمازج فيه الرؤية الاقتصادية بكل الاحتياجات الإنسانية. يهم الإنتاج الخاص و العام أن لا يكون مقر العمل سجنا أو مكانا كئيبا بل يجب العمل على جعل العامل و الموظف يحب عمله، و أول شرط في ذلك أن يكون لكل شخص العمل الذي يريده و ليس العمل الذي يفرض عليه، كما أن العامل لا يكون نشيطا إلا براتب مقـنع و بتكوين مستمر و بسلم من الترقيات يكون محفزا بالفعل على العمل و ليس على التحايل... ثورة في طريقة الحياة. الدولة و الأفراد. دولة الشعب و ليس دولة المناصب.. دولة الثورة ليست تـنينا جاثما على القلوب. إنها مرآة القلوب. ليست سلطانا معظما و إنما إرادة الشعب بمختلف فئاته و شرائحه و أفراده في قرارات سياسية جامعة. دور السياسي أن يبدع في إيجاد المعادلات التي تحدث التوازن بين كل الأجزاء من اجل صياغة كل جديد يكون أكثر قوة و نماء و صحة و حيوية.. الديمقراطية ليست مجرد انتخابات نزيهة و إنما إرادة الشعب في قرارات سياسية. الانتخابات آلة و لكن يجب أن تكون بيد الشعـب و ليس الحكومة. ما فائدة انتخابات ترفع ـ بوش ـ إلى سدة الحكم لأخطر دولة في تاريخ البشرية ليشن حـربا عدوانية متوحشة ظالمة ضد العراق الأبي الصامد.. للشعب أن يفسخ ما كتبه حين يتبـين له خطئه.. الشعب هنا بمعنى الروح العامة، بمعنى التناقض بين الحكم و منطق المصلحة العامة.. لا يعني هذا الكلام الإصغاء إلى كل مظهر شعبوي أناني جزئي يكون متـناقضا مع الصالح العام... التـفكير السياسي يتطلب خلق المعادلة الدقيقة باستمرار...
لم تستطع الدخول إلى أي مطعم، كما أن قوامها الرشيق يكاد يخرج الأحداق من العيون، و شعرها المتطاير كأنه في حالة نفور من المكان. أبت أن تجلس في أي مقهى. كأنها طيف هارب، أو ملاك طائر. حذاؤها المطاطي يقـفـز بها قـفزا في تـنافر واضح لحركات ساقيها و يديها و كأنها تـتـقصد طرد مسحة الجمال عنها. قالت بملامح تعـرب عن الاشمئزاز :
ـ كل شيء يبعث على القرف. أشكال بالية في كل شيء.
ـ لا تقولي هذا. هنا مهد الثورة..
ـ عن أي ثورة تتحدث؟ مازالت العيون نهمة لكل شيء. جوع تاريخي و فقر مزمن في الروح..
أعـدت الغـداء في البيت الريفي الصغير. كذلك العشاء كان سلطة و بيضا و قطع من الجبن. غرقنا في مستـنقع من القهوة كثيف الضباب الناتج عن السجائر المتسارعة إلى ايقاض الوجدان. تحـدثـنا كثيرا طيلة اليوم. شغلنا الهاتف لكلينا و أغلبها لصديقها و زوجتي. كانت الأرض تدور ناحية الظلمة بسرعة أحيانا و بطئ ناتج عن الصمت أحيانا أخرى. قرأت بعضا من كتاب ـ أسطورة سيزيف ـ لألبير كامي، كما قرأت هي بعضا من كتاب ـ المرايا ـ لنجيب محفوظ .. دخلت الأرض إلى ظلمة الكون أخيرا.. طبعا أحاسيس متـناقضة.. أتى موعـد حديث القبر المفتوح.....



#هيثم_بن_محمد_شطورو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ساكن القبر 1
- أزمة الراهن التونسي
- فلسطين.. نقطة تفتيش إسرائيلية
- المثقف في لحظة موت الإسلام السياسي
- حوار فلسفي مع فتاة ذكية
- في رسالة رئيس الجمهورية -قيس سعيد- إلى -الغنوشي-
- الحجاب والاسلام
- المدينة العريانة
- الصداقة والصندوق
- حديث في الثورة التونسية
- التنين
- تخوم الضياع العربي
- في كتاب دولة الإرهاب
- في إعترافات -جان جاك روسو-
- تونس اليوم بين المواجهة والنكوص
- الإنسان بين ضآلته وكونيته
- هل المسلمون مسلمون بالفعل؟
- مائة عام من العزلة
- تونس البورقيبية اليوم
- برج الأحلام


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هيثم بن محمد شطورو - ساكن القبر 2