أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - عبد الغني سلامه - الفلسطينيون في إسرائيل.. دراسة بحثية















المزيد.....


الفلسطينيون في إسرائيل.. دراسة بحثية


عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني

(Abdel Ghani Salameh)


الحوار المتمدن-العدد: 7056 - 2021 / 10 / 24 - 11:43
المحور: القضية الفلسطينية
    


حرب التهجير والتدجين

«عرب الـ48»، «عرب إسرائيل»، «الفلسطينيون في الداخل»، «الوسط العربي في إسرائيل».. تسميات عديدة ذات دلالات مختلفة، تدل على مسمّى واحد: سكّان فلسطين الأصليّون، الذين تسنّى لهم البقاء فوق أرضهم، ضمن حدود الهدنة العام 1949.

الفلسطينيون في إسرائيل، هم «البقيّة الباقية» داخل الخط الأخضر، الذين تمكنوا من الصمود إبان النكبة، وبقوا في قراهم ومدنهم، بينما هُجّر قسرا أغلبية أهل البلاد.

كانت النكبة هي النقطة الفاصلة بين زمنين، فقد ابتُلي الفلسطينيون بنكبة سياسية وإنسانية في العام 1948، طالت جميع المستويات، الفردية والجماعية، الاقتصادية والثقافية.. والأهم أنها دمرت النسيج الاجتماعي، وقوضت أسس المجتمع الفلسطيني، وكادت تقضي على الهوية الوطنية الفلسطينية.
فالنكبة بقدر ما تعني فقدان الوطن، وتهجير السكان، هي أيضاً دمرت المؤسّسات الاجتماعية والثقافية والسياسية للشعب الفلسطيني، الذي تحول بين ليلة وضحاها إلى جموع من اللاجئين الهائمين على وجوههم في مشارق الأرض ومغاربها.. وبذلك تقوض الكيان السياسي للشعب الفلسطيني، وتهدّمت نخبه الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ودُمّرت مرافقه وعلاقاته وأسسه الاقتصادية، واقتُلع السكّان من بيوتهم وشُرّدوا في بقاع الأرض، ليعيشوا على هامش المجتمعات التي أقاموا بين ظهرانيها كلاجئين.

وبالرغم من شمولية النكبة وشدة وطأتها، فقد تسنّى لنحو 156 ألف فلسطيني الاستمرار في العيش في البلاد، عاشوا تحت الحكم العسكري، بكل تبعاته وأعبائه، وبما أن أعدادهم كانت قليلة، فقد تم عزلهم في مناطقهم ضمن «غيتوات»، تحت نظام الحكم العسكري، الذي صار يتحكم في معيشتهم في مختلف مناحي حياتهم، وأحياناً حتى في علاقاتهم الاجتماعية، بما فيها أمور الزواج والطلاق.

طوال العقد الأول من الحكم العسكري فُرض نظام منع التجوال على التجمعات العربية من مغيب الشمس إلى شروقها، وإطلاق النار على كل من حاول العودة من وراء خطوط الهدنة، والتصرف تجاههم كأنهم متسللون دون محاسبة. كما تم هدم معظم القرى العربية المهجرة.

مع استمرار محاولات الطرد والتهجير، والتي بلغت أوجها في مذبحة كفر قاسم، والتي جاءت استكمالا لمجزرة دير ياسين. كما هدمت منذ العام 1950 حتى العام 2018 حوالى 4450 مسكناً، وتكون بذلك قد هجّرت حوالى 30,000 نسمة تهجيراً داخلياً. كما اقتلعت أكثر من 700 ألف شجرة زيتون وبرتقال تعود ملكيتها لفلسطينيين، وهو أمر يفضح ادعاءات إسرائيل بالحفاظ على البيئة.

كما استولى صندوق أملاك الغائبين على مجمل الأراضي الفلسطينية، بموجب قانون صدر عن الكنيست العام 1950، وبذلك بات العرب الذين كانوا يمثلون حينها نحو 17% من سكان إسرائيل يمتلكون فقط 3% من الأرض (2% للسكن، و 1% كأراضٍ زراعية).

