|
|
ظل آخر للمدينة38
محمود شقير
الحوار المتمدن-العدد: 7009 - 2021 / 9 / 4 - 17:47
المحور:
الادب والفن
لا أمل السير في شوارعها وأزقتها، أراقب الأشجار التي أخذت تزرعها البلدية على مسافات متقاربة في الشارع المؤدي إلى باب العامود لتزيينها، وللتخفيف من حرارة صيفها المعتدل أصلاً. ولم يكن شتاؤها قاسياً كذلك، وحينما يهطل المطر، فإن بعض أسواق البلدة القديمة، ذات السقوف شبه المتصلة، توفر حماية لمن يؤمها من المتسوقين. كنت أمشي تحت هذه السقوف، أستشعر طقس الشتاء دون أن يبللني المطر. وكنت أتردد على مقر مجلة "الأفق الجديد"، أجتاز مدخل البناية القديمة قبل نهاية شارع بورسعيد، أصعد درجاً نحو الطابق الثاني، هناك كان مكتب رئيس تحرير "الأفق .." الذي اعتاد استقبال الكتاب، ثم الدخول معهم في حوارات أدبية. وذات مرة أبدى ناقد مقرب من الشيوعيين، ونحن نجلس في مكتب رئيس تحرير " الأفق .."، إعجابه بما أكتب من قصص واقعية ترصد حياة البسطاء من الناس، فأخذ يمدني ببعض مؤلفات الواقعيين الروس والعرب، ثم دخلت معه ومع غيره من أعضاء الحزب الشيوعي في حوارات استمرت عامين، تطرقنا فيها إلى الكثير من القضايا الإشكالية التي كانت تضعني في مواجهة أفكار الحزب، فتبددت أوهام كثيرة من رأسي، وأضيفت إلى مداركي أفكار لم يكن لي بها علم، فتشكلت لدي قناعات جديدة (كانت تروقني بعض التصرفات الحذرة التي تدلل على أهمية الانتماء إلى حزب سري، قد يكلف هذا الانتماء صاحبه بضع سنوات في السجن، لذلك كنت أخلع حذائي وأضع النشرة السرية فيه لتفادي أي تفتيش مباغت لجيوبي، يقوم به أحد رجال المباحث وأنا سائر في الشارع!). ثم تقدمت بطلب انتساب للحزب العام 1965، بعد أن تركت مؤلفات سلامة موسى التي قرأتها في وقت سابق، وكذلك قراءاتي في الفلسفة من خلال المنهاج الجامعي، أثراً إيجابياً في نفسي (فيما بعد سأكتشف أن حسي النقدي لم يكن يقظاً إلى الحد المطلوب، فقد تكشفت تجربة بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي وفي بلدان أوروبا الشرقية عن أخطاء كثيرة، ووقعت الأحزاب الحاكمة في هذه البلدان في نزعة بيروقراطية مدمرة). ذهبت ذات ظهيرة، بناء على ترتيب مسبق، إلى الطابق الثاني من مقهى الأريزونا في رام الله، وجلست أنتظر رفيقاً قيل لي إنه يضع على عينيه نظارة طبية، وإنه سيأتي وفي يده اليمنى صحيفة مطوية، فلما دخل في اللحظة المحددة خمنت أنه هو الشخص المعني، فوقفت، فتقدم نحوي، وقدم نفسه باسم متفق عليه، وقدمت نفسي باسم "ربحي"، وهو اسمي السري في الحزب لسنوات طويلة تالية. كان لذلك اليوم بهجته التي لا تنسى. تهيأت لمغادرة مقهى الأريزونا وأنا مفعم بحماسة من نوع جديد، فأنا الآن عضو فعلي في الحزب، وها أنذا أشارك في أول اجتماع حزبي مع رفيق لا أعرفه، ولا يربطني به سوى المبدأ الذي يوحدنا ويجمعنا. غادرت الأريزونا، مشيت في شوارع رام الله وأنا واقع تحت إحساس من يتهيأ لرحلة مدهشة، حافلة بالمخاطر والأمجاد. ورحت أستعرض في ذهني أبطال بعض الروايات الملتزمة التي قرأتها حتى ذلك الوقت (مثلاً: رواية الأم لمكسيم غوركي)، باعتبارهم قدوة لي في التضحية والنضال، ثم رحت أرتب في ذهني أسماء الأصدقاء الذين سأتصل بهم لضمهم إلى صفوف الحزب (اكتشفت أن هذا الأمر لم يكن سهلاً بسبب تخوف الناس من مغبة الانتماء إلى الحزب، وما قد يجره ذلك عليهم من قمع واضطهاد). وكنت آنذاك أعمل مدرساً في المدرسة الهاشمية الثانوية بمدينة البيرة. استطعت التأثير على عدد غير قليل من الطلبة وأنا أعرض أفكاري بين الحين والآخر في حصة التاريخ أو في