وكان إخضاع السكّان العرب إلى أنظمة الطوارئ بهدف تعميق الفجوة بين آثار وبقايا المجتمع السابق وبين المجتمع الجديد الناشئ، أي محاولة شطب آثار النكبة من الذاكرة الفلسطينية، وتذويب وتغريب ترسبات الثقافة الشعبية والوطنية التي كانت سائدة قبل الاحتلال، وصهرها في ثقافة المجتمع اليهودي، وتعميم وتثبيت أشكال الأنماط الحياتية الجديدة (اليهودية).

ومن اللافت أن من بين أول الإجراءات التي اتخذتها السلطات مباشرة عقب النكبة، وبعد الاستيلاء على منازل العرب، أنها قامت بنهب أي محتوى ذي دلالة ثقافية كانت تعثر عليه، مثل المكتبات الخاصة، الآلات الموسيقية، الأدوات التراثية، الصور، الوثائق.. وكانت تريد من ذلك تحقيق هدفين، الأول: أمام الرأي العام الإسرائيلي والعالمي محو أي صورة مشرقة للشعب الفلسطيني، تظهر مدى ثقافته وتحضره ومدنيته، أي تأكيد الصورة المزيفة التي رسمتها عن أهل البلاد بأنهم بدائيون. والثانية أمام الفلسطينيين أنفسهم، أي شطب وإلغاء الذاكرة الوطنية، وتثبيت القطيعة مع ما كان قائماً قبل النكبة.

وأيضاً عملت على عزلهم ثقافياً واجتماعياً عن شعبهم الفلسطيني ومحيطهم العربيّ؛ وقد ساهمت الأنظمة العربية من حيث لا تدري في إنجاح هذا المسعى، فكان ممنوعاً على فلسطينيي الـ48 دخول الأراضي العربية، وكان اللقاء معهم في العواصم الغربية موضع شك واتهام، وكانت العقلية الحزبية السائدة آنذاك تنظر لهم بريبة وعدائية.

وبذلك نشأ جيل كامل معزول تماماً عن محيطه العربي، حتى النتاج الأدبي والثقافي (العربي والفلسطيني) لم يكن مسموحاً له بدخول التجمعات العربية في إسرائيل.

كما عملت على إقصاء المواطنين العرب عن مؤسسات الدولة، بوصفهم خطراً على الأمن. وأنشأت سلطات محلية للبلدات العربيّة مرتبطة بالسلطة المركزيّة ارتباطا وثيقا، وفرضت الخدمة العسكرية على فئات وشرائح معينة دون غيرها.

مع نهاية الخمسينيات بدأت سياسة الدولة العبرية تتغير. فعلى الرغم من وعود حكومة إسرائيل لمن بقي من الفلسطينيين بالمساواة كمواطنين؛ إلا أن سياساتها الفعلية جاءت مناقضة لتلك الوعود، فعاملتهم معاملة الأعداء، واعتمدت سياسة فرّق تسد من خلال التعامل معهم كطوائف وأقليات، وحظرت أي نشاط جماعي، حتى لو كان اجتماعياً، أو ثقافياً لمنع تبلور قيادات عربية، أو هوية وطنية/ قومية.

واستمرت في محاولاتها لتفتيت وحدة المجتمع الفلسطيني، من خلال تفرقتهم والنظر إليهم ليس كمكون واحد، بل عدة مكونات، وتعزيز هذا الشعور لدى الفئات والطوائف، بجعلها تنظر إلى نفسها كمكون منفصل ومستقل، وإلى بقية المكونات كغرباء، بحيث يكون ولاء وتبعية الجميع للدولة وأنظمتها وثقافتها.

واعتباراً من سنة 1959 بدأت وطأة الحكم العسكري تخف تدريجياً على المواطنين العرب. ويعود هذا الأمر إلى عدة أسباب: فالاقتصاد الإسرائيلي شهد تطوراً ملحوظاً وكان بحاجة إلى الأيدي العاملة الرخيصة، وهو أمر تطلب حريّة تنقل أكبر للعمال العرب.

كما شهدت تلك الفترة تغيّراً في الاعتبارات الأمنية الإسرائيلية، فبعض أهداف الحكم العسكري كانت قد تحققت، منها النجاح في منع عودة اللاجئين عبر خطوط وقف إطلاق النار، والسيطرة على أراضي القرى المهجرة. فضلاً عن ذلك، فإن القيادات الأمنية زادت قناعة بأن العرب باقون ولن يرحلوا عن البلاد.

وبعد هزيمة حزيران 1967، احتلت إسرائيل بقية الأراضي الفلسطينية، إضافة إلى سيناء والجولان السوري؛ وبالتالي احتاجت إلى قواها الأمنية لإدارة الأراضي المحتلة حديثاً، ما سرّع في الإنهاء الفعلي لنظام الحكم العسكري في الداخل.

حرب الاسترداد

كان أهم وأخطر ما قامت به إسرائيل محاولاتها المنهجية لإلغاء الصفة الوطنية والقومية للفلسطينيين، أي إلغاء الكيانية السياسية الفلسطينية، ومحاربة أي مسعى لتجميعها وإحيائها، والتعامل مع من بقي من الفلسطينيين في حدود إسرائيل كأقلية على هامش المجتمع، وتطويع وعيهم، والسيطرة عليهم بطرق عدّة، بما يخدم أهداف الكيان الحديث النشأة في البلاد.

في النقب، كما في الجليل والمثلث، عمدت إسرائيل إلى تهويدها، ليس بمصادرة الأرض فقط، وإنما بترحيل سكانها، عنها وتجميعهم في معازل، وهناك 38 قرية بدوية ترفض السلطات الاعتراف بها.

كما استخدمت التعليم كجهاز للسيطرة عليهم، وكيّ وعيهم، وتدجينهم وأسرلتهم وسلخهم عن سائر أبناء شعبهم من خلال المناهج والأنشطة، وتحكم «الشاباك» بكل ما يدور في المدارس العربية.

في المحصِّلة، بات المجتمع الفلسطيني في البلاد يعيش في مستوى معيشة منخفض؛ فنسبة البطالة ونسبة الفقر مرتفعتان إلى درجة بالغة، ويفتقر الكثير من القرى إلى الخدمات الصّحيّة، التّربويّة، والبنية التّحتيّة الأساسيّة، ونصف العائلات العربية يعيش تحت خط الفقر، ونسبة الفقر في وسط العائلات العربية تزيد على المعدل القطري بأكثر من ضعفين ونصف الضعف.

بسبب الظروف الخاصة التي عاشها الفلسطينيون في إسرائيل تشكّل مجتمعهم الجديد بمواصفات خاصّة.

فقد ترك نظام الحكم العسكري آثاره البالغة والعميقة، وأعاق تطوّره الطبيعي، وحرم المواطنين من حقهم في تشكيل أحزاب سياسية أو مؤسّسات تمثيليّة أو منظمات مجتمع مدني خاصة بهم.

وبالرغم من كل الإجراءات والسياسات الإسرائيلية ومحاولات التهويد والأسرلة، إلا أن السكّان العرب في البلاد لم يخضعوا إلى هذه السياسات، بل إنهم ناضلوا للتغلّب عليها ومقاومتها، وبالرغم من تقبلهم الانصياع لقوانين الدولة العبرية رغما عنهم، مع تسليمهم بوجودها في ظل اختلال موازين القوى بين الطرفين؛ إلا أنهم لم يكونوا مستعدين للتماثل مع مشاريع الأسرلة والتهويد، ومحاولات فرض مشاعر الولاء تجاه الدولة.

وقد عبّـر فلسطينيو الداخل في أكثر من موقف، وبأشكال متعددة عن انتمائهم القومي، بامتداده العروبي والإسلامي، وتمسكهم بهويتهم الوطنية، ورفضهم التماهي مع مخططات الدمج والإذابة الإسرائيلية، وقد ظهر ذلك جليا عبر نتاج أدبي وثقافي واعٍ أنتجه جيل من الشعراء والأدباء والمثقفين، من أبرزهم توفيق طوبي، إميل حبيبي، محمود درويش، سميح القاسم، توفيق زياد، راشد حسين.. وغيرهم.

في زمن الانتداب البريطاني تأسس الحزب الشيوعي الفلسطيني (1919) على يد مجموعة من اليهود المهاجرين المتأثرين بالفكر الماركسي، وفي العام 1923 تم تعريب الحزب رسميا، وبعد النكبة انضم من تبقى من عصبة التحرر الوطني الفلسطيني إلى الحزب الشيوعي، ليصبح اسمه الحزب الشيوعي الإسرائيلي، الذي ضم يهودا وعربا، وكان الحزب الوحيد غير الصهيوني الذي شارك في الانتخابات، ويعرّف الحزب عن نفسه كحزب ثوري يصبو إلى السلام والمساواة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والتغيير الاجتماعي، ويناضل من أجل الاشتراكية، ويعتبر الحزب أن الصهيونية حركة رجعية.. وظل الحزب الملاذ الوحيد للعرب الفلسطينيين داخل إسرائيل، والذي من خلاله يناضلون ضد العنصرية، ولتحسين حياتهم، وتحقيق المساواة والعدالة، ولرفع المظلومية عنهم.