حصة اللغة العربية. أمضيت في هذه المدرسة ثلاث سنوات، بدت لي من أجمل السنوات التي قضيتها في مهنة التدريس. ثم نقلت منها بناء على طلبي، وكنت راغباً في العمل في مدرسة بيت لحم الثانوية، مدرساً للفلسفة (بيت لحم أقرب إلى بيتي من رام الله)، ولم يستجب مدير التربية والتعليم لطلبي، فأرسلني إلى مدرسة هشام بن عبد الملك الثانوية في أريحا، فتأسيت على المدرسة الهاشمية التي لم تعد العودة إليها ممكنة. أقمت بضعة أيام في فندق. وثمة طقس حار في الليل وفي النهار، ولم أكن أستطيع النوم إلا بصعوبة. وكنت أقطع الوقت بالقراءة وتدوين بعض أفكار وملاحظات لكتابة قصة أو مقالة. أعلنت الإضراب عن التدريس، فنقلت بعد ذلك إلى مدرسة الملك غازي الثانوية في قرية بدّو (وهي من قرى شمال غربي القدس)، ثم عملت بوظيفة إضافية بعد الدوام في صحيفة الجهاد محرراً للشؤون الثقافية، وكاتباً لبعض الزوايا الثابتة فيها مثل "أسبوعيات الجهاد" التي كنت أتناوب الكتابة فيها، مع عدد من الكتاب والصحافيين المعروفين، بينهم رئيس تحريرها آنذاك سليم الشريف. واعتدت أن أنشر على صفحاتها مقالات وقصصاً وقصائد للكتاب الشباب، تألق عدد منهم فيما بعد، وأصبحوا من الكتاب البارزين من أمثال: محمود الريماوي، ليانة بدر، وفاروق وادي (سوف يأتي فاروق إلى مكتبي في وزارة الثقافة الفلسطينية بمدينة رام الله، يتذكر تلك الفترة ويتحدث عنها حديثاً نابعاً من القلب، ثم ينظر من نافذة المكتب، ويشير إلى بقعة من الأرض لا تبعد سوى عشرات الأمتار عن مبنى الوزارة، يقول: فوق هذه البقعة من الأرض ولدت. وسوف يتحدث عن ذلك في كتابه "منازل القلب"). يتبع..
#محمود_شقير (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ظل آخر للمدينة37
-
ظل آخر للمدينة36
-
ظل آخر للمدينة35
-
ظل آخر للمدينة 34
-
ظل آخر للمدينة33
-
ظل آخر للمدينة32
-
ظل آخر للمدينة31
-
ظل آخر للمدينة30
-
ظل آخر للمدينة29
-
ظل آخر للمدينة28
-
ظل آخر للمدينة27
-
ظل آخر للمدينة26
-
ظل آخر للمدينة25
-
ظل آخر للمدينة24
-
عن المثقف الفلسطيني ورهانات الحداثة
-
عن القدس في كتاب نسب أديب حسين
-
ظل آخر للمدينة23
-
ظل آخر للمدينة22
-
ظل آخر للمدينة21
-
ظل آخر للمدينة20
المزيد.....
-
انقطاع الطمث المبكر يزيد خطر الإصابة بمتلازمة التمثيل الغذائ
...
-
إشهار كتاب دم على أوراق الذاكرة
-
مثنى طليع يستعرض رؤيته الفنية في معرضه الثاني على قاعة أكد ل
...
-
المتحف البريطاني والمتحف المصري الكبير: مواجهة ناعمة في سرد
...
-
مليشيات الثقافة العربية: عن -الكولونيل بن داود- و-أبو شباب-
...
-
مليشيات الثقافة العربية: عن -الكولونيل بن داود- و-أبو شباب-
...
-
شيرين أحمد طارق.. فنانون تألقّوا في افتتاح المتحف المصري الك
...
-
بين المال والسياسة.. رؤساء أميركيون سابقون -يتذكرون-
-
ثقافة السلام بالقوة
-
هل غياب العقل شرط للحب؟
المزيد.....
-
إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
المرجان في سلة خوص كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
بيبي أمّ الجواريب الطويلة
/ استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
-
قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي
/ كارين بوي
-
ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا
/ د. خالد زغريت
-
الممالك السبع
/ محمد عبد المرضي منصور
-
الذين لا يحتفلون كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
-
مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
المزيد.....
|