وفي العام 1977 تحالف راكاح مع جهات يسارية أخرى من ضمنها حركة الفهود السود الإسرائيلية ضمن قائمة مشتركة حملت اسم الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة.

وفي نهاية الخمسينيات بدأت تظهر علامات تململ وانبعاث للحركة الوطنية الفلسطينية داخل إسرائيل، وقد مثَّل المد القومي الناصري بيئة مناسبة لها، وكانت «حركة الأرض»، عنوانا لحالة نهوض وطني، عبر عنها قادة وطنيون من أمثال صالح برانسي، ومنصور كردوش، وحبيب قهوجي، وغيرهم.

ومع تنامي الوعي الوطني ظهرت مجموعة قومية عربية يسارية تحمل اسم «حركة أبناء البلد»، التي بدأت نشاطها في أم الفحم. بعد ذلك أسس نمر درويش الحركة الإسلامية تحت واجهات اجتماعية متعددة، والتي أخذت تطالب بتحرير أملاك الوقف الإسلامي، وحق المسلمين في إدارة شؤونهم، وتعيين القضاة في المحاكم الشرعية. ثم استطاعت الحركة الدخول إلى الكنيست، بحصولها على مقعدين.

وبعد سنوات قليلة من انطلاقة الثورة الفلسطينية في الخارج، وبدءا من السبعينيات بدأت تظهر آثار حالة التنامي في الشعور القومي لدى فلسطينيي الداخل، ما أدّى إلى تنظيمهم قطريًّا ومحلّياً وتحوّلهم من «بقيّة باقية» إلى مجتمع. من أهمّ هذه المستجدّات: ظهور مؤسّسات وأطر سياسيّة وتمثيليّة واجتماعية مختلفة مثل اللجنة القطريّة لرؤساء السلطات المحليّة العربية، ولجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في إسرائيل؛ وكذلك ظهور شرائح من المهنيّين والأكاديميّين ورجال الأعمال والحرفيّين؛ والأهمّ من هذا وذاك بلورة أطروحات سياسيّة تتحلّى بنبرة ورؤية جماعيّتين.

وقد مثّل العام 1976 نقطة مفصلية في مسيرة الحركة الوطنية في الداخل، عبر انتفاضة يوم الأرض في الثلاثين من آذار.

وفي الثمانينيات أخذ الظهور السياسي الفلسطيني شكلا آخر، فتأسست في العام 1983 الحركة الوطنية الديمقراطية، التي انفصل أعضاؤها عن الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، وفي العام التالي تشكلت القائمة التقدمية للسلام، وفي سنة 1988 استقال عبد الوهاب دراوشة من حزب العمل احتجاجا على قمع الانتفاضة الفلسطينية، وأسس الحزب الديمقراطي العربي، وفي العام 1995 أسس عزمي بشارة وآخرون حزب التجمع الوطني الديمقراطي كإطار تنظيمي لبعض القوى اليسارية، وفي العام 1996، أسس أحمد الطيبي الحركة العربية للتغيير.

وفي العام 2014 تشكلت القائمة المشتركة التي ضمت جميع الأحزاب العربية المشاركة في الكنيست (الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، الحركة الإسلامية - ما عدا الشق الشمالي -، التجمع الوطني الديمقراطي، القائمة العربية للتغيير)، وشاركت «القائمة المشتركة» في انتخابات الكنيست في دوراته المتلاحقة، وفي العام 2021 انشق التيار الجنوبي للحركة الإسلامية عن القائمة بقيادة منصور عباس، وشكل القائمة الموحدة التي فازت بأربعة مقاعد، وشاركت في حكومة نفتالي بينيت.

خلاصة القول، بصمودهم وإصرارهم على البقاء فوق أرضهم، ترك فلسطينيو الداخل بصماتهم على الدولة العبرية بشكل عام، حيث تزايد التأثير العربي كقوة سياسية وديمغرافية وحزبية مهمة، لهم مكانتهم في الصراع وفي التوازنات الداخلية، وقد باتوا قوة مؤثرة داخل الكنيست (في انتخابات 2015 حصلوا على 15 مقعداً، وفي انتخابات أيلول 2019، حصلوا على 13 مقعداً).

بيد أن ضعف التنظيم، وتباين الرؤى والاجتهادات، وعوامل أخرى قوّضت العديد من فرص تحسين أوضاعهم، وتقوية تأثيرهم.

اكتمال المشهد في انتفاضة أيار

ثلاثة عوامل شكّلت أسباب انتفاضة أيار، الأول والأهم: تنامي ونضوج الشعور القومي، والتمسك بالانتماء العربي والهوية الفلسطينية، والصمود أمام مخططات الأسرلة والتغريب والتهويد والتدجين والإخضاع.. الثاني، استمرار الظلم والتمييز الإسرائيلي بحقهم، والتعامل معهم بوصفهم رعايا ومواطنين درجة ثالثة، وقد بلغت ذروة التمييز العنصري من خلال "قانون القومية اليهودي"، الذي أقره الكنيست عام 2018، وهو قانون يكرس ويشرعن كل الإجراءات التمييزية ضد العرب.. والثالث: سياسات الأجهزة الأمنية الإسرائيلية التمييزية ضد الفلسطينيين، مثل التغاضي عن تجار السلاح ومروجي المخدرات في التجمعات العربية، بل وتشجيعهم ودعمهم، الأمر الذي ساهم في تفشي الجريمة والفوضى في التجمعات العربية إلى درجة لم تعد تُطاق. إضافة إلى عربدة وتجاوزات المجموعات الاستيطانية المتطرفة المدعومة من الشرطة، والتي تستهدف العرب وتعتدي عليهم في كل مكان، وهذا أمر لم يعد ممكناً القبول به، بل هو تحدٍ وجودي.

ما كان ينقص لاكتمال المشهد هو هبّة القدس، والعدوان على غزة، وانتفاضة الضفة الغربية.. ولهذا التحول الكبير دلالات عميقة على مستقبل الصراع، والتسوية، وعلى إسرائيل نفسها.

ما حدث في انتفاضة أيار في الداخل هو نفض الرماد عن جمرٍ يجري إيقاده منذ 73 عاماً؛ حيث أتت الرياح من القدس وغزة والضفة الغربية فكشفت ما كان مخبأً.. ممارسات قمعية، قوانين عنصرية، إفقار، إذلال، تهميش، إغراق في المشاكل والمخدرات والسلاح، تفتيت للنسيج الاجتماعي، هدم بيوت، مصادرة أراض، مشاريع أسرلة ودمج وتهويد وعبرنة.. حتى بلغ السيل الزبى.

ظنت إسرائيل في لحظة نشوة أن سياساتها العنصرية والظالمة تجاه فلسطينيي الداخل ستنجح، وأنها ستدجن هذا الشعب، وتحتويه ضمن منظومتها الصهيونية العنصرية.. فأتت انتفاضة أيار لتظهر مدى غباء واستعلاء تلك السياسات.. ولتؤكد لها أنها كانت تعاند منطق الطبيعة، ونواميسها.

الآن، وقد عرفنا أبرز العوامل التي أوصلت إلى هذه النتيجة، لنناقش تأثيراتها وتداعياتها على مستقبل العلاقات بين المجتمعين، ومستقبل الدولة العبرية، ومستقبل التسوية السياسية، وبالذات حل "الدولة الواحدة".

ما ميز تلك الهبّة طابعها العنيف خاصة في الأيام الأولى، وربما كان هذا سبب تراجعها؛ فالصدامات المسلحة بين الأهالي والمستوطنين المتطرفين أمر ليس بالهيّن، ومن الصعب أن يدوم لفترة طويلة، فالأهالي فقدوا إحساسهم بالأمان، وصار الخروج من المنزل، والتنقل بين المدن وحتى داخلها محفوفاً بالمخاطر، والأمر ذاته ينطبق على السكان اليهود، وهو أمر لا يحتمله أي مجتمع، ولا تطيقه الدولة؛ إذ يضر بالاستقرار والهدوء الذي تفاخرت به إسرائيل، ويفضح زعمها أنها واحة الأمان في الشرق الأوسط، المضطرب والمشتعل بالحروب الأهلية. ويضر بصورة إسرائيل التي تحاول بثها في العالم، ويثبت فشل وخواء ادعائها بالديمقراطية، واستحالة الجمع بين الديمقراطية ويهودية الدولة، وبين الاستقرار والقمع، وبين المساواة والعنصرية..

وقد تركت تلك الأحداث جروحاً عميقة في الطرفين، وكشفت وهم التعايش المشترك، وأظهرت بجلاء صورة المجتمعين المنفصلين بفوارق طبقية واجتماعية واقتصادية وحقوقية كبيرة جداً.. وقد أثر هذا على دعاة التعايش من الجانبين، أي الذين كانوا يؤمنون بإمكانية تحقيق المساواة، ويطالبون بالعدالة، وحقوق المواطَنة، سواء من بقايا اليسار الإسرائيلي والقوى الليبرالية والعلمانية اليهودية، أو من الجانب العربي، بما في ذلك من أقنعتهم إسرائيل بأنهم أقليات معزولة عن العرب، وأن انتماءهم فقط للدولة؛ فقد أظهر المتطرفون اليهود كراهيتهم وعداءهم لكل ما هو عربي، من كل الطوائف والشرائح الاجتماعية، والذين بدورهم أظهروا معدنهم الأصيل، وعبروا عن انتمائهم العروبي وهويتهم الفلسطينية.

وهذا يضع حل "الدولة الواحدة"، و"دولة كل مواطنيها" أمام اختبار صعب، حيث غدت تلك الحلول أبعد منالاً، بعد انهيار حائط الثقة الذي كان بين الطرفين (حتى لو كان واهناً وضعيفاً)، لكنه قد يُحدث صدمة إيجابية في الوعي المشترك، بمعنى إدراك الطرفين خطورة القوانين العنصرية، وخطورة سياسات تهميش وإقصاء العرب، وخطورة الاقتتال الداخلي والصدامات العنيفة، وانعدام الأمن، وخطورة اتساع الهوة بين المجتمعين.. ما يولد وعياً مشتركاً بأهمية إلغاء القوانين العنصرية، ومدى غباء فكرة "يهودية الدولة"، وتخلفها عن روح العصر، وتناقضها مع إيقاعاته وتياراته الحداثية، وبالتالي ضرورة نبذ التعصب والتطرف والاستيطان، والتخلي عن فكرة تفوق العنصر اليهودي، وحقه بالهيمنة والتوسع.

لكن تشكل هذا الوعي سيحتاج فترة طويلة، وهو مسؤولية المجتمع اليهودي بالدرجة الأولى، بوصفه المسؤول عن إنتاج كل هذا التطرف والغلو واليمينية. وما لم يتبلور هذا الوعي، وتخرج أصوات يهودية منددة بسياسات الحكومات الإسرائيلية، وإذا ظلت إسرائيل مصرة على فكرة القمع والهيمنة، سيظل شبح الاقتتال الداخلي ماثلاً أمام الجميع، وبالتالي لا بد أن يخرج ويتجدد مرة ثانية وثالثة، وسيكون أهم عامل لتفكيك الدولة.

مع نشوة النصر الذي حققه الفلسطينيون، ومع حالة التوحد على جانبَي الخط الأخضر، والتي بلغت ذروتها في يوم الإضراب الكبير، تفاءل البعض حينها لدرجة الاعتقاد بأن هزيمة إسرائيل صارت مسألة أسابيع أو أشهر، وأن انهيارها صار وشيكاً جداً، وبالتالي يتوجب استثمار الفرصة وطرح مشروع الدولة الواحدة في كل فلسطين، أي دولة ديمقراطية دون صهيونية، وهي فكرة طرحتها حركة "فتح" في العام 1968، لكن باعتقادي أن موازين القوى لم تتغير لدرجة تسمح بإمكانية تحقيق هذا الهدف.. ولأن إسرائيل استطاعت استيعاب الصدمة، وتمكنت من فرض حلولها الأمنية، والتي وصلت درجة الانتقام.

ما يمكن تحقيقه، في هذه المرحلة، مواصلة النضال، والبناء على ما تحقق من إنجازات وطنية، وسياسية، وحقوقية، واجتماعية، وصولاً إلى بلورة قومية عربية تفرض نفسها على الدولة، وهذا يقتضي إلغاء قانون القومية اليهودية، وسائر القوانين العنصرية، ويتطلب اعتماد الوسائل السلمية، كنضال ضد نظام الأبارتهايد، لضمان انخراط كل فئات وشرائح وطوائف فلسطينيي الداخل، ولضمان ديمومته، ولتفويت الفرصة على إسرائيل للاستفراد والبطش بهم، وبالتالي خسارتهم لكثير من الإنجازات التي فرضوها على الدولة عبر نضالهم السلمي القانوني الطويل، أو استغلال إسرائيل أجواء الفوضى الأمنية والاقتتال الداخلي لدفع العرب نحو التشريد والتهجير، وفقاً لمخططات اليمين الإسرائيلي.

وهذا يحتاج أيضاً إلى النضال مع القوى اليهودية والإسرائيلية التي تؤيد الحقوق الوطنية والسياسية والاجتماعية لفلسطينيي الداخل. وهو نضال تراكمي طويل الأمد، أحياناً ضمن سقف قوانين الدولة، وأحياناً يتجاوزها.

وفي السياق ذاته، يتوجب على منظمة التحرير وسائر القوى الفلسطينية إعادة تعريف المشروع الوطني التحرري، بما يضمن إشراك فلسطينيي الداخل، ليكونوا في قلب المشروع.



#عبد_الغني_سلامه (هاشتاغ)       Abdel_Ghani_Salameh#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- زوجات المشاهير
- ملحمة كلكامش
- الإنسان الإلـه
- مدرسة روابي، وفتاة الفستان، وفيديو غزة
- إشكالية المنتصر والمهزوم في أفغانستان
- بداية غير موفقة للقرن الحادي والعشرين
- هجاء الشعراء، وتنافس العلماء
- خفايا مرعبة من تاريخ منسي
- عبد اللطيف عربيات، ونظرية المؤامرة
- عن اقتتال الصحابة
- الإذعان الديني
- عبقرية الفشل العربي
- مسؤولية الإنسان عن تصرفاته
- حدائق الحيوانات البشرية
- محاولات توحيد البشرية
- تاريخ الحروب المقدسة
- الغوغاء الذين قاتلتُ من أجلهم
- نوال السعداوي وداعا
- الدور الوظيفي للإخوان المسلمين
- أسوأ سنة في التاريخ


المزيد.....




- بالأسماء.. 48 دول توقع على بيان إدانة هجوم إيران على إسرائيل ...
- عم بايدن وأكلة لحوم البشر.. تصريح للرئيس الأمريكي يثير تفاعل ...
- افتتاح مخبأ موسوليني من زمن الحرب الثانية أمام الجمهور في رو ...
- حاولت الاحتيال على بنك.. برازيلية تصطحب عمها المتوفى إلى مصر ...
- قمة الاتحاد الأوروبي: قادة التكتل يتوعدون طهران بمزيد من الع ...
- الحرب في غزة| قصف مستمر على القطاع وانسحاب من النصيرات وتصعي ...
- قبل أيام فقط كانت الأجواء صيفية... والآن عادت الثلوج لتغطي أ ...
- النزاع بين إيران وإسرائيل - من الذي يمكنه أن يؤثر على موقف ط ...
- وزير الخارجية الإسرائيلي يشيد بقرار الاتحاد الأوروبي فرض عقو ...
- فيضانات روسيا تغمر المزيد من الأراضي والمنازل (فيديو)


المزيد.....

- المؤتمر العام الثامن للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين يصادق ... / الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
- حماس: تاريخها، تطورها، وجهة نظر نقدية / جوزيف ظاهر
- الفلسطينيون إزاء ظاهرة -معاداة السامية- / ماهر الشريف
- اسرائيل لن تفلت من العقاب طويلا / طلال الربيعي
- المذابح الصهيونية ضد الفلسطينيين / عادل العمري
- ‏«طوفان الأقصى»، وما بعده..‏ / فهد سليمان
- رغم الخيانة والخدلان والنكران بدأت شجرة الصمود الفلسطيني تث ... / مرزوق الحلالي
- غزَّة في فانتازيا نظرية ما بعد الحقيقة / أحمد جردات
- حديث عن التنمية والإستراتيجية الاقتصادية في الضفة الغربية وق ... / غازي الصوراني
- التطهير الإثني وتشكيل الجغرافيا الاستعمارية الاستيطانية / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - عبد الغني سلامه - الفلسطينيون في إسرائيل.. دراسة بحثية